
من رفع العقوبات عن الشرع إلى لقاء البيت الأبيض: قراءة في تحوّلات الموقف الغربي من سوريا الجديدة
تمهيد:
في مشهد لم يحصل منذ استقلال سوريا عام 1946، عقد الرئيس السوري أحمد الشرع محادثات رسمية مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض في أول زيارةٍ من نوعها لرئيسٍ سوري إلى واشنطن، وقد حظيت الزيارة باهتمام واسع على المستويين الداخلي والدولي لما تحمله من مؤشرات على تحوّلٍ في طبيعة العلاقة بين دمشق وواشنطن[1].
واكتسبت الزيارة أهميتها من طبيعة الملفات المطروحة فيها؛ سواء على المستوى السياسي وما يتعلق برفع العقوبات وإعادة إدماج سوريا في النظام الدولي، أو المستوى الأمني وما يتعلَّق بقضايا “مكافحة الإرهاب” وتنظيم داعش، أو المستوى الاقتصادي وغيرها من الملفات ذات الأولوية بالنسبة للجانبين السوري والأمريكي، كما إنها جاءت بعد أن أعلن كلٌ من مجلس الأمن الدولي وبريطانيا والخزانة الأمريكية ووزارة الخارجية الأمريكية رفع اسم الشرع من قوائم العقوبات الدولية[2]، كما أعلن الاتحاد الأوروبي أنه سيتخذ خطوة مماثلة[3].
وفي ظل سياسة الانفتاح الدولي المتزايدة على الحكومة السورية الجديدة عموماً؛ تَطرح الزيارة إلى واشنطن ورفع العقوبات عن الشرع العديد من التساؤلات حول دلالاتها، وحدود التحوّل في الموقف الغربي من سوريا، ويبرز هنا التساؤل الرئيسي: إلى أي مدى تعكس زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن ورفع اسمه من قوائم العقوبات تحولاً استراتيجياً في مقاربة الولايات المتحدة والعواصم الغربية للملف السوري، وما انعكاسات هذا التحوّل على سوريا والملفات الداخلية؟
ويتفرع عن هذا السؤال عدد من الأسئلة الفرعية لعل من أبرزها:
- ما دلالات استقبال ترامب للشرع في البيت الأبيض بعد أيام من رفع العقوبات عنه؟
- كيف يمكن أن يؤثر تعليق قانون قيصر ورفع العقوبات عن الشرع على الاقتصاد السوري في المدى القصير والمتوسط؟
- ما انعكاسات ذلك على الملفات الداخلية العالقة مثل “قسد” وملفات إشكالية مثل التدخلات “الإسرائيلية” في الجنوب السوري؟
- إلى أي حدّ يمكن أن يُشكّل رفع العقوبات ورقة ضغط عكسية على الرئيس الشرع نفسه، من خلال ربط استمرار الانفتاح الغربي بملفات حساسة كقضية التطبيع والمقاتلين الأجانب وغيرها؟
بناء على ذلك، يُحاول هذا التقرير استعراض دلالات زيارة الشرع إلى واشنطن بعد رفع العقوبات الغربية عنه، وأثرها السياسي والاقتصادي، كما يسعى لاستشراف أثر التطورات الجديدة على بعض الملفات الداخلية في سوريا، وعلى توازنات العلاقة بين دمشق والعواصم الغربية والإقليمية خلال المرحلة المقبلة.
دلالات زيارة الشرع إلى واشنطن:
جاءت الزيارة في ظل الحديث عن قضايا عديدة تشكيل أجندة رئيسية مثل ملف العقوبات والاقتصاد و”إسرائيل”، ولهذا يبدو من المفيد محاولة رصد أبرز الملفات التي كانت مطروحة على طاولة النقاش خلال لقائه مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في محاولةٍ لاستشراف الاتجاهات العامة للعلاقات بين البلدين وما يمكن أن تحمله المرحلة المقبلة.
ورغم أن الجانبين لم يَعقدا مؤتمراً صحفياً مشتركاً ولم يُعلَن رسمياً عن تفاصيل المباحثات، إلا أن السفير السوري لدى الأمم المتحدة إبراهيم علبي أشار إلى عددٍ من الملفات التي نوقشت خلال اللقاء، من أبرزها[4]:
- الجانب الاقتصادي: وفيه تم مناقشة رفع العقوبات عن سوريا وإعادة بناء قدرتها التجارية.
- ملف “قوات سوريا الديمقراطية-قسد” واندماجها ضمن الإطار الأمني الوطني.
- استكمال الاتفاق الأمني مع “إسرائيل”: وهنا يشير السفير علبي إلى أن سوريا أكدت احترام الاتفاقية الأمنية الموقعة عام 1974، ولفت إلى أن التوغل “الإسرائيلي” في مناطق وجود قوات الأمم المتحدة أثار القلق، مؤكّدا أن الجانب الأميركي أبدى تفهّمه وضرورة الضغط على “إسرائيل” لضمان استمرار العملية التفاوضية، مع الحفاظ على الاستقرار في المنطقة.
- بحث سبل دعم سوريا الجديدة “المزدهرة”.
- متابعة التعاون السياسي ضمن التحالف الدولي ضد تنظيم داعش.
من خلال العناوين العريضة التي تحدَّث عنها السفير إبراهيم علبي، يَظهر أن الزيارة لم تخرج عن السياق المتوقَّع منها، إذ تمحورت حول ملفات سياسية وأمنية واقتصادية مُحدَّدة، ومع ذلك فإن المخرجات المعلنة بقيت محدودة، إذ أعلنت الخزانة الأمريكية بإعلان تعليق العقوبات المفروضة بموجب قانون قيصر لمدة 180 يوماًً[5].
ورغم أن تعليق العقوبات يُعدّ خطوة إيجابية في مسار الانفتاح، إلا أن طبيعتها المؤقتة وغير المضمونة قد تجعلها غير كافية لخلق بيئة استثمارية مستقرة، فالشركات الغربية والعالمية عموماً ربما تتجنّب الدخول في مشاريع طويلة الأمد في ظل احتمال إعادة فرض القيود في أي لحظة، ما يعني أن الاقتصاد السوري سيظل في منطقة رمادية بين رفع العقوبات الكامل واستمرار القيود الجزئية.
ولكن ذلك لا يعني أن اللقاء خلا من نتائج عملية، إذ من المرجّح أن عدداً من الملفات التفاوضية الحساسة لم يُعلن عنها بعد، سواء لطبيعتها الأمنية أو لحاجتها إلى مسار زمني قبل أن تظهر نتائجها على الأرض، وبناءً على ذلك يمكن النظر إلى اللقاء بوصفه تتويجاً لتفاهمات أوسع تم التوصل إليها خلال الأشهر الماضية، يجري الآن اختبارها وتنفيذها تدريجياً إلى أن تنضج ظروف الإعلان عنها في الوقت المناسب.
أما في ما يتعلق بالملف “الإسرائيلي” فلا يبدو أن دمشق قد غيّرت مقاربتها الجوهرية تجاهه، فوفق ما ورد عن السفير علبي وتصريحات الرئيس الشرع لاحقاً لوسائل إعلام أمريكية بعد انتهاء لقائه بترامب[6]؛ فإن الطرح السوري ما يزال يُركّز على دفع واشنطن للضغط على “إسرائيل” من أجل التوصُّل إلى اتفاق أمني يضمن انسحابها إلى حدود عام 1974، من دون الدخول في مسار تطبيع سياسي، وبالتالي فإن الكرة الآن باتت في الملعب الأمريكي بعد أن جدّدت الحكومة السورية التزامها بهذه الرؤية للحل، تاركةً لواشنطن مسؤولية اختبار مدى استعداد “إسرائيل” للانخراط في هذا المسار في ظل توغلاتها واعتداءاتها اليومية على الأراضي السورية.
وبالانتقال إلى قضية الانضمام إلى التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، أعلنت السفارة الأمريكية في دمشق يوم الأربعاء 12 تشرين الأول/أكتوبر؛ أي بعد قرابة يومين من لقاء الشرع وترامب، انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة “داعش” لتكون العضو رقم 90 في الحلف[7]، الأمر الذي يُرجَى منه أن ينعكس بشكل مباشر على ملف “قسد”، إذ يرى البعض أن الدعم الأمريكي لـ”قسد” قائم أساساً على مُبرّرات الحرب ضد التنظيم، وبالتالي فإن دخول سوريا رسمياً ضمن إطار هذا التحالف، بالتوازي مع العمليات التي تُنفّذها قوى الأمن السوري بشكل متكرر ضد داعش داخل الأراضي السورية، قد يسحب الذريعة الأمريكية لاستمرار الدعم المستقل لـ”قسد”، ويدفع باتجاه تسريع تنفيذ اتفاق آذار القاضي بدمجها في مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية.
لكن الإشكال المحتمل يتمثَّل في ما إذا كانت الولايات المتحدة غير راغبة فعلياً في الضغط على “قسد”، وتُفضّل الاحتفاظ بها كطرفٍ موازٍ في الحرب ضد التنظيم، ورغم أن هذا السيناريو يبدو ضعيف الاحتمال نظرياً في حال انضمت سوريا رسمياً للتحالف الدولي، إلا أنه لا يمكن استبعاده تماماً، خصوصاً في ضوء استمرار إدراج دعم “قسد” في ميزانية العام المقبل بقيمة تقارب 130 مليون دولار[8]، ما يشير إلى أن واشنطن قد تُبقي على هامش مناورة يسمح لها أيضاً باستخدام ملف “قسد” كورقة ضغط فعّالة على دمشق إلى جانب ورقة عقوبات قيصر.
وفي أبرز ردود الفعل من قبل قسد؛ قال قائدها مظلوم عبدي، إنه أكد للولايات المتحدة التزامه بدمج القوات في الدولة السورية، وذلك خلال مكالمة هاتفية مع توم باراك، المبعوث الأميركي إلى سوريا، ناقشت نتائج الاجتماع مع بين الشرع وترامب[9].
ويمكن قراءة هذا الموقف في أكثر من اتجاه؛ فمن جهة، يحمل إشارة سياسية تهدف إلى إظهار “حسن النية” تجاه اتفاق آذار والاندماج بالدولة السورية، لكن من جهة أخرى يمكن فهم التصريح على أنه محاولة لتثبيت موقع تفاوضي يضمن عدم ذوبان بنيتها الأمنية والإدارية التي تشكّلت خلال السنوات الماضية، والحفاظ على قدر من الخصوصية ضمن إطار الاندماج[10].
إلى جانب الملفات المعلنة، حملت الزيارة في طياتها دلالات أعمق تتعلق بشكل العلاقة الأمريكية–السورية في المرحلة المقبلة، فاللقاء في حدّ ذاته يعكس رغبة الطرفين في بحث الملفات ذات الأولوية بصورة مباشرة وداخل البيت الأبيض نفسه، كما تعكس الزيارة رغبة أمريكية في كسر العزلة البروتوكولية بين البلدين، فمنذ عقود كانت اللقاءات بين مسؤولين سوريين وأمريكيين تُدار عبر وفود ثانوية أو وسطاء، وبعد إسقاط النظام البائد نَشِطَ المبعوث توماس براك في إدارة المفاوضات بين الجانبين، إلا أن انعقاد اللقاء في البيت الأبيض يُمثّل نهايةً لمرحلة العزلة الدبلوماسية والانفتاح نحو القنوات الرسمية المباشرة، ولو بحدها الأدنى أو التجريبي، الذي أظهر فيه ترامب مديحاً متكرراً على علاقته الشخصية مع الشرع[11]، كما يشير اللقاء إلى أن سوريا باتت ضمن الملفات التي تحظى بأولوية في أجندة الإدارة الأمريكية بعد أن كانت لسنوات ملفاً ليس ذا أهمية لصالح قضايا أخرى مثل إيران وأوكرانيا وغيرها.
رفع العقوبات عن الرئيس الشرع:
يُعدّ رفع اسم الرئيس السوري أحمد الشرع من قوائم العقوبات الدولية بموجب مشروع قرار صاغته الولايات المتحدة خطوة جديدة من خطوات الانفتاح الأمريكي والغربي عموماً على سوريا الجديدة، في إطار مقاربة تقوم على إعادة دمج دمشق في النظام الدولي بعد سنوات من العزلة والقيود.
ويمكن القول إن دلالات رفع هذه العقوبات تتجلى في نقاط رئيسة أبرزها:
- استمرار سياسة التحوّل في الموقف الدولي تجاه القيادة السورية الجديدة:
يُعدّ رفع العقوبات عن رأس الدولة في سوريا تتويجاً لمسارٍ إعادة التموضع الدولي في التعامل مع دمشق، والذي بدأ بموجة من الزيارات الدبلوماسية وفتح السفارات والقنصليات للعديد من الدول مروراً بتخفيف القيود عن بعض القطاعات الإنسانية والاقتصادية خلال العام الجاري، ومع هذا القرار يبدو أن العواصم الكبرى انتقلت من مرحلة مراقبة التجربة السورية الجديدة إلى مرحلة الاعتراف العملي بفاعليتها السياسية، فرفع اسم الرئيس أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب يعني فتح الباب أمام تواصل مرن ومباشر مع السلطة السورية، وبدء التعامل معه كفاعل شرعي في المنظومة الدولية.
لكن ذلك لا يعني بالضرورة منح الشرعية المطلقة، إذ يُستحضر في هذا السياق تصريحات عديد من المسؤولين الغربيين أنه يتم “مراقبة الأفعال لا الأقوال” من السلطة السورية، وهذا ما يجعل القرار مع أهميته السياسية جزءاً من عملية تدريجية لإعادة بناء الثقة بين سوريا الجديدة وشركائها الدوليين، كما سيمنح القرار القيادة السورية قدرة أوسع على المشاركة في المؤتمرات الدولية متعددة الأطراف، ويزيل التعقيدات البروتوكولية السابقة التي كانت تتطلب استثناءات خاصة للسفر أو المشاركة في الاجتماعات الأممية.
- تقاطع المصالح بين سوريا والعواصم الكبرى:
يشكّل رفع العقوبات عن الرئيس السوري أحمد الشرع انعكاساً واضحاً لتقاطع المصالح بين سوريا الجديدة وعدد من العواصم الكبرى، إذ تلتقي رغبة دمشق في استعادة حضورها الدولي مع حاجة القوى الغربية إلى شريك مستقر وفعّال في منطقة.
تأتي الخطوة – بالنسبة للولايات المتحدة والدول الأوروبية- في سياق إدارة ملفات ضاغطة وحساسة باتت تتقدّم على غيرها، مثل مكافحة الإرهاب وتنظيم داعش، وضبط حركة المقاتلين الأجانب، ومحاربة شبكات تهريب المخدرات، ووقف تدفق اللاجئين نحو أوروبا وتسهيل عودتهم الآمنة، ما يجعل من دمشق طرفاً رئيسياً في معادلة الأمن الإقليمي، خصوصاً بعد أن أثبتت الحكومة السورية الجديدة قدرتها على ضبط مناطق واسعة من البلاد والحد من عمليات تهريب المخدرات بنسبة كبيرة، فضلاً عن تسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم[12].
أما بالنسبة إلى روسيا، فقد كان دعمها للقرار متوقعاً في ضوء ما أبدته موسكو من رغبة في الحفاظ على قنوات تواصل مستقرة مع السلطة السورية الجديدة، بعد أن تراجع حضورها الميداني والعسكري تدريجياً إثر سقوط النظام البائد، فموقفها المؤيد للقرار يُقرأ كمحاولة لضمان استمرار التفاهمات السياسية والعسكرية الخاصة بملف الوجود الروسي في الساحل، مع الحفاظ على مصالحها الاقتصادية في موانئ المتوسط ومجالات الطاقة والتجارة، دون الدخول في تنافس حاد مع المسار الغربي الجديد تجاه سوريا.
وبالانتقال للصين الطرف المؤثر في مجلس الأمن أيضاً، فقد اختارت موقفاً وسطاً يتمثل في الامتناع عن التصويت على مشروع القرار، مُبرّرة ذلك بـ”مخاوف أمنية” في إشارة إلى ملف المقاتلين الإيغور المنتمين للحزب الإسلامي التركستاني الذين يتمركزون مع عوائلهم في بعض مناطق شمال غربي سوريا، ورغم التحفُّظ الصيني على القرار إلا أن سماحها بتمريره دون اعتراض يعكس رغبتها في إبقاء الجسور السياسية مع دمشق مفتوحة، وفي الوقت ذاته الإشارة إلى أن أيّ انخراط اقتصادي صيني واسع في سوريا الجديدة سيظلُّ مشروطاً بتفاهمات أمنية، ما يعكس رغبة منها في إجراء نقاشات مع الحكومة السورية لضمان عدم تسرّب التهديدات إلى الداخل الصيني وألا يشكل هؤلاء المقاتلون تهديداً على الداخل الصيني أو مصالحها المستقبلية في سوريا.
إجمالاً، يمكن القول إن رفع العقوبات بهذا الزخم (14 عضو موافق مقابل عضو واحد ممتنع عن التصويت) مثّل نقطة التقاء نادرة بين مصالح مختلفة: فالغرب يسعى إلى ضبط الفوضى ومكافحة التهديدات العابرة للحدود، وروسيا تعمل على حماية ما تبقّى من نفوذها ومصالحها، والصين تراقب من موقع الحذر الإيجابي.
مرحلة جديدة من التأثير.. كيف تسهم المصالح المتبادلة في تعزيز الانفتاح بين دمشق وواشنطن؟
لا يمكن القول إنّ رفع العقوبات عن الرئيس السوري أحمد الشرع يُشكّل نهاية فعلية لمرحلة الضغوط الغربية، بل يبدو أنها ستؤدي إلى إعادة تشكيل أدوات هذه الضغوط بصيغة أكثر تأثيراً، فالمجتمع الدولي ولا سيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يدرك أن تخفيف العقوبات يمنحه قدرة أكبر على توجيه سلوك الحكومة السورية الجديدة من خلال ربط استمرار الانفتاح السياسي والاقتصادي بمدى تجاوب دمشق مع مجموعة من الملفات الحساسة، بعضها داخلي وبعضها إقليمي، وبذلك، فإن رفع العقوبات -تماماً كما الزيارة إلى واشنطن- لن تكون بلا مقابل.
في هذا الإطار، تُطرح قضايا محددة كمحكٍّ لاختبار هذا الانفتاح، أبرزها قضية التطبيع مع “إسرائيل”، والتي تبقيها واشنطن في دائرة الحوار ولو بصيغة أمنية غير مباشرة، ومع أن دمشق جدّدت خلال زيارة الرئيس الشرع للبيت الأبيض التزامها باتفاق عام 1974 واستبعادها لأي مسار تطبيعي، إلا أن الإدارة الأمريكية قد تستخدم استمرار تعليق العقوبات أو تحويلها إلى رفعٍ دائم كوسيلة ضغط لإبقاء الملف مفتوحاً للنقاش، خصوصاً في ضوء سعيها لإعادة ترتيب معادلات الأمن الإقليمي بعد عملية “طوفان الأقصى” ومحاولتها رسم خريطة جديدة للعلاقات في الشرق الأوسط.
ويبرز إلى جانب ذلك ملف آخر لا يقل حساسية، وهو قضية المقاتلين الأجانب والتنظيمات العابرة للحدود[13]، إذ تعتبره واشنطن مؤشراً رئيسياً على مدى جدية الحكومة السورية في التعاون الأمني الفعلي، ومن المرجّح أن يُربط أي توسيع في مسار الانفتاح بمستوى التنسيق في هذا الجانب، سواء عبر تقديم دمشق ضمانات لضبط وجود هؤلاء المقاتلين داخل الأراضي السورية، أو عبر تعزيز تبادل المعلومات مع أجهزة غربية معنيّة بملاحقة عناصر مرتبطة بتنظيمات متطرفة ما زالت تنشط في بعض المناطق، وهو ما كانت له إشارات واضحة على الأرض مؤخراً من خلال بعض العمليات التي نفذها التحالف الدولي شمال سوريا بالتعاون مع الداخلية السورية[14].
وفي المقابل، فإن دمشق تملك أيضاً أوراق ضغط فعّالة، فالحاجة الدولية إلى سوريا مستقرة باتت اليوم أكبر من أي وقت مضى، وملفات كبح تجارة المخدرات ووقف موجات اللجوء وضمان أمن الحدود ووقف تصدير اللاجئين أصبحت قضايا ذات أولوية بالنسبة للغرب إلى جانب دمشق، وهي ملفات ترتبط بشكل أو بآخر بمسار رفع العقوبات واستعادة النشاط الاقتصادي السوري، كما أن استمرار الفوضى أو ضعف الدولة السورية سيعني مزيداً من المخاطر العابرة للحدود، وهو ما لا ترغب به العواصم الغربية.
ولا يعني ذلك أن تتحوّل هذه الملفات إلى ورقة ابتزاز بيد الحكومة السورية، بقدر ما تعكس نقطة التقاء حقيقية بين مصالح دمشق ومصالح القوى الغربية، فالقضايا المتعلقة بالأمن الإقليمي ومكافحة المخدرات وضبط الحدود ووقف موجات اللجوء باتت شؤوناً مشتركة تمسّ استقرار المنطقة ككل، ولذلك فإن الحكومة السورية الجديدة أولتها أهمية واضحة في سياساتها خلال الأشهر الماضية، غير أن رفع العقوبات نهائياً سيمنحها أدوات تنفيذ أكثر فاعلية، سواء عبر تعزيز قدراتها الاقتصادية والأمنية أو من خلال فتح قنوات تعاون دولي أوسع، ولذلك فإن العديد من المحللين يرون أن رفع العقوبات عن الرئيس الشرع قد لا يحمل التأثير الاقتصادي المباشر وسيبقى أثرها محدوداً في المرحلة الحالية ما لم يتم إزالة عقوبات قيصر بشكل نهائي[15].
خاتمة:
تدلّ زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى واشنطن وما سبقها من رفع العقوبات الدولية عنه على تغيُّرٍ أوسع في طريقة تعاطي الغرب مع سوريا، لكنها قد لا تعني بالضرورة تبدّلاً جذرياً في موازين العلاقة، خاصة أن جهات فاعلة في الولايات المتحدة لا تزال مترددة في إزالة العقوبات بشكل كامل وتميل إلى اختبار الانفتاح مع دمشق ضمن حدود مُعيّنة، ما يشير لأهمية فتح قنوات تواصل مع كافة الجهات المؤثرة في الكونغرس لإقناعها بأهمية رفع العقوبات وأنه يصب بمصلحة أمن واستقرار المنطقة عموما وليس بمصلحة الحكومة السورية وحدها.
ومع أن اللقاء في البيت الأبيض لم يُنتِج تفاهمات معلنة، إلا أنه فتح عملياً قناة تواصل مباشرة مع الطرف الأكثر تأثيراً في الملفات الحساسة والتي تواجه الحكومة السورية إشكاليات في معالجتها بسبب تداخل الظروف الأمنية والعسكرية فيها؛ من “قسد” شمال شرقي سوريا إلى تدخلات “إسرائيل” في الجنوب الغربي وفي السويداء، وما ينتج عن ذلك من عرقلة للاستقرار ومشاريع الاقتصاد والاستثمار، ومن هنا تبرز أهمية إبقاء التواصل مع واشنطن قائماً على مبدأ المصالح المشتركة لا على معالجة المخاوف الأمريكية أو الغربية فحسب.
باحث مساعد في مركز الحوار السوري، يعمل ضمن وحدة تحليل السياسات، كتب وشارك في العديد من الأوراق المتعلقة بتحليل سياسات الفاعلين في سوريا، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية.




