مع دخوله عامه العاشر؛ كيف دعم الأمريكان التدخُّل الروسيّ في سوريا؟
ملخص:
- كان التدخل الروسي في سوريا عام 2015 نقطة انعطاف وتحوُّل كبيرة في الملف السوري؛ فقد شكّل العامل الأثقل في حماية نظام الأسد وقلب موازين القوى لصالحه. ونظراً لأهمية الدور الأمريكي في المنطقة وغيرها يحاول هذا التقرير استكشاف الموقف الأمريكي من التدخل الروسي.
- ثمّة العديد من المؤشرات التي تؤكد حصول تنسيق أمريكي “إسرائيلي” مع الروس لقيامهم بالتدخل العسكري، أهمها:
- شهادة نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي، أندرو إكسوم، أمام الكونغرس، التي أكّد فيها قلق واشنطن من احتمال انهيار نظام الأسد السريع الذي قد يهدّد مصالحها، خاصة أمن “إسرائيل”.
- إكسوم ذكر أن هناك تنسيقاً طويل الأمد بين الولايات المتحدة وروسيا حول مصير سوريا منذ صيف 2015، وأن سقوط الأسد كان يُعد تهديدًا مباشراً للمصالح الأمريكية، وعلى رأسها أمن “إسرائيل”.
- حدوث الصفقة بين الأطراف الدولية -وعلى رأسها الولايات المتحدة- مع روسيا في صفقة تسليم الأسلحة الكيميائية في سوريا قبل التدخل الروسي، الذي ساعد في بناء إطار تعاوني لاحق مهّد للتدخل الروسي العسكري.
- كما أن هنالك مؤشرات أخرى داعمة متعلقة بالتماهي الأمريكي مع روسيا في طروحاتها السياسية أو تسهيل مهامها ميدانياً، مثل:
- قيام وزير الخارجية الأمريكي كيري بالضغط على هيئة التفاوض السورية للقبول بتشكيل حكومة “وحدة وطنية” بوجود الأسد.
- التوقف عن دعم الفصائل: فقد أنهت الولايات المتحدة دعمها العسكري المحدود لبعض فصائل قوى الثورة والمعارضة السورية المسلحة عبر ما كان يُعرف بغرف الموك والموم في عام 2018.
- التخلي عن دعم فصائل الجبهة الجنوبية: بالتزامن مع قيام الروس ونظام الأسد بحملة ضدهم، مما أسهم في فرض الروس أجنداتهم عبر فرض المصالحات في درعا.
- يمكن القول: إن التدخل الروسي تم بتنسيق وبضوء أخضر أمريكي و”إسرائيلي”، في إطار تأمين المصالح المشتركة، خاصة حماية أمن “إسرائيل”، وهو أحد الثوابت الأساسية في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على مدى خمسين عاماً.
مقدمة:
ثمّة توافق عام -تقريباً- بين المراقبين والمحللين في الساحة السورية حول أن التدخُّل الروسي في سوريا بتاريخ 30 أيلول/سبتمبر 2015 شكّل نقطة انعطاف وتحوُّل مهمة في مسار الصراع السوري بين قوى الثورة والمعارضة السورية ونظام الأسد؛ فقد جاء هذا التدخُّل بعد أن حققت قوى الثورة والمعارضة العسكرية إنجازات كبيرة غير مسبوقة في محيط دمشق من خلال معركة “الله غالب”، كما وصلت طلائع “جيش الفتح” إلى حدود الساحل السوري بعد سيطرتها على محافظة إدلب.
ومع التسليم بتأثير هذا التدخل الكبير في حماية نظام الأسد، وتعديل كفّة موازين القوى بشكل غير مسبوق لصالح نظام الأسد ومؤيديه الإيرانيين والروس؛ ما زالت بعض النقاشات تدور في أروقة نُخَب من قوى الثورة والمعارضة حول مراجعات السياسة الأمريكية في سوريا، بين مَن يرى أن موقف الولايات المتحدة كان أقرب إلى تأييد الثورة، وأنه كان ضد نظام الأسد، وأن عدم التدخل العسكري لصالح قوى المعارضة أمر كان قد أفادت به واشنطن من خلال سفيرها فورد في اجتماع مع المعارضة منذ الأيام الأولى للثورة. في حين يرى آخرون أن الموقف السلبي لواشنطن تجاه الثورة يتجاوز ذلك بمراحل؛ ليس من خلال قيامها بمنع حصول قوى الثورة والمعارضة العسكرية على الأسلحة النوعية كمضادات الطائرات فحسب، وإنما من خلال دعمها وتنسيقها للتدخل الروسي ضدهم.
يتفق الجميع في النقاش أعلاه على أن السياسة الأمريكية هي -بلا شك- عامل أساسي ومهمّ في ترجيح موازين القوى على الأرض لصالح أي طرف من الأطراف؛ نظراً لثقل واشنطن دولياً وإقليمياً.
ومع دخول التدخُّل الروسي عامه العاشر يتجدّد التساؤل: ما الموقف الأمريكي من التدخُّل الروسي في سوريا آنذاك؟
وهذا هو السؤال الرئيس الذي نحاول مناقشته في هذا التقرير؛ وتتفرّع عن ذلك السؤال الرئيس عدة أسئلة فرعية تعترضنا أثناء محاولتنا فهم الموقف الأمريكي، فمن المنطقي أن نتساءل:
ما الموقف الأمريكي من نظام الأسد قبل حدوث التدخل الروسي؟ وهل هناك مؤشرات يمكن من خلالها استقراء طبيعة الموقف الأمريكي من خلال ما حدث قبل التدخل الروسي ممهداً للموقف من التدخل؟
وبالمثل: ما المواقف الأمريكية بعد التدخل الروسي؟ وهل كانت استمراراً للموقف من التدخل؟
وافتراضنا هنا طبعاً أن الموقف الأمريكي من التدخل الروسي ليس منفصلاً عما قبله وعما بعده؛ فمن المفترض أن يكون منسجماً ومتسقاً، وأن يكون حلقة ضمن سلسلة تمثل الاستراتيجية الأمريكية تجاه ما حدث في سوريا.
من خلال محاولتنا القيام بقراءة شاملة بانورامية لهذا الموقف الأمريكي بناءً على الأدلة يمكن لنا فهم الموقف الأمريكي من التدخل الروسي بشكل خاص، والموقف الأمريكي من الثورة السورية ونظام الأسد بشكل عام، كما يمكن اعتبارها أيضاً دراسة لحالة تسهم في فهمنا للعلاقات الدولية بما يتجاوز الملف السوري، وتساعدنا في فهم السياسة الأمريكية عموماً، لاسيما في تعاملها مع خصم لدود لها تقليدياً كروسيا، بما يتجاوز الأطر التقليدية للتفكير الافتراضي غير المدعوم بالأدلة الخبرية والعملية، كافتراض خصومة ومنافسة واشنطن التقليدية مع موسكو على طول الخط، وهو ما يؤدي إلى استبعاد التنسيق بينهما، أو افتراض التنسيق والترتيب المسبق بين الطرفين وفق ما يُعرف عند البعض بـ “نظرية المؤامرة”.
نحاول في هذا التقرير الوقوف على حقيقة الموقف الأمريكي بناء على الأدلة، بعيداً عن الافتراضات المسبقة، وفي سبيل ذلك سنراجع نوعين من المؤشرات، وهي: المؤشرات المباشرة: المتعلقة بالموقف الأمريكي من التدخل الروسي، وتمّت من خلال شهادات أو آراء لمحللين ومراقبين تحدثت عن التدخل الروسي في وقته أو قبله أو بعده بمدد قليلة. والمؤشرات غير المباشرة: المتعلقة بالمواقف الأمريكية من الوقائع في سوريا قبل التدخل الروسي وبعده. وسنحاول استقراء بعض السياسات الأمريكية في التعامل مع روسيا في ملفات أخرى.
أولاً: المؤشرات المباشرة المتعلقة بالموقف الأمريكي من التدخل الروسي:
نتناول هنا شهادة لمسؤول أمريكي عن التدخل الروسي، وآراء لمحللين وباحثين تمت بُعيد التدخل، ومؤشرات أخرى حدثت بالتزامن مع بداية التدخل أو قُبيله أو بُعيده.
شهادة نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي أمام الكونغرس:
عند الحديث عن التحليل السياسي عموماً ثمّة صعوبات جمّة لإيجاد الأدلة بمعناها العلمي الدقيق؛ ذلك أن المحلل أو الباحث يحاول قراءة ما بين السطور من خلال غوصه فيما يمكن أن نسميه “مؤشرات” قد لا ترقى إلى الأدلة في سياق يحاول فيه صنّاع القرار إخفاء نيّاتهم الحقيقية خلف تصريحاتهم وبياناتهم الرسمية، التي عادة ما تكون موسومة باستراتيجياتهم الإعلامية وما يريدون تصديره للمتلقي، لا الحقائق خلف الكواليس؛ مما يجعل الاستنتاجات التي يخرج بها المحلل في النهاية ظنّيّة، وهو ما يفتح الباب لتعدد الآراء في المسائل. ومع ذلك يمكن القول إن المسألة نسبية، وتراكم دلالات المؤشرات على توجه معين يعزّز من الاستنتاجات ويقوّيها، ويجعلها مرجحة بدرجة عالية من غلبة الظن، مما يقلل من هامش الخطأ قدر الإمكان.
وفي هذا السياق فإنّ لشهادة أندرو إكسوم (Andrew Exum) نائب مساعد وزير الدفاع لسياسات الشرق الأوسط أمام الكونغرس حول النفوذ الصيني والروسي في الشرق الأوسط أهمية خاصة.
على الرغم من أن موضوع الشهادة لم يكن الحديث عن سوريا بشكل مباشر، إلا أنه تناولها في معرض حديثه عن النفوذ الروسي بشكل أساسي.
شغل إكسوم منصب نائب مساعد وزير الدفاع لسياسة الشرق الأوسط من أيار/مايو 2015 حتى كانون الثاني/يناير 2017، أي أنه بدأ منصبه قبيل التدخل الروسي. يؤكد إكسوم في شهادته على محورية أمن “إسرائيل”، معتبراً إياه أحد أهم المصالح الأمريكية الثابتة في المنطقة لأكثر من نصف قرن، وقد ذكر قضية أمن “إسرائيل” مرتين في شهادته، كما يذكر إكسوم أن الولايات المتحدة انخرطت بشكل فاعل في مفاوضات طويلة مع الجيش الروسي وأجهزة المخابرات الروسية حول مصير سوريا في عام 2016، وهي الفترة التي شهدت ذروة التدخل الروسي؛ حيث كان لهذا التدخل دور كبير في خسارة مدينة حلب لصالح نظام الأسد وخروجها من يد قوى الثورة والمعارضة السورية العسكرية.
يشير إكسوم في شهادته إلى أن التنسيق الكبير بين الطرفين ترجع جذوره إلى صيف عام 2015 حينما بدأ التخطيط والتنسيق المشترك بين الوكالات الأمريكية لسيناريو خطير كانوا يتخوفون منه[1]، أطلقوا عليه مصطلح “النجاح الكارثي”، ويُفهم من النص أن “النجاح الكارثي“ هنا يشير إلى نجاح المجموعات المعارضة لنظام الأسد في إسقاطه، كما يذكر إكسوم بوضوح: “شعرنا بالقلق من احتمال انهيار نظام الأسد أخيراً وحدوث ذلك بسرعة، بطريقة من شأنها أن تعرّض المصالح الأمريكية للخطر، بما في ذلك أمن دولة “إسرائيل””، ويُفهم من كلام إكسوم أن انهيار نظام الأسد سيعرض أمن “إسرائيل” للخطر.
يتحدث إكسوم عن تنسيق بين الوكالات لتجنُّب هذا السيناريو، والمفهوم أنها الوكالات الأمريكية، وربما وكالات بعض الدول الصديقة.
لا يذكر إكسوم بشكل صريح أنهم بدؤوا التنسيق مع الروس في عام 2015[2]، لكنه يشير إلى تنسيقات كبيرة حدثت في عام 2016، وأن جذور هذه التنسيقات بدأت في صيف 2015، أي قبل التدخل الروسي بشهرين أو ثلاثة[3].
وهذا يشير برأينا إلى أن التنسيق كان على مستوى عالٍ بين الأمريكان والروس و”الإسرائيليين” قبل التدخل الروسي، لاسيما إذا ما أخذنا بعين النظر المؤشرات الأخرى التي ستُذكر لاحقاً.
وعند الحديث عن أمن “إسرائيل” لابد من أخذ تأثير اللوبي الموالي لـ “إسرائيل” في واشنطن بعين الاعتبار[4]، وكذلك سياسة “إسرائيل” نفسها حول هذا الموضوع لمقاطعة هذه الشهادة مع المؤشرات الأخرى.
تحمل شهادة إكسوم مصداقية عالية؛ لأنها شهادة مسؤول حكومي أدلى بها أمام الكونغرس، وهو ما يجعله ملزماً قانونياً بقول الحقائق.
من المفيد هنا الإشارة إلى أن إكسوم ذكر أن وزارته لم تكن متحمسة للتنسيق مع الروس، لكنهم تلقوا توجيهات من إدارة الرئيس أوباما لإجراء هذه المحادثات. وهنا يبدو وكأن إدارة أوباما كان لديها خبرة سابقة وثقة بالجانب الروسي؛ لذا يجب أن نربط هذا الأمر مع مؤشرات أخرى، مثل التنسيق السياسي الذي حدث بين الطرفين حول موضوع نزع السلاح الكيميائي لنظام الأسد، وقد جرى قبل التدخل الروسي، ونعتقد أن هذا التنسيق أسهم في تمهيد الطريق للتدخل الروسي.
لقاءات أوباما مع بوتين قُبيلَ التدخُّل الروسي وبُعيدَه:
حدثت عدة لقاءات بين الرئيسين الروسي بوتين والأمريكي أوباما، وكان لافتاً الحديث عن التوافق على التنسيق الأمني بين الطرفين في القمة التي سبقت التدخل الروسي مباشرة[5]، وأفادت بعض الدراسات التي أُجريت لاحقاً أن هذه اللقاءات أدت إلى توقيع بروتوكولات منع التصادم بين الطرفين، والتنسيق بالحدود الدنيا، دون تطور التعاون إلى تعاون استخباراتي كامل؛ وحصول التنسيق بالحدود الدنيا يؤكد عدم معارضة واشنطن للتدخل[6].
آراء المراقبين والمحلّلين في الموقف الأمريكي من التدخُّل الروسي:
كان من الملاحظ وجود شريحة عريضة من المحللين والباحثين الذين رأوا أن الموقف الأمريكي متواطئ وداعم للتدخل الروسي، وقد عبروا في عن ذلك في العديد من كتاباتهم[7].
ارتفاع مستوى التنسيق الروسي “الإسرائيلي”:
لُوحظ ارتفاع مستوى التنسيق الروسي “الإسرائيلي” قُبيلَ التدخل الروسي في سوريا وبُعيدَه؛ إذ ظهرت العديد من التقارير التي أشارت إلى زيادة هذا التنسيق بين الجانبين، وكان لافتاً زيارة وفد عسكري روسي إلى “إسرائيل” عقب التدخل الروسي مباشرة، وتحدثت التقارير التي حلّلت هذه اللقاءات عن تعزيز التنسيق في المجالات الجوية والبحرية. وعلى هامش هذه اللقاءات أشار محللون “إسرائيليون” -ومن بينهم الأستاذ الجامعي المختص بشؤون سوريا والشرق الأوسط موشيه معوز- إلى وجود اتفاق سرّيّ بين الطرفين يهدف إلى إنقاذ نظام الأسد[8].
في هذا السياق يمكن القول: إنّ مَن يدرك طبيعة العلاقات الأمريكية “الإسرائيلية” يعلم أن سياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط نادراً ما تنفصل عن الرؤية “الإسرائيلية”. بناءً على ذلك فمن المنطقي أن نفهم أن هذا التنسيق الروسي “الإسرائيلي” قد تم بضوء أخضر ودعم أمريكي، لاسيما عند ربطه بالمؤشرات السابقة، وفهم تأثير اللوبي الموالي لـ “إسرائيل” في الولايات المتحدة.
ثانياً: المؤشرات غير المباشرة: المتعلقة بالمواقف الأمريكية قبلَ التدخُّل الروسي وبعدَه:
قبل التدخُّل الروسي:
صفقة السلاح الكيماوي نقطة انعطاف أساسية:
منذ بدايات الثورة السورية تحوّل الموقف الأمريكي تدريجياً باتجاه رفض تسليح فصائل المعارضة السورية، مع الميل نحو التنسيق مع روسيا لإيجاد حل سياسي وفق اتفاق جنيف. وقد وضع أوباما خطاً أحمر لنظام الأسد يتعلق باستخدام السلاح الكيميائي؛ ولذا قامت الولايات المتحدة بالحشد لتوجيه ضربة عسكرية لنظام الأسد عندما استخدم السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية في المجزرة المعروفة في آب/ أغسطس 2013. بالتوازي مع ذلك نشطت الجهود الدبلوماسية بقيادة روسيا ومعها إيران، مع دور مهم لألمانيا التي توسطت لعقد لقاء قصير بين أوباما وبوتين، ويبدو أن هذا اللقاء قد شهد مناقشة صفقة تسليم السلاح الكيميائي، وبالفعل قبيل ساعات فقط من مناقشة الكونغرس الأمريكي الضربة العسكرية المحتملة لنظام الأسد أعلنت روسيا عن مبادرة تنصّ على وضع السلاح الكيميائي تحت الإشراف الدولي. وبهذا تمكنت روسيا من تجنّب الضربة العقابية عبر التنسيق مع الولايات المتحدة[9].
يمكن القول: إن هذا التنسيق رفيع المستوى قد مهّد لاحقاً للتعاون أثناء التدخل العسكري الروسي في سوريا؛ حيث شكّل بنية تحتية وتجربة ناجحة للتنسيق الروسي الأمريكي، وكان يحدث بالتوازي أيضاً مع جهود أوباما لعقد الاتفاق النووي مع إيران، الذي تم أيضاً في عام 2015، وأسهمت روسيا فيه أيضاً، وهو ما شكّل فضاءات لتوسيع التعاون.
لقد شكّلت تلك الصفقة نقطة انعطاف كبيرة في التعامل مع نظام الأسد[10]، وبشكل مفاجئ وغير مألوف للتصريحات الأمريكية العلنية من نظام الأسد تلقى النظام إشادة دبلوماسية غريبة علنية في ذلك الوقت من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري[11]. وكان من الواضح أن رأس الدبلوماسية الأمريكية كيري معجب بالنتائج التي أسفرت عنها الصفقة، التي كان عرّابها الروس في المقام الأول. ومن المعروف عن كيري تفضيله التنسيق مع روسيا في الملف السوري؛ فقبل صفقة السلاح الكيميائي بأشهر أدلى جون كيري بشهادة أمام الكونغرس في 24 كانون الثاني/ يناير 2013، قال فيها: إن “التنسيق مع روسيا في الأزمة السورية هو أقل الشرور”[12]؛ مما يعكس توجهاً أمريكياً ثابتاً للتنسيق مع موسكو في سوريا.
ومما لا شك فيه أن صعود التنظيمات المتطرفة، ودخول “داعش” على الخط قد أثّر في دعم المقاربة الأمريكية الجديدة، التي صارت أولويتها التدخل ضد “داعش”، ويمثل هذا نجاحاً لاستراتيجية نظام الأسد منذ اليوم الأول لانطلاق الثورة من خلال إطلاقه صفة الإرهابيين والتكفيريين على معارضيه، بحيث يضع المجتمع الدولي أمام خيارات صعبة، تتمثل بالاختيار بينه وبين “الجماعات الإرهابية”، ليكون الخيار الأقل سوءاً، وهو ما تضمنته العديد من الآراء المبثوثة في الإعلام والصحافة الغربية في ذلك الوقت[13].
بعد التدخُّل الروسي:
ثمّة محطات عديدة بعد التدخل الروسي تستحق الوقوف عندها لِـمَا لها من دلالات ذات صلة بالموضوع، أبرزها ما لمسته وعاينته العديد من الأطراف في قوى الثورة والمعارضة السورية، من مثل:
ضغوط وزير الخارجية الأمريكي جون كيري على قوى الثورة والمعارضة:
وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري الذي سبق أن نقلنا شهادته في الكونغرس الأمريكي في بداية عام 2013، ورأى فيها أن التنسيق مع الروس هو “الخيار الأقل سوءًا” في سوريا؛ مضى قدماً في توافقات مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، ونتج عن تلك التوافقات مطالبة كيري في أكثر من مناسبة قوى الثورة والمعارضة السورية بتشكيل حكومة وحدة وطنية تحت قيادة الأسد[14]؛ مما دفع بعض المسؤولين في المعارضة السورية إلى القول آنذاك: إن هناك “تراجعًا مخيفاً” في الموقف الأمريكي[15]، فالموقف الأمريكي هنا كان ذا دلالة واضحة على وجود توافقات مسبقة تم البناء عليها تدريجياً.
إيقاف برامج الدعم المسلح للفصائل:
بدأ الدعم الذي كان يُقدَّم لبعض فصائل المعارضة السورية المسلحة عن طريق غرفتَي الموك والموم في عام 2013، وكان دعماً هزيلاً محدوداً يهدف عملياً إلى امتلاك أداة من أدوات التحكم بالصراع، ومع ذلك فقد تم إنهاء هذا الدعم وإيقافه تماماً مع مطلع عام 2018[16] في عهد الرئيس الأمريكي ترامب، الذي بنى على سياسة أوباما في سوريا، وكان أكثر ميلاً للتوافق مع روسيا في سوريا.
خذلان فصائل الجبهة الجنوبية بالتزامن مع الهجوم الروسي:
على الرغم من التراجع الكبير في دعم فصائل قوى الثورة والمعارضة السورية من قبل الدول الفاعلة بشكل عام كانت هناك تقديرات تشير إلى أن وضع فصائل الجبهة الجنوبية يُعد استثناءً؛ حيث إن هذه الفصائل تتمتع بعلاقات جيدة مع الفاعلين المحليين والدوليين، ويُفترض أنهم قد استثمروا فيها طويلاً لبناء منطقة عازلة لمنع تمدُّد النفوذ الإيراني؛ إذ كان من المفترض أن تلك الفصائل منخرطة بتشكيل درع يصدّ الميليشيات الإيرانية وتمدّدها في المنطقة، منعاً لخطرها على أمن الدول الإقليمية، وهو ما ظهر أثره لاحقاً في ازدياد تهريب المخدرات[17]. مع ذلك، وبالتزامن مع هجمات قوات نظام الأسد والميليشيات المدعومة من إيران وروسيا تلقت فصائل الجبهة الجنوبية في منتصف عام 2018 رسائل واضحة من الولايات المتحدة تفيد بعدم رغبتها في تقديم دعم لهم في مواجهة هجمات قوات نظام الأسد والميليشيات الإيرانية والروسية[18]؛ مما أدى لاحقاً إلى تراجع تلك الفصائل، ولجوء العديد منها لإجراء تسويات أو مصالحات مع نظام الأسد.
خاتمة:
من الطبيعي أن يحدث التنافس بين الدول لتحقيق النفوذ الجيوسياسي؛ فافتراض وجود التنافس الأمريكي-الروسي في سوريا أو في أي منطقة من العالم هو أمر منطقي، لاسيما بالنظر إلى المنافسة طويلة الأمد بين الطرفين خلال الحرب الباردة وما بعدها. ولذا قد يستبعد البعض حدوث التواطؤ أو التنسيق بين الدولتين، معتقدين أن ذلك يدخل في إطار نظريات المؤامرة؛ إلا أن ثمّة دائماً استثناءات لهذه الافتراضات “المنطقية”، والأساس هو مراجعة كل حالة على حدة وفق الأدلة والظروف المحيطة بها.
في هذا السياق من المفيد الإشارة إلى حالة نادرة من التنسيق الأمريكي-الروسي قد حدثت في ذروة الحرب الباردة بين الطرفين، وتمّت حتى ضد أطراف أخرى من المعسكر الغربي؛ فقد نسّقت الولايات المتحدة استجابتها ضد “العدوان الثلاثي على مصر” في اتجاه واحد مع الاتحاد السوفيتي ضد حلفائها الغربيين، بريطانيا وفرنسا، وضد “إسرائيل” التي تُعد حليفها الأساسي في الشرق الأوسط؛ حدث ذلك في عام 1956 بعد محاولة بريطانيا وفرنسا و”إسرائيل” السيطرة على قناة السويس من خلال شنّ حرب على مصر إثر تأميم جمال عبد الناصر للقناة[19].
وإذا كان مثل هذا التنسيق قد حدث بين الطرفين في ذروة العداء بينهما، وضد حلفاء للولايات المتحدة؛ فإن احتمالية حدوثه في حالة سوريا تبدو أكثر ترجيحاً، لاسيما وأنه يخدم مصالح “إسرائيل” وأمنها، الذي يُعد أحد أهم المصالح الثابتة للولايات المتحدة في المنطقة، كما أوضح إكسوم نائب مساعد وزير الدفاع لسياسة الشرق الأوسط في شهادته أمام الكونغرس، التي نقلناها في صدر التقرير.
ومن خلال مراجعتنا المؤشرات الدالة على التنسيق الأمريكي-الروسي يمكننا القول: إن الولايات المتحدة نسّقت جهودها مع روسيا و”إسرائيل” منذ بداية الثورة السورية؛ لكن هذا التنسيق بلغ ذروته في صفقة الأسلحة الكيميائية التي اقترحتها روسيا وتوسطت فيها ألمانيا، ووافقت عليها إدارة أوباما. ومثّلت تلك الصفقة بنية تحتية لتواطؤ طويل الأمد بين الولايات المتحدة وروسيا و”إسرائيل”، مما مهّد للتدخل الروسي بقبول أمريكي ومباركة “إسرائيلية” لحماية نظام الأسد من الانهيار.
فانهيار نظام الأسد -كما أشار إكسوم- يمثّل خطراً كبيراً على المصالح الأمريكية، وفي مقدمتها “أمن إسرائيل”، وهو ما يتوافق مع تصريحات رامي مخلوف في بداية الثورة لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، التي ألمح فيها إلى أهمية نظام الأسد لأمن “إسرائيل”، فكان نظام الأسد يستثمر من البداية في هذه الورقة لضمان بقائه[20].
من هذا المنطلق تبدو السياسة الأمريكية في سوريا متعددة الوجوه؛ فهي تتواطأ مع روسيا لدعم نظام الأسد، وتنسق مع “إسرائيل”، وفي الوقت نفسه تقدم دعماً دعائياً رمزياً لقوى الثورة والمعارضة السورية، وتنفق أموالاً طائلة في الاستجابة الإنسانية، وتسمح بهوامش محددة للمناورة، مثل إصدار قوانين تضغط على نظام الأسد، كقانون قيصر[21] وقانون الكبتاغون1و2[22].
يمكن اعتبار الموقف الأمريكي من التدخل الروسي في سوريا مثالاً لدراسة حالة تفيد في فهم السياسة الأمريكية عموماً، وتطبيقات ذلك على حالات مشابهة في حقل العلاقات الدولية.
بالمجمل: شكّلت قضية أمن “إسرائيل” نقطة محورية يتفق عليها الفاعلون الدوليون والإقليميون، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وروسيا، وهو ما يتوافق مع الدور الوظيفي لنظام الأسد في الحفاظ على أمن “إسرائيل”، رغم الدعاية التي يُصدّرها حول المقاومة والممانعة. والجدير بالذكر أنه على الرغم من هشاشة الجهود التي تبذلها الأطراف الأخرى ضمن محور المقاومة والممانعة ضد “إسرائيل”، وارتباطها بأجندات إيرانية خاصة فإن موقف نظام الأسد يبدو مختلفاً؛ إذ يكتفي بتلقّي الصفعات دون أي ردود فعل، حتى لو كانت رمزية، وهو ما ظهر مؤخراً عندما توغلت الدبابات “الإسرائيلية” في مناطق القنيطرة دون أي ردّ فعل من قواته[23].
وهنا تبرز قضية مهمة: إذا كان لبعض الفصائل الفلسطينية شبهة تبرير أو تأويل لتحالفها أو تنسيقها مع إيران وميليشياتها نظراً لتلقّيها دعماً منها أو مساندتها لها، فلا يبدو أن هناك أية فائدة لتلك الفصائل من التطبيع مع نظام الأسد على الإطلاق، لاسيما وأن موقفه أصبح واضحاً في السعي لتحقيق تموضع خاص به، منفصل عن باقي ما يُعرف بـ “محور المقاومة” عندما يتعلق الأمر بـ“إسرائيل” وأمنها.
رغم جهود نظام الأسد في دوره الوظيفي بهدف بقائه إلا أن حدوث حرب غزة وعواقبها يُبقي الباب مفتوحاً على تغييرات قابلة للتطور في كل المنطقة، بما في ذلك سوريا، خاصة مع احتمالات زيادة التصادم الإيراني “الإسرائيلي”، وهو ما قد يجعل الأسد مجدداً في موقف صعب.
باحث ومستشار، كتب و شارك في كتابة العديد من الأوراق المتعلقة بالملف السوري. كما عمل مستشاراً وباحثاً في الشأن السوري لدى عدة مراكز سياسات سورية ناشئة، ولدى منظمات دولية. مدرب في مجال أساسيات ريادة الأعمال وأساسيات التحليل السياسي،