
ما هو شكل المشاركة المجتمعية الذي يريده السوريون؟
في الشهر الأول من تحرير سوريا هاتفني أحد الأصدقاء من دمشق ليخبرني نيته أخذ إجازة طويلة من عمله في إحدى الدول الغربية، والبقاء في البلاد ليساهم في خبرته ومعرفته في إعادة بناء أحد المؤسسات الحكومية كمستشار مُطلّع في هذه الأمور، ولكن وفي الاتصال التالي بعد شهرين لم ألحظ ذاك الحماس ولا التوهُّج الأول، بل لمست حالة من التبرم عند هذا الصديق والتلميح بقطع إجازته وعودته للعمل السابق، وعند سؤاله في لقاء لاحق أشار بنبرة حانقة إلى أنه لم يكن قادراً على تحقيق شيء من رؤيته لعدم امتلاكه أي صلاحية، وجلّ ما فعله خلال ذلك الوقت هو الكلام والكلام فقط.
لفتتني هذه الحادثة كونها تقدّم نموذجاً عن “المشاركة المجتمعية” التي تختلف عن المشاركة السياسية والمدنية، وإن كانت تتقاطع معهما في بعض المساحات المشتركة. فبينما تُركّز المشاركة السياسية على التصويت في الانتخابات والانضمام للأحزاب والتعبير عن الرأي والمناصرة وغيرها، وتُركّز المشاركة المدنية على أشكال التفاعل بين المواطنين والمجتمع، مثل العمل التطوعي، والمساهمة في تحسين الخدمات العامة، والانخراط في المبادرات المجتمعية، تتفرّد المشاركة المجتمعية وفقاً للدراسات بكونها تتعلق بالمشاركة بعمليات التخطيط والإدارة الحكومية ورسم السياسات التي تتعلق بحياة المواطنين اليومية وتؤثر على رفاههم.
وهنا يبرز السؤال الأهم الذي قد يحتاج للكثير من العمل والدراسة وهو ما أنوي التوسُّع فيه لاحقاً: ما هو نمط المشاركة المجتمعية المطلوبة في الحالة السورية؟، وهل تنحصر بمجرد الحضور واللقاءات والمشاركة في الصور والاجتماعات مع صنّاع القرار؟ أم أنها تعني امتلاك المواطنين القدرة الحقيقية للتأثير؟
مفهوم “المشاركة المجتمعية”.. النشأة والتطور:
لقي مفهوم المشاركة المجتمعية جدلاً كبير في ستينيات القرن الماضي، إذ كان الحديث يدور حول كيفية تحقيق أقصى مشاركة ممكنة للفئات المهمشة، لاسيما الفقراء، في محاولة لإعادة توزيع السلطة وتخفيف التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سبباً في إقصاء شرائح واسعة منهم.
بدأ البحث عن مدلول هذا المفهوم بشكل دقيق من الولايات المتحدة الأمريكية عقب مشروع التحوُّل الحضري الذي أرادت فيه الحكومة الأمريكية تخفيف التوترات المجتمعية، وقد انطلقت الفكرة من أن معالجة حالات الجنوح وتدهور المجتمعات، لا سيما عند مجتمعات السود، لا يمكن أن يتم دون معالجة البيئة الرئيسة التي أدت إلى هذه الظواهر، وبالتالي فإن تحسين الأنماط المعيشية لهذه المجتمعات يستدعي إيجاد حلول يشاركون في صناعتها، ولهذا أطلقت الحكومة الفيدرالية الأمريكية مجموعة مشاريع اشترطت فيها مشاركة حقيقية للمجتمعات المستهدفة كشرط للحصول على التمويل.
نشرت الباحثة الأمريكية شيري أرنشتاين دراسة باتت مرجعية عالمية في هذا السياق في كتاب صدر عام 1969 بعنوان “سلم المشاركة المجتمعية”، وقد ركّزت فيه على تحليل أنماط مشاركة المواطنين في ثلاثة برامج اتحادية تم تنفيذها وهي: برنامج “التجديد الحضري”، و “مكافحة الفقر”، و”المدن النموذجية” والتي كانت تتطلّب مشاركة المواطنين بشكل حقيقي وفعال كشرط أساسي لتنفيذ هذا البرنامج.
وضعت أرنشتاين سلماً يوضح 8 درجات من المشاركة تتضمّن فعلياً ثلاثة مستويات متمايزة من المشاركة وهي: عدم المشاركة، المشاركة الرمزية، وسلطة المواطن. يبدأ السلم من الدرجة الأولى التي تُسمّى بـ”التلاعب” والتي تقوم فيها السلطات بتعيين مجموعات من المواطنين ضمن لجان صورية شكلية، والغرض منها هو تثقيف هذه المجموعات وحشد دعمهم لسياساتها بحيث تتحول المشاركة إلى أداة علاقات عامة تخدم السلطة، أما درجة السلم الثانية فتعرف باسم “العلاج” والتي تتحول فيها مشاركة المواطنين لمحاولة شفائهم من أمراضهم وآثار معاناتهم بدل تغيير السبب ومعالجة الظلم الذي تسبّب بهذه النتائج، وبالتالي يتم صرف اهتمام المشاركين من التعامل مع المسألة الأساسية إلى مسائل جانبية ليست ذات أولوية.
وتُعبّر درجتا السلم الأولى والثانية عن حالة عدم المشاركة، بينما تنتقل الدرجة الثالثة إلى بداية مستوى المشاركة الرمزية، وتعرف هذه الدرجة بـ”الإعلام” والتي يكون الهدف من المشاركة توعية المشاركين بحقوقهم وتعريفهم بما تقوم به الحكومة، وغالباً ما تُركّز هذه الدرجة على تدفق المعلومات باتجاه واحد من المسؤولين إلى المواطنين وتقدّم معلومات عن نتائج العمل بدل إشراكهم في مرحلة التخطيط.
وتُمثّل “الاستشارة” الدرجة الرابعة لسلم المشاركة، إذ تقوم السلطات بأخذ آراء المواطنين وأفكارهم وتوزيع الكتيبات والاستبيانات المختلفة، دون أن يكون هناك أي ضمان حقيقي لأن تؤخذ آراؤهم بعين الاعتبار خلال عملية صناعة القرار، وفي العديد من الأحيان تكون هذه المشاركة بمثابة “ديكور” تفسح المجال للتلاعب بالمشاركين من خلال تقديم معلومات تخصصية أو غياب الشفافية في بعض الجوانب.
وتأتي الدرجة الخامسة في السلم تحت اسم “الاسترضاء” والتي تقوم فيها الحكومات أو الجهات صاحبة السلطة بوضع عدد قليل مختار بعناية من المواطنين ضمن الهيئات والمجالس دون أن يكون لهم قدرة على التأثير الفعّال في صناعة القرار.
وبالانتقال إلى المستوى الأعلى من المشاركة تحمل الدرجة السادسة في السلم مفهوم “الشراكة” والتي يُعاد فيها توزيع السلطة فعلياً من خلال التفاوض، ويتم الاتفاق على تقاسم مسؤولية التخطيط واتخاذ القرار، أما الدرجة السابعة والتي تُمثّل مفهوم “التفويض” يتمتع فيها المواطنون بأغلبية واضحة في المقاعد وصلاحيات محددة حقيقية، وامتلاك حق النقض في بعض الأحيان إذا تعذّر حل الاختلاف بالرأي من خلال التفاوض، أما المستوى الأخير فهو يُعبّر عن “سلطة المواطن” والتي يقوم فيها المواطنون بإدارة برنامج أو مؤسسة ما وتأخذ الحكومة هنا الدور الاستشاري والإشرافي.
الشكل 1: سلم المشاركة المجتمعية وفقاً لمنظور أرنشتاين
تقدم أرنشتاين في كتابها الملهم أمثلة حقيقية عن كل درجة في السلم تمت دراستها، وتشير إلى صعوبات مختلفة واجهت الحكومة الأمريكية في مشاريعها الثلاثة السابقة وخاصة في تفسير مفهوم المشاركة المجتمعية المطلوبة، وهو ما تطلب إنضاج المفهوم عند السلطات الحكومية وعند المواطنين على حد سواء، و مع ذلك كانت المشاركة المجتمعية في العديد من التجارب شكليّة فقدت جوهرها، في حين تحوّلت في حالات أخرى لحالات من الاحتجاج والفوضى نتيجة سوء الإدارة أو محاولة التحايل على المشاركين، بينما نجحت مشاركات محدودة في الوصول إلى الدرجة المرضية بعد تجاذبات وتفاوض أدرك فيها المشاركون مجالات قوتهم ونفوذهم وقدرتهم على الضغط، كما أظهرت التجارب الحاجة لتغيير في السياسات ولتدريبات تطال المشاركين ولميزانية مالية تُغطّي احتياجات المشاركين لضمان قدرتهم على تقديم أفضل ما لديهم.
من التغييب التام إلى الحضور المشوّش:
لا يختلف اثنان على أن المجتمع السوري في عهد النظام البائد كان مكتوم الصوت مفرغ الفعالية، لا دور له ولا مشاركة ولا تأثير إلا في إطار ضيق يتعلق بالحزبية والولاء، ولم يكن هناك أي وعي أو إدراك لدى المجتمع بقدرته على التأثير أو إمكانياته في المشاركة في القرارات التي تؤثر على حياته، ولكن انطلاق الثورة السورية بداية وما تلاها من انتصارات وخيبات واحتياجات ساعدت على استعادة حيوية المجتمع السوري لا سيما في مناطق المعارضة والشتات.
قفز السوريون بعد التحرير بخطوات متسارعة من حالة انعدام المشاركة بأي درجة أو شكل إلى درجات “عدم المشاركة” و”المشاركة الرمزية” وفق سلم أرنشتاين، وهو ما يشير إلى وجود انفتاح من الحكومة تجاه اعتماد سياسات مختلفة تصب في خدمة المواطنين وتحسين حياتهم، ووجود رغبة أكبر من المواطنين بمختلف توجُّهاتهم للمشاركة بدور فعّال ومؤثر في كافة المجالات، لا سيما في رسم السياسات الداخلية التي تساعد على النهوض بالبلاد والانطلاق في عملية تنمية سريعة.
لقد قدّم السوريون الكثير من المبادرات والتي يعرضون فيها المساهمة بخبراتهم وعلاقاتهم لإعادة بناء بعض القطاعات وتحسينها، واستطاع بعضهم أن يُشارك فعلياً بالعمل ضمن الوزارات بشكل تطوّعي، فيما أصبح آخرون بمنصب مستشارين، الأمر الذي يؤكد مجدداً رغبة الحكومة في الاستفادة من كافة الكفاءات الواردة، ويطرح في ذات الوقت سؤالاً ملحّاً حول كيفية الاستفادة القصوى من هذه المشاركة المجتمعية والحفاظ على زخمها لتكون مشاركة ذات تأثير فعال وليست مجرد مشاركة شرفية.
إن الخطوة التي تجاوبت فيها الحكومة السورية مع السوريين من أصحاب الخبرات والتجارب محط تقدير كبير، ولكنها لن تؤتي ثمارها ما لم تكن أدوار هؤلاء المشاركين والمستشارين واضحة الملامح والمسؤوليات والصلاحيات، وما لم تشعرهم بأن آراءهم محط تقدير واهتمام وأنها ستنعكس بشكل فعلي على السياسات القائمة وتصحّحها، وأنها قائمة على حالة من الشفافية المطلقة دون حجب أي معلومات أو توجُّهات.
إن المشاركة المجتمعية سلاح ذو حدين، وتحتاج إلى قدر كبير من الحكمة ومن الإيمان بجدوى هذه المشاركة رغم صعوبتها وتحدياتها، وبقدر كون عملية إشراك المواطنين في صناعة القرار عاملاً مهما لزيادة الشرعية الحكومية ودعم الاستقرار والدفع نحو اتخاذ سياسات تصب في خدمة المواطنين وتحسين حياتهم؛ يمكن أن تتسبب في رد فعل عكسي يخلق توترات مجتمعية جديدة، وحالة من النقمة من طرف الخبراء المتطوعين وحتى عامة الشعب خاصة إن جاءت هذه المشاركة شكلية ودون سقف التوقعات أو أحسوا أن آراءهم لم تؤخذ على محمل الجد.
ومن الصعب في ظروف كالتي تعيشها بلادنا أن نتوقع أنماط مشاركة مثالية من كلا الطرفين، خاصة مع غياب أي تجارب سابقة، إلا أن تطوير عملية المشاركة المجتمعية وتحسينها لا بد أن يتم في ميدان العمل وعلى الأرض بعيداً عن التنظير، وأن تترافق التجارب بالدراسة والتحليل واستخلاص الدروس والعبر وذلك لإنضاج المفهوم وتحديد الفجوات والتطوير، ولا بد لمنظمات المجتمع المدني أن تدرك أهمية دعم رغبة المواطنين في المشاركة في اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم، وذلك من خلال تقديم التدريبات ووضع الأدلة والمعايير وعمل الدراسات والأبحاث والاستفادة من الخبراء في هذا المجال حول العالم لاختصار الوقت والجهد، ويبقى على الحكومة مسؤولية تطوير هذا النهج وتحسينه وتأمين البنية السياسية والقانونية القادرة على استيعاب هذه المشاركة والاستفادة منها لضمان تحقيق نتائج إيجابية والوصول إلى سياسات مُرضية تُوجّه جميع الطاقات نحو بناء سوريا العظيمة.
مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة