الإصداراتالتقارير الموضوعيةوحدة تحليل السياسات

وحدة التراب السوري واستعادة الموارد: نحو ضرورات الحشد لمشروع التحرير الشامل

تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري

رغم أن هدف السوريين الأساسي من الثورة التي خرجوا بها عام 2011 كان إسقاط نظام الاستبداد، إلا أن مفهوم التحرير في سوريا لا يمكن أن يقتصر على ما نعايشه من مظاهر إسقاط النظام البائد فقط، بل يمتدُّ ليشمل التصدّي لكل المشاريع التي تُهدّد وحدة الأراضي السورية ومستقبلها.

بعد أكثر من عقد من الحرب، لا تزال مناطق شرق الفرات في سوريا وبعض المناطق في غربها تحت سيطرة مليشيات “قوات سوريا الديمقراطية- قسد” بدعمٍ من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تستحوذ على أهم موارد البلاد من النفط والغاز، بالإضافة إلى سلة الغذاء السورية من القمح والقطن[1]، وهو ما يُشكّل عائقاً ليس أمام وحدة الأراضي السورية فحسب، بل يُؤسّس لحالةٍ من الانقسام الذي يُعطّل إعادة إعمار الدولة المستقبلية التي يطمح لها ملايين السوريين.

يناقش هذا التقرير واقع سيطرة “قسد” على موارد سوريا الحيويّة، وردود الفعل الشعبيّة تُجاه سياساتها، والدور الذي يمكن أن تؤديه الإدارة الحالية في سوريا لإعادة بناء الدولة وتوحيد الأراضي، كما يُقدّم مجموعة من التوصيات التي يمكن أن تساهم في إقناع القوى الدولية وخاصة الولايات المتحدة بالتخلّي عن مشروع “قسد” لاسيما مع قدوم إدارة أمريكية جديدة تبدو أكثر ميلاً لتخفيف الأعباء بالشرق الأوسط.

سياسات “قسد” ودورها في تأجيج الاحتقان والتوترات في شمال شرقي سويا:

تشير الكثير من الوقائع على الأرض إلى الرغبة الشعبية الكبيرة في التخلُّص من سيطرة “قسد”، فعلى سبيل المثال يكشف ما جرى في مدينة دير الزور خلال الأيام الماضية عن حالة الرفض الشعبي لوجود مليشيات “قسد”، إذ اندلعت تظاهرات شعبية كبيرة تُطالب “قسد” بالخروج من المدينة بعدما دخلت إليها ضمن اتفاق مع نظام الأسد لعرقلة تقدُّم فصائل المعارضة إليها[2]، وهو ما خلق توترات مع أهالي المدينة وردّت “قسد” على المتظاهرين بالرصاص الحي موقِعةً عدداً من القتلى والجرحى في صفوفهم[3].

كما إن “قسد” ومنذ سيطرتها على دير الزور أشاعت حالة الفوضى الأمنية، ونهبت مؤسسات الدولة والمخازن الموجودة في مطار دير الزور العسكري[4]، حيث نقلت المعدّات إلى مناطق سيطرتها شرق الفرات في وقت لم تقم فيه كذلك بمنع العصابات واللصوص من ممارسة عمليات السرقة والسطو، سواء على المؤسسات أو المنازل[5].

هذا الأمر خلق حالةً من التوترات ودفع بالأهالي لتكرار مناشداتهم لإدارة العمليات العسكرية في غرفة “ردع العدوان” للتقدُّم والسيطرة على دير الزور، وهو ما تأخّر عدة أيام بسبب التحذيرات التي كان يقوم بها التحالف الدولي لمنع أيّ عملية تقدُّمٍ نحو المدينة[6]، لكن الأمر لم يستمر طويلاً مع الضغط الشعبي من جهة، ومن جهة ثانية إتمام “قسد” إفراغ المؤسسات ومطار دير الزور، ما أدى لانسحابها ليلة 11 كانون الأول 2024، لتنضمّ بذلك مدينة دير الزور إلى ركب المناطق المحررة في سوريا[7].

لكن المشكلة لم تنتهِ عند هذا الحد، فمن المعلوم أن “قسد” تسيطر اليوم على نحو نصف محافظة دير الزور ضمن ما يُعرف بخط الجزيرة السورية، حيث تضمُّ أهم موارد النفط والغاز في سوريا، كما إن سيطرة “قسد” تمتدّ حتى كامل محافظة الحسكة والجزء الأكبر من محافظة الرقة وأجزاء من ريف حلب الشرقي، حيث يُعاني السكان من انتهاكات “قسد”، وتشير الكثير من التقارير إلى رغبة شعبية واسعة في التخلُّص من سيطرة “قسد”[8]، حتى في المناطق ذات الأغلبية الكردية مثل القامشلي وعامودا والمالكية[9]، حيث يعتبر السكان أن الارتباط الوثيق بين “قسد” ومليشيا “حزب العمال الكردستاني” يُعزّز الانقسامات ويؤدي إلى توترات مع دول الجوار، لا سيما تركيا.

يأتي هذا متزامناً مع رؤية مشتركة لجميع فصائل المعارضة السورية بمختلف مكوناتها تتلخّص برفض مشروع “قسد” وممارساتها[10]، ورغبتها في سدّ الذرائع التي تضعها الولايات المتحدة للاستمرار في دعم “قسد”، خاصة محاربة تنظيم “داعش”، حيث يمكن أن تكون قوات جيش سوريا ما بعد الأسد محلّها في الحرب ضد تنظيم “داعش”، فقد أثبتت فصائل الثورة سابقاً قدرتها على مواجهة التنظيم في معارك عديدة، وهذه الرغبة لا تنبع فقط من رفض وجود “قسد”، بل من قناعة بأن أبناء المنطقة من العرب والأكراد الذين يعانون من سياسات “قسد” أحق بإدارة مناطقهم.

التنمية الاقتصادية وضرورة استعادة الموارد:

تحقيق التحرير الشامل في سوريا لا يمكن أن ينجح دون استعادة الموارد الوطنية التي تُشكّل العمود الفقري لاقتصاد الدولة السورية المستقبلية، فحقول النفط والغاز في شرق الفرات تُمثّل شريان حياة أساسي لسوريا كي تنهض اقتصادياً بعد سنوات من الحرب، واستمرار هذه الموارد تحت سيطرة “قسد” والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية يُهدّد بتحويل سوريا إلى دولة فقيرة تعتمد على المساعدات الدولية بدلاً من إدارة مواردها بشكل مستقل.

ورغم أهمية استعادة السيطرة على هذه المناطق، تواجه السلطة الجديدة في سوريا تحدّيات مرتبطة بالدعم الدولي الذي تحظى به “قسد”، خصوصاً من الولايات المتحدة، وقد لا تكون إدارة بايدن التي تعيش أيامها الأخيرة مستعدةً للتخلي عن “قسد” في الوقت الراهن، وهو ما يفرض على السلطة الجديدة في سوريا التخطيط لمرحلة قدوم الإدارة الأمريكية القادمة، خاصة أن ترامب سبق أن نفّذ انسحاباً جزئياً من سوريا، ويبدو أكثر ميلًا لتخفيف الأعباء الأمريكية في الشرق الأوسط.

بناءً على ذلك، ينبغي على الإدارة السورية الجديدة أن تستعد لتقديم مشروع متكامل يتضمن بشكل أساسي 4 أمور رئيسية:

  • تقديم التزام حقيقي بحماية المكوّن الكردي في سوريا من قبل الدولة السورية الجديدة، كما حدث في المناطق التي دخلتها إدارة العمليات العسكرية، حيث تم حماية الأقليات المختلفة مثل المسيحيين والعلويين وغيرهم، كما يجب أن يتم التأكيد على أن الباب مفتوح للعفو عن أي مقاتل من “قسد” لم يتورط بالجرائم بحق السوريين، وأن هدف الدولة السورية الجديدة ضمان وحدة الشعب السوري وضمان حقوق كافة المكوّنات، ما يساهم في تجنُّب أي توترات عرقية أو طائفية ويؤسّس لمرحلة جديدة من التعايش المشترك، فضلاً عن ضرورة التأكيد على أنه سيتم تمثيل المكون الكردي في شكل الدولة المقبلة لا كما حصل في حقبة النظام البائد من تهميش ممنهج للأكراد.
  • تعهد قوى الدولة السورية الجديدة بمحاربة تنظيم “داعش” شمال شرقي سوريا واتخاذ خطوات جدية في هذا المجال من الآن، مثل: تشكيل هيئات فكرية وعسكرية وأمنية لمكافحة الفكر المتطرف[11]، وبما يسحب الذريعة الأمريكية لاستمرار الاعتماد على “قسد”، والعمل على تحجيم وجودها بشكل تدريجي لاسيما في المناطق ذات الغالبية العربية، وهذا لا يقتصر على مكافحة “داعش” فقط، بل يتضمّن أيضاً حماية الأمن المحلي وخلق بيئة آمنة تتيح للناس ممارسة حياتهم الطبيعية، مثلما جرى بحلب وحمص ودمشق وغيرها، كما يجب التوضيح بأن السلطات السورية الجديدة ستكون مسؤولة عن المواجهة مع فلول وخلايا التنظيم بجميع المناطق الواقعة تحت سيطرتها، إذ أن خطر داعش يهُدّد كيان الدولة ككل وليس فقط مناطق سيطرة “قسد”.
  • من الضروري أن تعمل مختلف المؤسسات والهيئات ذات الصلة في سوريا ما بعد الأسد على تقديم تقارير مُفصّلة للأمم المتحدة والإدارة الأمريكية بشأن انتهاكات “قسد” لحقوق الإنسان لاسيما مع توثيق الكثير منها لدى منظمات سورية ودولية موثوقة[12]، بما في ذلك سياساتها القمعية ضد المكون العربي في مناطق شرق الفرات، وأسلوبها في إدارة المناطق التي تحت سيطرتها، لأن مثل هذه التقارير يمكن أن تُسلّط الضوء على الممارسات غير الإنسانية مثل الاعتقالات التعسفية والتهجير القسري[13]، ما يساهم في إبراز حقيقة الوضع على الأرض ويُعزّز الضغط لاتخاذ مواقف ضد هذه الانتهاكات.
  • استثمار العلاقة مع تركيا للضغط على الإدارة الأمريكية: من المعلوم أن تركيا ضاقت ذرعاً بوجود “قسد” على حدودها وعلى علاقتها بـ “حزب العمال الكردستاني”، وبما أن تركيا تُعدّ لاعباً رئيسياً في الملف السوري ولديها علاقات تبدو جيدة مع إدارة ترامب فإنه يمكن تعزيز التعاون مع أنقرة لتقديم رؤية مشتركة من أجل تقليص الدعم الأمريكي عن “قسد”، ما يؤدي إلى تحجيم دورها في سوريا.

 خاتمة:

من المُلاحَظ أن الإدارة الجديدة التي تولّت السلطة في دمشق غير قادرة في الوقت الحالي على مواصلة زحفها باتجاه مناطق شرق الفرات؛ فالمعادلة مرتبطة على ما يبدو بتوافقات غير معلنة مع الولايات المتحدة لإبقاء الوضع على ما هو عليه في الوقت الحالي، فضلاً عن أن السلطة في دمشق حالياً لا تمتلك من أوراق الضغط الشيء الكثير لتطالب الولايات المتحدة برفع يدها عن “قسد” والدخول في مواجهة مباشرة معها لاستعادة بقية التراب السوري.

مع ذلك، لا يُفترض بالسلطة الجديدة وكذلك القوى السياسية والمجتمعية السورية غضّ الطرف عما يحدث في مناطق سيطرة “قسد” على الأقل من حيث الضغط الإعلامي والتصريحات، بحيث لابد من التأكيد على استعادة وحدة التراب السوري باعتبارها ليست فقط قضية جغرافية، بل هي قضية ترتبط بمستقبل سوريا الاقتصادي والاجتماعي، وأن التحرير لا يمكن أن يقتصر على إسقاط النظام المخلوع، بل يجب أن يشمل التحرُّر من جميع المشاريع التي تهدد تماسك البلاد، وعلى رأسها مشروع “قسد” وما يمثّله من تهديد للوحدة الوطنية وإضعاف للقوة الاقتصادية.

إن عودة الثروات السورية للسوريين وحمايتها من النهب والفساد سيُساهم في انتقال سوريا إلى مرحلة تكون فيها أكثر قدرة للاعتماد على مواردها الذاتية وأقل ارتهاناً للديون أو المساعدات الدولية.

كل ذلك يُفترض أن يُدفع بأي سلطة تتصدر المشهد في سوريا اليوم أن تكون مستعدّة لتقديم مشروع شامل يضمن استعادة هذه الموارد لأبناء الشعب السوري، مع تعزيز التنسيق مع القوى الدولية لتقليص دور “قسد” وتحجيم وجودها في مناطق شمال شرقي سوريا لأن شكل سوريا الحالية بدون شرق الفرات وبدون السعي لإخراج كافة القوى والقواعد الأجنبية لا يعني أن البلاد تحرّرت بشكل كامل.


[1] بحسب بعض التقارير تسيطر “قسد” على أبرز حقول النفط السورية وأهمها حقل العمر، وكذلك أبرز حقول الغاز ومن أهمها: حقل كونيكو. كذلك تسيطر على أبرز الأراضي الزراعية التي تمثل السلة الغذائية لسوريا. يراجع:
[2] مما يجدر ذكره هنا أن “قسد” دأبت كثيراً على التنسيق مع نظام الأسد طوال فترة الثورة، فحاولت خلال معركة عفرين عام 2018 إدخاله لمناطق سيطرتها، وحصل نفس الأمر بعد معركة “نبع السلام” عام 2019، ما أدى لدخوله إلى مناطق في الحسكة والرقة ومنبج بريف حلب في مسعىً منها لعرقلة تقدم القوات التركية وفصائل المعارضة، ينظر مثلاً:
“قسد” تعلن اتفاقا مع النظام السوري لمواجهة “نبع السلام“، عربي 21، 13 / 10 / 2019، شوهد في: 12 / 12 / 2024
بالإضافة لذلك كانت هناك زيارات متكررة لقياديين في “قسد” إلى دمشق، يُنظر:
[4] مظاهرات وفوضى في دير الزور مع استمرار سيطرة “قسد“، الجزيرة نت، 9 / 12 / 2024، شوهد في: 11 / 12 / 2024
[5] المرجع السابق
[6] من مقابلة قام بها معد التقرير مع أحد المصادر المطلعة في دير الزور على مجريات ما حصل في المنطقة خلال الأسبوع الماضي.
[8] سبق أن أصدر مركز الحوار السوري تقارير حول حالات الغضب الشعبي التي تندلع ضد “قسد” في شمال شرقي سوريا، منها:
[9] كثيراً ما ندد المجلس الوطني الكردي بممارسات مليشيا “قسد” شمال شرقي سوريا، ينظر على سبيل المثال:
[10] كثيراً ما سعت “قسد” إلى تحقيق مشروع انفصالي في سوريا عبر السيطرة على كامل الشمال السوري وربط مناطق سيطرتها ببعضها، لكن مساعيها أُجهضت تماماً بعد عملية “درع الفرات” عام 2016 ثم عملية “غصن الزيتون” عام 2018 ثم “نبع السلام” عام 2019. وحتى بعد اقتصار سيطرتها على شمال شرق سوريا، فإنها بادرت إلى بعض الخطوات لتكريس حكمها الذاتي وانفصالها عن سوريا، خصوصاً مع إصدارها العقد الاجتماعي في أواخر عام 2023، ثم سعيها لإقامة انتخابات محلية من دون أن تنجح.
يُراجع: أحمد قربي ونورس العبد الله، العقد الاجتماعي الجديد في شمال شرق سوريا: رُؤى “قسدية” مغلَّفة بشرعية مفقودة، مركز الحوار السوري، 29/12/2023، شوهد في: 13/12/2024.
[11] على سبيل المثال: كانت وما تزال منصة مناصحة التي شُكِلت في ريف حلب الشمالي في مناطق قوى الثورة والمعارضة ما قبل سقوط نظام الأسد البائد.
[12] مثل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ومنظمة هيومن رايتس ووتش وغيرها من المنظمات التي وثقت انتهاكات مستمرة لقسد، يُنظر مثلاً:
شمال شرق سوريا: استمرار تجنيد الأطفال، هيومين رايتس ووتش، 2 / 10 / 2024، شوهد في: 11 / 12 / 2024

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى