
من الإعمار إلى العدالة الانتقالية.. هل أصبحت “المشاركة المجتمعية” ضرورة؟
شغل حدثان ساخنان في أسبوع واحد اهتمام شرائح واسعة من السوريين، وطرحا أسئلة مهمة تصب في جوهر العلاقة بين الحكومة الوليدة والجمهور الناجي من أعتى أنظمة الاستبداد، فقد أثارت اللوحات الطرقية في حمص والتي تعلن عن مشروع عقاري يحمل اسم “بوليفارد النصر” الكثير من الجدل والانتقاد وذلك لغياب الشفافية، ووجود إشكاليات تتعلق بالملكيات، عدا عن وجود تساؤلات جادة عن أولويات سياسات إعادة الإعمار التي ينتظرها الجميع، وخاصة المتضررين والنازحين والذين لم يجدوا لهم مأوى حتى الآن.
أما الحدث الأسخن فقد جاء على خلفية إطلاق سراح مجموعة من المقاتلين مع نظام الأسد بجهود لجنة السلم الأهلي التي يقودها أحد المتهمين بالتورط بجرائم متنوعة، والمؤتمر الصحفي التبريري الذي لم تقنع حججه “أولياء الدم” بالسياسة المتبعة لإدارة هذا الملف الحساس، وذلك لكونه ملفاً يمس مئات الآلاف من العائلات المتضررة التي تعرضت لأشكال متنوعة من الانتهاكات، علاوة على كونه يثير العديد من الأسئلة حول آليات التعاطي مع هذه القضية المهمة، والأحقية في تقديم العفو أو التنازل عن الحقوق دون سؤال الضحايا أو قبولهم.
ورغم أن لكلا الموضوعين مبرراتهما عند صُنّاع القرار، إلا أن ردود الفعل تشير إلى أزمة واضحة في عملية اتخاذ القرار، والتي لم تراع تطلعات المواطنين، ولم تُقدّم لهم ما هو على قائمة أولوياتهم، كما لم تحقق لهم شروط التنمية ولا الاستقرار المبني على أسس عادلة راسخة، بل ستؤثر على حياتهم سلباً خاصة أنها تتعلق بإرث ثقيل وظلم طويل لا يمكن أن يُمحى من تلقاء نفسه.
لن أركّز في هذا المقال على فحوى الحدثين المهمين، بقدر ما سأحاول التركيز على فهم ردود الفعل الشعبية والحكومية وتفسيرها، إذ يظهر المثالان السابقان رغبة شعبية عارمة في المشاركة في صناعة القرار في قرارات تمس حياة الناس بشكل مباشر وتتوافق مع أولوياتهم، وهو ما تطرقت له في مقال سابق بعنوان “ما هو شكل المشاركة المجتمعية الذي يريده السوريون؟”[1] والتي تعرف أيضاً بإشراك أصحاب المصلحة، أو صناعة القرار التفاعلي، أو الحكومة المشتركة، أو الحوكمة التفاعلية، وغيرها من التسميات التي تصب في ذات القالب والتي تهدف إلى تحسين جودة القرارات والحد من الصراعات وزيادة الثقة بالحكومات.
“المشاركة المجتمعية”.. طريق وعر نحو مجتمعات مستقرة
تُشبّه الباحثة أرنشتاين -التي كانت رائدة الكتابة حول الموضوع- المشاركة المجتمعية بـأنها تشبه “تناول السبانخ، لا أحد يعارضها لأنها مفيدة”، فهي تلقى تأييداً نظرياً من الجميع، إلا أن هذا التأييد يتراجع ويصطدم بالكثير من التحديات عند محاولة تطبيق هذه المشاركة على الأرض، خاصة أنها تتعلق بعلاقة بين طرفين مختلفي التوجُّه والاهتمامات: الحكومة بأطيافها وتخصُّصاتها، والشعب بفئاته ومجموعاته.
تُظهر عدد من الدراسات أن مشاركة المواطنين في تطوير القوانين والسياسات عملية تطالها الكثير من التحدّيات، و تصبح المشاركة الفعّالة أصعب عندما تكون القضايا معقّدة، أو تقنيّة تتطلّب وجود خبرة وتخصُّص في هذا المجال، أو تمس مجموعات متنوّعة من أصحاب المصلحة، كما تشير الأبحاث إلى اختلاف المنظور الذي يهم الحكومات عن منظور المواطنين الذي قد يكون مُحقّاً وصحيحاً في العديد من الأحيان، حيث يكون تركيزهم على القضية من منظور جزئي تُحرّكه دوافع قيميّة/مصلحيّة مختلفة، إلا أن بعض هذه الدوافع يُفترض أن يكون محلّ نظر، ففي بعض الأحيان لا تخدم هذه الدوافع الصالح العام بقدر ما تخدم مصالح جهات فئوية أو شخصية.
كما أن مشاركة المواطنين تعكس في الكثير من الأحيان آراء الأفراد الذين شاركوا وتوجُّهاتهم فقط، وتغفل جوانب تتعلّق بآراء جهات أو مجموعات غائبة عن المشهد، في وقت يفترض أن تُركّز المشاركة على التوفيق بين احتياجات كامل أصحاب المصلحة في هذه القضية، كما قد تتحوّل المشاركة لمحاولات للتقرّب من صانع القرار وإبعاد الآخرين المنافسين أو تهميشهم بدل الوصول للقرار الأصوب والأرشد.
إن اختيار الأفراد الذين سيشاركون في عملية صناعة السياسات يعترضه إشكاليات جادة أخرى، منها اختيار الممثلين الأفضل عن أصحاب المصلحة من ذوي التأثير والرغبة في خدمة الصالح العام، إلى جانب كون إنجاح عملية المشاركة مرهون بكيفية تصميم العملية بشكل عام، وتيسير وإدارة المجموعات المدنيّة وضمان عدم هيمنة أصوات أو شخصيات على حساب أخرى، وإعطاء مساحات متساوية من المشاركة، وتحديد سقف التوقُّعات، بالإضافة إلى إنشاء بيئة آمنة تسمح بالتعبير والإفصاح والنقاش في القضايا الحساسة، وبناء شيكات دعم والتدريب والإرشاد، والتخفيف من فجوات السلطة بين الطرفين والانتباه إلى إمكانية التلاعب بالمعلومات والإحصائيات.
من جهة أخرى، يتعامل المسؤولون الحكوميون في أغلب الأحيان مع فكرة المشاركة المجتمعية بكونها مسكناً للتوترات المجتمعية، أو تجاوباً مع ضغط خارجي أكثر من كونها وسيلة حقيقية للوصول إلى سياسات أفضل، وتمكين المجتمع من القاعدة للقمة، وذلك نتيجة عدم رغبتهم في التخلّي عن السلطة وعن السيطرة، وهو ما يفقد المشاركة قيمتها وتأثيرها، وقد يُشكّكون بمهارات الناس وقدراتهم ويستخفّون بمعارفهم المختلفة المشتّتة، ولهذا غالباً ما يلجؤون إلى المشاركة الانتقائية لشخصيات لا تثير المشاكل، أو يستعينون بجهات أخرى –كمنظمات المجتمع المدني– للتخلُّص من هذه المسؤولية وتفويض آخرين بهدف الحصول على نوع من الشرعية التي تدعم قراراتهم، دون أن يكون هناك تصوّر واضح لكيفية إدماج المخرجات مع عملية صناعة القرار.
وتواجه العملية أيضاً عقبات مشتركة عند المواطنين وعند صُنّاع القرار على حدّ سواء، تتمثّل في افتراض وجود معرفة كافية ومعلومات شاملة عند أحد الطرفين تسمح له باتخاذ القرار الأفضل منفرداً، إلا أن الحال لا يكون كذلك دائماً، فغالباً ما يكون هناك جانب مفقود من المعلومة عند الطرفين، سواء بأولويات المواطنين أو بالإجراءات الحكومية ودوافعها.
ورغم أن عملية المشاركة المجتمعية تنشط في البيئات الديمقراطية بهدف التدريب على أشكال المواطنة وتعزيز أصوات المواطنين، وتعليمهم كيفية العمل معاً لحل مشاكل المجتمع، إلا أنه لا يمكن للمواطنين المشاركة في جميع مجالات صناعات القرار، خاصة تلك التي تتطلب اختصاصات فنيّة مُعيّنة كمسائل الأمن القومي وغيرها.
كيف ننزع فتيل الانفجار المجتمعي؟
تُظهِر قضية “بوليفارد النصر” وكذلك قضية إطلاق سراح بعض المقاتلين في نظام الأسد وجود العديد من القضايا الحساسة التي لا يمكن معها تجاهل مطالب الناس ورغباتهم، والتي قد تتحوّل إلى توترات مجتمعية حقيقية قابلة للانفجار في أية لحظة، نظراً لكون هذه القضايا تصب في صميم حياة الناس واستقرارهم ورغبتهم بأن يكون لهم دور حقيقي في العهد الجديد.
وتظهر الانتقادات المتنوّعة حالة وعي جمعي ومعرفة مهمّة يجب استثمارها في عملية التخطيط قبل صناعة القرار، وتعكس حالة من الرقابة الإيجابية والإضاءة على جوانب لم تُؤخَذ بعين الاعتبار تصب في مصلحة عموم المواطنين، إلى جانب رغبة واضحة في المشاركة وفي إشراك أصوات الضحايا وممثليهم وإعلاء مطالبهم، وهي رغبة نابعة عن حرص ودافع وطني لطيّ صفحة الماضي بشكل صحي، وتعزيز الاستقرار وتمكين العدالة، وإعادة إنتاج علاقة صحيّة تتعاون فيها الحكومة مع المواطنين لإدارة شؤونهم وخدمتهم على النحو الأمثل.
لقد أظهرت الحكومة الوليدة الكثير من بوادر حسن النوايا وامتلكت الشجاعة للتراجع عن بعض القرارات المتسرّعة، إلا أن هذا النهج لا يجب أن يستمر بهذه الطريقة المتذبذبة، بل لا بد من تصحيح المشكلة من جذورها وذلك حفاظاً على هيبة الحكومة والثقة بقرارتها، واحتواء رغبة المواطنين في الشراكة مع الحكومة بشكل صحّي فعّال، وهذا لا يمكن أن يحدث دون الاعتراف بالمواطنين ومبادراتهم كشركاء بدلاً من اعتبارهم أعداءً للحكومة وقراراتها، ووجود إيمان حقيقي بضرورة إشراكهم الفعلي في عملية صناعة القرار، تتجاوز مجرد اللقاءات العابرة والاجتماعات السريعة والمطالب الفردية، وتحويلها إلى نمط تعلُّم تفاعلي متبادل يسعى إلى تعزيز حالة المواطنة والانتماء وزيادة الثقة في الأداء الحكومي.
إن تمكين المواطنين من ممارسة نماذج المواطنة والمشاركة في صناعة القرار ليس بالعملية السهلة ولا المستحيلة، وهي الخطوة الأولى في عملية تعزيز الاستقرار التي لا بُدَّ أن تتم بشكل تدريجي مُنظَّم وبأدوات واستراتيجيات متنوّعة سأتوسّع فيها في مقال قادم، تشارك فيها الحكومة وتُبنى فيها قدرات الطرفين في التفاوض وحل الخلافات وتقريب وجهات النظر والتخطيط وتقاسم المسؤولية خلال عملية اتخاذ القرار، ضمن منظومة إدارية قانونية واضحة المعالم والأدوار، يتم تطويرها مع تطور العملية لتدعم هذه المشاركة وتُحوّلها إلى مشاركة حقيقية ذات تأثير.
إن مكاسب هذه العملية الاستراتيجية أكبر بكثير من تحدّياتها الآنيّة، فهذه المشاركة من شأنها تخفيف التوترات المجتمعية والعمليات الانتقامية أو التخريبية، وتقديم تعويضات معنويّة للمتضرّرين والضحايا بجعلهم جزءاً من التخطيط للمستقبل بدل إهمالهم وتجاهل وجودهم، كما ستساعد هذه المشاركة على تقوية مناعة المجتمع ضد التجييش الخارجي الذي يستثمر في المظلومية، وتزيد من الرضا وتُعزّز من الانتماء، إلى جانب كونها تفسح مساحات للحوار وتقوم بإبراز صوت المواطنين، وإزالة المسافات بينهم وبين الحكومة وإعادة بناء علاقة صحيّة متوازنة قائمة على الاحترام المتبادل والتشاركية المنضبطة التي تهدف إلى إحداث تغيير حقيقي ودائم يمضي بالبلاد إلى الأمان والاستقرار والنمو والازدهار.
مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة