الإصداراتالتقارير الموضوعيةوحدة الهوية المشتركة والتوافق

قراءة في بيانات اجتماع العقبة الخاص بسوريا: التمسك بتعويم الملف السوري

تقرير صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري

تمهيد:

منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011 بدأت سلسلة القرارات الدولية بأشكالها المختلفة بتحديد ورسم معالم الطريق لما اعتُبر حلاً سياسياً للقضية السورية، وأبرزها بيان جنيف 1، وقرار مجلس الأمن الدولي 2254، والتي اتسمت عموماً بتعبيرات عامة قابلة للتفسير المتعدّد بناء على المعطيات الميدانية، وخاصة بعد التدخُّل الروسي ودخول الثورة في مرحلة الانكسار العسكري، فجاءت مبادرات “خطوة مقابل خطوة ” كتتويج لمسارات التحوُّل الطويلة[1].

مؤخراً ومع التغيُّرات الكبرى على الأرض المتمثلة بتحقيق إدارة العمليات العسكرية عبر معركة “ردع العدوان” انتصاراً عسكرياً سريعاً خلال أيام معدودة أسفر عن إسقاط نظام الأسد، وخروج مُذلّ للمليشيات الإيرانية من سوريا؛ استمرت آلية التشاور الدولي حول سوريا كما جرت العادة في كل محطة مفصليّة، وهو ما أنتج بيانين اثنين: هما بيان العقبة[2] الذي صدر عن لجنة الاتصال العربية التي تضمّ كلاً من: المملكة الأردنية الهاشمية، وجمهورية العراق، والمملكة العربية السعودية، والجمهورية اللبنانية، وجمهورية مصر العربية، وأمين عام جامعة الدول العربية، وبحضور وزراء خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، الرئيس الحالي للقمة العربية، ودولة قطر، والبيان المشترك الذي ضم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ومجموعة الاتصال العربية بشأن سوريا والبحرين وفرنسا وألمانيا وقطر وتركيا والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي والمبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا[3]، الأمر الذي يستدعي قراءة مضامين هذه البيانات التي جاءت في مرحلة حاسمة من تاريخ سوريا، وفي بداية انطلاق مرحلة انتقالية شديدة الحساسية.

بناء عليه يسعى هذا التقرير لتحليل أبرز مضامين هذه البيانات بالمقارنة مع الوثائق الأساسية المعتمدة للحل السياسي في سوريا وهي: بيان جنيف1 وقرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015، والانطلاق من ذلك بالنظر إلى الإحالات عليها لمعرفة الدلالات التي تحملها الوثائق الجديدة.

تكمن أهمية رصد هذه البيانات ومضامينها باعتبارها مؤشراً على آليات التعاطي القادمة مع السلطة الجديدة في سوريا بعد إسقاط النظام البائد وأثر ذلك على السلطة في المرحلة الانتقالية، وأبرز الإجراءات المطلوبة للحدّ من التدخُّلات الدولية، وفي ذات الوقت القدرة على الحصول على المشروعية الداخلية والشرعية الدولية المطلوبة للاستقرار ومواجهة التحديات المختلفة.

أولاً- رسائل البيانين الضمنيّة: التدويل ما يزال قائماً

قبل الدخول في المضمون التفصيلي للبيانين الصادرين في العقبة، يرسل المكان والزمان وطبيعة المجتمعين وطبيعة البيانات الصادرة عدة رسائل، من أبرزها:

  • منذ انطلاق الثورة والمطالبة بإيجاد حل سياسي سوري- سوري، ورفض النظام البائد لأية خطوة في هذا المجال، تم تدويل الملف السوري مع وصوله إلى الجامعة العربية، ثم إلى أروقة الأمم المتحدة مع إعلان الأولى فشلها في التوصُّل إلى حل سياسي، وهذا ما شوهد عندما صدر بيان جنيف1 عام 2012 وتبعه قرار مجلس الأمن الدولي 2254[4].

يؤكد البيانان المشار إليهما أن الدول لم تُغيّر نظرتها وتعاطيها مع الملف السوري حتى بعد سقوط النظام البائد، فهي تصرُّ على تدويله، وإبقائه بيد الدول المعنيّة، وإن كانت نظرياً تؤكد أن الأمر بيد الشعب السوري، وأن العملية هي سورية بالكليّة.

  • استبعاد الحضور السوري ممثلاً بحكومة تصريف الأعمال أو الهيئات السياسية التقليدية “الائتلاف الوطني وهيئة التفاوض السورية” خصوصاً من اجتماع مجموعة الاتصال العربية التي بالأساس تضمّ سوريا يدلُّ على وجود توجُّه عربي-دولي إلى عدم الاعتراف القريب بالحكومة الجديدة واعتبارها الممثل الوحيد للشعب السوري، بما يشكّل ضغطاً وتحدّياً مستقبلياً أمام السوريين لتجاوز هذه المعضلة، وإن كان استمرار عمل بعض البعثات الدبلوماسية العربية القائمة في دمشق مثل: البعثات العمانية والبحرينية وغيرهما، وفتح بعثات دبلوماسية جديدة تركية وقطرية، قد يُفهم منه على أنه اعتراف ضمني بالحكومة الجديدة، إلا أنه حتى الآن لا يوجد أي تصريح مباشر من هذه الدول عبر مسؤوليها يتضمّن اعترافاً صريحاً وترحيباً بالعمل مع الحكومة الجديدة[5]، ولعل ما جاء في بياني العقبة يدل على ذلك، حيث جاء في بيان مجموعة الاتصال العربية: “أن التعامل مع الواقع الجديد في سوريا سيرتكز إلى مدى انسجامه مع المبادئ والمرتكزات أعلاه، وبما يضمن تحقيق الهدف المشترك في تلبية حقوق الشعب السوري وتطلُّعاته”. وفي البيان المشترك: “وشددوا على أن الفترة المقبلة ستكون بمثابة اختبار حاسم لهذه المبادئ المذكورة أعلاه. كما أكدوا على أهمية الالتزام بهذه المبادئ التي ستكون أساسية في تحديد نهجهم للمضي قُدماً”.
  • التعامل مع ما حصل على أنه واقع لا يُحقّق الانتقال السياسي، يشير إلى وجود إصرار من الدول بما فيها المؤيدة لهذا الواقع على التدخُّل في الشأن السوري من خلال مدخل “العملية السياسية”.

ثانياً- محددات العملية السياسية: التأكيد على المخرج السياسي وليس الميداني

جاء بيان لجنة الاتصال العربية ليؤكد على دعم عملية انتقالية سلمية سياسية سورية-سورية جامعة، تتمثّل فيها كل القوى السياسية والاجتماعية السورية، وبما فيها المرأة والشباب والمجتمع المدني بعدالة، وترعاها الأمم المتحدة والجامعة العربية، ووفق مبادئ قرار مجلس الأمن رقم 2254 وأهدافه وآلياته، في حين أكد البيان المشترك للمجموعة +الدول المعنية، على إنتاج حكومة شاملة وغير طائفية وتمثيليّة يتم تشكيلها من خلال عملية شفّافة تستند إلى مبادئ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.

لم يكن هنالك جديد بهذا الخصوص في البيانين السابقين، فهما أكّدا على ما جاء في بيان جنيف1  الذي أكّد على مبدأ الانتقال السياسي من خلال التركيز على أن التسوية السياسية يجب أن تُفرز عملية انتقالية تتيح منظوراً مستقبلياً يتوافق عليه السوريون، في جوٍّ يكفل السلامة للجميع، ويتصف بالاستقرار ويحظى بالمصداقية، مع خطوات وجدول زمني واضح، وهو ما جاء النص عليه بصورة أو بأخرى في قرار مجلس الأمن 2254 الذي نصّ على أن تكون العملية السياسية بقيادة سورية، وأن تكون جامعة وتُلبّي تطلُّعات الشعب السوري بسبل منها إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تُخوَّل سلطات تنفيذية كاملة، وتعتمد في تشكيلها على الموافقة المتبادلة، مع كفالة استمرارية المؤسسات الحكومية.

يظهر مما سبق تمسُّك الدول بمنطق الانتقال السياسي بغضّ النظر عن التطوّر الميداني وإسقاط نظام الأسد، فمع إدراج النظام البائد كطرف في المعادلة في بيان جنيف 1 والقرار 2254، يعني أن هنالك رغبة دولية في التمسُّك بالأدوات مع تغيير التوصيف؛ فما كان نظاماً سيصبح معارضة، وما كان معارضة أصبح “واقعاً جديداً”.

إن التعامل مع الواقع الجديد من دون الاعتراف به كانتقال سياسي أو تغيير سياسي، يعني بأن هنالك مساراً أمميّاً يفترض أن ينطلق لإدارة المرحلة الانتقالية وفق المضمون نفسه وربما الأدوات نفسها مع تغيير في مواقع الأطراف السورية، بما يعنيه ذلك أن الدول ربما ستستمرّ في ممارسة الضغط على السلطة الجديدة من خلال استمرار بعض العقوبات وربما زيادتها لاحقاً من جهة، وعدم إدماج السلطة في المجتمع الدولي والاعتراف بها من جهة أخرى، ولذلك يبدو من المهم خلال الفترة القريبة القادمة إعلان برنامج واضح من قبل السلطة الجديدة في دمشق من أجل الانتقال إلى المرحلة الانتقالية بما يتوافق ومحددات بيان جنيف1 التي يمكن بالفعل أن تكون مُحدّدات أساسية للمرحلة القادمة، ولكن في هذه الحالة تكون المبادرة سورية وداخل البيت السوري بعيداً عن التدخُّلات الخارجية، ينتج عنها إنشاء حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات تقود المرحلة وتحظى بأكبر تأييد من السوريين وتقطع الطريق أمام الضغوطات الخارجية.

ثالثاً- الحفاظ على مؤسسات الدولة: التخلّي عن فكرة الجيش والأمن

لطالما تمسّكت البيانات والقرارات الدولية وبضغط من حلفاء نظام الأسد بشكل رئيس على فكرة الحفاظ على مؤسسات الدولة بوصفها لا تُمثّل نظام الأسد بما في ذلك مؤسسات الجيش والأمن والتي كانت بالأصل أبرز المؤسسات التي توجّهت لقتل السوريين وتدمير المدن والبلدات، وشكلت تاريخياً الأداة الرئيسة لنظام الاستبداد البائد.

إلا أن الواقع الميداني بعد الانتصار العسكري ومسارعة إدارة العمليات العسكرية للإعلان بحلّ الجيش عملياً  بعد هزيمته[6]، والإعلان عن التوجُّه إلى حلّ الأجهزة الأمنية، وإعلان العفو عن الأفراد وفتح باب التسويات الفردية ألقى بظلاله على هذه الفكرة التي أصبحت غير ممكنة، وعليه توجّه بيان لجنة الاتصال العربية للنص على ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية وتعزيز قدرتها على القيام بأدوارها في خدمة الشعب السوري، وهو ما يشير للبنى الإدارية التي تم الحفاظ عليها أصلاً، وعلى هذا النحو جاء البيان المشترك، فيما أضاف بيان لجنة الاتصال العربية الدعوة لتميكن جهاز شرطي لحماية المواطنين وممتلكاتهم ومقدرات الدولة السورية، وهو ما يظهر التركيز على منع الأعمال الانتقامية وموجات نزوح من قبل شبيحة النظام البائد.

نعتقد أن خطوة حكومة تصريف الأعمال بالمحافظة على البنية الإدارية للمؤسسات الخدمية، هي خطوة في الطريق الصحيح ويجب استمرارها على اعتبار أن مشكلة السوريين لم تكن يوماً مع هذه المؤسسات، وإنما مع المؤسسات التي كانت مختطفة من نظام الأسد، وكانت أداته لمواجهة الشعب وتحقيق مصالح النظام بعيداً عن المصلحة الوطنية السورية، ولكن هذا لا يعني عدم محاسبة بعض الشخصيات وإخراج أخرى حتى تلك التي تخدم في جهاز الدولة مثل: المحافظين وكبار الشخصيات الدبلوماسية ..إلخ، ممن ثبت أن ولاءها كان لنظام الأسد وليس للشعب السوري.

رابعاً- قضايا مكافحة الإرهاب: الذريعة المستمرة بطرق قابلة للتفسير والتفاوض

على الرغم من أن فكرة الإرهاب لم تكن متداولة دولياً حول سوريا كأحد القضايا الجوهرية مع انطلاق الثورة السورية، فإن نظام الأسد وحلفاءه نجحوا من خلال التركيز على قضية الإرهاب في جعلها الذريعة الأبرز في المساحة الدولية السياسية تدريجياً، إذ لم يتضمن بيان جنيف 1 قضية مكافحة الإرهاب، بينما برزت في قرار مجلس الأمن الدولي 2254 الذي نصّ على: “منع وقمع الأعمال الإرهابية التي يرتكبها على وجه التحديد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وجبهة النصرة، وسائر الأفراد والجماعات والمؤسسات والكيانات المرتبطين بتنظيم القاعدة وغيرها من الجماعات الإرهابية، على النحو الذي يعينه مجلس الأمن”.

أتى بيان لجنة الاتصال العربية والبيان المشترك باستحضار مفردات مكافحة الإرهاب دون تحديد معانيه، وهو ما يفتح الباب أمام الابتزاز السياسي المستمر لجهة تصنيف “هيئة تحرير الشام”، ومن جانب آخر يمكن للمعيار العام أن يطال تنظيم العمال الكردستاني وذراعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي PYD وهو ما تُركّز عليه تركيا باستمرار، الأمر الذي يقتضي الإسراع في حل “هيئة تحرير الشام”، وذوبانها مع بقية الفصائل في بنية الجيش السوري المستقبلي بما يسحب الذريعة من الدول في استخدام هذه الوسيلة للضغط على السوريين[7].

خامساً- العودة الطوعية والآمنة: متطلبات البيئة الآمنة

ركزت البيانات الأخيرة على قضية عودة اللاجئين والنازحين (بيان اللجنة العربية) وحرية حركة النازحين والعائدين (البيان المشترك) في تأكيد على تهيئة الظروف المناسبة وتقديم العون لهم وإبراز دور الأمم المتحدة في ذلك، حيث تم التركيز على الظروف الأمنية والحياتية والسياسية، وهو ما يُشكّل استمراراً للنهج القائم في قرار مجلس الأمن 2254 الذي ركّز على تأهيل المناطق المتضررة، وهو ما غاب عن بيان جنيف 1 كأمر طبيعي نظراً لسياقه الزمني.

يُمثّل ماسبق نقطة إيجابية لجهة وجود دعم لعمليات العودة الطوعية والآمنة للسوريين مع ارتباط ذلك بالتقييم اللاحق للظروف العامة في سوريا بما فيها السياسية، وهو ما يرتبط كحال الفترات السابقة بقضايا الأمن الشخصي وشكل الحكومة وطريقة تشكيل السلطة، وهو ما يفتح الباب أمام الإدارة الجديدة في دمشق للتعاون مع الدول المعنيّة لتيسير عودة اللاجئين والاستفادة من الدعم الدولي في إعادة الخدمات[8].

سادساً- العدالة الانتقالية: الحضور بمعايرة أمميّة

 مع صدور بيان جنيف1 عام 2012 وفي مرحلة تراجع نظام الأسد البائد جرى التركيز على مفهوم العدالة الانتقالية عبر التركيز على الالتزام بالمساءلة والمصالحة الوطنية، وإعداد مجموعة شاملة من أدوات العدالة الانتقالية، بما فيها التعويض، غير أن القرار 2254 الذي جاء في ظل حضور روسي قوي في سوريا تغافل عن النص الصريح عن هذه القضايا.

ومع انطلاق المرحلة الانتقالية الحالية عاد مفهوم العدالة الانتقالية للحضور في بياني اللجنة العربية والمشترك على حدّ سواء، حيث ركز الأول على منطق المصالحة والمعيرة الأممية وإبعاد الجوانب الانتقامية، وهو ما يُشير الى رغبة هذه الدول بحضور منطق إجراء تسويات مع الماضي أكثر من التركيز على التعمُّق به ومواجهة الانتهاكات، فيما جاء البيان المشترك ليُركّز على المساءلة وكشف مصير المفقودين بما فيهم الأجانب.

يُشير ماسبق إلى تركيز الدول على طبيعة المنطق العام للعدالة الانتقالية في سوريا، وهو ما يتطلّب من السلطة الحالية الشروع بمشاورات واسعة وخاصة مع القوى المدنية وذوي الضحايا لرسم معالم العدالة المطلوبة واستثمار الرأي العام الدولي لملاحقة كبار المجرمين بما يساهم في تحقيق الاستقرار وضمان عدم عودة الانتهاكات مجدداً في سوريا الجديدة.

سابعاً- تسليم الأسلحة الكيماوية أحد شروط التعامل مع “الواقع الجديد”:

على الرغم من أن قضية الأسلحة الكيماوية لا تدخل لا من قريب ولا من بعيد بالعملية السياسية، وهذا واضح من خلال أن القرار 2254 لم ينصّ على هذه القضية، إلا أن البيان المشترك الذي صدر عن اجتماع العقبة بمشاركة الحكومات الغربية إلى جانب تركيا، نصّ صراحة على عكس بيان العقبة الخاص بمجموعة الاتصال العربية على هذا الملف، حيث جاء فيه: “تأمين مخزونات الأسلحة الكيميائية على نحو آمن”.

إن إدراج البيان المشترك لهذا الملف على الرغم من عدم اتصاله بمسار الحل السياسي يشير إلى التوجّه العام لدى بعض الدول من أنها تريد تحصيل أكبر قدر ممكن من التنازلات من الإدارة الجديدة مقابل الاعتراف بها رسمياً، فمن حيث الأساس فإن الجمهورية العربية السورية ملزمة بموجب قرار مجلس الأمن 2118 بالتعاون مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بما يؤدي إلى تدمير مخزون سوريا من الأسلحة الكيماوية وكل ما يرتبط بذلك من مواد وأدوات وآليات، وبالتالي لا يفهم ربط هذه القضية بمسار الحل السياسي إلا على أنها وسيلة ضغط إضافية على الإدارة الجديدة.

خاتمة:

تشير مختلف هذا التحركات الدولية إلى إصرار الدول على إبقاء الملف السوري مُدوّلاً، خصوصاً أن هنالك بعض الجهات السورية -للأسف- لديها استعداد للتعاطي الإيجابي مع هذه التحرُّكات مقابل حجز مقاعد لها في أي حكومة سوريّة قادمة، وحتى ولو على حساب المصلحة الوطنية السورية، وربما هذا سيزيد الضغوط بشكل أكبر على الإدارة الجديدة في دمشق للتعاطي بشكل إيجابي مع هذه التحركات، خصوصاً أن موقفها ما يزال ضعيفاً سياسياً واقتصادياً[9]؛ فحتى الآن لا توجد دولة اعترفت بالإدارة الجديدة رسمياً بما في ذلك تركيا وقطر وإن كانت الأخيرة قد اتخذت خطوات ضمنية في هذا المجال، وما تزال العقوبات على سوريا قائمة أوروبياً وأمريكياً، فضلاً عن استمرار تصنيف “هيئة تحرير الشام” وقائد غرفة “إدارة العمليات العسكرية” أحمد الشرع على لوائح الإرهاب الدولية التي لم يطرأ عليها أي تعديل حتى الآن.

يُظهِر تحليل المضامين السابقة عند مقارنتها ببيان جنيف 1 والقرار 2254 وجود رغبة دولية بتجاهل التغيرات الميدانية لحساب التمسُّك بالرعاية الدولية والأممية للتسوية النهائية في سوريا رغم سقوط النظام البائد ورغم أن بعض الدول بما فيها جزء من المجتمعين في العقبة، قد تنازلوا عن التمسُّك بالقرار 2254، وسعوا إلى تعويم النظام البائد أوروبياً وعربياً، وهو ما يشير إلى أهمية إدراك قوى الثورة السورية عموماً والإدارة الحالية على وجه الخصوص لحساسية المرحلة، وأهمية المبادرة لإطلاق مسار انتقالي سوري-سوري بعيداً عن التدخُّلات الخارجية، ويتوافق مع معايير وفلسفة بيان جنيف1 وهي: “الشمولية، الحوكمة، المساءلة والشفافية، استعادة الاستقرار، برنامج واضح قابل للتنفيذ”.

إن القيام بالخطوات السابقة بمبادرة من الإدارة الجديدة لن يُفهم سوريّاً على أنه استجابة الضعيف للضغوط الخارجية، بل هو احتياج سوري أساساً وقبل كل شيء، خصوصاً أن التجارب السابقة وعلى مدى 14 عاماً علمتنا أن الانتصارات العسكرية يمكن أن تصبح من الماضي إن لم تُتوَّج بمكاسب سياسية تُحقّق أولاً مطالب السوريين في دولة العدالة والمساواة التي تنهي للأبد دولة الاستبداد والظلم.  

 

ملحق يوضّح أبرز مضامين العملية السياسية في البيانات الجديدة مقارنة بالقرارات الدولية

البيان / القرار
حضور الانتقال السياسي
الحفاظ على مؤسسات الدولة
مكافحة الإرهاب
عودة اللاجئين والنازحين
العدالة الانتقالية
بيان لجنة الاتصال العربية
حكومة شاملة
الحفاظ على المؤسسات ودعمها
وتمكين جهاز شرطة
تعزيز جهود مكافحة الإرهاب
تهيئة الظروف الأمنية والحياتية والسياسية
المصالحة وعدم الانتقام
البيان المشترك
عملية انتقال سياسية
سورية-سورية جامعة
الحفاظ على المؤسسات التي تخدم مصالح الشعب السوري
مكافحة الإرهاب والتطرف
حرية حركة النازحين والعائدين
المساءلة وكشف المصير
القرار 2254
إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تُخوَّل سلطات تنفيذية كاملة
الحفاظ على المؤسسات
منع وقمع الأعمال الإرهابية للجماعات المصنفة
تهيئة الظروف المواتية للعودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين
لا يوجد
بيان جنيف 1
خطوات محددة جامعة للسوريين
الحفاظ على المؤسسات يما فيها الجيش والأمن
لا يوجد
لا يوجد
المصالحة والمساءلة

[1] يجدر بالذكر في هذا السياق أن مركز الحوار السوري أصدر العديد من الأوراق والدراسات المتعلقة بمسار الحل السياسي في سوريا، كما أصدر في عام 2022 كتاباً بعنوان “مسار الحل السياسي في سوريا.. خطة مسير متغيرة ومسار بلا وجهة”، حيث سعى من خلاله إلى تلخيص ما يقارب عقداً كاملاً من التطورات السياسية في سوريا والتحولات التي طرأت على مسار الحل السياسي في سوريا ودراسة العوامل التي أثّرت في هذه التحولات، يُنظر:
[2] البيان الختامي لاجتماع أعضاء لجنة الاتصال الوزارية العربية بشأن سوريا، وزارة الخارجية العراقية، فيسبوك، 14/12/2024، شوهد في: 16/12/2024.
[3] بيان مشترك بشأن سوريا، وزارة الخارجية الأمريكية، 14/12/2024، شوهد في: 16/12/2024.
[4] ثمة دلائل متعددة على تدويل الملف السوري واستبعاد السوريين من تقرير مصيرهم، حيث أن جميع البيانات التي صدرت بخصوص سوريا الأجنبية منها والعربية، كان بعيداً عن مشاركة السوريين سواء من طرف النظام البائد أو من طرف قوى الثورة والمعارضة، مثل بياني فيينا 1-2 عام 2015، وبيان ميونيخ عام 2016.
[5] عرف مجمع القانون الدولي الاعتراف بالحكومة بأنه: “التصرف الحر الذي يصدر عن دولة أو عدة دول للإقرار بوجود سلطة أو حكومة معينة قادرة على حفظ الأمن وتمثيل الدولة القائمة في المجموعة الدولية والقيام بجميع التزاماتها تجاه الدول”.
من أبرز آثار الاعتراف بالحكومات هو تأثيرها على العلاقات الدولية لا سيما فيما يتعلق بنشاط البعثات الدبلوماسية، فإذا اعترفت الدول بالحكومة الجديدة اعترافاً مباشراً لا يتأثر التبادل الدبلوماسي أبداً، أما في حال التريث، فإنه يفسر عادة على أنه عدم اعتراف مباشر بالحكومة القائمة، وبالتالي إيقاف السلك الدبلوماسي لمهامه.
ينظر: أمير ناصر، تغير الحكومات بالطرق غير الدستورية في ضوء قواعد القانون الدولي، مجلة الحقوق، العدد4، الجزء 1، 2020، ص341 وما بعدها.
[6] هنالك تصريحات من قائد غرفة “إدارة العمليات العسكرية” أحمد الشرع بأنه سيتم حل الجيش، وكذلك من الإدارة السياسية، إلا أنه لم يصدر قرار رسمي بذلك حتى الآن.
[7] الإبقاء على فكرة مكافحة الإرهاب تحت الفصل السابع يعطي مجالاً للدول لإمكانية التدخل العسكري في سوريا، خصوصاً إذا ما ظهرت “داعش” وقامت بأي هجوم أو تحرك ضمن الأراضي السورية مع التنويه أن الولايات المتحدة الأمريكية ما تزال تحتفظ بوجودها في شمال شرق سوريا تحت هذه الحجة. 
[8] على الرغم من أنه لم يصدر من الدول الأوروبية أي تصريح بانتهاء مسببات قبول اللجوء السوري، وبالاعتراف بالحكومة الجديدة، فإن بعض الدول الأوروبية سارعت إلى تقديم بعض الحوافز والمغريات لمن يود العودة إلى سوريا، فضلاً عن أن غالبية الدول أصدرت قرارات بتعليق بحث طلبات اللجوء السوري.
ينظر: دول أوروبية تعلق طلبات لجوء السوريين وتستعد لترحيلهم، الجزيرة نت، 9/12/2024، شوهد في: 16/12/2024، الدنمارك تخصص 27 ألف يورو لمن يعود إلى سوريا، عنب بلدي، 14/12/2024، شوهد في: 16/12/2024.
[9] لابد من التنويه إلى أنه حتى لحظة تحرير هذا التقرير لم يصدر أي تصريح أو بيان من الإدارة الجديدة بخصوص بياني العقبة.

مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري، يحمل شهادة الدكتوراه في القانون العام من جامعة حلب، وحائز على اعتمادية المعهد العالي للحقوق في الشرق الأوسط، وعمل سابقاً مدرساً في كلية الحقوق في جامعة حلب الحرة. يركز في أبحاثه الحالية على دراسة ديناميكيات العلاقة بين المجتمع السوري والنصوص القانونية والدستورية منها على وجه التحديد.

صحفي سوري ومساعد باحث في وحدة التوافق والهوية المشتركة، تتركز اهتماماته البحثية على سياسات القوى المحلية والفاعلة في الملف السوري، شارك بإنجاز العديد من الأوراق البحثية المتعلقة بالحراك السوري وكتب العديد من التقارير التحليلية.
عمل في مجال كتابة تقارير المعلومات في الصحافة الالكترونية وإعداد النشرات التلفزيونية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى