قراءة في اتفاق وقف القتال بين “إسرائيل” و”حزب الله” وانعكاساته على نظام الأسد
تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
في 27 /11/ 2024، دخل اتفاق وقف إطلاق النار بين “حزب الله” اللبناني والجيش “الإسرائيلي” حيز التنفيذ، بعد شهور من العمليات العسكرية المتبادلة، وقد تم الاتفاق بوساطة أميركية وفرنسية[1].
قبيل الاتفاق الأخير بين “إسرائيل” و”حزب الله”، شهدت المنطقة زيارات متكرّرة لعدد من المسؤولين الإيرانيين إلى سوريا، من بينهم وزير الدفاع الإيراني، وآخرهم كان مستشار المرشد الإيراني علي خامنئي، علي لاريجاني[2]. حاول المحلّلون والباحثون المقرّبون من إيران، الذين يُروّجون للدعاية والبروباغندا الإيرانية تفسير هذه الزيارات على أنها تهدف إلى تعزيز “محور المقاومة” وأنها تأتي تمهيدًا لردود قويّة على “إسرائيل”، وقد رافقت هذه الزيارات تصريحات من لاريجاني أشار فيها إلى أن “حزب الله” لم يستخدم بعد كل قوته.
على الجانب الآخر، قرأ عددٌ من المحللين هذه التحرّكات في سياق التغيُّرات العالمية والإقليمية الكبرى، خاصة في ضوء فوز دونالد ترامب بولاية رئاسية جديدة، وهو المعروف بسياسة “الضغط القصوى” على إيران، هذا التطوّر دفع البعض من المحللين إلى التكهّن بأن إيران قد تسارع إلى التهدئة واستغلال ما تبقّى من أيام الإدارة الديمقراطية المعروفة بتفضيلها للحلول الدبلوماسية مع إيران، كل هذا جاء بالتوازي مع المفاوضات المضبوطة الإيقاع بين “إسرائيل” و”حزب الله”، والتي قادها نبيه بري من الجانب اللبناني[3].
ترافق الاتفاق مع تهديدات وتحذيرات “إسرائيلية” لنظام الأسد بالتوقّف عن لعب دور في تسليح “حزب الله”، وكذلك حديث “إسرائيلي” عن دور روسي لمنع تسلُّح “الحزب”، نحاول في هذا التقرير الإضاءة على الاتفاق وتداخلاته الأمنية مع نظام الأسد ودوره الوظيفي المعروف في حماية أمن “إسرائيل”[4].
أبرز بنود الاتفاق ودلالاتها:
من أبرز بنود الاتفاق أن تُوقِف “إسرائيل” جميع العمليات العسكرية ضد الأراضي اللبنانية، بما يشمل الأهداف المدنية والعسكرية، على أن تتوقف الجماعات المسلحة في لبنان، بما فيها “حزب الله”، عن شن أي عمليات ضد “إسرائيل”، وتنسحب مليشيا “حزب الله” إلى شمال نهر الليطاني، مع نشر الجيش اللبناني نحو 5,000 جندي في جنوبه على طول “الحدود” مع “إسرائيل”، مع تفكيك المنشآت العسكرية غير المرخّصة في لبنان[5].
يمكن القول إن هذا الاتفاق ليس مجرّد هدنة آنيّة، بل هو تحضير من الطرفين للعودة إلى الوضع الذي كان قائماً بعد عام 2006، مع مكاسب أكبر بالنسبة لـ “إسرائيل” خاصة أن “الحزب” سينسحب إلى شمال الليطاني، حيث شهدت الجبهة اللبنانية سكوناً طويل الأمد منذ ذلك الوقت حتى قرار “حزب الله” بفتح “جبهة إسناد” لغزة بعد الحرب هناك[6]. هذا الاتفاق يشير بشكل واضح إلى تراجع “حزب الله” عن “جبهة الإسناد” لغزة، على الرغم من أن معركة غزة لم تنتهِ بعد.
كما يُلاحظ أن الاتفاق يتضمن حديثاً عن تفكيك المشاريع أو القدرات العسكرية غير المرخّصة، ومنع انتشار “الحزب” في الجنوب اللبناني، وإشراف الحكومة اللبنانية على بيع وتوريد الأسلحة، وهو ما يشير للرغبة في نزع سلاح “الحزب” جزئياً أو كلياً، والعودة إلى القرار 1701 الذي أوقف الحرب في عام 2006[7].
كما سيتم نشر قوات الأمم المتحدة والجيش اللبناني كخطٍ فاصل بين الطرفين، وبموجب الاتفاق ينسحب “حزب الله” إلى شمال نهر الليطاني، مما يُعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل فتح “جبهة الإسناد” مع نهاية وجود “الحزب” في جنوب النهر مثلما كان سابقاً وإن بشكل غير معلن أو واضح دائماً[8].
ويبدو أن الضغط الكبير الذي تعرّض له “حزب الله”، بما في ذلك سلسلة اغتيالات استهدفت قادته بشكل مكثف، والقصف العنيف الذي طال الضاحية الجنوبية ومناطق الجنوب اللبناني، قد دفع “الحزب” إلى القبول بهذا الاتفاق الذي يمكن وصفه عملياً بالمُذل. إلى جانب ذلك، يُلاحظ أن إيران قد دفعت فيما يبدو “حزب الله” إلى القبول بهذا الاتفاق كخطوة استباقية قبل عودة ترامب المعروف بسياسة “الضغط الأقصى” على إيران.
وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق يبدو لصالح “إسرائيل”، إلا أن هناك أصواتاً داخل “إسرائيل”، خصوصاً من اليمين المتطرّف، تنتقده باعتباره لم يُحقّق الأمن لـ “إسرائيل”. فالاتفاق أعاد الوضع إلى ما كان عليه[9]، وهو الوضع الذي مكّن “حزب الله” من فتح “جبهة الإسناد”، كما أن “إسرائيل” لم تتمكن من إنشاء منطقة عازلة، ولم تستطع رغم كثافة القصف لسنوات منع وصول شحنات الأسلحة إلى “حزب الله” أو تقويض قدراته الصاروخية. بل على العكس، قدرات “حزب الله” الصاروخية نمت بشكل كبير مقارنة بعام 2006، فضلاً عن إدخال سلاح المُسيّرات[10] رغم تحقيق “إسرائيل” خرقاً استخباراتياً هائلاً مقارنة بتلك الفترة.
دور نظام الأسد: العصا “الإسرائيلية” والجزرة الأمريكية:
كان لافتاً تصريح رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو الذي هدّد فيه رأس نظام الأسد بأنه “يلعب بالنار” إذا استمر في دعم “حزب الله” والسماح له بالحصول على الأسلحة[11]. جاء هذا التهديد بعد تقارير تحدّثت عن قصف “إسرائيلي” استهدف منطقة سكنية مرتبطة بماهر الأسد[12]، المعروف بصلاته الوثيقة بإيران بصفته قائد “الفرقة الرابعة”، كما أشارت بعض التقارير إلى وجود توترات داخلية داخل نظام الأسد[13] بين بشار وماهر الأسد، وهو سيناريو لا يبدو مستبعداً إذا ما استحضرنا محاولة رفعت الأسد الانقلاب على أخيه حافظ الأسد في الثمانينيات.
على الجانب الآخر، صدر تصريح أمريكي لافت يؤكد تطلُّع الولايات المتحدة إلى دور لنظام الأسد في منع “حزب الله” من الحصول على الأسلحة[14]. يبدو واضحاً أن هناك رؤية “إسرائيلية” واستراتيجية تسعى لعزل “حزب الله” وتجريده من السلاح الاستراتيجي المؤثّر على أمن “إسرائيل”.
ورغم ذلك، قد يكون لمصلحة “إسرائيل” أن تسمح لـ “حزب الله” بالبقاء كميليشيا مُسلّحة ذات إمكانيات محدودة، بحيث يظل عنصراً مثيراً للتوتر داخل لبنان، دون أن يُشكّل تهديداً استراتيجياً كبيراً. ومع ذلك، لا يعني هذا بالضرورة أن “إسرائيل” ستنجح في تحقيق هذه الأهداف، لكنها ستسعى إلى ذلك خاصة إذا استمرت الحكومة “الإسرائيلية” الحالية، المعروفة بتوجُّهاتها المتطرّفة في العمل. يُضاف إلى ذلك السلوك “الإسرائيلي” غير المسبوق من حيث صبره على المعركة لفترات طويلة، خاصة مع عودة دونالد ترامب، المعروف بتأييده الكبير لـ “إسرائيل”، إلى الحكم.
من المرجّح أن يكون التهديد “الإسرائيلي” مصحوباً بالتصريح الأمريكي جزءاً من سياسة “العصا والجزرة” التي تهدف إلى دفع نظام الأسد لتبنّي دورٍ أكثر وضوحاً في منع تدفُّق الأسلحة إلى “الحزب”، ويبدو أن هناك تنسيقاً بين “إسرائيل” والولايات المتحدة، وربما روسيا، لاستمرار نظام الأسد في لعب دوره الوظيفي كضامن لأمن “إسرائيل”، وهو الدور الذي حرص نظام الأسد على الحفاظ عليه لضمان بقائه في السلطة[15].
ورغم ذلك، يبقى نظام الأسد في موقف معقّد، فهو لا يستطيع التخلّي عن دوره الوظيفي في حماية أمن “إسرائيل”، الذي يُعتبر عنصراً أساسياً لبقائه، وفي الوقت ذاته، يعتمد بشكل كبير على الدعم الإيراني، مما يفرض عليه الحفاظ على علاقات جيدة مع الميليشيات الإيرانية، في حين يبدو أن إيران تتفهّم موقف نظام الأسد في هذا الخصوص وتُدرك أن بقاءها في سوريا مرتبط باستمراره بمعادلة “أمن إسرائيل”، ولذلك لا تفرض عليه إبراز سياسات دعم واضحة لعملياتها في سوريا أو لعملية “طوفان الأقصى”، وهذا كان واضحاً بشكل كبير بعد “طوفان الأقصى”، إذ لم يتم تفعيل جبهة جنوب غرب سوريا رغم كثافة الوجود الإيراني فيها، ما يشير إلى أن إيران لا تريد إزعاج “إسرائيل” من الجبهة السورية لأن هذا قد ينعكس على نظام الأسد. في المقابل، يبدو أن “حزب الله “والميليشيات الإيرانية باتوا يميلون إلى التكيُّف مع السياسات “الإسرائيلية” ضمن إطار الاتفاق الأخير، مما قد يفتح المجال لاتفاقيات بين الأطراف المختلفة.
مع ذلك، يبقى مستوى تسليح “حزب الله” المسموح به، ودور نظام الأسد في منع وصول الأسلحة إليه موضوعاً شائكاً ومحل نزاع طويل الأمد، خاصة مع دخول روسيا كلاعب رئيسي في هذه المعادلة المستقبلية.
الدور الروسي:
كان لافتاً في هذا السياق الطلب “الإسرائيلي” الواضح من روسيا للقيام بدور في منع نقل الأسلحة إلى “حزب الله”. وعلى الرغم من الرد الرسمي الروسي الذي أكد عدم اهتمام موسكو بهذا الأمر بشكل مباشر، تُشير بعض التقارير إلى إمكانية حدوث تنسيق بين “إسرائيل” وروسيا حول هذا الموضوع. قد تلعب روسيا دوراً خلف الكواليس للتوصُّل إلى اتفاق حول درجة مُعيّنة من تسليح “حزب الله” ونقل الأسلحة إليه[16].
يتماشى هذا السيناريو مع الدور الوظيفي الذي لعبته روسيا في سوريا منذ بداية الثورة السورية، خاصة بعد استخدام نظام الأسد الأسلحة الكيميائية. حينها قامت روسيا بدور الوساطة مع الولايات المتحدة لتحقيق اتفاق يقضي بتسليم نظام الأسد ترسانته الكيميائية. لاحقاً جاء التدخُّل الروسي في سوريا بالتنسيق مع الولايات المتحدة و”إسرائيل” بهدف حماية أمن “إسرائيل”[17].
من هذا المنطلق، ليس من المستبعد أن تقوم روسيا الآن بوساطة بين إيران ونظام الأسد من جهة، والولايات المتحدة و”إسرائيل” من جهة أخرى، لوضع آلية تضبط تسلُّح “حزب الله” بدرجة مُعيّنة[18]، وربما السعي تدريجياً لتجريده من قوته الصاروخية، التي تُعدّ مصدر قلق رئيسياً لـ “إسرائيل”.
تزداد احتمالية هذا الدور الروسي بالنظر إلى العلاقات الجيدة التي تربط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب، الذي يُعرف بتأييده الكبير لـ “إسرائيل”.
خاتمة:
يمكن القول إن الاتفاق اللبناني-“الإسرائيلي” يُمثّل بالنسبة لمليشيا “حزب الله” عودة إلى ما هو أسوأ من الوضع الذي كان قائماً قبل فتح الحزب ما سماها “جبهة الإسناد” لغزة[19]، مما يعكس رضوخاً عملياً من الحزب للسياسة “الإسرائيلية”، خاصة أن حرب غزة لم تنتهِ بعد. وبهذا تكون “إسرائيل” قد نجحت فعلياً في عزل “حزب الله” عن معركة غزة، مع تغيير واضح في ميزان القوى، فقد كشفت الحرب عن اختراق “إسرائيلي” كبير لقيادة “الحزب”، من خلال سلسلة اغتيالات طالت قادته، الأمر الذي سيؤثر على صورة “الحزب” وقدراته، سواء على المستوى الداخلي اللبناني أو في المفاوضات المستقبلية.
من المتوقع أن تسعى “إسرائيل” في المرحلة القادمة، بالتعاون مع الولايات المتحدة، إلى تقويض تسليح “حزب الله” بمختلف الوسائل، مع التركيز على قدراته الصاروخية، وستضغط على روسيا، ونظام الأسد، وحتى إيران لضمان تحقيق هذا الهدف. ويبدو أن هذه الأطراف، بما فيها “حزب الله” نفسه، قد لا تمانع في تقليص تسليح “الحزب” تدريجياً لضمان مصالحها الاستراتيجية، خاصة إذا كان ذلك يساهم في تهدئة الضغوط “الإسرائيلية” والأمريكية.
مع ذلك، يبقى الاتفاق هشاً، وفي حال رفض “حزب الله” تقليص قدراته التسليحية، وخاصة الصاروخية، قد يؤدي ذلك إلى نقض الاتفاق من قبل “إسرائيل” والعودة إلى التصعيد العسكري. هذا السيناريو قد يصبح أكثر ترجيحاً مع عودة دونالد ترامب إلى الحكم ودعمه الكبير لسياسات بنيامين نتنياهو.
على الجانب الإيراني، قد تسعى طهران إلى تجنُّب الغضب الأمريكي و”الإسرائيلي” بالتنسيق مع روسيا، كما فعلت سابقاً في صفقة تسليم السلاح الكيميائي لنظام الأسد. ومن سلم السلاح الكيميائي قد لا يجد صعوبة في إضعاف قدرات “حزب الله” الصاروخية، خاصة إذا كان ذلك ضرورياً لضمان بقاء المحور الإيراني في المنطقة.
أما نظام الأسد، الذي يعتمد بقاؤه على توازن المصالح بين روسيا، وإيران، والولايات المتحدة، و”إسرائيل”، فسيظل مستعداً لتنفيذ ما يُطلب منه من مختلف الأطراف لضمان استمراره في السلطة.
الهجوم الإيراني على “إسرائيل”.. قراءة في أبرز انعكاساته وآثاره على سوريا، مركز الحوار السوري، 20 / 4 / 2024
باحث ومستشار، كتب و شارك في كتابة العديد من الأوراق المتعلقة بالملف السوري. كما عمل مستشاراً وباحثاً في الشأن السوري لدى عدة مراكز سياسات سورية ناشئة، ولدى منظمات دولية. مدرب في مجال أساسيات ريادة الأعمال وأساسيات التحليل السياسي،