الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024: جدل بلا نهاية
تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
على الرغم من التكهنات الواسعة حول تغيير النظام العالمي[1] وإمكانية تراجع القوة الأمريكية؛ فإن الملايين من العرب ما زالوا يتابعون بشغف انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2024، التي ستُجرى بعد أقل من عشرة أيام، وتثير توتراً كبيراً عند السوريين والعرب والمسلمين؛ فالحروب المستمرة في غزة ولبنان أصبحت قضايا محورية في السباق الانتخابي. يجب ألا يأمل المشاركون في الانتخابات ولا المراقبون أن يؤدي التصويت لأي من المرشحَين إلى تقدُّمٍ تقوده الولايات المتحدة نحو الحرية أو الكرامة أو السلام في سوريا أو الشرق الأوسط عموماً؛ فإنّ المصالح الأساسية للولايات المتحدة ستظل كما هي، حتى وإن لم يكن واضحاً بالضبط ما الذي ستعنيه رئاسة هاريس (الديمقراطية) أو ترامب (الجمهوري) بالنسبة إلى سوريا، ولكنّ الشيء المؤكد أن الانتخابات القادمة أثارت نقاشاً محتدماً بين الناخبين العرب والمسلمين في الولايات المتحدة والمراقبين العرب المهتمّين.
إنّ فهمَ النقاش حول الانتخابات المقبلة يتطلب نظرة فاحصة على السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، من سوريا إلى فلسطين وما بعدها؛ فالصورة العامة والخلفية مهمة، وهذا ما يسعى تقريرنا التحليلي هذا إلى تقديمه.
المصالح الأمريكية شبه ثابتة:
تشير الأبحاث والملاحظات الكثيرة إلى أن المصالح الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط[2] هي: الوصول إلى موارد الطاقة (الهيدروكربونات)، ودعم “إسرائيل” وحلفائها، ومكافحة الإرهاب وتحقيق أهداف أمنية أخرى ذات صلة؛ فالإدارات تتغير، وتتناوب السلطة بين الحزبين، كما تتغير طبيعة التهديدات الأمنية بمرور الوقت؛ ولكنّ هذه المصالح الأساسية للولايات المتحدة ظلت ثابتة نسبياً لعقود.
ومع ذلك فإن هذا الإدراك لا يعني أن الوضع الحالي من حيث الزعماء أو التحالفات أو النزاعات أو المواقف الشعبية سيظل كما هو في المنطقة؛ ففي السعي لتحقيق المصالح الأساسية للولايات المتحدة يسلك الرؤساء (ومستشاروهم) مسارات مختلفة، ويضعون سياسات تعتمد على خلفياتهم وأيديولوجياتهم وفهمهم للتطورات وعوامل أخرى، وفي بعض الأحيان _ ببطء _ تحدث تغييرات في الاستراتيجية الأمريكية لتحقيق هذه المصالح الأساسية.
إنّ أحداث العام الماضي تؤكد مدى التقلب الذي تعيشه المنطقة، ويتوقع معظمنا حدوث تغيرات كبرى وتحولات جيوسياسية قادمة؛ ولذا فإنّ التجاهل الواضح للحدود الإقليمية، والتوسع “الإسرائيلي” في عمليات الضمّ، وقيادة وتركيبة الفواعل دون الدول مثل حماس و”حزب الله”، ودرجات التصعيد والعنف بين إيران و”إسرائيل” أو إيران والولايات المتحدة، واقتراب تركيا من التطبيع مع نظام الأسد، والمعارك المحتملة في شمال غرب سوريا، والاحتجاجات الشعبية المستمرة هناك؛ كلُّ ذلك يشير إلى أن الشرق الأوسط – بما فيه من تحالفات وعلاقات بين الدول والقوى الدولية (مثل الولايات المتحدة وروسيا) – في حالة اضطراب سريع التطور، وهذه الاضطرابات هي الأكثر دراماتيكية منذ ثورات 2011 والثورات المضادة، وقبل ذلك الغزو الأمريكي للعراق عام 2003؛ فربما لهذا السبب تبدو انتخابات 2024 وكأنها لعبة رهانات كبيرة.
استمرارية السياسة:
في هذا الجو المتفجر حيث يتزايد عدد الضحايا والدمار وسط اللامبالاة الأمريكية ماذا يمكننا أن نتوقع من نتائج الانتخابات الأمريكية المقبلة المرتقبة؟
إن هذا السؤال مهمّ بالنسبة إلى مراقبي سوريا على مستويَين على الأقل؛ أولاً: قد تثير نتائج الانتخابات قلقاً لدى العديد من السوريين والعرب والمسلمين الذين يرون في السياسة الخارجية الأمريكية مصدر اهتمام دائم. ثانياً: للانتخابات تأثير مباشر على السوريين حاملي الجنسية الأمريكية، سواءٌ كانوا من المهاجرين الجدد أو من الأمريكيين من أصول سورية؛ فهؤلاء يتساءلون: كيف يجب أن يصوّتوا (إذا قرّروا التصويت)؟ وما الذي يمكنهم أن يتوقعوه سواءٌ فاز ترامب أو هاريس؟
لنبدأ بالآثار المحتملة للانتخابات الأمريكية على الفئة الأولى: ليس ثمّة سبب وجيه للاعتقاد أن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط ستتغير بشكل كبير تحت قيادة ترامب أو هاريس؛ إذ لم يَذكر أيٌّ من الحزبَين سوريا في منصتَيهما الانتخابيتَين لعام 2024، سواءٌ الجمهورية[3] أو الديموقراطية[4]، على الرغم من الهجمات الأمريكية المتكررة على أهداف مرتبطة بإيران أو تنظيم “داعش” في سوريا خلال العام الماضي، بالتوازي مع الحرب “الإسرائيلية” المدعومة أمريكياً في غزة ولبنان. ويعزّز كلا الحزبَين مواقفهما الصارمة “الصقورية” تجاه إيران؛ فالفارق الذي كان موجوداً بين أوباما وترامب في سياساتهما تجاه إيران قد تقلّص في ظل سباق هاريس-ترامب، والموقف من إيران له أهمية للمنطقة بشكل عام، وللحرب في سوريا بشكل خاص؛ حيث تبرز الميليشيات الإيرانية بين الأطراف المتنازعة الأجنبية التي تساعد روسيا في الحفاظ على نظام الأسد في السلطة. ويتنافس الحزبان في إظهار التزامهما بأمن “إسرائيل” وحقها في “الدفاع عن النفس” في حروبها. وقد بدا ترامب خلال فترة رئاسته (2017-2021) أكثر حدّة في موقفه تجاه إيران؛ وذلك من خلال انسحابه من خطة العمل الشاملة المشتركة، المعروفة بالاتفاق النووي على سبيل المثال[5]، ومع ذلك فإنّ الديمقراطيين ينتقدون ترامب بسبب “خوره وضعفه” في مواجهة إيران، وقد برز تصعيد بايدن ضد إيران و”وكلائها الإرهابيين” خلال الأشهر الأخيرة في منصة الحزب الديمقراطي.
بغضّ النظر عن الفائز في الانتخابات فمن المرجح أن نشهد استمرارية في السعي وراء المصالح الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، ولكن على الصعيد المحلي يبدو أن ترامب سيكون أكثر قسوة على العرب والمسلمين الأمريكيين والمهاجرين (بمَن فيهم السوريون)؛ إذ يتعهد حزبه بتنفيذ “أكبر عملية ترحيل في تاريخ أمريكا” ووقف “غزو المهاجرين”، بالإضافة إلى سحب تأشيرات “الأجانب الذين يدعمون الإرهاب والجهادية” إلى الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى يَعِد الديمقراطيون بمحاربة “الإسلام فوبيا” جنباً إلى جنب مع معاداة السامية، رغم أن العرب الأمريكيين لهم الحق في التشكيك في سجل الحزب الديمقراطي نظراً للأحداث الأخيرة؛ فإن مقتل الطفل الفلسطيني الأمريكي في شيكاغو، وغيرها من جرائم الكراهية، والقمع الذي تمارسه الشرطة ضد الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين في الجامعات الأمريكية تشير إلى أن العنصرية المعادية للعرب والمسلمين – كما هو الحال في أوربا – قد ارتفعت في الولايات المتحدة في أعقاب الحرب الحالية اليوم؛ ولكنّ عودة ترامب قد تؤدي إلى تفاقم البيئة الصعبة بالفعل بالنسبة إلى “أميركا غير البيضاء” والمهاجرين الطامحين إليها من خلال سياسة جديدة.
الناخبون العرب والمسلمون:
ماذا عن العرب والمسلمين في الولايات المتحدة؟
في هذا الموسم الانتخابي تتصدر غزّة اهتمامات الناخبين العرب والمسلمين؛ فهذا الجمهور – الذي يضمّ السوريين – لا يتفق حول كل شيء يتعلق بدور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولكن وفقاً لاستطلاعات الرأي وبيانات المجتمع المدني فإن الدور البارز الذي لعبته إدارة بايدن في الإبادة الجماعية في غزة “لا يُغتفر” بالنسبة إلى معظمهم تقريباً؛ ولذا نشأ نقاش حول حدود النظام الحزبي الأمريكي وخياراته البديلة.
فالمرشحة عن حزب الخضر “جيل شتاين” التي يشاركها في الترشح المعتنق للإسلام بوتش وير تقدّم أجندة مختلفة جذرياً؛ فوفقاً لبرنامجه حول “السياسة الخارجية والحدّ من التسلح”[6] فإن سياسة حزب الخضر الخارجية تسعى إلى إنهاء التدخل الأمريكي في شؤون الدول الأخرى والحدّ من التسلح، وتأخذ موقفاً ضد آلة الحرب الأمريكية، وتعلن غايتها في إنهاء الإمبريالية الأمريكية، بما في ذلك سحب القوات الأمريكية من العراق وسوريا. وهذا الأمر وثيق الصلة بما نحن بصدده في هذا التقرير؛ فإنه وفقاً للتقارير الرسمية يوجد ما بين 900 – 1000 جندي أمريكي (إضافة إلى “متعاقدين”) متمركزين حالياً في سوريا لدعم ومساندة قوات سوريا الديموقراطية “قسد” ومحاربة تنظيم “داعش”. كذلك تدعو شتاين إلى فرض حظر أسلحة على “إسرائيل”، وتصرّ على وقف إطلاق النار ورفع الحصار عن غزة، وعلى تخفيض التدخل الأمريكي حول العالم. وتتماشى بعض جوانب برنامج حزب الخضر مع مواقف الناشط الأكاديمي كورنيل ويست، الذي يخوض الانتخابات مرشحاً مستقلاً. ويبدو أن شتاين غيّرت مؤخراً موقفها من سوريا؛ إذ وصفت المرشحة الرئاسية الطبيبة نفسها بأنها “ضد التدخل”، ولكن ليست “مؤيدة للأسد”[7]؛ ولعل هذا التغيير محاولة منها لجذب مزيد من الأصوات المناهضة لـ”إسرائيل” ومن أصوات العرب والمسلمين.
إذاً: لماذا الاهتمام بشتاين – رغم أنها مثل ويست – لن تفوز بالسباق؟
أظهر استطلاع رأي[8] للمسلمين في الولايات المتحدة أجراه مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (CAIR) في أواخر أغسطس أن شتاين تتساوى تقريباً مع كامالا هاريس بحصول كل منهما على حوالي 29%، فيما حصل ترامب على نسبة 11%، بينما حصل كورنيل ويست على 4%. ولكنّ الأهم هو أن أكثر من 16% من الناخبين المسلمين ما زالوا مترددين. ومن الواضح أن الغضب من غزة لم يترك ترامب دون مؤيدين؛ حيث إن 81% من الناخبين العرب الأمريكيين الذين تم استطلاع آرائهم[9] أشاروا إلى اعتبار غزة قضية حاسمة. وبين هذه الشريحة الانتخابية يتعادل ترامب وهاريس تقريباً، مع تفوق طفيف للمرشح الجمهوري بنسبة 42% مقابل 41% لهاريس.
ثمّة نقاش مهم يجري هذه الأيام بين الناخبين العرب والمسلمين حول ما إذا كان التصويت لصالح شتاين تصويتاً ضائعاً أو تصويتاً غير مؤثّر، وهذا يقودنا إلى الحسابات المحتملة للناخبين الفعليين بين الجاليات السورية والعربية في الولايات المتحدة؛ إذ يحتدم النقاش بين العرب والمسلمين الأمريكيين عموماً حول مَن يجب التصويت له، فالمنظمات المدنية مثل مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية( (CAIRومجلس الشؤون العامة الإسلامية (MPAC) تشجّع الناخبين المسلمين على التوجه إلى صناديق الاقتراع، بدلاً من مقاطعة الانتخابات بالكامل.
وتبرز هنا عدة تساؤلات ملحّة: هل يجب على الناخبين معاقبة إدارة بايدن على دعمها للإبادة الجماعية في غزة بعدم التصويت لصالح هاريس؟ هل يجب عليهم التصويت لجيل شتاين؟ كم ستكون كارثية على العرب والمسلمين عودة ترامب إلى السلطة؟ وهل التصويت لجيل شتاين يُعدّ بشكل غير مباشر تصويتاً لصالح دونالد ترامب لأنه يسحب الأصوات من هاريس؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل سيكون العرب والمسلمون مشاركين في القمع الذي قد يحدث إذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض؟
هذه أسئلة مهمة تحمل في طياتها حسابات عقلانية واعتبارات أخلاقية عاجلة؛ فقد دعت بعض الشخصيات الإعلامية والسياسية المسلمين الأمريكيين ضمنياً أو صراحةً إلى التصويت لصالح هاريس، وفي المقابل قرّرت حركة “Uncommitted Movement”-وهي كتلة احتجاجية داخل الحزب الديمقراطي تشكلت منذ الانتخابات التمهيدية هذا العام- عدم تأييد هاريس، ولكنها لم تعلن بوضوح عن مرشح بديل، وما زالت هذه الحركة تدعو الناخبين ذوي الميول للحزب الديمقراطي إلى التصويت على الأقل للمرشحين على مستوى الولايات والحكومات المحلية. والأمر الأكثر دلالة هو قرار لجنة العمل السياسي العربية الأمريكية[10] بعدم دعم ترامب أو هاريس بسبب “الدعم الأعمى” لـ”إسرائيل” من كلا المرشحَين. وفي الوقت نفسه أعلنت منظمة Emgage-وهي منظمة كبيرة للناخبين المسلمين[11]– عن تأييدها لكامالا هاريس؛ انطلاقاً من واجب هزيمة دونالد ترامب، وفقاً لبيانها.
تقييم السياسات والتوقعات:
من الواضح أنه ليس ثمّة موقف موحَّد حول الخيار الصحيح من الناحية المدنية أو الأخلاقية الواجب اتخاذه، حتى الخيار السياسي البراغماتي ليس واضحًا بشكل قاطع، ويبدو أن هذه القضية ما تزال محل جدل بين الناخبين العرب والمسلمين في الولايات المتحدة، حتى إنّ المناقشات على وسائل التواصل الاجتماعي بين المدافعين عن قضايا فلسطين والعرب والمسلمين قد احتدّت للغاية.
إنّ الولايات المتحدة معروفة بنظامها الانتخابي العتيق الغريب، الذي يوزّع التصويت الشعبي للرئاسة بحسب الولاية من خلال “المجمع الانتخابي”، فيجب على المرشح الرئاسي الحصول على أغلبية أصوات المجمع الانتخابي، التي يتم تحديدها حسب الأصوات الشعبية في الولاية، وذلك في جميع الولايات؛ باستثناء ولايتَي مين ونبراسكا[12] حيث يكون الفائز بأغلبية الأصوات فيهما هو مَن يحصل على جميع أصوات المجمع الانتخابي. بعبارة أخرى يحتاج المرشح الرئاسي إلى 270 صوتاً من أصل 538 للفوز؛ ويعني هذا الترتيب الانتخابي أنه رغم قلة أعدادهم نسبياً فإن أصوات الأمريكيين العرب والمسلمين يمكن أن تُحدث فرقاً في الولايات المتأرجحة حيث تكون السباقات الانتخابية متقاربة، ولهذا السبب تتجه الأنظار إلى ولاية ميشيغان (ذات الكثافة السكانية العربية الكبيرة)[13]، وبعض الولايات الأخرى مثل ولاية ويسكونسن، وولاية أريزونا.
في نهاية المطاف يبقى خيار المرشح قراراً فردياً يتخذه كل ناخب بناءً على ضميره في هذه الانتخابات الرئاسية، ولكن من الناحية الأخلاقية اختبر العرب والمسلمون كلّاً من ترامب (بقراره حظر دخول المسلمين[14]، وسجل اتفاقيات إبراهام[15]) وبايدن (بأدائه في غزّة الذي دفع البعض لتسميته “جو الإبادة الجماعية”[16]). وفيما يتعلق بسوريا فإن المسألة الرئيسة بالنسبة للعديد من مؤيدي الثورة من الناشطين السياسيين والمجتمع المدني هي مَن سيكون الأكثر صرامة مع نظام الأسد؛ فقد تلقى ترامب إشادة من بعض السوريين بعد ضرباته العسكرية ضد نظام الأسد بعد مجزرتي خان شيخون ودوما الكيماويتَين، على عكس أوباما الذي رسم الخط الأحمر الشهير ثم تراجع عنه بشكل سيئ، فعلى الرغم من تقلبات ترامب بشأن القوات الأمريكية في سوريا فقد اتخذ إجراءات عسكرية ملموسة ضد الأسد[17].
ولكن حتى أولئك الذين دعموا سياسات ترامب في سوريا فمن المهم الإشارة لهم إلى أن التدخل العسكري الأمريكي لم يخلع نظام الأسد، الذي قامت العديد من الدول العربية بتطبيع علاقاتها معه منذ ذلك الحين. كما أن الضربة التي قتلت زعيم تنظيم داعش “أبو بكر البغدادي” في شمال غرب سوريا لم تساعد السوريين في التخلص من نظام الأسد. في الواقع كانت الولايات المتحدة بمساندتها ودعمها الكبير لـ”قسد” من بين القوى التي أسهمت في استمرار تقطيع أوصال سوريا، ليس على المستوى السياسي فحسب، وإنما على المستوى الإقليمي أيضاً. وتماشياً مع نهجها العسكري لمكافحة الإرهاب (أكثر من كونه لمناهضة نظام الأسد) نفّذت الولايات المتحدة ضربات في سوريا لسنوات بهدف “الهزيمة المستمرة لداعش”[18] (كما تسمّيها القيادة المركزية الأمريكية)، وضد أهداف مرتبطة بإيران.
لقد سعى السوريون المؤيدون للثورة بكل جدية إلى تقرير المصير، والسيادة الشعبية، والكرامة، والتحرر من الديكتاتورية، ولكن سوريا اليوم محتلة من قبل عدة دول، وتُعد ساحة لمجموعات ميليشيات متعددة (طائفية تتبع غالباً لإيران)، وكان هذا تطوراً مؤسفاً. يدرك السوريون المناهضون للأسد المناقضة في إجراء تحليل تكاليف وفوائد التدخلات العسكرية الأجنبية المختلفة، وما إذا كانت تلك التدخلات أفضل أو أسوأ لمستقبل سوريا، وهذه بالطبع مفارقة محزنة.
كان ينبغي على السوريين -سواءٌ في داخل الولايات المتحدة أو خارجها- أن يتعلموا الكثير خلال أكثر من الـ 13 سنة الماضية من التدخل الأمريكي في سوريا؛ فإنّ تحوُّل ثورة 2011 إلى حرب دولية مع هذا التدخل العسكري المباشر من عدة أطراف أجنبية، ليست روسيا وإيران و”حزب الله” فقط، ولكن الولايات المتحدة وتركيا أيضاً قد شكّل مفارقة مدمّرة؛ فمن السهل (وعن حق) رفض التدخلات المؤيدة لنظام الأسد، ولكن لا ينبغي لأحد أن يكون لديه أوهام حول الأهداف الأمريكية في سوريا؛ وفلسطين والعراق هما أمثلة تبعث على التفكير.
بعض أعضاء “اللوبي” السوري الأمريكي متفائلون بأن تمديد قانون قيصر[19]، وفي أفضل الحالات مشروع قانون مناهضة التطبيع مع الأسد[20] قد يُمرّر من خلال الكونغرس القادم ويصل إلى مكتب الرئيس الجديد؛ لكنّ مثل هذه التشريعات لن تُنهي التدخلات العسكرية الأمريكية الموجهة بشكل رئيس ضد العالم العربي والإسلامي، كما أن التشريعات المناهضة لنظام الأسد لن تتفوق على الدعم الأمريكي الحازم لـ”إسرائيل”.
يجب أن تكون الأسطورة التي تدّعي إمكانية فصل السياسة الأمريكية تجاه “إسرائيل” عن تدخلاتها في سوريا قد تحطمت على مدار العام الماضي، والتحليل الوصفي أو التوجيهي الذي يفصل سياسة الولايات المتحدة تجاه “إسرائيل” عن تدخلاتها في سوريا هو مجرد مغالطة؛ فلا يمكن تجاهل السياسات التي تدعم “إسرائيل” أو تكون مساندة لها، ولا يمكن أن تكون هذه السياسات في صالح سوريا أو السوريين؛ لأن القيادة المركزية الأمريكية بالتأكيد لا تفصل بدقة بين “مجالات مسؤوليتها”[21] في منطقة الشرق الأوسط، فينبغي على الناخبين أن يتذكروا هذا، سواءٌ قرّروا التصويت في الانتخابات يوم 5/نوفمبر أم لا.
اليوم التالي لانتخابات 5 نوفمبر:
فيتجدد التساؤل: مَن يجب أن يأمل السوريون أو العرب أو المسلمون في فوزه؟
إن حقائق الواقع المؤلمة والمليئة بالعنف تخبرنا أنه لن يقرّب أيٌّ من الديمقراطيين أو الجمهوريين شعوب العالم العربي إلى السلام العادل، أو إنهاء للاحتلال، أو إسقاط الديكتاتورية؛ ناهيك عن تحقيق حكم شعبي أو ديمقراطي، ومن الصعب تحديد ما إذا كان قد حان الوقت حقاً لأن “يتنحى الأسد” على الساعة الأمريكية (أو ربما الأمريكية-الروسية). قد يأمل بعض النشطاء السوريين في تحقيق مكاسب قصيرة الأجل بدعم من الولايات المتحدة في المقاومة المستمرة ضد نظام الأسد وحلفائه؛ ولكن حتى في هذا السياق لا إجماع بين السوريين حول ما إذا كانت رئاسة ترامب أو هاريس هي الواعدة أكثر لذلك الغرض.
تدلّ القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية المتجذرة للولايات المتحدة في العالم والمنطقة على أن التحرر لسوريا أو لأي من الشعوب العربية لن يأتي من الولايات المتحدة، تحت أي رئيس كان؛ فإن كان الأمر كذلك فهل يهمّ منطقتنا كثيراً مَن سيفوز؟
مع ذلك إذا أراد الناخبون الأمريكيون التعبير عن غضبهم الانتخابي من دور إدارة بايدن في غزّة يمكنهم التصويت لصالح شتاين أو استخدام خيار التصويت لاسم غير مدرج (ما يُسمى Write-in)؛ فمن خلال رفضهم التصويت لصالح هاريس أو ترامب قد يُظهرون قوة سياسية ناشئة للعرب والمسلمين على الساحة المحلية الأمريكية، أو يمكنهم الامتناع عن التصويت بالكامل.
على المدى المنظور ستظل القوة العسكرية الأمريكية -وليس الدبلوماسية- هي المهيمنة في الشرق الأوسط أكثر من أي قوة أخرى، وتلك القوة تُستخدم لحماية الديكتاتوريين العرب في خدمة المصالح الأمريكية و”الإسرائيلية”، والآن أيضاً مصالح الدول العربية المطبِّعة.
إنّ الحرب في غزة مستمرة، وستظل سوريا على الأرجح ساحة قتال مفتوحة مع استمرار بعض صراعاتها المعقدة؛ وكما هو الحال دائماً فإنّ من المهم ألا نَغفَل عن الدور الطويل الأمد للولايات المتحدة في المنطقة. لن تحلّ انتخابات 2024 وما يعقبها الخلافات السياسية بين العرب والمسلمين داخل الولايات المتحدة أو خارجها؛ وأيّاً تكن الاستراتيجية الدقيقة التي ستتبعها في المنطقة فإنّ الإدارة الأمريكية القادمة ستظلّ قوة إمبريالية واضحة المعالم بكل تأكيد، وعلى الناخبين والمراقبين أن يتوخوا الحذر.
د. ليلى صالح
الدكتورة ليلى صالح، عضو في الفريق الاستشاري بمركز الحوار السوري، باحثة في العلوم السياسية (حاصلة على درجة الدكتوراه من جامعة ويسكونسن-ميلواكي عام 2012) لها منشورات عديدة حول السياسة السورية والعربية، الربيع العربي، والسياسة الخارجية الغربية. من منشوراتها الأكاديمية عن سوريا كتاب القوة الصلبة الأمريكية في العالم العربي: المقاومة، الانتفاضة السورية، وحرب على الإرهاب (راوتليدج، 2017)، والمقالة العلمية " الصمود المدني أثناء النزاع: المجالس المحلية في سوريا، "(2018) والفصل في كتاب روتليدج لسياسات الشرق الأوسط (تحرير: العربي صدّيقي) بعنوان " ملاحظات مبدئية عن الانتفاضة السورية: بحث في سياسة الاحتجاج في الشتات " (2020). حاليًا، هي زميلة بحث في كلية العلوم الاجتماعية بجامعة تشيبا في اليابان.