النزوح مُجدّداً من لبنان إلى سوريا
تقرير صادر ضمن مسار الراصد في مركز الحوار السوري
مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لطوفان الأقصى، وسّعت “إسرائيل” ساحة العمليات العسكرية لتشمل جنوب لبنان، وتذرّعت “إسرائيل” بأن هذا التصعيد جاء رداً على مجموعات من الصواريخ انطلقت من المنطقة، إلا أن الوقائع تشير إلى أن “إسرائيل” اتخذت قرار إضعاف “حزب الله” في لبنان في محاولة لتحقيق انتصار عسكري ملموس[1].
بدأ هذا التصعيد العسكري المتسارع بعد نجاح عمليات اغتيال لقيادات نوعية من “حزب الله” والتي كان أهمها اغتيال الأمين العام لـ “حزب الله”، حسن نصر الله[2]، وإبراهيم عقيل قائد العمليات الميدانية[3]، وتفجير أجهزة البيجر والاتصالات[4]، ثم توسّع لغارات جوية مكثفة شملت مناطق واسعة في لبنان وعمليات استهداف لشخصيات من الحزب في سوريا وإرسال إنذار لأهالي المنطقة بضرورة إخلاء منازلهم[5].
تسبّب هذا التصعيد بموجات نزوح واسعة للمدنيين من الجنوب اللبناني باتجاه مناطق أخرى في لبنان، في حين توجّه عدد من العائلات اللبنانية إلى سوريا خوفاً من الاستهداف، خاصة أن الضربات “الإسرائيلية” استهدفت مواقع مدنيّة يوجد فيها قيادات من “حزب الله”، وتسبّبت بوقوع أعداد كبيرة من الضحايا من المدنيين.
يهدف التقرير إلى رصد حركة نزوح اللبنانيين والسوريين جراء الهجمات “الإسرائيلية” إلى سوريا، مع تسليط الضوء على التسهيلات التي قدّمها نظام الأسد لهؤلاء النازحين، ومقارنتها بوضع النازحين السوريين، كما يتناول التقرير ردود فعل السوريين في مناطق سيطرة نظام الأسد تجاه موجة النزوح اللبنانية.
الغارات “الإسرائيلية” وتوسّع نطاق الاعتداءات:
شنّت “إسرائيل” هجمات جوية عنيفة على مناطق واسعة في لبنان بدأت في الجنوب وتوسّعت لتشمل مناطق جديدة في محافظتي الجنوب والنبطية، وامتدت إلى المناطق الداخلية مثل البقاع وبعلبك-الهرمل، كما شهد جبل لبنان اعتداءات متفرقة، واستهدف الطيران “الإسرائيلي” للمرة الأولى قريتين في محيط مدينة صور منذ بدء الحرب، بالإضافة إلى الضاحية الجنوبية في العاصمة بيروت وأحياء أخرى.
وفي نفس الوقت الذي ركّزت فيه “إسرائيل” هجماتها على جنوب لبنان، شنّت غارات متفرقة على عدد من المواقع السورية بينها عدد من مراكز “البحوث العلمية”، حيث يوجد فيها علماء وخبراء إيرانيون يعملون على تطوير أسلحة، بالإضافة إلى مناطق محيط مدينة مصياف بريف حماة،[6] وطرطوس غربي سوريا، وريف دمشق، حيث يوجد قيادات من “حزب الله” أو ” الحرس الثوري الإيراني” [7].
تسببّت الغارات على لبنان خلال شهر أيلول 2024 في دمار ما يزيد عن 3200 مبنى، ومقتل1640من المدنيين بينهم 113 سورياً[8]، وجرح 8408 آخرين[9]، بالإضافة إلى نزوح حوالي مليون لبناني من مناطق إقامتهم في موجات نزوح متتالية في الداخل اللبناني وعلى الحدود [10].
بدأت حركات النزوح الجماعي تُلاحَظ يوم الإثنين 23 أيلول 2024، وتوجّه النازحون اللبنانيون إلى عدة وجهاتٍ رئيسية داخل لبنان مثل صيدا، بيروت، طرابلس، البقاع، وبعلبك، واستقر بعضهم ضمن مراكز إيواء افتتحتها الحكومة اللبنانية بلغ عددها وفق تقديرات رسمية 533 مركز إيواء، استقبلت حوالي 70,100 نازح مُسجّل حتى مساء 26 من أيلول[11]، بينما واصل آخرون طريقهم إلى العاصمة بيروت أو البلدات المجاورة، فيما اتجهت عائلات أخرى نحو الشمال إلى طرابلس وعكار.
واقع النزوح من لبنان إلى سوريا:
بدأت بوادر حركة النزوح اللبناني منذ أواخر شهر حزيران الفائت، بعد أن انتقلت عشرات العائلات من عناصر “حزب الله” اللبناني من جنوب لبنان إلى الزبداني بريف دمشق والقصير بريف حمص وخان شيخون بريف إدلب، والتي تقع تحت سيطرة عناصر الحزب، وذلك خشية تصعيد المواجهات مع “إسرائيل”[12].
وقد شهدت المعابر الحدودية بعد الهجمات “الإسرائيلية” الأخيرة ازدحاماً كبيراً مع تدفُّق النازحين اللبنانيين والسوريين إلى سوريا[13]، عبر معبر الزمراني في القلمون الغربي والمعابر الحدودية في محافظة حمص، ومعبر جديدة يابوس في ريف دمشق، وتشير مصادر رسمية أخرى تابعة لنظام الأسد بأن عدد اللبنانيين الذين دخلوا إلى سوريا منذ بدء التصعيد “الإسرائيلي” على لبنان حتى تاريخ إعداد التقرير بلغ نحو 175 ألفاً منهم نحو 50 ألف لبناني [14].
ويُتوقّع أن أعداد السوريين العائدين من لبنان تعود إلى العائلات السورية الموالية لنظام الأسد والتي ليس لديها مشاكل أمنية، أو تلك التي تُدير أعمالاً بين البلدين، إذ تشير العديد من الأخبار إلى عزوف العديد من اللاجئين عن العودة لبلادهم وتفضيلهم البقاء مُشرّدين في الحدائق والشوارع على العودة إلى سوريا خوفاً من الاعتقال أو السَّوق للخدمة العسكرية.
هذا وقد ترافقت موجات النزوح الأخير بتسهيلات من طرف حكومة نظام الأسد لدخول اللبنانيين إلى سوريا، فقد سمح للنازحين اللبنانيين بدخول المعابر الحدودية عن طريق أي وثائق يحملونها، كما سمح لهم بدخول سوريا دون دفع أي مبلغ أو تصريف عملة صعبة [15].
كما أعلنت حكومة نظام الأسد عن توجيهاتها بتقديم الرعاية الصحية المجانية للنازحين اللبنانيين[16]، وأعلنت وزارة الصحة في حكومة نظام الأسد عن جاهزية جميع المشافي في المحافظات الحدودية، ودعمت المعابر بسيارات إسعاف وأطباء على مدار الساعة[17]، كما تم تجهيز مراكز إيواء ومراكز طبية مع توفير مواد غذائية ومياه لاستقبال الوافدين من لبنان في كل من ريف دمشق وحمص[18]، وأبدت العديد من شركات النقل استعدادها لتقديم خدمات مجانية لنقل النازحين اللبنانيين من الحدود إلى المحافظات السورية التي يختارونها[19].
تُظهر المعطيات الأخيرة أن مجموعات من النازحين اللبنانيين تمركزوا في مناطق سبق أن هُجّر سكانها السوريون بفعل القصف أو سيطرة الميليشيات الموالية لنظام الأسد، واستقروا في بيوت المهجرين السوريين في كل من منطقة تل كلخ ووادي إيران ومنطقة القصير التي تُعد مركزاً استراتيجياً لمليشيا “حزب الله”[20]، والتي استقرت فيها العائلات القادمة من بعلبك الهرمل والقرى المحيطة بها[21]، كما استقرت العديد من العائلات اللبنانية النازحة في مدينة حمص، خاصة في حيّي السبيل والعباسية، اللذين تم إخلاؤهما من سكانهما السوريين في وقت سابق، بالإضافة إلى أحياء في مدينة حماة كالطوافرة والباشورة وأبو الفدا والسنديانة، وقرى في ريف محافظة إدلب شمال غربي سوريا[22].
كما كانت العاصمة دمشق من الوجهات الرئيسية للعائلات اللبنانية النازحة، حيث استقرت بعض العائلات اللبنانية في الأحياء التي يتركز فيها الشيعة مثل حي الأمين والجورة وزين العابدين والإمام الصادق، بالإضافة إلى مناطق في ريف دمشق، مثل الدويلعة والكباس قرب أوتوستراد حمص-دمشق جنوب العاصمة، والسيدة زينب[23] ومدينة داريا بريف دمشق، وبعض الأحياء في محافظة طرطوس[24].
اللاجئون السوريون ومعاناة مضاعفة:
وبينما لقي النازحون اللبنانيون استجابة وتسهيلات، واجه اللاجئون السوريون الذين نزحوا مؤخراً في مختلف مناطق لبنان صعوبات كبيرة في العثور على مأوى آمن، مع استمرار رفض معظم مراكز الإيواء الجماعية التي خصصتها الحكومة اللبنانية لاستقبالهم، وتُركت استجابة احتياجات اللاجئين السوريين في لبنان للجهود الأهلية والمنظمات المدنية السورية التي قدمت بعض المساعدات العينية وافتتحت مراكز إيواء، وذلك بعد أن صرحت الحكومة اللبنانية بشكل واضح أن ” الاستجابة هي للبنانيين”، واستقبلت بعض العائلات في المخيمات عائلات نازحة من أقاربهم، في حين منعت بعض العائلات السورية من استقبال أي وافدين بتوجيهات من السلطات اللبنانية[25].
واستمر التمييز بين النازحين اللبنانيين واللاجئين السوريين حتى على الحدود السورية، فقد سمح للنازحين اللبنانيين بالعبور نحو سوريا دون دفع أي تكاليف، في حين ظل قرار إلزام السوريين بتصريف 100 دولار أميركي سارياً عدة أيام حتى تم تجميده بشكل مؤقت لمدة أسبوع[26]، وهذا ما دفع بعض العائلات السورية للعودة إلى سوريا عن طريق التهريب عبر ممرات غير شرعية رغم خطورتها[27]، كما تسببت المخاوف الأمنية لدى العديد من العائلات إلى انفصال أفرادها، فعاد النساء والأطفال إلى سوريا بينما بقي الرجال في لبنان.
ومن الجدير بالذكر أن هناك عدد كبيراً من العائلات السورية العائدة من لبنان قد توجهوا فوراً إلى مناطق سيطرة المعارضة السورية، حيث تجمع قرابة 2000 شخص عند معبر “عون الدادات” بين مناطق “قسد” من طرف منبج شمال شرقي حلب، ومناطق “الجيش الوطني السوري” من طرف جرابلس شمالي حلب، ودخلوا إلى هناك بعدما عَلِقوا عدة ساعات بانتظار وصدور الموافقة الأمنية[28].
بين 2006 و 2024.. تغيُّر في المواقف واستحضار للذاكرة:
لم يكن مشهد النزوح اللبناني إلى سوريا غريباً، فقد استقبل السوريون النازحين من جنوب لبنان عام 2006 وفتحوا لهم بيوتهم وتكفّلوا باحتياجاتهم، إلا أن المشهد اليوم يبدو مختلفاً بشكل واضح، فقد شهد الشارع السوري في مناطق سيطرة نظام الأسد تبايناً واضحاً في الآراء تجاه موجة النزوح الأخيرة من لبنان، فقد عبّرت شريحة كبيرة من السوريين عن استياء عميق من الطريقة التي عومل بها اللاجئون السوريون في لبنان والعنصرية التي طالتهم من الجميع، بما يعكس احتقاناً شعبياً عميقاً نتيجة السياسات التي تم التعامل بها مع ملف اللاجئين السوريين في لبنان خلال السنوات الماضية.
في المقابل، رحّبت شرائح أخرى من السوريين بالنزوح اللبناني، مدفوعة بمشاعر التضامن العربي والموقف المناهض لـ “إسرائيل” و الثناء على الدور الذي قام به “حزب الله” في محاربة “التكفيريين” في سوريا ودعم نظام الأسد، و أعرب بعضهم عن استعدادهم لفتح منازلهم للاجئين اللبنانيين، ،إلا أن تلك المواقف لم تسلم من النقد، حيث أشار معارضوها إلى أن الأولوية يجب أن تكون لمساعدة السوريين لبعضهم داخل بلادهم، والذين يعيشون أوضاعاً اقتصادية قاسية في ظل الفقر والبطالة وتدهور الأوضاع المعيشية[29].
هذا ويسيطر على شريحة من السوريين قلق من احتمالية توسُّع الهجمات “الإسرائيلية” لتستهدف شخصيات تابعة لـ “حزب الله” داخل سوريا، كما يخشى آخرون من أن طول مدة الصراع وتدفُّق النازحين قد يؤدي إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية والاقتصادية، وارتفاع في أسعار إيجارات العقارات والمواد الغذائية[30]، مما يزيد من معاناة السوريين في ظل ظروف معيشية صعبة وبلاد يرزح أكثر من 90% من سكانها تحت خط الفقر.
ومن جهة أخرى، يتخوف السوريون المعارضون من أن تتحوّل عمليات النزوح اللبناني في سوريا إلى حالة استقرار دائم، وخاصة في المناطق التي يسيطر عليها “حزب الله”، فمن المرجح أن تقوم عائلات عناصر الحزب باستملاك أملاكهم ومنازلهم وعقاراتهم بشكل دائم، وهو ما يعني ترسيخ واقع ديمغرافي جديد، وحرمانهم من حقهم في العودة إلى منازلهم أو مناطقهم الأصلية[31].
خاتمة:
تُشير المعطيات الراهنة إلى أن عمليات الاغتيال أثّرت بشكل واضح على بنية “حزب الله” وقوته الميدانية، وهو تطوّر يعزز المكاسب الاستراتيجية لـ “إسرائيل” ويُثير احتمال توسيع نطاق العمليات العسكرية لتشمل مواقعه في سوريا. هذا التوسّع في العمليات لم يعد يقتصر على الأهداف العسكرية، بل امتدّ ليشمل استهداف الأحياء المدنية بالأسلحة والصواريخ والقذائف في لبنان، مما أدى إلى ارتفاع كبير في الخسائر البشرية، كما توسّعت رقعة القصف والمواجهة لتشمل مناطق مختلفة من لبنان منها العاصمة بيروت والتي قد يؤدي التصعيد فيها إلى حدوث موجات نزوح جديدة وتعميق الأزمة الإنسانية في المنطقة.
من جهة أخرى، يواجه اللاجئون السوريون أوضاعاً صعبة في لبنان بفعل تداخل عدة عوامل، أبرزها الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يعانون منها، وضعف دور المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، عدا عن المواقف العنصرية والانتقامية التي يتعرضون لها في ظل هذه الأحداث داخل لبنان وحتى في سوريا من الجمهور المؤيد لـ “حزب الله”.
ولم يقتصر هذا التمييز على الشرائح الاجتماعية، بل بدا واضحاً في السياسات الحكومية التي انتهجتها كل من الحكومة اللبنانية وحكومة نظام الأسد التي تجاهلت ظروفهم الصعبة، وافتقرت إلى أي جهود جادة لتأمين عودتهم الآمنة وتأمين احتياجاتهم الأساسية، إذ قد يواجه العديد منهم خطر الاعتقال أو الانتقام في حال عودتهم إلى مناطقهم الأصلية.
إضافة إلى ذلك، قد يساهم النزوح المتجدد في إحداث تغيير ديموغرافي جديد في سوريا، خاصة إذا طال أمد العمليات العسكرية في لبنان، أو توسّعت رقعتها، وهو ما يعني استقرار عائلات “حزب الله” في المناطق التي يسيطر عليها في سوريا، وقد يُفضي إلى إعادة تشكيل البنية السكانية والاجتماعية والطائفية في تلك المناطق، وهو ما سيؤثر بشكل جدي على أي عملية سلام قادمة أو حل سياسي، ويزيد احتمالية تأجيج الصراع وانتقاله إلى سوريا إذا ما أصبحت هذه المناطق الجديدة منطلقاً لأنشطة الحزب ومكاناً لتجمع قياداته، وهو ما يعني دخول سوريا مجدداً في دوامة صراع جديد وعودة الأزمة الإنسانية والاقتصادية والسياسية للواجهة.
عدا عن ذلك، فإن تمركز قوات الحزب العسكرية بشكل رئيسي في ريف حلب ضمن القرى المتاخمة لخطوط التماس مع مناطق سيطرة المعارضة السورية وازدياد أعدادهم نتيجة النزوح من لبنان سيشكل عامل تهديد حقيقي للمنطقة التي تضم قرابة 5 ملايين سوري وتعيق أي مشروع لعودة اللاجئين، إذ يُخشى من عمليات انتقامية يقوم بها عناصر “حزب الله” المتمركزون في سوريا أو تصعيد عسكري في محاولة انتزاع نصر يغطي على فشلهم وخسائرهم في لبنان.
إن النزوح من لبنان وإن كان يحمل طابعاً إنسانياً واضحاً، إلا أن له تداعيات سياسية واقتصادية وعسكرية وديمغرافية خاصة إن طال أمد العمليات العسكرية في المنطقة، إذ ينذر بتثبيت واقع ديمغرافي جديد بالإكراه، وتوسّع رقعة الصراع اللبناني الداخلي ذي البعد الطائفي إلى سوريا، وزيادة الانقسامات وارتفاع احتمالية توسع رقعة المواجهة لتشمل المنطقة بأكملها.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة