الراصد

منظومة الفساد في مؤسسات نظام الأسد.. المظاهر والآثار

إضاءات تحليلية تصدر عن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري

مقدمة:

تحتلُّ سوريا تحت حكم نظام الأسد موقع الصدارة كواحدة من أكثر البلدان فساداً في العالم، حيث وصلت عام 2023 إلى المرتبة 174 من بين 180 دولة، ولم يكن هذا الفساد الذي يتغلغل في مفاصل مؤسسات نظام الأسد بكل أنواعه نتيجة ظروف الحرب التي تعيشها البلاد فحسب، بل هو فساد ممنهج تأسّس منذ عهد حافظ الأسد، حتى باتت منظومة الفساد تُهيمن على كل مفاصل الدولة، بدءاً من أصغر مؤسسة، لتصل إلى رأس هرم السلطة[1].

كان الفساد منتشراً في سوريا قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، فقد كان حينها ترتيب سوريا على مؤشر الفساد العالمي في المرتبة 124من أصل 180 دولة، حيث تفشت ظواهر الفساد التي تشمل الرشوة، والمحسوبيات، وتضليل المعلومات، وغيرها من الممارسات، ودخل الفساد مختلف قطاعات المجتمع السياسية والاقتصادية في سوريا، كما شهدت سوريا انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان واستغلال السلطة لمكاسب شخصية.

وبالرغم من توقُّف معظم العمليات العسكرية لنظام الأسد في سوريا بعد العام 2020 عقب استعادته السيطرة على مساحات واسعة من الخارطة السورية أبرزها مدينة حلب في أواخر 2016[2]، ثم مناطق ريف دمشق ودرعا في 2018، وصولاً إلى العديد من المدن والبلدات في شمال غربي سوريا مثل معرة النعمان وسراقب في 2020، إلا أنه لم يبذل أي جهد لتحسين الوضع، بل على العكس كانت التبريرات حاضرة واستخدمها كوسيلة للتغطية على الفساد.


سوريا وفقاً لتصنيفات مؤشر الفساد العالمي بين عامي 2010-2023 [3]

يستعرض هذا التقرير جانباً من عمليات الفساد في مؤسسات نظام الأسد وما تسبّبت به من زيادة في انحدار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، كما يتطرق إلى استغلال نظام الأسد للعمل الإنساني وسط تنامي نفوذ المليشيات التي تحاول تحصيل موارد جديدة.

فساد ممنهج في مؤسسات ووزارات نظام الأسد:

تأثرت تركيبة السلطة والهياكل الحكومية في سوريا منذ 2011 بشكل كبير، فقد أتاحت للفاسدين الاستفادة من الفوضى التي خلقها نظام الأسد والتحايل لزيادة ثرواتهم ونفوذهم بشكل غير مشروع، وقد استغل نظام الأسد التشتت والصراع لتحويل انتباه الناس بعيداً عن قضايا الفساد الداخلية، مبرراً تدابيره بأنها جزء من “جهود مكافحة الإرهاب” أو “الدفاع عن الدولة”.

وتبرز مشكلة الفساد بوضوح في جميع مؤسسات الدولة، لاسيما داخل المؤسسات الأمنية، حيث تمتلك هذه المؤسسات سلطة مراقبة على المؤسسات والأفراد، مما يُضفي على الفساد نطاقاً أوسع وتداعيات أكثر خطورة، فلا يمكن لمدير مؤسسة أن يستمر في منصبه بدون موافقة الجهات الأمنية التي تمتلك سلطة حاسمة في استمراريته، بل إن بعض مديري المؤسسات الخدمية البارزة يضطرون لدفع مبالغ شهرية مُحددة مقابل تأمين رضى الأجهزة الأمنية عن أدائهم[4].

ويُلاحظ بشكل متكرر الكشف عن فضائح الفساد في الهياكل المؤسسية، ومنها مثلاً ما تم رصده من عمليات فساد كبيرة في مؤسسة الكهرباء، فقد أُلقي القبض على أحد المسؤولين بتهمة الاختلاس والفساد الإداري، منها توجيه التيار الكهربائي لمناطق تجارية يمتلكها المدير شخصياً بعد تواصل مسبق مع مسؤولين كبار في حكومة نظام الأسد تمت جميع الصفقات بعلمهم[5]، في ذات الوقت الذي احتكرت فيه شخصيات مقربة من نظام الأسد تجارة الأمبيرات، فضلاً عن تجارة الحطب وخاصة في الشتاء بسبب الانقطاع الطويل للكهرباء[6].

وتشمل عمليات الفساد قطاعات أخرى في الدولة مثل المحروقات[7] وكذلك الخبز[8] والقطاع التعليمي الذي يشهد عمليات اختلاس متكررة[9]، فضلاً عن القطاع الصحي الذي يستحوذ مقربون من نظام الأسد فيه على صفقات تتيح لهم تحصيل مكاسب مالية[10].

وعلى مستوى قطاع البناء والعقارات، رُصدت في العديد من المناطق الواقعة تحت سيطرة نظام الأسد أبنية مخالفة تم بناؤها بموافقة ورضا مسؤولين في نظام الأسد مقابل نصيب من الأرباح والحصص[11]، كما استثمر مسؤولون بنظام الأسد قوانين رسمية أقرها رأس النظام وخاصة ما يُعرف بـ “القانون رقم 10” من أجل الاستيلاء على أملاك المُهجّرين أو ابتزازهم لتحصيل الأموال منهم مقابل عدم الاستيلاء على ممتلكاتهم، خاصة بعد فقدان الكثير منهم لثبوتياتهم ووثائقهم الرسمية نتيجة الحرب والتهجير أو صعوبة قدومهم خشية من الاعتقال[12].

توسُّعُ حالة الفساد التي عمّت العديد من المؤسسات أدى لتعميق ظاهرة الرشوة الموجودة أصلاً حتى قبل الثورة، إذ باتت -وخاصة بعد انهيار الليرة- أحد أعمدة مؤسسات نظام الأسد، وأصبحت “النقابات” تنظر لها بشكل إيجابي وتعتبرها من “ضرورات العيش” خاصةً بالنسبة للعاملين في الدوائر الحكومية[13].

مع ذلك يبدو أن نظام الأسد يسمح بكشف بعض من قضايا الفساد لتبرير الأزمات المتكررة التي يعاني منها السوريون، ثم يقوم بتحميل المسؤولية لبعض المسؤولين في حكومته أو لبعض التجار، فبين الحين والآخر، يلجأ نظام الأسد إلى اعتقال بعض المسؤولين الذين لا يشغلون مناصب بارزة في وسيلة تبدو كأنها لتشتيت انتباه الجمهور وإلهائهم عن الواقع المأساوي الذي يعيشونه يومياً، ولكن مع مرور الوقت، يختفي الحديث والتذكير بمعظم قضايا الفساد[14]، علماً أن هناك بعض القضايا التي استغلها نظام الأسد للتخلُّص من شخصيات يبدو أنها أصبحت تُشكّل عبئاً عليه، أو لأنه يسعى إلى ابتزازها  بهدف استخلاص مبالغ مالية منها[15].

ومع تنامي معدلات الفساد في مؤسسات نظام الأسد وعدم جدوى بعضها في تحصيل ما يلزم من الأموال، توجَّه نظام الأسد إلى زيادة معدلات الاتجار بالكبتاغون، حيث أصبحت تجارة الكبتاغون شريان الحياة لنظام الأسد يمد خزينته بالمليارات ويدعم مليشيا “حزب الله” والمليشيات التابعة لإيران، فقد تصدّرت سوريا هذا المجال وأصبحت موّرد التهريب الرئيسي للبنان والأردن وبعض دول الخليج[16]، وذكر موقع الحكومة البريطانية أن حوالي 80٪ من إمدادات العالم من الكبتاغون يتم إنتاجها في سوريا تحت إشراف وحدة عسكرية تابعة لماهر الأسد[17]، حيث تم تحويل معامل للأدوية والورشات الصناعية إلى ورشات إنتاج جديدة محمية من قبل المتنفذين من عائلة الأسد[18].

استغلال العمل الإنساني والمدني.. ولا رادع لانتهاكات المليشيات:

ذكرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير لها أن نظام الأسد استحوذ على أموال المساعدات الإنسانية واستخدمها في تحقيق أهدافه السياسية والتحكم بمصير المستفيدين منها، من خلال سيطرته على المنظمات غير الحكومية التي تتلقّى وتدير هذه الأموال [19].

وحتى في زلزال شباط 2023، نفذّ نظام الأسد عملية سرقة مُنظّمة للمساعدات في المناطق التي تأثرت بالزلزال[20]، إذ إنّ أغلب المتضررين لم يتلقّوا أي مساعدات حكومية بعد الكارثة، بينما أشارت صحيفة “ذا تايمز” البريطانية إلى أن العاملين في المجال الإنساني أبدوا استياءهم من تحويل المساعدات التي يتم جمعها للمتضررين من الزلزال لصالح نظام الأسد ومشاريعه، أو تعرض تلك المساعدات للسرقة من قبل ميليشيات تابعة له[21].

انتشرت كذلك عمليات الخطف والابتزاز بشكل كبير وتعددت أشكاله، قسم منها بمثابة عمليات ارتزاق تقوم بتنفيذها الميلشيات التابعة لنظام الأسد بغية الحصول على مبالغ مالية ضخمة، والقسم الآخر تقوم به عصابات فردية تحاول كذلك تحصيل الأموال مستغلة حالة الفلتان الأمني[22].

بالإضافة لذلك، تفرض قوات نظام الأسد والمليشيات المنضوية في صفوفها إتاوات على الحواجز في العديد من المدن والبلدات[23]، ورغم إعلان نظام الأسد قراراً بإزالة بعض تلك الحواجز إلا أن قوات “الفرقة الرابعة” التابعة لـ “ماهر الأسد” رفضت هذا القرار[24]، لأنها ترى أنه سيحرمها من الأموال المتدفقة من أصحاب البضائع والتجار والمدنيين[25].

خاتمة:

لا يبدو أن ظاهرة الفساد في نظام الأسد ظاهرة عابرة، بل هي سياسة ممنهجة قام عليها حكم الأسد، اغتنى من خلالها في أوقات الرخاء واستفاد منها وقت الاضطرابات، فجنّد حوله المنتفعين والمتسلقين والعصابات والمليشيات التي ساندته في حربه ضد السوريين، مستفيدة كذلك مما تجنيه من ممارساتها وانتهاكاتها المتكررة، وأمام ذلك الواقع المتردي لا يمكن الحديث عن أي سلام واستقرار قادم في ظل بقاء نظام الأسد في السلطة، لأن منظومة الفساد في سوريا مرتبطة بوجوده، وبالتالي لن تتحسن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مناطق سيطرة الأسد رغم توقف العمليات العسكرية، وسيظل نظام الأسد مستمراً في سياسته منتظراً مزيداً من الانفتاح الدولي عليه بهدف تحصيل الأموال تحت مزاعم التعافي المبكر وإعادة الإعمار.


[1] النظام السوري الأكثر فساداً في العالم، العربي الجديد، 10/12/2023، شوهد في: 9/5/2024
[2] تسلسل زمني- معركة حلب السورية، وكالة رويترز 13/12/2016، شوهد في: 9/5/2024
[3] يتم تقييم الدول حسب مؤشر الفساد العالمي بناءً على مجموعة من المعايير والمؤشرات التي تقيس مدى الفساد في القطاع العام والقطاع الخاص في كل دولة. وتشمل هذه المعايير عادةً عدة جوانب، من بينها:
  • مستوى الرشوة والرشاوى: يقيس هذا الجانب مدى انتشار الرشوة والرشاوى في المجتمع، والتي تشمل تقديم الرشاوى للحصول على خدمات حكومية أو لتسهيل الأعمال التجارية.
  • فعالية النظام القانوني: يعكس هذا الجانب مدى فعالية النظام القانوني في مكافحة الفساد وتطبيق القوانين ذات الصلة، بما في ذلك العقوبات على الفاسدين والمسؤولين الذين يسيئون استخدام السلطة.
  • مدى الشفافية والنزاهة: يُقيّم هذا الجانب مدى شفافية المؤسسات الحكومية والشفافية في القطاع الخاص، ودرجة التزام الحكومات بمبادئ النزاهة والشفافية في إدارة الشؤون العامة.
  • مستوى الحوكمة: يتضمن هذا الجانب تقييمات لمستوى الحوكمة في القطاع العام والقطاع الخاص، بما في ذلك فعالية الإدارة العامة والمشاركة المدنية في عملية صنع القرار.
  • احترام حقوق الإنسان: يُقيّم هذا الجانب مدى احترام الدول لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، حيث يعتبر الاحترام الكامل لحقوق الإنسان جزءًا أساسيًا من النزاهة ومكافحة الفساد.
  • يتم تجميع هذه المعايير والمؤشرات لتشكيل صورة شاملة عن مستوى الفساد في كل دولة، ويتم ترتيب الدول وفقًا لهذه النتائج لتحديد مرتبتها في مؤشر الفساد العالمي. الرابط: https://www.transparency.org/ar/press/
[4] الخراب الاقتصادي شرارة الانفجار المجتمعي في سورية، العربي الجديد،24/8/2023، شوهد في: 9/5/2024
وفي حادثة أخرى، تم اعتقال عدد من المديرين في وزارة الكهرباء بسبب تلاعب في فروقات أسعار العقود الممنوحة لبعض المقاولين، وذلك بعد أن أصدر بشار الأسد مرسوماً يسمح لوزارة الكهرباء بالتعاقد مع شركات خاصة، ومنح التراخيص للمستثمرين في مشاريع توليد الكهرباء بالطرق التقليدية دون الالتزام بشراء الكهرباء منها، تلك التعديلات أتاحت لرجال الأعمال المقربين من نظام الأسد الدخول في إنتاج الكهرباء، مما جعلها منفذاً جديداً للفساد، ينظر:
فساد وزارة الكهرباء بالمليارات مع تدهور القطاع في سوريا، عنب بلدي،30/1/2023، شوهد في: 9/5/2024
[8] صحيفة تكشف حجم النهب والفساد في ملف دعم الخبز، فرا عز الدين، بلدي نيوز، 21/10/2023، شوهد في: 9/5/2024
[9] عملية فساد كبيرة بمليار دولار في قطاع التربية في سوريا، كامل صقر، القدس العربي، 16/9/2019، شوهد في: 9/5/2024
[19] قدم التقرير دراسة حالة حول “الهلال الأحمر السوري” و”الأمانة السورية للتنمية” بصفة خاصة، لأنهما الجهتان الرئيسيتان التي أصرّ نظام الأسد على استقبال أموال المساعدات من خلالهما، حيث فرض على وكالات الأمم المتحدة والحكومات المانحة التعاون حصرياً مع “الهلال الأحمر السوري” ليكون الجهة المعنية باستقبال الأموال، وطالبهم بتوقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم تلزمهم بعدم تنفيذ أي مشاريع أو زيارات ميدانية دون الحصول على موافقة “الهلال الأحمر، ينظر:
أبرز انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا في آذار 2024، الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 8/4/2024، شوهد في: 9/5/2024
[23] “الترفيق” يعني دفع مبالغ مادية كرشوة لعناصر ميليشيات النظام المعروفين بالشبيحة، والتي تقوم بمرافقة عدد من شاحنات نقل البضائع من منطقة لأخرى، بهدف حمايتهم من التفتيش أو التوقيف أو مصادرة السيارات والبضائع التي بداخلها من قبل حواجز النظام في تلك المناطق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى