
مجلس الشعب السوري القادم: كيف نصل لمجلس الآمال؟ وكم يصحّ أن نتوقّع؟
منذ 8 / 12/ 2024 لا يزال السوريون في فرح تتخلل موجاته حالات مدّ وجزر؛ فمع تتالي الضربات “الإسرائيلية” على أهداف شتى في سوريا، حتى لم يسلم منها رمز القوة العسكرية “هيئة الأركان” ولا رمز الدولة “محيط قصر الشعب”؛ فإن النفوس تتحسّن برؤية بعضٍ من رؤوس المجرمين يظهرون في اعترافات حول إجرامهم بحق المدنيين لسنوات، ومع حملات التبرع التي أعطت سوريا لوناً مميزاً يليق بالشام وأهلها من البذل والعطاء تَشرَق نفوس الأحرار حتى تكاد تختنق عند دخول مؤسسات الدولة ومعاينة ركام القوانين وموظفي النظام البائد كما هي وهم قبل الثورة. إلى أن جاء ظهور الرئيس الشرع على منصة الأمم المتحدة والقفزة الدبلوماسية لسوريا الجديدة، مترافقاً ذلك مع أول عرس انتخابي تشهده سوريا بعد التحرير، ولعله العرس الانتخابي الأول من بعد سيطرة نظام البعث والأسد على سوريا وتخريب النظام السياسي فيها وما تبعه من خراب. ومع ما اكتنف عمل الهيئة العليا للانتخابات من ثغرات لا تتحمل مسؤوليتها كلها وحدها، ومع كبر الآمال المعقودة على مجلس الشعب المنتظر فإننا مضطرون للتروّي في الفرح والتفاؤل؛ ليس لإدماننا الحزن خلال سنوات وغلبة اليأس على النفوس، بل حتى تكون الأهداف صحيحة معقولة، لاسيما بعد خيبات أمل لا تُنكر وقع فيها السوريون قبل التحرير وبعده عند رفع أسقف الآمال وإطلاق الأماني دون ضبط.
ما زلنا حتى الآن عند كل انتكاسة في عمل وزارة من الوزارات نتعجّل التبرير: المشكلة في القوانين الناظمة، ولا مظلة تشريعية لنا حتى الآن تُجيز لنا القوانين التي تليق بسوريا الجديدة. وعند كل “خبصة” من وزير نُطالبه بالاستقالة، فيأتي الجواب أو التبرير من السلطة والمحبّين: بعد تشكيل مجلس الشعب ستكون حكومة جديدة مختلفة، حتى المندوب السامي الأمريكي توماس براك بشّر بحكومة سورية شاملة لا يبعد في ضوء تحركاته حتى الآن أن يُبدي رأيه في تشكيلتها !
وكلما اصطدمنا باتفاقية سابقة من أيام النظام البائد تكبّل سوريا وتصادر ثرواتها، وتأملنا خيراً باتفاقية جديدة مما يُوقّع ولم ينتقل إلى حيز التنفيذ بعد برّرنا ذلك بأننا ننتظر تشكيل مجلس الشعب الجديد حتى يعيد النظر في كل الاتفاقيات السابقة، ويجيز ما اعتمدته القيادة من بعد التحرير.
وغير ذلك من الأماني العريضة التي لا تكاد تنتهي، وكنّا نقول مثلها أو قريباً منها قبل التحرير: حتى يسقط نظام الأسد…، حتى ندخل دمشق ونحكم، وحتى…. و”حتى” التي حتّت قلوب النحاة من قبل!!
ليأتي تساؤل مشروع هنا: هل يملك مجلس الشعب السوري القادم عصا موسى فتنشقّ له البحار والمحيطات التي تكاد تغرق سوريا الجديدة بالمشاكل والفتن؟
أحاول في هذا المقال الإجابة عن الموضوع، دون ادّعاء مني للإحاطة بجوانبه كافة؛ إذ إن الجواب الصحيح عن هذا التساؤل يستلزم العودة إلى المراحل الأولى، واستعراض تشكيل الهيئة العليا للانتخابات وما اكتنف عملها من ثغرات، مما لم يعد الآن جدوى للحديث فيه بعد توقيع الرئيس على مشروع القانوني الانتخابي الذي اقترحته اللجنة، وصدور القوائم النهائية للهيئات الناخبة والمرشحين لمجلس الشعب؛ فهذا كله لا ثمرة عملية يمكن أن يُستفاد منها ونحن على بُعد أيام من الانتخاب، ولكنها مهمة للبحث والدراسة في مقام آخر؛ ولذا أحاول هنا الإجابة من خلال ما بقي من مساحة للعمل كي يتسع الأمل.
في طريق الوصول إلى المجلس:
كثرت خلال أيام منشورات البرامج الانتخابية للمرشحين الذي اجتازوا قنطرة الطعون واعتُمدوا؛ ومع تعكير المزاج بصور مرشحين لا يخلون عن تواطؤ مع النظام البائد، فالأحرار متفائلون بوجوه كثيرة من شرفاء الثورة وقادة العمل السياسي والاجتماعي والأكاديمي والديني، ومن الشباب الثائر، حتى لَتتردد في الدعاء لبعضهم بالنجاح ممن يشهد له ميدانه الذي تميّز فيه تخاف فقدانه إلى حيث قد لا يؤثّر؛ ثم تتراجع وتقول: يكفي أنه شريف ثوريّ، فهل هذا صحيح؟ هل يصحّ أن يكون معيار اختيار المرشح من الهيئة الناخبة الثورية وحدها؟
في تولّي الأعمال وإسنادها لن نجد خيراً من دستور: “إنّ خير مَن استأجرت القويّ الأمين”، حيث ذُكِرَ في تفسيرها: “إنه جمع القوة والأمانة، وخير أجير استُؤجر مَن جمعهما، أي: القوة والقدرة على ما استُؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم الخيانة، وهذان الوصفان، ينبغي اعتبارهما في كل مَن يتولى للإنسان عملاً بإجارة أو غيرها؛ فإنّ الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما، وأما باجتماعهما فإنّ العمل يتم ويكمل. وإنما قالت ذلك لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما ونشاطه ما عرفت به قوته، وشاهدت من أمانته وديانته وأنه رحمهما في حالة لا يُرجى نفعهما، وإنما قصده بذلك وجه اللّه تعالى“[1].
فإن كان أهل الثورة بالعموم قد حققوا جميعاً الأمانة؛ فهل كلهم قد تحققت فيهم القوة والقدرة التخصصية على ما ترشّحوا من أجله؟ أرى هذه الإشارة تُغني عن كثير من العبارات إن استحضرنا أن الترشّح ليس لمجلس وجاهيّ يُعقد على فترات متباعدة؛ وإنما أمام مجلس سيكون في حالة انعقاد دائم، موزعاً بين لجان تخصصية، ومدار عملها حول القوانين ودراستها لإجازتها أو ردّها أو سنّ قوانين جديدة لم تكن لم قبل. فهل هذا ينطبق على برامج انتخابية تدور حول خدمة المرشح منطقته بتحسين الخدمات فيها وتطويرها وكأن المقعد الذي سيجلس عليه مكتوب عليه اسم منطقته الإدارية أو بلديته التي ترشح ابتداء باسمها، وعلى تقديم وعود ليست أصلاً من صلاحيات المجلس وإن كان بأبهى صورة؟! أم أننا سنعود إلى عمل كل عضو لمنطقته من استجرار الخدمات والمشاريع والدعم؟ تلك سيرة النظام البائد وأعضاء مجالس التصفيق التي كان يشكّلها، وينبغي ألا تكون في سوريا الجديدة، وإن تجاوزنا ما يُخاف ويؤلم هنا من الجهل بطبيعة مجلس الشعب ومهامه وصلاحياته عند مرشحين للمجلس؛ لكننا نجد أنفسنا هنا أمام معضلة أخرى لطالما أفشلت مشاريع السوريين وأخّرت الانتصار والتحرير، وهي فشل العمل الجمعي، حتى لا تكاد تُفكّ عنا بَليّة “السوريون غير قادرين على العمل مع بعضهم، وهم جميعاً قادة ليس بينهم مرؤوس”، فقد رأينا في الهيئات الناخبة اصطراعاً غير محمود على الترشح دون توافق على مرشح ثوريّ يمكن لأعضاء الهيئة الناخبة الدفع بكل قوتهم مجتمعين إيصاله إلى المقعد، لكنهم تفرقوا وترشح أكثر من واحد ثوري في دائرة واحدة لكرسي واحد؛ مما ينذر بتفريق الأصوات بين المترشحين أبناء الثورة، ليكون من صالح الرماديين والمكوعين إن لم نقل الفلول!
إنّ ترشّح أكثر من مرشح في دائرة واحدة يمكن قبوله لو أن الانتخابات شعبية مفتوحة يعرض كل واحد برنامجه ويستقطب، ولكننا أمام نموذج من الانتخابات قُدّر أنه مناسب للمرحلة، والخطورة فيه من حيث محدودية الهيئة الناخبة؛ فإن لم يُجبر ذلك بتوافق على مرشّح فإننا على موعد مشؤوم بعد الخامس من الشهر القادم من التلاوُم والاتهام بإفشال بعضنا.
يسلّم السوريون جميعهم بأننا لولا توحيد الصفوف النسبي الذي شهدته عمليات ردع العدوان ما سقط نظام الأسد، ولا وصلنا دمشق؛ فكيف نقع في شرَك التفرّق وترجع فينا من جديد دعوات المناطقية والحزبية؟! والأقبح من ذلك أن يدّعي البعض أن هذه أجواء صحّيّة لابد أن تكون حتى يصحّ منا الادعاء أنها كانت انتخابات ديمقراطية؛ وهذه “مَسكنة ودروشة” سياسية لا تليق بمرشحين لمجلس الشعب.
أمامنا وزارات ومؤسسات عديدة لا يدخلها أحد إلا ويخرج بسيلٍ من السُّباب والدعاء على مَن فيها، يقابله المسؤولون _وقد سمعتها بنفسي، ولعل غيري سمعها_ بالقول: جماعتنا أهل الثورة لم يستوعبوا بعد أننا صرنا في مرحلة بناء الدولة وأن الثورة انتهت، فهم لا يعرفون القوانين وضوابط العمل الإداري؛ فلم نجد إلا أن نبقى على موظّفي النظام البائد. فهل ننتظر أن يُقال في مجلس الشعب الأول لنا بعد الثورة مثل ذلك إن كنّا أمام أمناء ليسوا بأقوياء، فنضطر لمن ليسوا بأمناء؛ سواءٌ ادّعوا أنهم أقوياء أو كانوا أو ضعفاء!!
لن يتسع مجلس الشعب القادم لكل السوريين، ولا يلزم من كل ناجح أن يترك ثغره حتى يلتحق بمجلس الشعب ويترك موقعه، وليس معيار نجاح الثورة وتمام النصر والتحرير أن يكون كل المجلس من الثوريين فقط؛ ولن يكون. فليتّقِ الله أعضاء الهيئات الناخبة، وليضعوا تحت أرجلهم أية ولاءات حزبية أو مناطقية أو “أيديولوجية” تحجب عنهم ضرورة أن يصل المجلس مَن يُشهد لهم بالقوة والأمانة معاً لتنجح التجربة؛ فهي الحلقة الأخيرة أمامنا لتصويب ما نجد في ساحتنا السورية داخلياً وخارجياً.
وهذا لا يعني بحال رفع سقف التوقعات وكأنّ المجلس القادم يملك عصا موسى؛ فلابد من عقلنة الأهداف ونحن في واقع شديد التعقيد انكشفت حتى الآن كثير من تعقيداته، فهمها مَن فهمها وتجاهلها أو جهلها مَن جهلها. ومن الفأل الحسن ما رأيناه في بعض المحافظات من دورات تدريبية للمرشحين على صياغة برامجهم الانتخابية؛ فلا يضرّ أن تتوسع هذه التدريبات لبيان مساحات التأثير والعمل الواقعية للمجلس وأعضائه ممن سيُقدّر لهم الفوز في الانتخابات حتى ينجحوا قولاً وفعلاً في العمل النيابي؛ وبنجاحهم نجاح السلطة الناظمة لما دونها وتعين على نجاحها، والعكس بالعكس.
[1] مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود، آيــــات – القرآن الكريم، تفسير السعدي، شوهد في: 3 / 10 / 2025
يحمل دكتوراه في اللغة العربية وآدابها، أكاديمي محقق في التراث، وكاتب باحث في القضايا الثقافية والفكرية. أنجز عدة دراسات ومقالات تُعنى بالوجود الإيراني في سورية، وبالتعليم والهوية الثقافية، وصدرت له عدة كتب تخصصية وإبداعية، مع أبحاث له منشورة في مجلات ثقافية ومجلات علمية محكَّمة.