سيناريوهات السياسة الأمريكية تجاه الملف السوري في ظل عودة ترامب إلى البيت الأبيض
تقرير تحليلي بُني على مدخلات مجموعة من الخبراء في ندوة لمركز الحوار السوري
مقدمة:
مع إعلان فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحقيق حزبه الجمهوري الأغلبية خلال انتخابات الكونغرس، وتعهُّده سابقاً بإحداث تغييرات في السياسة الخارجية لأمريكا مثل إنهاء الحروب واعتماد سياسة “أمريكا أولاً”، ونظراً لأن واشنطن تمتلك وجوداً مؤثراً في سوريا، يُطرح تساؤل مهم: “كيف ستبدو ولاية ترامب الثانية تجاه سوريا؟”، خاصة أن ولايته الأولى شهدت جملة قرارات منها وقف الدعم عن فصائل المعارضة، وسحب جزء من قواته من سوريا، وقصف مطار الشعيرات الخاضع لسيطرة نظام الأسد وإقرار قانون “قيصر”.
وفي محاولة لاستشراف سيناريوهات السياسات الأمريكية تجاه الملف السوري في ظل ولاية ترامب الثانية، نظّم مركز الحوار السوري يوم الأحد 8 جمادى الأولى 1446 هـ الموافق لـ 10 تشرين الثاني 2024 ندوة حوارية مع مجموعة من الخبراء والباحثين لمناقشة المسار المتوقّع للسياسة الأمريكية تجاه الملف السوري خلال الفترة القادمة ومستقبل “العقوبات والتطبيع”، ومآلات الوجود العسكري الأمريكي في سوريا والعوامل المؤثرة في اتخاذ قرار الانسحاب أو البقاء، والأدوار والوسائل المتاحة لدى السوريين والمؤسّسات السورية للتعامل مع الإدارة الأمريكية الجديدة ومساحة العمل للجالية السورية مع الحزب الجمهوري لدعم الملف السوري.
يأتي هذا التقرير ليضع القارئ في أجواء الندوة والنقاشات التي دارت فيها، مع إيضاح السياق العام الذي أُقيمت فيه الفعالية، وقد أُعدّ التقرير من خلال اتباع قاعدة “تشاتام هاوس”[1]، ومن دون التقيُّد بالترتيب الزمنيّ للعرض والمداخلات؛ فقد استخدم التقسيم الموضوعيّ بقصد ترتيب الأفكار بطريقة سلسة وموضوعيّة تساعد القارئ -قدر المستطاع- على متابعة وفهم الموضوع.
ينقسم التقرير إلى أربع فقرات: تتحدّث الأولى عن توقّعات السياسة الأمريكية تجاه سوريا في ظل صعوبة التنبّؤ بخطوات ترامب، في حين تشير الثانية إلى مآلات الوجود العسكري الأمريكي في سوريا والعوامل المؤثرة في اتخاذ القرار، فيما خُصّصت الفقرة الثالثة للحديث عن الحرب “الإسرائيلية” في المنطقة وتأثيراتها على سوريا ونظام الأسد وسياسات أمريكا، والفقرة الرابعة ركّزت على الفرص المتاحة أمام السوريين للتعامل مع الواقع الجديد.
أولاً: توقّعات السياسة الأمريكية تجاه سوريا في ظل صعوبة التنبؤ بخطوات ترامب
خلال الندوة ظهرت حالة توافق شبه كاملة بين المتحدثين حول صعوبة التنبّؤ بسياسات الإدارة الأمريكية الجديدة سواء تجاه الشرق الأوسط عموماً، أو القضية السورية على وجه التحديد، ومع ذلك رأى العديد من المتحدثين أنه قد يحصل تغيير بملفات مختلفة إزاء سوريا مع قدوم الإدارة الجديدة، وقد ركّز الباحثون على عدة نقاط يمكن من خلالها فهم واستشراف أولي لنمط السياسة الأمريكية المحتملة:
سياسات ترامب تجاه الشرق الأوسط:
أشارت إحدى الباحثات إلى أن سياسة الرئيس دونالد ترامب تبدو غير قابلة للتوقُّع، وهذا يُعقِّد عملية التنبّؤ بمواقفه المستقبلية تجاه سوريا أو المنطقة بشكل عام، إذ قد يُصرّح بشيء ثم يتخذ خطوات مخالفة له، لافتة إلى أن وعود ترامب الانتخابية، مثل إنهاء الحروب في المنطقة وإحلال السلام، قد تكون سهلة نظريّاً لكنها مُعقّدة عملياً، مع إمكانية مشاهدة تغييرات في بعض الملفات؛ منها الحرب “الإسرائيلية” في غزة ولبنان، واحتمالية الدفع نحو فرض اتفاقية لوقف إطلاق النار ،خاصة بعدما وردت معلومات تتحدّث عن تلميح ترامب لرئيس الوزراء “الإسرائيلي” نتنياهو في وقت سابق برغبته في إنهاء الحرب، لكن هذا لا يعني حسب الباحثة أن التصعيد قد يتلاشى فجأة، وفي سياق هذا الرأي لا بد من الإشارة إلى أن بنيامين نتنياهو وعقب فوز دونالد ترامب عبّر عن اعتقاده بأن الإدارة الأمريكية الجديدة ستمنحه “حرية كاملة لاستمرار الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان” وأنه لن يكون هناك “ضغوط أمريكية ” تطالبه بوقف إطلاق النار[2].
ويتفق باحث آخر مع هذا الطرح المتعلّق بأن أولويات الإدارة الجديدة هي “وقف الحروب” استناداً إلى ما جاء من تصريحات رسمية على لسان ترامب، لكنه يرى أن هذه الحروب يُستثنى منها حروب “إسرائيل”، وحروب”السلام من خلال القوة”، وهذا يعني بحسب الباحث أن هناك أفعالاً قد تقع على الأرض من جهة تدعم المخطّط “الإسرائيلي” وفق المنظور الأمريكي، وجهة أخرى لإثبات القوة أو لترهيب الخصوم[3]، كما فعل ترامب عندما قَتل سليماني عام 2020، واستهداف المرتزقة الروس في سوريا عام 2018.
وبما أن الإدارة الحالية تنتمي إلى الحزب الجمهوري، فمن المتوقّع أن يكون نمط سياساتها مختلفاً عن الإدارة السابقة التي قادها الديمقراطيون حسب أحد الباحثين الذي يرى أن السياسة الخارجية في عهد ترامب ستكون في المرتبة الثانية، وستُركّز على المصالح الاستراتيجية المتمثلة في النفط، وأمن “إسرائيل”، ومكافحة الإرهاب، أما الأولوية الأولى فستكون موجّهة للقضايا الداخلية وفقاً لشعار “أمريكا أولاً” الذي أطلقه ترامب، وبالتالي ستُركّز على الشؤون الداخلية مثل الاقتصاد، والصحة، والهجرة، وغيرها.
تموضع الملف السوري في السياسة الأمريكية: مستقبل التطبيع وأثر العقوبات
تعتقد إحدى الباحثات أن سوريا، مثلها مثل العديد من دول الشرق الأوسط، ليست أولوية بالنسبة للإدارة الأمريكية الحالية، كما لم تكن كذلك في عهد إدارة بايدن، ومع ذلك، فإن عودة الحديث عنها، سواء بين السوريين أو المحللين والمتابعين لشؤون الشرق الأوسط، تأتي في سياق التحوّلات التي تشهدها المنطقة، خصوصاً الحرب “الإسرائيلية” على غزة وجنوب لبنان، وتعتقد الباحثة أن التغيُّرات التي تشهدها المنطقة قد تُعيد سوريا إلى سُلّم أولويات الإدارة الأمريكية لكن من خلال التركيز على مواجهة الميليشيات الإيرانية.
ويتفق باحث آخر مع فكرة أن سوريا ليست على سُلّم أولويات الإدارة الأمريكية، لكن ذلك برأيه لا يعني أنها دولة هامشيّة بالنسبة لواشنطن، بل تُعتبر ضرورية للسياسة الأمريكية في المنطقة كونها تُشكّل أحد أكبر التناقضات، فمن جهة تريد الانسحاب العسكري من سوريا، ومن جهة أخرى، هناك رغبة من قبل الجمهوريين لتقليص النفوذ الإيراني، لذلك فإن هذا التناقض سيكون برأي الباحث السؤال الكبير والأهم والمصيري أمام الإدارة الأمريكية الجديدة خلال رسم سياساتها المستقبلية، سواء إن قررت البقاء أو الانسحاب.
ويعتقد باحث آخر أن سياسات الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة بايدن ساهمت في تمييع القضية السورية سياسياً، وسهّلت خطوات التطبيع مع نظام الأسد، سواء من قبل الدول العربية أو الأوروبية التي اتجه بعضها للتطبيع مع نظام الأسد، وتعيين مبعوث للاتحاد الأوروبي، ويتوقّع الباحث أن يعود الملف السوري بقوة إلى أروقة الكونغرس بعد حصول الجمهوريين على الأغلبيّة، مما قد يدعم فكرة فرض قوانين جديدة داعمة للقضية السورية، لافتاً إلى أن إدارة ترامب السابقة دعمت بشكل قوي فرض عقوبات على نظام الأسد، وتمثّل ذلك بقانون قيصر، على عكس إدارة بايدن التي أظهرت حالة عدم رضا تجاه “قانون مناهضة التطبيع” وعملت على تأجيل تمريره.
وعن جدوى العقوبات التي فرضتها الإدارة الأمريكية على نظام الأسد، يرى أحد المشاركين في الندوة أن “قانون قيصر” أفاد نظام الأسد أكثر مما خدم مطالب الشعب السوري، إذ وفّر للأسد ذريعة لتبرير تقصيره أمام مؤيديه، وهنا أوضح اثنان من المتحدثين أن العقوبات أصلاً هي جزء من سياسة تهدف إلى استهداف الأشخاص المجرمين والمؤثرين في نظام الأسد، وهدفها في الدرجة الأولى سياسي وإظهار حالة العداء تُجاه هذه المنظومة والدفع نحو تغيير سلوكه.
وتعقيباً على ذلك، أشارت إحدى الباحثات إلى أنه رغم وجود شريحة من السوريين تدعم هذه العقوبات وأخرى ترى أنها أفادت نظام الأسد ومنحته ذريعة أمام مؤيديه، فإن العقوبات -وفقاً للعديد من الدراسات- تهدف عادة إلى أحد أمرين: إما الضغط لتغيير سلوك النظام المستهدف، أو تأجيج الشعب للانتفاضة ومواصلة الاحتجاج، وترى الباحثة أن العقوبات على نظام الأسد لم تُحقّق مكاسب كبيرة، إذ تمكّن النظام، كغيره من الدول، من التكيُّف مع جزء من تأثيراتها، مما يجعل جدواها محدودة.
مستقبل نظام الأسد في ضوء التصعيد “الإسرائيلي”:
في ظل التصعيد “الإسرائيلي” الأخير وتزايد التوترات الإقليمية، يبدو أن مستقبل نظام الأسد في سوريا سيظل موضع تساؤل حسب أحد المتحدثين، خاصة إذا تم النظر للتوجُّهات الاستراتيجية لأمريكا، فعلى الرغم من أن واشنطن لا تعتبر الملف السوري أولوية، إلا أن التطورات فيه ترتبط بشكل أو بآخر بقضية الأمن الإقليمي ومصالح “إسرائيل”، وفي هذا الصدد، استحضر الباحث تصريحات “أندرو إكسوم” نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق أمام الكونغرس، التي قال فيها إن سقوط نظام الأسد سيُشكّل تهديداً للمصالح الأمريكية، وعلى رأسها أمن “إسرائيل”[4]، لذا يعتقد أحد الباحثين أن نظام الأسد، ورغم ضعفه، سيكون مُفيداً جداً لجميع السيناريوهات القائمة وفق الرؤية الأمريكية – “الإسرائيلية”، وقد أيّد هذا الطرح أحد المشاركين الذي اعتبر أن سوريا اليوم أصبحت جزءاً صغيراً من المعادلة الكبرى التي تسعى الولايات المتحدة لتركيبها بقيادة “إسرائيل”.
ثانياً: مآلات الوجود العسكري الأمريكي في سوريا والعوامل المؤثرة في اتخاذ القرار
أصبح الحديث عن سحب الولايات المتحدة لقواتها من سوريا جزءاً من المواضيع الأكثر تداولاً على الوسائل الإعلامية، حيث توالت التقارير والتوقُّعات والتكهُّنات بشأن خطة ترامب المستقبلية تجاه نفوذ بلاده العسكري في سوريا، وفي هذا الصدد، رأى أحد الباحثين أن انسحاب الولايات المتحدة من سوريا لا يبدو متوقّعاً في المدى القريب أو المتوسط، وذلك لعدة أسباب وفق تصوّره، أهمها:
- أولاً: اتخاذ قرار الانسحاب يتطلّب قراراً سياسياً أمريكياً بالدرجة الأولى وليس أمنياً أو عسكرياً، وبالتالي فإن الضغوطات التي سيُمارسها بعض النواب الجمهوريين والحديث حول مخاطر تعرُّضهم للاستهداف -لا تعني بالضرورة اتخاذ قرار الانسحاب- حيث سبق وأن تعرّضت معظم النقاط العسكرية الأمريكية خلال الفترة الماضية للاستهداف من قبل الميليشيات الإيرانية، سواء في قاعدة التنف أو مواقع حقول النفط في كونيكو والعمر.
- ثانياً: الهدف الذي تدخّلت من أجله القوات الأمريكية مع التحالف الدولي كان محاربة الإرهاب ممثّلاً بـ”داعش”، ورغم تراجع التنظيم في بعض المناطق، إلا أنه لا يزال نشطاً، حيث أعلن تنفيذ 422 عملية عسكرية في بادية الشام وبادية الأنبار في عام 2023، ما يشير إلى أن الهدف الأساسي من وجود هذه القوات لم يتحقّق بعد.
وتتفق مع هذا الرأي إحدى الباحثات التي أشارت إلى أن الواقع الميداني في سوريا لا يزال معقّداً، وأن قرار الانسحاب سبق وأن رفضه الجنرالات في الجيش الأمريكي لأنهم يُدركون أن عملية الانسحاب تنطوي على مخاطر أبرزها:
- رفع الغطاء عن حليفها المحلي” قسد”، وهذا من شأنه أن يفتح الطريق أمام تركيا وفصائل الجيش الوطني السوري لاستكمال عملياتهم في شمال شرق سوريا.
- خسارة الولايات المتحدة جزءاً من سمعتها المتعلّقة بحماية حلفائها، خاصة أن هذا الموقف يُذكّر بما حدث عندما انسحبت واشنطن من كركوك، مما سهّل دخول قوات “الحشد الشعبي” إليها.
وفي ظل استبعاد فكرة الانسحاب الكامل، تُرجّح إحدى الباحثات أن يكون الانسحاب في حال حصل “انسحاباً جزئياً” يتمثّل بسحب أمريكا قواتها المنتشرة على الحدود مع تركيا ونقاط التماس بين قوات المعارضة و”قسد” منعاً لتعرُّضها لأي استهداف محتمل، ويشارك في هذا الرأي باحث آخر مستعرضاً فكرتين رئيسيتين:
الأولى، يشير فيها الباحث إلى أن الحضور الأمريكي الأساسي في منطقة شمال شرق سوريا هو في ثلاث قواعد عسكرية رئيسية إلى جانب 20 نقطة عسكرية، وأهم هذه القواعد، قاعدة الهول، وحقل العمر النفطي، ومعمل الغاز في كونيكو، وبالتالي فإن هذا الوجود يدعم ميدانياً “قسد” التي تعتبرها واشنطن شريكاً أساسياً في قتال “الإرهاب” المتمثل بـ “داعش”.
أما الثانية فهي مرتبطة بالوجود الأمريكي في قاعدة التنف العسكرية “المنفصلة تماماً” عن مناطق “قسد”، وبالتالي فإن هذه القاعدة لن تتأثر بأي قرار انسحاب محتمل وذلك انطلاقاً من عدة أسباب:
- أهميتها الاستراتيجية وموقعها حيث تشرف على المثلث الحدودي بين العراق وسوريا والأردن.
- تحكُّمها بالطريق الرئيسي الثاني الذي يربط سوريا بالعراق عبر معبر الوليد.
- تأديتها دوراً وظيفيّاً هاماً، إذ تشرف على عمليات التحالف الدولي في بادية الأنبار العراقية والبادية الشامية السورية، كما ترتبط بقاعدتين أمريكيتين في الأردن.
ويضيف الباحث أن ملفّ النفط السوري يُعتبر سبباً آخر لعدم الانسحاب من شرق سوريا، موضحاً أن المسألة لا تتعلّق بقيمة النفط وعائداته، بل بقدر ارتباطها بالبعد الاستراتيجي المتعلّق بالاستقرار وإعادة الإعمار في سوريا، فالسيطرة على حقول النفط، وفق رأي الباحث، تُعدّ ورقة أساسية تحتفظ بها الولايات المتحدة، لأنها تُعيق وصول هذه الموارد إلى نظام الأسد أو حلفائه، مثل روسيا، ما يعني أن انسحاب القوات الأمريكية قد يؤدي إلى انتقال السيطرة على حقول النفط إلى هذه الجهات، -ووفقاً للباحث-، فإن هذا السيناريو سيؤدّي إلى إعادة تقوية نظام الأسد وإضعاف السياسة الأمريكية التي تهدف لمنع الإعمار بالشكل الذي يخدم مصالح النظام وحلفائه.
ويذهب الباحث إلى أبعد ذلك، ويربط فكرة الانسحاب بالتصعيد “الإسرائيلي” في المنطقة، وعلى اعتبار أن الولايات المتحدة تُعدّ من أكبر الداعمين لـ “إسرائيل”، فإن ذلك -حسب رأي الباحث- يستوجب وجوداً عسكرياً أمريكاً في المنطقة، ليس بالضرورة من أجل تقديم إسناد مباشر للقوات “الإسرائيلية” في حربها، إنما من أجل أن تكون عامل ضغط أو تهدئة عند طرح مبادرات للسلام أو حلول سياسية في المنطقة.
ثالثاً: الحرب “الإسرائيلية” في المنطقة وتأثيراتها على الملف السوري:
في سياق إيضاح الرؤية الأمريكية تجاه المشروع “الإسرائيلي” في المنطقة، أشار أحد الباحثين إلى أن أمريكا ستتحرّك بناءً على مصالحها التي تتناغم مع “إسرائيل” في المنطقة وفي سياق مواجهة المشروع الإيراني، مُذكّراً بتصريحات سابقة للرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب ألمح فيها إلى أن “إسرائيل” تقع ضمن شريط جغرافي ضيّق وعلى أطرافها مساحات واسعة من الدول المجاورة -في إشارة حسب الباحث إلى إمكانية أن توسّع “إسرائيل” سيطرتها-، وهو ما يتوافق مع الطموحات “الإسرائيلية” التوسعية، حيث نقلت هيئة البث “الإسرائيلية” عن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يوم 12 تشرين الثاني رغبته في إعادة قضية “ضم” الضفة الغربية لجدول أعمال حكومة، وذلك بعد تسلُّم ترامب لمهامه في 20 كانون الثاني 2025[5].
ويرى الباحث أن هذا الطموح كان جوهر “صفقة القرن”[6] التي نصّت بشكل واضح، وليس عبر تحليلات، على أن 30% من الضفة الغربية، بما فيها غور الأردن والقدس، هي بالكامل لـ “إسرائيل”، ويُضيف أن العلاقات “الإسرائيلية” مع أمريكا شهدت زخماً في حقبة ترامب الذي قدّم دعماً غير مسبوق بما في ذلك الاعتراف بالقدس عاصمة لـ “إسرائيل”، ونقل السفارة الأمريكية إليها، بالإضافة إلى الاعتراف بالجولان وتأييد “صفقة القرن”، وتوقّع الباحث أن تشهد المنطقة تغيُّرات جذريّة تتعلّق بالحدود ومناطق النفوذ خلال فترة رئاسة دونالد ترامب، معتقداً أن اتفاقية “سايكس بيكو” قد استنفدت أغراضها، وباتت المنطقة أمام واقع جديد وسوريا جزءٌ منه.
وتعقيباً على هذا الطرح، رأت إحدى الباحثات أنه من المبكّر الحديث عن موضوع التوسُّع “الإسرائيلي” البري في المنطقة سواء في لبنان أو سوريا، فعلى سبيل المثال، ترى الباحثة أن الملف السوري وخاصة المنطقة الجنوبية تخضع لترتيبات معيّنة وروسيا جزء منها وبالتالي؛ هنا لا نتحدث عن مقاربة قطباها ترامب ونتنياهو، إنما هناك طرف آخر وهو روسيا ولا يمكن القفز عليها، وبالتالي فإن التساؤل الأهم هنا: هل سيكون هناك نوع من التفويض من قبل إدارة ترامب لروسيا و”إسرائيل” للتفاهم حول بقاء أو خروج “حزب الله”؟، علاوة على ذلك، لا تمتلك “إسرائيل” إمكانات وموارد بشريّة للتوسُّع، مما يجعل توسُّعها باتجاه مناطق جديدة محل شك، ويبقى موضوع غزة حالة استثنائية.
وفي هذا السياق، لفت أحد الباحثين إلى أن العلاقة بين روسيا و”إسرائيل” مستقرة، حيث يتجنّب الطرفان أي احتكاك عسكري مباشر بين قواتهما، ويعتمدان على التنسيق المستمر، ومن خلال ذلك يمكن استنتاج أن “إسرائيل” تعتمد على عدة استراتيجيات لتأمين وجودها، سواء من خلال تحالفاتها مع الغرب، أو توازنها مع روسيا وبالتالي فإن جميع السيناريوهات ستكون مفتوحة بالنسبة لسوريا.
ويضيف الباحث أن فكرة التوسُّع “الإسرائيلي” في المنطقة موجودة منذ أن تأسّست “إسرائيل”، فكانت تدرك أن حدودها الاستراتيجية ضيقة، وبالتالي كانت تخشى أن تكون تحت تهديد مستمر من جيرانها، خصوصاً مع وجود دول عربية تتبنّى “مواقف عدائية” تجاهها، لكن بعد الهجوم الأخير في 7 أكتوبر 2023، ظهر لدى “إسرائيل” مرة أخرى حاجتها الماسّة “لتأمين حدودها وضمان وجودها”، وبالنظر إلى العلاقات الدولية الحالية، يرى الباحث أنه يمكن لـ “إسرائيل” أن تستغل هذه اللحظة لتحقيق “مزيد من الأمن” من خلال تطبيع العلاقات مع بعض الدول العربية وتحقيق تفاهمات قد تتضمّن توسيع مناطق نفوذها، مثل فرض رقابة على بعض المناطق الحدودية أو الدخول في تفاهمات مُعيّنة.
ويضيف الباحث أن “إسرائيل” تريد إزالة جميع مصادر التهديد المحيطة بها، وهي حريصة على عدم فتح ملف الثورة السورية من جديد، لأن الثورة تُشكّل تهديداً حقيقياً لـ “إسرائيل”، وهي نقطة أيّدها أحد المشاركين، حيث رأى أنه من مصلحة “إسرائيل” استمرار نظام حكم ضعيف -في إشارة إلى نظام الأسد-، لأن هذا النوع من الحكم -حسب رأيه- يريح “إسرائيل” لأن وجود نظام وطني ديمقراطي في سوريا لا يخدم مصالحهم، بينما يُحقّق النظام الحالي لهم ما يريدون.
رابعاً: التعامل السوري مع الواقع الجديد: مواقف وفرص متاحة
يرى أحد الباحثين أن التحوّلات التي تشهدها المنطقة، سواء فيما يتعلق بالحرب “الإسرائيلية”، أو المفاجآت المتوقعة من الرئيس الأمريكي ترامب، الذي يُفضّل التعامل مع “الحكام الأقوياء” مثل الرئيس بوتين والرئيس الصيني، تشير إلى أن المنطقة على أبواب مرحلة جديدة من الاستبداد، ويعتقد الباحث أنه على الرغم من سوداويّة السيناريو إلا أنه قد يُشكّل
فرصة ذهبية ولحظة إدراك للسوريين بضرورة الإمساك من جديد بزمام قضيتهم، والتركيز على تحقيق أهدافها كتحرير البلاد، واستعادة استقلالها وسيادتها، ويقترح الباحث خطة عمل لتحقيق ذلك من خلال:
- التوافق على رؤية وطنية شاملة وبناء عمل جبهوي موحّد.
- توزيع الأدوار بين الداخل والخارج مع تحديد المهام والاختصاصات السياسية والعسكرية، والإعلامية والتربوية.
- الانفتاح على كل يد تمتدّ لدعم السوريين شريطة أن يكون ذلك وفق أرضيّة تحفظ استقلال القرار السوري وتجنّب السوريين الخضوع لأي أجندة.
وقد لاقى هذا الطرح ترحيباً من قبل العديد من المشاركين، حيث أشار أحدهم إلى أن المسؤولية اليوم باتت تقع على عاتق السوريين أنفسهم، لافتاً إلى أن ضعف التكاتف الداخلي أفقد المعارضة السورية زخمها ما أدى لتراجع اهتمام الدول بها، وأحياناً التلاعب بمصير الثورة السورية وفق مصالحها.
و تعقيباً على طرح أحد المشاركين فكرة إيجاد سُبُل للتوافق مع روسيا كونها أقرب للحفاظ على وحدة سوريا مقارنة بالولايات المتحدة التي جلبت حسب رأيه “الدمار للسوريين”، دعا أحد الباحثين إلى ضرورة تجاوز فكرة المفاضلة بين الولايات المتحدة أو روسيا على اعتبار أن كلاً منهما قد لعب دوراً سلبياً في الملف السوري، فروسيا كان لها دور مفصلي في إجهاض الثورة السورية، وأمريكا صمتت تُجاه ملفّ الكيماوي مقابل تسليم نظام الأسد لترسانته الكيماوية، وقد دعم هذه الفكرة باحثة أخرى، حيث دعت إلى التفكير في نموذج جديد يتجنّب فيه السوريون التبعيّة لأي طرف، ويدفع نحو العمل على مبادرات وطنيّة وتفاهمات بين القوى الثورية، بدلاً من الاعتماد على القوى الكبرى، واعتبرت أن الولايات المتحدة رغم إعلان دعمها للسوريين، إلا أن مصالحها إلى حدّ كبير لا تتناسب مع تطلُّعات السوريين للحرية والكرامة والسيادة.
وحول مساحات العمل للسوريين في الولايات المتحدة، رأى أحد الباحثين، وهو جزء من هذه الجالية، أن عمل الجالية خلال السنوات الماضية تطوّر وتبلور بشكل واضح، وباتت تمتلك أدوات احترافيّة للتواصل مع الإدارات الأمريكية بمختلف توجُّهاتها سواء الديمقراطية أو الجمهورية، ورأى أن ذلك سيفيد في الدفع نحو تمرير قوانين داعمة للقضية السورية.
كما أفاد أن بعض المنظّمات السورية بدأت بتجهيز وثيقة تتضمّن مجموعة توصيات سيتمّ إرسالها للفريق الانتقالي في البيت الأبيض، وتتضمّن جملة ملفات منها مسألة الانسحاب من سوريا، مع التأكيد على ضرورة أن يتم ذلك بشروط تضمن استقرار المنطقة والحفاظ على حالة التوازن، كما ذكر الباحث أن هناك جهوداً سوريّة من قبل الجالية تُبذل من أجل بناء علاقات مع الجانب التركي كونه فاعلاً مهماً في القضية السورية، بهدف تعزيز الاستقرار في سوريا وضمان الالتزام بأي قرارات مستقبلية.
الخاتمة:
يتضح من خلال رأي الباحثين ومعظم المشاركين أن تموضع الملف السوري في ولاية ترامب الثانية سيبقى محكوماً بعدد من المتغيّرات الداخلية والخارجية، وبالتالي فإنه من المرجّح أن تظل سوريا خارج أولويات السياسية الخارجية الأمريكية مع احتمالية زيادة الاهتمام بها في ضوء التصعيد الجاري في المنطقة وما ستشهده مستقبلاً.
وحول مآلات الوجود الأمريكي في سوريا، يميل المشاركون إلى ترجيح أن المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة وسوريا ستُعيق أي عملية انسحاب كاملة أو جزئية لارتباطها بعدة عوامل تشمل مكافحة الإرهاب وحماية حلفائها وضمان الاستقرار الإقليمي وتأمين قوة ضاغطة هدفها فرض أي حل مستقبلي لسوريا.
في العموم، يبدو أن المرحلة المقبلة تتطلّب من السوريين استعادة زمام المبادرة، والتركيز على تحقيق أهدافهم الوطنية بعيداً عن التبعيّة لأي طرف خارجي، ويكون ذلك من خلال بناء جبهة موحّدة، وتوزيع الأدوار بين الداخل والخارج بالشكل الذي يُعزّز قدرتهم في التأثير على القوى الكبرى فيما لو قررت رسم مستقبل سوريا.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة