الإصداراتالتقارير الموضوعيةالوحدة المجتمعية

نهضة رواندا الاقتصادية بعد 30 عاماً من الإبادة؛ كيف يُستفاد من هذه التجربة في سوريا؟

تقرير صادر عن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري

تمرّ الدول الخارجة من الحروب والنزاعات المسلحة بمرحلة مفصلية من تاريخها، تتداخل فيها التحديات الأمنية مع المهام السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ فبينما تحظى ملفات إعادة الإعمار والعدالة الانتقالية باهتمام واسع يبقى بناء اقتصاد مستقرّ ومنتج أحد أهم ركائز الانتقال نحو السلام المستدام والتنمية الشاملة. فالحروب لا تدمّر البنية التحتية فحسب؛ وإنما تُضعف المؤسسات، وتفكّك الأسواق، وتعمّق الفجوة بين فئات المجتمع، مما يجعل مهمة النهوض الاقتصادي معقدة، تتطلب رؤية متكاملة وسياسات جريئة، واستثماراً فعالاً في رأس المال البشري والمؤسسي.

واليوم في المرحلة التي تعيشها سوريا بعد إسقاط نظام الأسد تُعد عملية إعادة بناء الاقتصاد وتنمية البلاد من جديد واحدة من أهم الأولويات والواجبات، وهذا يستلزم الاطلاع على التجارب المشابهة التي مرت بها دول أخرى، بهدف الاستفادة من خطواتها الإيجابية، وتجنُّب المشكلات التي وقعت فيها. وتُعد رواندا في هذا الإطار نموذجاً يستحق الدراسة؛ نظراً لتشابه وضعها بعد نهاية الحرب في كثير من العوامل مع وضع سوريا حالياً، إذ خرجت البلاد من حرب طاحنة راح ضحيتها مئات الآلاف، تاركة وراءها شعباً ممزقاً وبلداً مدمراً عالقاً في أزمات لا تنتهي، واستطاعت تحريك عجلة الاقتصاد بمدة قياسية والتحول إلى أحد أسرع الاقتصادات الإفريقية نمواً.

يستعرض هذا التقرير لمحة عن مسيرة النهضة الاقتصادية التي حققتها رواندا والمستوى الحالي للبلاد، وذلك باستخدام الأسلوب الوصفي التحليلي عبر رصد التقارير والمواد المنشورة التي تناولت هذا الموضوع؛ وذلك بهدف تقديم مقترحات وتوصيات للاستفادة من هذه التجربة في الحالة السورية، وتجنُّب الأخطاء والسلبيات التي حدثت في رواندا.

نبذة عن الحرب في رواندا:

ينقسم الشعب الرواندي إلى أغلبية من الهوتو (حوالي 85%) وأقلية من التوتسي (حوالي 14%)، وهما في الأساس طبقتان اجتماعية واقتصادية؛ حيث كان التوتسي هم السادة والنبلاء، والهوتو هم الفلاحون وعامة الشعب؛ وعمل الاستعمار البلجيكي على زرع العداوة بين الطرفين وتمييز التوتسي بشكل كبير مقابل إقصاء الهوتو، وترسخت هذه الفوارق بعد انسحاب الاستعمار وسيطرة الهوتو على الحكم؛ إذ مارسوا التمييز ضد التوتسي، وضيّقوا عليهم فرص التعليم والتوظيف[1].

في عام 1994 اغتِيل الرئيس الرواندي الجنرال جوفينال هابياريمانا، الذي حكم البلاد بالنار والحديد لمدة تزيد عن 20 سنة، وتسبّب اغتياله باشتعال أعمال عنف عرقية من قبل الهوتو ضد التوتسي، وجرت مذابح رهيبة بالأسلحة النارية والسكاكين والسواطير، قُتل خلالها ما يزيد على 800 ألف مواطن في غضون 100 يوم، وسط صمت وتغافل دوليين وُصفا بالفضيحة، ولم تنتهِ أحداث العنف إلا بعد سيطرة فصيل “الجبهة الوطنية الرواندية”، التي يقودها مهجّرون من التوتسي على رأسهم بول كاغامي على العاصمة كيغالي وعلى عموم البلاد، منهية بذلك حكم الهوتو[2].

بعد نهاية الحرب وسيطرة الجبهة الوطنية الرواندية على الحكم ورثت الإدارة الجديدة بلداً منهكاً مدمّراً يفتقر لوجود مؤسسات حكومية وبنية تحتية، بالإضافة إلى وجود ملفات شائكة مثل التعامل مع ملف العدالة الانتقالية وتحقيق الأمن والاستقرار.

عملت الإدارة الجديدة على إعادة بناء المؤسسات وإصلاح الاقتصاد، وقامت بخطوات كبيرة في هذا المجال، خصوصاً في مجالات الصحة والتعليم والحوكمة[3]؛ كما أطلقت برنامجاً شاملاً للعدالة الانتقالية بعد استقرار البلاد بشكل نسبي، شمل آليات متعددة، مثل: إنشاء محكمة دولية خاصة بالنظر في قضايا المتورطين بالإبادة، وإطلاق محاكم جنائية وطنية تستبعد مبدأ العفو عن المجرمين، وإطلاق محاكم شعبية مستوحاة من العادات والتقاليد الرواندية تحت اسم “غاكاكا”، نظرت في قضايا المجرمين من الفئات الأدنى، وكانت تتبع نهجاً تصالحياً يهدف إلى تحقيق السلم الأهلي وإنهاء الأحقاد المجتمعية[4].

ما بعد الحرب؛ حُسن التخطيط مفتاح النجاح:

بعد انتهاء الحرب والإبادة في رواندا ورثت الحكومة الجديدة بلداً منهكاً يعيش غالبية سكانه تحت خط الفقر، وبنية تحتية مدمّرة، وبنية مجتمعية مفكّكة؛ لذا بدأت الحكومة ببحث سبل تطوير البلاد والنهضة بها، وبعد مشاورات دامت قرابة سنتَين أطلقت الحكومة الرواندية عام 2000 _بعد تولي الرئيس بول كاغامي منصبه_ خطة “رؤية 2020″، وضعت فيها أهدافها التنموية التي تنوي تحقيقها بحلول عام 2020، وكان من أهم الأهداف في هذه الخطة[5]:

  • رفع مستوى متوسط حياة المواطنين من خط الفقر التي كانت تقع فيها وقت إعلان الخطة (الدخل القومي 290 دولاراً في السنة) إلى خط متوسط الدخل (900 دولار في السنة).
  • خفض نسبة الفقر من 64% إلى 30%.
  • رفع متوسط عمر المواطنين من 49 إلى 55 عاماً بحلول عام 2020، عبر تحسين مستوى القطاع الصحي ومحاربة الأوبئة المنتشرة في البلاد.

قسمت الحكومة أهداف هذه الخطة على 3 مراحل خمسية، بحيث تعمل على تحقيقها بشكل تدريجي؛ فبالنظر إلى أهداف المدى القصير (الخمس سنوات الأولى) هدفت رؤية 2020 الرواندية إلى: استقرار الاقتصاد الكلي، وتقليل الاعتماد على الدعم والمساعدات الخارجية، وإعادة هيكلة نظام الضرائب وتوسيع القاعدة الضريبية، وتسهيل قدوم الاستثمارات الخارجية، وتنويع ورفع جودة الصادرات[6].

أما على المدى المتوسط فقد هدفت الرؤية إلى دعم قطاع الخدمات وجعله القطاع الأول في البلاد متجاوزاً قطاع الزراعة الذي يعمل به 90% من القوة العاملة؛ إذ رأت الحكومة أن قطاع الزراعة -رغم أهميته- لا يمكنه وحده النهوض بالبلاد وتنميتها اقتصادياً للمستويات التي تطمح لها، وإنما يجب أن يكون مدعوماً بقطاع خدمات قوي ذي كفاءة، وبتنمية قطاعات الطرق والمواصلات لتسهيل حركة الصادرات والتجارة؛ نظراً لأن رواندا دولة حبيسة لا تملك أية موانئ[7].

كما استثمرت الحكومة الرواندية في قطاع الطيران بشكل كبير، ووسّعت أسطول الطائرات للشركة الحكومة؛ وهذا أدى إلى زيادة عدد الرحلات والوجهات التي تصل رواندا بالعالم، ومنه زيادة حجم التجارة والسياحة في البلاد، كما تخطّط الحكومة لإنشاء خط سكك حديدية مع تنزانيا وتطوير الطرق البرية في البلاد[8].

أما على المدى البعيد فهدفت الرؤية إلى تحسين البنى التحتية في الطاقة والمياه والتعليم والصحة والنقل، وذلك بهدف رفع جودة حياة المواطنين، بالإضافة إلى جعل البلاد مركزاً إقليمياً للاتصالات والتقنية، وتعزيز إسهام روّاد الأعمال الروانديين في الاقتصاد ليكونوا الجزء الأساس من الاقتصاد المحلي مقابل خفض الاعتماد على المساعدات الخارجية، تعزيز قطاع السياحة ليكون ذا إسهام بارز في الدخل القومي، وهذا يستلزم رفع جودة قطاعات المصارف والتقنية والخدمات والتمويل والقطاع العام[9].

ومن بين الجهود التي حققتها حكومة رواندا خلال هذه المرحلة كانت إطلاق حملة “صُنع في رواندا” (Made In Rwanda)، التي هدفت إلى منح المنتج المحلي علامة تجارية معترفاً بها دولياً، مع تحسين جودة المنتج وزيادة التسويق له[10].

كما أطلقت الحكومة حملة دعاية كبيرة في الدول الغربية للترويج للسياحة والاستثمار في البلاد تحت شعار “Visit Rwanda”، وتعاقدت مع ناديي آرسنال الإنجليزي وباريس سان جيرمان الفرنسي ليكونا وجهاً دعائياً للسياحة في البلاد، وقد طُبع شعار هذه الحملة على قمصان الناديين وانتشرت اللوحات الدعائية للسياحة في رواندا في المدن الغربية[11].

أعمدة رؤية 2020
المجالات المتقاطعة لرؤية 2020
1-      الحوكمة الرشيدة وتطوير قدرات الدولة
تحقيق المساواة بين الجنسين
2-      تطوير الموارد البشرية وبناء اقتصاد قائم على المعرفة
3-      إتاحة المجال للقطاع الخاص لقيادة اقتصاد البلاد
حماية البيئة والموارد الطبيعية وجعلها مستدامة
4-      تطوير البنى التحتية
5-      تطوير قطاع الزراعة وجعله أكثر إنتاجية ويتحرك وفق توجهات السوق
الاعتماد على العلوم والتقنية
6-      دمج البلاد اقتصادياً مع الإقليم والعالم

جدول 1: مجالات وأركان خطة رؤية 2020 التي أعلنتها الحكومة الرواندية

تضمنت الخطة أهدافاً معيارية في مجالات التعليم والصحة؛ ففي التعليم هدفت الحكومة إلى محو الأمية وجعل التعليم مجانياً للجميع، مع إعادة هيكلة النظام التعليمي المدرسي والجامعي والمهني بشكل يراعي احتياجات الدولة للكوادر المؤهلة واحتياجات السوق والخطط التنموية للبلاد[12]. وفي مجال الصحة وضعت الحكومة أهدافاً لخفض نسب الإيدز والملاريا المنتشرة في البلاد، وضبط نسب الولادات بحيث تنخفض نسبة النمو السكاني من 3.2% إلى 2.2%؛ إذ تُعد رواندا واحدة من أكثر الدول الأفريقية كثافة في السكان، وهذا ما جعل الحكومة تتجه إلى ضبط النمو السكاني بما يتوافق مع خطتها التنموية[13].

سعت الدول الغربية بعد انتهاء الحرب في رواندا إلى تقديم دعم سخي للحكومة الجديدة، ويعود ذلك لأسباب عديدة، منها: أن هذه الدول دعمت الرئيس بول كاغامي قبل وصوله للسلطة وعدّته حليفاً استراتيجياً لها، كما حاولت من خلال هذا الدعم إصلاح سمعتها المتضررة من تلك الإبادة، وكانت رواندا تُوصف بأنها “طفل مدلل” عند الدول الغربية بسبب الدعم الكبير والتغاضي عن أية أخطاء أو انتهاكات تصدر من الحكومة الرواندية[14]. ولهذا استغلت رواندا هذا “الدلال”؛ فاشترطت استخدام الدعم بالشكل الذي أرادته، ورفضت محاولات الدول الغربية توجيه الدعم وفق رؤيتها الخاصة، أو وضع شروط على استخدامه بشكل يتعارض مع رؤية الحكومة الرواندية، وكان هذا من أسباب حسن استغلال الدعم وزيادة فائدته[15].

وعند الحديث عن التخطيط في رواندا لا يمكن إغفال توجه رواندا إلى مزج العادات والتقاليد مع الحداثة في عملية التخطيط والعمل الحكومي بعدة أشكال مختلفة، وكان من بين هذه الخطوات: إطلاق برنامج الحوار الوطني “أوموشيكيرانو” عام 2003، ولم يكن مجرد مؤتمر حوار وطني عادي، بل فعالية سنوية يشارك فيها السواد الأعظم من الشعب الرواندي، بشكل يشبه الاجتماعات القبلية التي كانت سائدة في مرحلة ما قبل الاستعمار، وتتم مشاركة المواطنين إما حضورياً في قاعات كبيرة يحضرها المسؤولون والمستثمرون، وإما عبر موقع إنترنت يكتب فيه المواطن انتقاداته واقتراحاته في جميع المجالات، سواءٌ السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، ويتم تقييم هذه الاقتراحات المكتوبة أو المحكية ومراجعة الخطط الحكومية بناءً عليها[16].

وفي هذا الإطار أيضاً أطلقت حكومة رواندا عام 2006 نموذجاً فريداً مستوحىً من التقاليد القبلية للشعب الرواندي يُدعى “إيميهيغو”، وهو تقليد شعبي يقوم فيه زعماء القبائل أو المحاربون بإطلاق وعود كبيرة أمام القبيلة، وعندما يفشلون بتحقيقها يُنبذون مجتمعياً ويُوصمون بالعار. واعتمدت الحكومة الرواندية هذا النموذج مع رؤساء البلديات والمحافظين، حيث تمنحهم في مطلع كل سنة استمارة يملؤونها بتعهداتهم وينشرونها أمام الشعب، وفي نهاية السنة تجري مراجعة إنجازاتهم، ومحاسبة المقصّرين وعزلهم من مناصبهم[17].

وكان هذان النموذجان جزءاً من تطبيق مبدأ “اللامركزية الإدارية” في رواندا؛ حيث منحت الحكومة المركزية المحافظات والبلديات صلاحيات واسعة للتخطيط والعمل وفق احتياجات مناطقهم وطبيعة سكانها، مع الحفاظ على الإطار العام لرؤية 2020. وأسهمت هذه الخطوة في تخفيف حدة الاحتقان المجتمعي، وزادت من سرعة تعافي البلاد؛ نظراً لقدرة السلطات المحلية على تحديد الاحتياجات بشكل أفضل وأقرب من الحكومة المركزية[18].

كانت محاربة الفساد واحدة من أهم الخطوات التي أسهمت في تحسين واقع رواندا بعد الحرب؛ إذ اعتمدت الحكومة الرواندية على خطة شاملة لمكافحة الفساد، شملت جوانب ثقافية واجتماعية واقتصادية وقانونية، هدفت من خلالها إلى إخراج الفساد من دائرة التصرفات المقبولة مجتمعياً، وذلك عبر توعية المواطنين بخطر هذه المشكلة، وزيادة العقوبات على مَن يثبت تورطهم في الفساد، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة بشكل يصعّب من التستر على الفاسدين؛ ونجحت هذه الإجراءات في تخفيض نسب الفساد في رواندا بشكل كبير جداً مقارنة بدول كانت تعاني ظروفاً مشابهة[19].

لم تستورد رواندا حلولاً جاهزة من الخارج وتطبّقها على شعبها، ولم تخضع لخطط الممولين الخارجيين؛ بل فرضت شروطها عليهم، وسعت إلى إيجاد مزيج بين الثقافة المحلية والحلول العلمية، ووضعت خططاً طموحة قابلة للقياس بعد استشارة شرائح واسعة من الشعب، وذلك بالتزامن مع محاربة الفساد والإهمال بشكل صارم، وأدّى ذلك إلى انطلاق مسيرة تنموية فريدة من نوعها في العالم؛ نظراً للظروف الكارثية التي كانت تعيشها رواندا بعد الإبادة.

ومن النقاط الإيجابية في عملية التخطيط في رواندا: منح أولوية للفئات المسحوقة بدلاً من التركيز على إرضاء المستثمرين الخارجيين وحسب؛ إذ كان من أساسيات الخطة خفض مستويات الفقر، ورفع نسبة التعليم بين الأطفال، وتحسين قطاع الصحة، وزيادة مشاركة النساء في سوق العمل ومراكز صنع القرار.

وضع رواندا الحالي: أين تقف البلاد بعد 30 عاماً من الإبادة؟

بعد مرور ثلاثة عقود على واحدة من أبشع الإبادات الجماعية في التاريخ الحديث تقف رواندا اليوم أمام واقع مختلف تماماً عما كانت عليه في العام 1994؛ فخلال هذه السنوات استطاعت البلاد أن تخطو بثبات نحو إعادة البناء وإصلاح مؤسسات الدولة، وتحقيق نمو اقتصادي ملحوظ، وتحسين الخدمات العامة، في ظل قيادة مركزية سياسية قوية تبنّت شعار المصالحة والتنمية. ورغم الإشادات الدولية بتجربتها التنموية الفريدة فلا تزال رواندا تواجه تساؤلات وانتقادات تتعلق بمستوى الحريات السياسية، وحقوق الإنسان، ودور المعارضة؛ فإلى أي مدى نجحت رواندا في تجاوز ماضيها؟ وما ملامح المرحلة التي تمرّ بها اليوم؟

الإنجازات:

نجحت رواندا خلال هذه المرحلة بتحقيق جزء كبير من أهداف خطة رؤية 2020؛ إذ ارتفع الدخل القومي السنوي للفرد من 290 دولاراً إلى 826 دولاراً بحلول عام 2020، وذلك نتيجة تحسين جودة عمل القطاع الزراعي وفتح باب التصدير للخارج ورفع مستوى قطاع الخدمات وارتفاع واردات السياحة[20]، كما زادت الصادرات -معظمها من القطاع الزراعي والحيواني- للخارج بنسبة 15%، وتحسنت شبكات الطرق والمطارات والبنية التحتية للماء والكهرباء[21].

أمّا قطاع التقنية والاتصالات فقد نما بنسبة 16%، وصار أحد أهم المجالات الاقتصادية في البلاد، وانخفضت نسبة الأميّة من 51% إلى 23%، وانخفضت نسبة وفيات المواليد من 107 لكل ألف مولود إلى 32 لكل ألف مولود، وغير ذلك من النتائج الإيجابية[22].

ومن بين الإنجازات التي تحققت: إيصال شبكة 4G إلى أكثر من 95% من السكان، وإنجاز التحول الرقمي الحكومي بنسبة كبيرة جداً؛ حيث صارت تُجرى معظم المعاملات الحكومية واستخراج الوثائق الرسمية عبر تطبيق إلكتروني، كما تُجرى كثير من المعاملات المالية عبر بطاقات الائتمان مقابل انخفاض الاعتماد على الأوراق النقدية، التي تهدف الحكومة حالياً إلى التخلص منها بشكل كامل والتحول إلى اقتصاد غير ورقي[23].

رغم التعثُّر في تحقيق بعض الأهداف في الفترة الزمنية المحددة لرؤية 2020 نجحت رواندا بالوصول إلى هذه المستويات بعد سنوات إضافية؛ إذ وصل الدخل القومي السنوي للفرد عام 2024 إلى 1004 دولارات[24]، وارتفعت الصادرات في رواندا بنسبة تقارب 20% سنوياً على مدار 15 سنة، وتزامن هذا الارتفاع في الصادرات مع انخفاض في الاستيراد؛ بحيث انخفض عجز الميزان التجاري من 14.9% في 2016 إلى 6.8% في 2017، وتنوعت موارد الاقتصاد بعد تحسُّن أداء قطاعات التقنية والخدمات والسياحة، وإن كانت دون النِّسَب المخطط لها، وأعادت الحكومة هيكلة النظام الضريبي ليصبح أكثر عدلاً وأكثر شفافية؛ الأمر الذي انعكس على زيادة واردات الدولة من الضرائب. وأطلقت الحكومة الرواندية عام 2011 برنامج “المناطق الاقتصادية المختصة”؛ بهدف جمع الاستثمارات الصناعية المحلية في مناطق معينة مخدومة ببنية تحتية وأراض ومنشآت مناسبة، مقابل تسهيل معاملات التصدير إلى دول الإقليم[25].

أما بالنظر إلى هدف تحقيق المساواة بين الجنسين فقد كان أداء الحكومة الرواندية ناجحاً بنسبة كبيرة؛ إذ يشترط الدستور الحالي في رواندا وجود نسبة لا تقل عن 30% من النساء في مراكز صنع القرار، وحالياً تشكل النساء 61% من نسبة النواب في برلمان رواندا المنتخب 2018، و47% من الوزراء، و32% من أعضاء مجلس الشيوخ، و50% من القضاة، و43% من مقاعد المجالس البلدية[26].

وبالنظر إلى فرص العمل نجحت رواندا في موازنة نسبة الرجال والنساء المنضمين لسوق العمل بشكل عام؛ حيث عملت نسبة كبيرة من النساء الروانديات في الوظائف المرتبطة بقطاع الزراعة، مع مساواة في الرواتب مقارنة بنظرائهن الرجال؛ لكنّ هناك انخفاضاً ملحوظاً في مشاركة النساء في الوظائف غير المرتبطة بالزراعة، وانخفاضاً في رواتب النساء في هذه القطاعات مقارنة بنظرائهن الرجال، ويُعزى هذا التفاوت إلى الثقافة المجتمعية العامة في دول الإقليم، التي لا تشجع النساء على العمل في وظائف غير زراعية، وتدعوهن للاهتمام ببيوتهن وأسرهن[27].

لم تتوقف الحكومة الرواندية عند رؤية 2020؛ إذ أعلنت في نهاية مؤتمر الحوار الوطني عام 2015 عن خطة “رؤية 2050″، التي تستهدف -بشكل أساسي- نقل البلاد إلى مصاف الدول الغنية، وتضمنت الخطة أرقاماً تفصيلية حول الأهداف التي تطمح الحكومة لتحقيقها بحلول عام 2025، مع وضع أهداف متوسطة لتحقيقها بحلول عام 2035[28].

التحديات:

لا يمكن إغفال تعثُّر الحكومة في إنجاز بعض المواد في هذه الخطة؛ فالخطة المعلنة كانت طموحَةً جداً في بلد يعاني من ظروف صعبة وتواجه تحديات كبيرة، إذ لم تنجح بالوصول إلى مستوى الدخل القومي الذي كانت تهدف إليه (900 دولار سنوياً للفرد) في عام 2020 رغم اقترابها الكبير منه (826 دولار مقارنة بالرقم الذي بدأت به 290 دولار)، كما واجه القطاع الصحي مشكلات في تحسين جودة العمل، خصوصاً في المناطق الريفية، بسبب ضعف التمويل وعودة انتشار الأمراض المعدية مثل الملاريا. يُضاف إلى ذلك أن مستوى مشاركة القطاع الخاص في الاقتصاد لم يصل إلى الحجم الذي هدفت له الحكومة؛ بسبب ارتفاع كلفة التمويل وضعف قطاع الخدمات، أما في مجال السياحة فقد واجهت رواندا مشكلة بسبب قلة إنفاق السياح أثناء زيارتهم البلاد، بالإضافة إلى ضعف جودة الفنادق والمطاعم التي أثّرت في السياحة[29].

ومن بين الأسباب التي تعتقد الحكومة أنها أدّت إلى عدم النجاح في تحقيق هذه الأهداف هو بطء تحسُّن قطاع التعليم، وعدم قدرته على مواكبة احتياجات السوق، وتقلبات الأسواق الدولية التي أضعفت أرباح صادرات البلاد في بعض المراحل ونفّرت المستثمرين منها. ولكن بحسب آراء مخالفة فإن هذا لا يُعدُّ فشلًا؛ لأن ثمّة مختصين رأوا أنّ الأهداف التي وضعتها رواندا في هذه الخطة طموحة جداً ويصعب تحقيقها في الواقع، وأن الإنجازات التي تحققت هي في حد ذاتها كانت صعبة التحقيق وشبه مستحيلة[30].

كما لم تنجح في تحقيق النسبة المطلوبة في نقل السكان من الريف والعشوائيات إلى المناطق الحضرية، وقد يعود هذا لأسباب لوجستية؛ لأن قضايا التحول الحضري شائكة في ظل رفض بعض السكان الانتقال ورغبتهم البقاء في الريف أو في منازلهم التي اعتادوا عليها، أو فشل الحكومة في تأمين التمويل اللازم للمشاريع، أو سوء تخطيط بعض المجمعات السكنية[31].

وعلى الرغم من تحقيق هدف خفض نسبة الفقر -التي حددتها الحكومة الرواندية- إلى 30% في عام 2020 (وصلت النسبة في الواقع إلى 27.4% بحلول 2020) ما تزال حالياً نسبة تتجاوز 40% من سكان رواندا يعيشون تحت خط الفقر العالمي (2.15 دولاراً في اليوم)، وتزيد نسبة الفقراء في المناطق الريفية بشكل واضح[32]، ويعود ذلك إلى عوامل متعددة، من بينها: ارتفاع نسب التضخم، وكساد الاقتصاد بعد الأزمات الدولية المتتالية مثل جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية والنزاعات الإقليمية في الدول المجاورة[33].

الانتقادات على حكومة رواندا:

واجهت رواندا اتهامات عديدة بانعدام الحريات السياسية وحرية التعبير عن الرأي وغياب الديمقراطية؛ إذ يستحوذ الرئيس بول كاغامي _وهو مؤسس الجبهة الوطنية الرواندية التي سيطرت على البلاد عسكرياً معلنة نهاية نظام الإبادة_ على السلطة منذ عام 2000، وفاز في جميع الانتخابات التي عُقِدت منذ ذلك الحين حتى الآن بنسب تتجاوز 90%، مع وجود شبهات في التزوير ومنع المعارضين من الترشح للانتخابات وإعاقة عمليات ترخيص الأحزاب المعارضة [34]، كما عدّل بول كاغامي الدستور بشكل يتيح له الترشح حتى عام 2034[35]، وتُصنّف رواندا حالياً وفق معايير Freedom House على أنها دولة “غير حرة”[36].

اتُّهمَت الحكومة الرواندية أيضاً بالتعاون مع الحكومة البريطانية في عمليات ترحيل المهاجرين غير الشرعيين عبر استقبالهم وتوطينهم في رواندا مقابل الحصول على تمويل من بريطانيا؛ وهذا بالتزامن مع اتهام المنظمات الحقوقية الحكومة الرواندية بأنها تسيء معاملة اللاجئين وتحرمهم من حقوق الإنسان الأساسية[37]، ثم كان التراجع عن هذه الخطة بعد تغيُّر الحكومة في بريطانيا بخسارة حزب المحافظين وفوز حزب العمال الذي يعارض فكرة ترحيل المهاجرين إلى رواندا[38].

كما تواجه رواندا اتهامات بقمع الصحفيين والسياسيين المعارضين للرئيس بول كاغامي، بالإضافة إلى اتهامات بالإخفاء القسري والتعذيب في مراكز الاحتجاز، أو التسبب بوفاة المعارضين بشكل مفاجئ ومشبوه في حوادث مرورية أو حوادث غير منطقية يتم تسجيلها ضد مجهول. فضلاً عن الاتهامات بدعم المتمردين في الكونغو الديمقراطية المجاورة لرواندا الذين يرتكبون جرائم حرب، كالإعدام خارج نطاق القانون والاغتصاب والنهب والسلب[39].

المعيار
الواقع عام
2000
هدف رؤية 2020
ما تم تحقيقه
2020
مدى تحقيق الهدف في 2020
هدف 2035
هدف رؤية 2050
الدخل القومي للفرد
220
900
826
أقل من المطلوب بقليل
4036
12476
الفقر
64%
30%
27.4%
تجاوز الهدف
0%
0%
البطالة
15.2%
7%
5%
وفيات المواليد (لكل ألف)
107
50
33
تجاوز الهدف بنسبة كبيرة
<25
<18
إجادة القراءة والكتابة والحساب بالحد الأدنى
48%
80%
75%
أقل من المطلوب بقليل
99%
99%
معدل الحياة المتوقع
49
55
67.8
تجاوز الهدف بنسبة كبيرة
71.7
73
النمو السكاني
2.9%
2.2%
2.5%
أقل من المطلوب بقليل
1.7%
1.4%
نسبة الخريجين في مجالات العلوم والتقنية
36.9%
44.26%
50%
نسبة التأمين الصحي
91%
>95%
100%
إسهام الاستثمار في الدخل القومي
29%
26%
أقل من المطلوب بقليل
32.6%
35.1%
إسهام قطاع الزراعة في الدخل القومي
33%
24%
أقل من المطلوب بقليل
21%
16%
إسهام قطاع الخدمات في الدخل القومي
42%
49%
أعلى من المطلوب بقليل
46%
42%
نسبة السكن في المدن
10%
30%
18.4%
تعثر في تحقيق الهدف بنسبة تقارب النصف
52.69%
70%
نسبة الوصول لشبكة الكهرباء
2%
35%
56%
تجاوز الهدف بنسبة كبيرة
100%
100%

جدول 2: مدى تحقيق أبرز أهداف رؤية 2020 بالمقارنة بين البيانات لحظة إعلان الخطة عام 2000 وفي عام 2020 وأهداف خطط 2035 و2050

تُظهِر هذه البيانات نجاح الحكومة الرواندية في تحقيق نسبة كبيرة من أهداف خطة 2020، خاصة أهداف رفع معدل العمر المتوقع للمواطنين ورفع الدخل القومي السنوي للفرد، وتحسين نسب الوصول للخدمات والبنى التحتية؛ وذلك يعود لأسباب كثيرة، من أهمها: المراجعة السنوية لمدى التقدُّم في هذه الخطة، وإعادة برمجة الأهداف بحسب التقلبات، ومحاسبة المسؤولين المقصِّرين في عملهم، وبناء شراكات قوية مع دول الإقليم والعالم.

لكنّ هذه النتائج تذكّر بأهمية استحضار الصعوبات والتحديات عند التخطيط؛ فالأزمات الدولية _مثل كورونا والحرب الروسية الأوكرانية_ كانت عاملاً مؤثراً أدى إلى تأخُّر تحقيق هدف خفض الفقر، وضعف الاستثمارات الأجنبية، ومن ثَمّ التعثر في تحقيق هدف خفض نسبة سكان الأرياف وزيادة نسبة التمدن. لذا فالأخطاء التقديرية اليسيرة أثناء مرحلة التخطيط قد تؤدي إلى سلسلة من النتائج السلبية في مجالات متعددة، ويمكن تفاديها بأخذ جميع الاحتمالات في الحسبان، ووضع هوامش خطأ مرنة، ومراجعة الأهداف بشكل دوري لتكون موائمة للأوضاع المحلية والإقليمية المتقلبة.

الدروس المستفادة للحالة السورية من نهضة رواندا:

يتشابه الوضع السوري اليوم مع وضع رواندا بعد انتهاء الإبادة؛ إذ تحررت البلاد من حكم ديكتاتوري دموي بعمل عسكري، وورثت الحكومة الجديدة بلداً منهكاً مدمراً بشكل شبه كامل ومؤسسات معطلة ينخرها الفساد، مع اقتصاد منهار وبنية تحتية مدمرة وشعب منقسم وبيئة جاهزة للعودة إلى الصراع في أية لحظة؛ ولكن مع وجود وعود بتقديم دعم إقليمي ودولي كبيرَين للحكومة الجديدة بعد رفع العقوبات الغربية، وإظهار الحكومة نوايا لإعادة إعمار البلاد وتحسين اقتصادها خلال سنوات معدودة، ووجود فرص كبيرة للنهضة من جديد.

1- أهمية التخطيط ووضع أهداف قابلة للقياس:

تُبرِز التجربة الرواندية أهمية وضع الخطط القابلة للقياس؛ فالوعود المجردة العامة لا يمكن قياس مدى تنفيذها بشكل دقيق، ولا يمكن وضع الخطط دون أخذ رأي المواطنين من شتى فئاتهم، وإلا فستكون هذه الخطط منفصلة عن الواقع، ولن تحظى بدعم السكان وسيكون مصيرها الفشل أو التعثر. لذا فمن المهم أن تقوم الحكومة السورية في المرحلة المقبلة بتطوير طريقة لاستطلاع آراء المواطنين، واستشارة الخبراء في شتى المجالات، ومن ثم وضع خطة -خمسية أو عشرية- معيارية شاملة لجميع مجالات التنمية والاقتصاد، ويجري تركيز جميع جهود الدولة والمواطنين خلف هذه الخطة عبر عملية دعائية كبيرة تهدف لإقناع المواطنين بأهميتها ومدى فوائدها التي ستنعكس عليهم.

2- ضرورة المزج بين الثقافة المحلية والمعايير العلمية والحداثة:

أبرزت تجربة رواندا ضرورة المزج بين الثقافة المحلية والمعايير العلمية؛ إذ إن استيراد النماذج والخطط الغربية بحذافيرها دون مراعاة الخصوصيات المحلية قد يكون لها تأثيرات سلبية، مثل: عدم تبنّي المواطنين لهذه الخطة، وتعثُّر الخطوات بسبب اختلاف الظروف، ونزع هوية البلد وإفساد ثقافتها.

3- التركيز على الفئات المهمشة:

يوجد في سوريا اليوم الملايين من النازحين واللاجئين، وأكثر من 90% من الشعب تحت خط الفقر، ونسبة كبيرة من الأطفال المتخلفين عن المدارس، إضافة إلى القطاع الصحي المتهالك والبنى التحتية المدمرة؛ لذا يجب أن تتضمن أية خطة مستقبلية أهدافاً معيارية واضحة تستهدف إنهاء هذه المشكلات، وأن تكون قضايا الإسكان ومحاربة الفقر ومحاربة الأمية ورفع متوسط العمر المتوقع للسكان من الأولويات.

4- محاربة الفساد والإهمال:

لم تستطع رواندا تحقيق هذا النجاح الكبير إلا بعد محاربة الفساد والإهمال في القطاع الحكومي بشكل صارم؛ فهاتان الآفتان يمكن أن تتسببا بإفشال أي خطة مهما كان حجم التمويل وفرص النجاح كبيرة، لذا يجب على الحكومة السورية أن تحارب الفساد بصرامة، وأن تتبنى نظام محاسبة قوي يطال جميع المسؤولين والموظفين بلا استثناء.

5- حسن استخدام الدعم الخارجي وعدم الاعتماد عليه بشكل كلي:

أبرزت تجربة رواندا أهمية الموازنة في الاعتماد على الدعم الخارجي، وعدم الاستناد عليه بشكل كلي، وأهمية استخدام هذا الدعم بشكل يراعي معايير الحكومة المحلية وإرادتها ولا يعاكسها، بالإضافة إلى أهمية التركيز على تقليل الاعتماد على هذا الدعم بشكل تدريجي مقابل تحسين الاقتصاد المحلي.

ففي الحالة السورية: تواجه الدولة الآن بعد رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية عنها مرحلة جديدة من الدعم الخارجي؛ إذ تأمل الحكومة بالحصول على دعم سخي من دول الإقليم والدول الغربية، ولكن من المهم أن تستخدم الحكومة السورية هذا الدعم -قدر الإمكان- بشكل يراعي احتياجات السكان ومتطلبات التنمية المناسبة لسوريا، لا أن يكون إنفاق الدعم وفق رؤية المانحين التي قد تغفل عن نقاط مهمة أو تكون لها نوايا أخرى، وأن تكون الخطط التنموية متضمنة لهدف تقليل الاعتماد على الدعم الخارجي وجعل سوريا دولة تعتمد على نفسها في العديد من المجالات.

6- تنويع النشاط الاقتصادي:

أظهرت تجربة رواندا أن خطط التنمية لا يمكن أن تتم بالاعتماد على قطاع واحد فقط؛ فالزراعة -رغم أهميتها لرواندا- لم تكن كافية لنهضة البلاد وإنهاء الفقر وتحسين مستوى معيشة السكان، وهذا يمكن أن يكون مرشداً للحكومة السورية في أن تضع في حسبانها التخطيط لإنشاء اقتصاد متوازن يعتمد على قطاعات مختلفة، ويمكن أن تكون في الحالة السورية التجارة والزراعة والطاقة والسياحة والخدمات.

7- أهمية اللامركزية الإدارية:

من الضروري النظر في أنماط اللامركزية الإدارية، أي منح البلديات والمحافظات صلاحيات إدارية أوسع بحيث تضع كل محافظة أو بلدية خطة تنموية تناسب احتياجات السكان وطبيعتهم بشكل يتسق مع الخطة الوطنية العامة؛ إذ إن الاعتماد على الحكومة المركزية في كل شيء قد يؤدي إلى إبطاء عملية التنمية وإهمال بعض الأولويات في بعض المناطق وعدم رضى السكان عن خطة الحكومة، ومن ثَمّ قد يتعثر إنجاز الخطة التنموية[40].

8- عدم السماح بقمع الحريات وتضييق مجال العمل السياسي:

عند الحديث عن الاقتصاد لا يمكن إهمال المجالات الأخرى المرتبطة به؛ فالنهوض الاقتصادي وحده ليس كافياً، لأنه يمكن أن يكون سبباً في إعادة إنتاج حكم ديكتاتوري قمعي إذا لم يترافق مع حماية مساحات العمل السياسي وحرية الصحافة واحترام حقوق الإنسان وكرامته.

قد يشكّل برنامج رواندا الاقتصادي نموذجاً يمكن الاستفادة من إيجابياته في سوريا، ولكن يجب الحذر من السماح لانتشار الممارسات الاستبدادية والمناقضة لحقوق الإنسان والمخالفة لمبادئ الثورة السورية تحت ستار “الأولوية للإصلاح الاقتصادي”؛ فالتساهل مع هذه الممارسات سيكون لها أثر سلبي في المستقبل ينعكس حتى على الجانب الاقتصادي، فضلاً عن باقي جوانب الحياة الأخرى.

لذا علينا هنا أن تنذكّر أن الثورة السورية لم تنطلق من أجل تحسين الواقع الاقتصادي، وإنما من أجل ضمان الحريات واحترام حقوق الإنسان وكرامته، وبناء دولة تمثل جميع مواطنيها دون إقصاء، وتحترم آراءهم على اختلافها؛ لذا من الواجب على الحكومة السورية ألا تهمل هذه المسائل بحجة أولوية الاقتصاد، ويجب على القوى السياسية والمدنية والنقابات والحركات الطلابية وأفراد الشعب السوري ألا يتغافلوا عن أي انتهاك أو تعدٍّ على حقوق الإنسان أو محاولة للاستبداد وقمع الآخر.

خاتمة:

تقف سوريا اليوم أمام منعطف تاريخي؛ فقد نجحت في التخلص من نظام جثم على صدرها أكثر من 6 عقود، وبدأت بالتخلص من القيود الدولية التي خنقتها وكبّلت أياديها، وكسبت دعماً واعترافاً إقليمياً ودولياً قد يعينها على الانطلاق من جديد؛ فالتحديات في هذه المرحلة كثيرة، ولكن الآمال والفرص كبيرة، والطريق نحو بناء دولة ديمقراطية عادلة بات مفتوحاً أكثر من أي وقت مضى.

أمام السوريين اليوم فرصة فريدة لإعادة رسم مستقبلهم على أسس من العدالة والمواطنة والتنمية، بعيداً عن الاستبداد والفساد، ولا شكّ أن تضافر جهود السوريين في الداخل والخارج سيكون العامل الحاسم في تحويل هذه اللحظة التاريخية إلى انطلاقة حقيقية نحو مستقبل أفضل.


[1] يُنظر: الموسوعة البريطانية:
Encyclopedia Britannica – Rwanda
[2] برنامج الأمم المتحدة للتوعية بشأن الإبادة الجماعية في رواندا:
[5] “رؤية رواندا 2020”:
Rwanda Vision 2020“, MINISTRY OF FINANCE AND ECONOMIC PLANNING Of Rwanda, 7/2000.
[6] “رؤية رواندا 2020″، مرجع سابق.
[7] “رؤية رواندا 2020″، مرجع سابق.
[8] مسار التنمية الأقل ارتياداً: تجربة رواندا:
[9] “رؤية رواندا 2020″، مرجع سابق.
[10]مسار التنمية الأقل ارتياداً: تجربة رواندا، مرجع سابق.
[11] “مسار التنمية الأقل ارتياداً: تجربة رواندا”، مرجع سابق.
[12] “رؤية رواندا 2020″، مرجع سابق.
[13] “رؤية رواندا 2020″، مرجع سابق.
[14] رواندا: الطاغية المدلل:
[15] مسار التنمية الأقل ارتياداً: تجربة رواندا، مرجع سابق
[16] مسار التنمية الأقل ارتياداً: تجربة رواندا، مرجع سابق.
[17] وعد إيميهيغو: تقديم الخدمات غير المركزية في رواندا:
[18] مسار التنمية الأقل ارتياداً: تجربة رواندا، مرجع سابق.
[19] تجربة رواندا في مكافحة الفساد: الخطوات والإنجازات والدروس:
[21] تقييم لإنجازات خطة رؤية رواندا 2020:
An Evaluation of Rwanda Vision 2020’s Achievements“, Pereez NIMUSIMA, Nathan KARUHANGA and Dative MUKARUTESI, East Africa Research Papers in Economics and Finance, 2018.
[22] تقييم لإنجازات خطة رؤية رواندا 2020، المرجع السابق.
[23] مسار التنمية الأقل ارتياداً: تجربة رواندا، مرجع سابق.
[24] بيانات الدخل القومي السنوي للفرد في رواندا، مرجع سابق.
[25] مسار التنمية الأقل ارتياداً: تجربة رواندا، مرجع سابق.
[26] مسار التنمية الأقل ارتياداً: تجربة رواندا، مرجع سابق.
[27] مسار التنمية الأقل ارتياداً: تجربة رواندا، مرجع سابق.
[28] رؤية 2050:
Vision 2050“, Republic of Rwanda, 2015.
[29] تقييم لإنجازات خطة رؤية رواندا 2020، مرجع سابق.
[30] تقييم لإنجازات خطة رؤية رواندا 2020، مرجع سابق.
[31] تقييم لإنجازات خطة رؤية رواندا 2020، مرجع سابق.
[32] تحليل الفقر متعدد الأبعاد في رواندا:
Multi-Dimensional Poverty Analysis Rwanda“, Embassy of Sweden in Kigali, 5/2024.
[33] ملخص للبنك الدولي عن نسب الفقر في رواندا لعام 2023.
[34] بول كاغامي منع المعارضين أمثالي من الترشح للانتخابات، لا غرابة في فوزه فيها:
[35] 30 سنة بعد الإبادة في رواندا: أين تقف البلاد اليوم؟
[36] Freedom House, Rwanda.
[39] تقرير هيومن رايتس ووتش عن رواندا في عام 2023:
Rwanda: Events of 2023“, Human Rights Watch, 2024.
[40] صدر عن مركز الحوار السوري ورقة بعنوان: “تطوير البلديات في سوريا: هل يصلح النموذج التركي؟“، تناولت موضوع البلديات ومدى إمكانية الاستفادة من النموذج التركي الذي يمنح البلديات صلاحيات واسعة، 6/4/2025

بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى