الإصداراتالتقارير الموضوعيةوحدة الهوية المشتركة والتوافق

دمج الفصائل العسكرية في الجيش السوري الجديد: بين التحديات والفرص

تقرير صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري

تمهيد:

مع سقوط نظام الأسد برزت فرصٌ كبيرةٌ لإعادة بناء الدولة السورية؛ لكنّ التحديات المصاحِبة لهذا التحوّل التاريخي ليست قليلة، وهو أمرٌ طبيعيٌّ مقارنةً مع دولة سُلبت كلّ مقدرتها طوال نصف قرن لصالح عائلة المخلوع الهارب.

مع انهيار جيش نظام الأسد البائد طفت على السطح قضية إعادة بناء المؤسسة العسكرية في سوريا على عقيدة وطنية بعيدة عن التجاذبات، لاسيما وأن هذه الخطوة تعدُّ حاسمة وأساسية لاستعادة الأمن وضبط السلاح، في ظل وجود عشرات الفصائل العسكرية التي تشير التجارب السورية السابقة منها والمقارنة إلى أن دمجها في منظومة عسكرية واحدة ليس بالأمر السهل، الأمر الذي يطرح كثيراً من التساؤلات حول التحدّيات التي تحول دون تحقيق الاندماج، وأفضل السُّبل لتجاوزها.

ثمّة مؤشرات إيجابية تسرّبت عقب لقاءات جرت مؤخراً بين قيادات الفصائل والإدارة السورية الجديدة[1]؛ إلا أن وجود بعض العوامل المرتبطة بتفاعلات تنظيمية وأيديولوجية ومناطقيّة قد تجعل من هذا الدمج عملية صعبة، وليس كما يُتصوّر من كونها يسيرة يمكن إنجازها في وقت قصير.

يهدف هذا التقرير إلى استعراض التحديات القائمة أمام عملية دمج الفصائل في جيش سوري مُوحَّد، عبر استعراض بعض التجارب الشبيهة في السياق العربي (التجارب اليمنية والليبية والسودانية) في القسم الأول، ثم توضيح مواقف الفصائل من فكرة الاندماج في وزارة الدفاع في القسم الثاني؛ ثم نقف في القسم الثالث على التحديات التي قد تصعّب عملية الدمج، يقابلها في القسم الرابع العوامل التي قد تسهّل عملية الاندماج؛ ويختم التقرير ببعض الإضاءات حول إمكانية تطبيق برامج DDR (الحل والتأهيل وإعادة الدمج) في الحالة السورية[2].

أولاً: نماذج عربية مشابهة لمحاولات توحيد المؤسسة العسكرية؛ تجارب غير مُشجّعة:

تشير النماذج المشابهة للسياق السوري إلى أن التخلُّص من الحالة الفصائلية وبناء مؤسسة عسكرية ليس بالأمر اليسير، لاسيما وأن غالبيتها لم يُكتب لها النجاح حتى الآن، كما في الحالات اليمنية والليبية والسودانية.

– النموذج اليمني:

يُمثّل ما جرى في اليمن بعد الإطاحة بعلي عبد الله صالح مثالاً على تعقيد دمج الفصائل المسلحة؛ فقد أدّى تعدُّد الولاءات الأيديولوجية والمناطقية بعد الثورة على نظام علي صالح إلى نزاع طويل، وفشلت الجهود في توحيد الجيش بسبب الانقسام المجتمعي والسياسي الذي انعكس بدوره على مؤسسة الجيش وعلى الفصائل المسلحة الأخرى[3]، إلى جانب اختلاف المصالح وغياب الثقة بين الأطراف، إضافة إلى التدخلات الإقليمية التي زادت من تعقيد المشهد، وأصبحت المناطق اليمنية مقسّمة بين سلطات متناحرة؛ مما جعل من إعادة بناء الدولة اليمنية تحدّياً كبيراً في ظل غياب قوة وطنية مُوحَّدة[4].

– النموذج الليبي:

بعد سقوط نظام معمّر القذافي بات كل فصيل تقريباً حامياً لمنطقته أو لجماعته، مما أدى إلى غياب سلطة مركزية قادرة على فرض النظام والسيطرة على السلاح، كما تفاقم الوضع مع التدخُّلات الخارجية، وهذا ما أدى إلى صعوبة بناء جيش وطني موحّد، لاسيما مع انعدام الثقة بين الفصائل وتباين أيديولوجياتها وعدم وجود رؤية موحّدة[5]، وهو ما انتهى بليبيا إلى انقسام حادّ ممثل بحكومتَين في ليبيا شرقاً وغرباً[6].

لم تكن مشكلة الفصائل العسكرية مقتصرة على ما تقدم، وإنما كان هناك انقسام قبليّ وسياسيّ حتى داخل الشرق والغرب نفسه، فعلى سبيل المثال: كانت الفصائل العسكرية التابعة لحفتر منقسمة قسمَين؛ الأول: قائم على نظام الرعاية القبلية البدوية الذي يُقدِّم لقياداته وعناصره امتيازات اجتماعية واقتصادية بما يضمن ولاءهم، والثاني: قائم على البُعد العائلي-الديني الذي يهدف إلى السيطرة على القسم الأول، وهو بمثابة حرس رئاسي يكون ولاؤه المطلق لحفتر[7].

– النموذج السوداني:

واجه السودان تحدياتٌ كبيرةٌ في دمج الحركات المسلحة في الجيش بعد الإطاحة بنظام عمر البشير عام 2019، ورغم توقيع اتفاقيات سلام مع عدد من الجماعات المسلحة إلا أنه لم تُنفِّذ البنود المتعلقة بالإدماج بشكل كامل، ويعود الأمر بذلك إلى عوامل عدة، أبرزها: غياب الإرادة السياسية، ونقص الموارد لإعادة تأهيل المقاتلين، والاختلافات الأيديولوجية. إلى جانب رغبة قيادات الجيش في استمرار هيمنتهم الاقتصادية والسياسية على الحياة العامة، وترافق ذلك بتدخلات خارجية أجّجت المشاكل الموجودة أصلاً، ولعلّ هذا ما أدى إلى انزلاق البلاد في حالة الحرب الأهلية التي تجري بين الجيش ومليشيات مسلحة أبرزها “الدعم السريع” التي تنامى دورها، لاسيما مع الحديث عن تلقّيها دعماً من بعض الدول[8].

ثانياً: إطلالة على مواقف أبرز الفصائل العسكرية تجاه الاندماج في وزارة الدفاع[9]:

أجرت قيادة العمليات العسكرية ممثلة بقائدها أحمد الشرع لقاءات متعددة مع مختلف الفصائل العسكرية السورية من أجل مناقشة آليات دمجها ضمن وزارة الدفاع. وعلى الرغم من أن غالبية الفصائل _إن لم نقل كلها_ قد التقت مع قيادة العمليات، وكان ثمّة حرص واضح على نشر الصور الجماعية التي التُقطت لتلك اللقاءات؛ في مؤشرٍ على رغبة القيادة والفصائل بإرسال رسائل إيجابية بخصوص موافقة الفصائل على تسليم سلاحها والاندماج في الوزارة؛ إلا أن قلة من الفصائل أو قياداتها أعلنت عن موقفها فيما يخصّ موضوع الاندماج.

عموماً يبدو أن مواقف الفصائل العسكرية من الاندماج في وزارة الدفاع يمكن تلخيصه بالآتي:

  • هيئة تحرير الشام: باعتبار أن قيادة إدارة العمليات العسكرية هي للهيئة التي تتولى عملياً ورسمياً الإدارة السياسية، وتم تعيين وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان من قياداتها، كما أن غالبية الشخصيات التي تم تعيينها في وزارة الدفاع ومنحها الرتب العسكرية منها أيضاً؛ فهي تُعد حجر الأساس في مشروع الاندماج؛ ولذا فهي تسعى لإقناع بقية الفصائل العسكرية بحلّ نفسها بعد ضمانها أن قيادة الجيش ووزارة الدفاع بيدها.
  • فصائل الجبهة الوطنية للتحرير؛ وتضمّ عدة فصائل من أبرزها فيلق الشام وحركة أحرار الشام وجيش الأحرار وجيش العزة: يتضح من خلال المؤشرات العملية أنها موافقة على الانخراط في وزارة الدفاع، لاسيما وأنها جزء من غرفة إدارة العمليات العسكرية، وباشرت باستلام مواقعها العسكرية حول العاصمة دمشق بأوامر من قائد الإدارة الجديدة أحمد الشرع، فضلاً عن أن بعض قيادات فصائلها كانوا في رأس قائمة التعيينات الجديدة في وزارة الدفاع.
  • فصائل الجيش الوطني: دُعيت فصائل الجيش الوطني إلى دمشق للاجتماع مع الإدارة الجديدة كفصائل متعددة، لا كفيالق. والموقف العام لهذه الفصائل هو التفاعل الإيجابي مع فكرة الاندماج رغم وجود اختلافات في حجم التفاعل وفق الآتي:

تأتي الجبهة الشامية في مقدمة الفصائل المتفاعلة إيجابياً مع مشاركتها فعلياً ضمن غرفة إدارة العمليات العسكرية، وتعيين قائدها محافظاً لمدينة حلب، وتوجه القيادة الجديدة لتعيين بعض أعضاء مجلس الشورى الخاص بها كقيادات استشارية شرفية، وفي ظل وجود قرار ضمني وغير معلن لدى قيادتها في الاندماج في وزارة الدفاع.

تأتي القيادة المشتركة “فرقة الحمزة وفرقة سليمان شاه “العمشات” وكذلك فرقة السلطان مراد في الدرجة الثانية، والتي كانت آخر من التقت قائد الإدارة الجديدة، من حيث إظهار رغبتهم في الاندماج ضمن وزارة الدفاع؛ فالفصيلان الأولان قاما بسحب ممثليهما من الائتلاف الوطني بعد اجتماعهما مع قائد إدارة العمليات أحمد الشرع، وسلّمت فرقة السلطان مراد معبر الراعي للإدارة الجديدة.

أما بقية فصائل الجيش الوطني[10] فهي تنتظر تفاصيل خطة الاندماج لتحدد موقفها بشكل نهائي.

مع الإشارة هنا إلى أنه قد يُؤخَّر دمج فصائل الجيش الوطني في وزارة الدفاع ريثما يتم الانتهاء من ملف “قسد”، وهذا عامل مهم ربما يكون له أثره، بغضّ النظر عن مواقف الفصائل نفسها.

  • فصائل حوران؛ وتتضمن غرفتَي فتح دمشق وعمليات الجنوب التي يُعد أحمد العودة أبرز قيادييها[11]: فهذه الفصائل لم تُبدِ أي موقف بخصوص الاندماج، كما أنها لم تحضر في الاجتماع الذي أُعلن أنه كان مخصصاً لاجتماع الاندماج[12].
  • فصائل السويداء ممثلة بـ “رجال الكرامة” و”لواء الجبل” أكبر الفصائل العسكرية المسلحة: أعلنت في بيان مشترك أنهما “كأكبر فصيلَين عسكريين في السويداء استعدادهما الكامل للاندماج ضمن جسم عسكري ليكون نواة للانضواء تحت مظلة جيش وطني جديد هدفه حماية سوريا”، وأكّدا رفضهما بشكل قاطع “أي جيش فئوي أو طائفي يستخدم أداة بيد السلطة لقمع الشعب كما كان حال جيش بشار الأسد”[13]؛ مما يشير إلى اتخاذها خطوة واضحة في قبول الاندماج في ظل انتشار شائعات سابقة مشككة في نية فصائل السويداء، لاسيما بعد رفضها السماح لرتل عسكري من إدارة العمليات بدخول السويداء[14].
  • جيش سوريا الحرة: الذي يتركز في قاعدة التنف؛ وقد ذُكر أنهم لم يُدعوا إلى الاجتماع[15].
  • مليشيات “قوات سوريا الديمقراطية-قسد”: لم تتم دعوتها للاجتماع، مع وجود أنباء عن اجتماع وفد منها مع الإدارة الجديدة[16].

ثالثاً: التحديات التي قد تعترض اندماج الفصائل في وزارة الدفاع:

ثمّة كثير من التحديات الذاتية والموضوعية التي تشير إلى إمكانية صعوبة اندماج الفصائل السورية في مؤسسة وزارة الدفاع، نلخصها بالآتي:

– المخاوف من فقدان المكتسبات:

تخشى بعض قادة الفصائل من أن يؤدي الدمج إلى فقدانهم نفوذهم ومكتسباتهم التي حققوها خلال السنوات الماضية، لاسيما وأن لغالبية الفصائل تاريخاً من الصدامات مع بعضها بسبب الصراع على النفوذ، مما قد يجعل مسألة الثقة فيما بينها تحدّياً يحتاج تقديم ضمانات بعدم تجاوز مكتسباتها، وألا يكون نزع السلاح منها فرصة لتقوية فصيل على حساب آخر.

في المقابل قد تكون موافقة بعض الفصائل على الانضمام إلى وزارة الدفاع مدفوعة برغبتها في تحقيق مكاسب سياسية أو عسكرية تضمن لها موقعاً مؤثراً داخل المؤسسة العسكرية مستقبلاً، وهذا التوجه قد ينبع من إدراك تلك الفصائل أهمية وجودها في الجيش السوري الجديد كوسيلة لتعزيز نفوذها، بدلاً من أن تُقصى تماماً من المشهد، الأمر الذي قد يُثير مخاوف من أن يتحوّل الاندماج إلى ساحة صراع داخلي على النفوذ، بدلاً من أن يكون خطوة نحو بناء مؤسسة عسكرية متماسكة تقوم على أسس وطنية.

– التأثيرات الخارجية المحتملة:

قد ينطبق هذا الأمر على عدة كيانات عسكرية، من أبرزها:

  • فصائل جنوب غربي سوريا: معظم فصائل المنطقة الجنوبية لا تتبع فعلياً لإدارة العمليات العسكرية، ولكن البيانات الصادرة عن بعضها تشير إلى أنها موافقة على الاندماج وتسليم السلاح الثقيل[17]، بينما غاب عن المشهد القيادي في فصائل الجنوب أحمد العودة ولم يُظهِر موقفه من قضية الاندماج رغم أنه التقى الشرع يوم 13 ديسمبر؛ مما قد يشير إلى أن الموقف الصادر من بعض الفصائل حول الاندماج لا يُعبّر عن كل التكتلات العسكرية في المنطقة الجنوبية، لاسيما وأن العودة يُعرف بقربه من الجانب الروسي الذي أشرف على اتفاق “التسوية” في عام 2018، وبات يد روسيا الضاربة في الجنوب منذ ذلك الوقت[18]، وهو ما قد يشير إلى تأثيرٍ روسيٍّ محتملٍ في موقفه.
  • فصائل الجيش الوطني السوري: من المعلوم أن الجيش الوطني السوري في شمال سوريا يتلقى الدعم من الجانب التركي، ولا يزال يخوض معارك مع مليشيات “قسد” في عدة محاور شمال شرقي سوريا، الأمر الذي قد يُعرقل عملية تسليم السلاح والانضمام إلى وزارة الدفاع، لاسيما وأن تركيا مُصرّة على إنهاء “قسد”، بينما لم يُظهِر الشرع رغبة في قتال “قسد” مع تلقّيها الحماية الأمريكية، وكل ذلك يعني أن الجيش الوطني السوري قد يكون خارج وزارة الدفاع إلى حين الانتهاء من ملف “قسد”.
  • فصائل قوات “شيخ الكرامة” في السويداء: تتمركز قوات “شيخ الكرامة” إلى جانب بعض الفصائل من المكوّن الدرزيّ في منطقة السويداء وريفها، وهي كذلك لم تكن حاضرة اجتماعات الشرع مع قادة الفصائل بخصوص الاندماج، وبغضّ النظر عما إذا دُعيت للاجتماع أم لم تُدع فإن الثابت أنها لا تتبع لإدارة العمليات العسكرية، كما منعت فصائل السويداء رتلاً لإدارة العمليات من دخول السويداء بحجة عدم التنسيق، في أول احتكاك غير مباشر بين الطرفين[19]، وبعد الحادثة بيوم واحد قال شيخ الطائفة الدرزية حكمت الهجري: “إنه من المبكّر جداً الحديث عن تسليم السلاح”[20].

وجاء هذا الاحتقان رغم حصول اجتماع اعتُبر إيجابياً بين وفد من السويداء مرسَل من “حكمت الهجري” للقاء أحمد الشرع، دون التطرق لقضية نزع السلاح وتسليمه للسلطة الجديدة، بينما أشار قائد “تجمع أحرار جبل العرب” في السويداء إلى أن شروط السويداء هي إقامة دولة “ديمقراطية مدنية” وأن الشرع “رحّب” بهذا الموضوع[21]، ولكن في الوقت نفسه هنالك مخاوف من استخدام “إسرائيل” ورقة “حماية” الأقلية الدرزية ذريعة للتوغل في المنطقة[22].

  • جيش سوريا الحرّة: يتمركز في قاعدة التنف إلى جانب القوات الأمريكية، وبعد عمليات التحرير في سوريا شارك في السيطرة على عدد من المناطق الاستراتيجية في البادية السورية، ولم يُدعَ للاجتماع الأخير مع قادة الفصائل، ومع ارتباطه بالدعم الأمريكي والتوجهات بالحرب على داعش فقط فإن قرار نزع السلاح من الفصيل ربما يُشكّل تحدّياً.
  • عدم حسم ملف “قسد”:

مع استمرار الدعم الأمريكي لـ”قسد” فإنها لا تبدو في وارد التسليم لإدارة العمليات العسكرية، بل يظهر أنها تسعى لتحصيل مكاسب، ولعل هذا ما يظهر من تصريحات مظلوم عبدي الذي أعلن عن الموافقة على الانضمام إلى الجيش السوري الجديد ولكن ضمن شروط[23]، وهو ما يُدلّل على رغبة منه في أن يكون لـ”قسد” حصة في شكل الحكم المقبل، وهذا ما يبدو مستبعداً؛ لأنه يصطدم أولاً برفض شعبي نظراً للجرائم الكثيرة التي قامت بها “قسد” بحق السوريين، ولمساندتها النظام البائد في العديد من المحطات الزمنية التي مرّت بها الثورة، كما يصطدم برفض تركيّ لأي دور لـ”قسد” في مستقبل سوريا؛ مما يجعل ملفّها مؤجَّلاً إلى حين قدوم إدارة ترامب[24].

– الحالة المناطقية؛ سلاحٌ ذو حدَّين:

تُمثّل الحالة المناطقية في سوريا سلاحاً ذا حدَّين؛ فمن جهة: قد تكون عاملاً إيجابياً من خلال إبقاء جزء كبير من المقاتلين في مدنهم وقراهم، مما يمنع تكرار نموذج النظام البائد الذي كان يتعمّد إرسال المقاتلين إلى مناطق بعيدة عن مواطنهم، فيحدث توتر في العلاقات بين المدنيين والعسكريين.

ولكن من جهة أخرى تطرح هذه المناطقية تحديات كبرى، أبرزها: ترسيخ ولاء المقاتلين لقادة مجموعاتهم المحلية بدلاً من الولاء لمؤسسة وطنية موحدة، مما يُضعف الانضباط العسكري، كما يُعزز هذا النهج قناعات خاطئة لدى المقاتلين بأن مسؤولية حماية منطقتهم تقع حصرياً عليهم، وهو ما يُهدد استقلالية القرار العسكري ويفتح المجال أمام احتقانات مناطقية قد تُعيق جهود بناء جيش متماسك.

– تعقُّد المشهد العسكري:

في ظل تعدُّد الفصائل العسكرية الموجودة على الأرض السورية التي قد يزيد عددها عن 50 فصيلاً عسكرياً، وتعدُّد ارتباطاتها الإقليمية والدولية، إلى جانب ضعف منظومة التحكُّم والقيادة لدى أغلبها؛ فإنه سيكون من الصعب ضبطها في منظومة عسكرية خلال فترة قصيرة. فضلاً عن أن آليات الدمج نفسها ستكون محل اعتراض لدى كثيرين من حيث إنها لن تلبّي طموحات كثيرين من قيادات هذه الفصائل.

رابعاً: عوامل مساعدة لدمج الفصائل في مؤسسة عسكرية واحدة؛ العوامل الذاتية أولاً:

رغم التحديات الكبيرة في عملية دمج الفصائل العسكرية كلها ضمن وزارة الدفاع؛ إلا أن ثمّة عوامل يمكن أن تساعد في تسريع عملية الدمج، من أبرزها:

– صياغة عقيدة وطنية موحّدة:

يجب أن تكون العقيدة العسكرية للجيش الجديد في سوريا قائمة على حماية الوطن والمواطنين، بعيداً عن أية ولاءات خارجية أو أيديولوجيات عابرة للحدود، وهذا يتطلب إعادة تأهيل للمقاتلين بمستويات مختلفة، خاصة على المستويات النفسية والفكرية والأيديولوجية.

وفي هذا السياق يبدو من المهم التركيز بشكل رئيس على المبادئ العسكرية للثورة، التي يجب أن تدور في فلك مبادئ الثورة العامة بما تتضمنه من قيم الحرية والعدالة والكرامة؛ فهي بمثابة الفرع عن ذلك الأصل، ومن أبرز تلك المبادئ: حماية إرادة الشعب السوري في اختيار حكامه من أي تدخل داخلي أو خارجي، والتعهد بعدم استخدام السلاح لفرض أي خيار عليه، وابتعاد الجيش عن ساحة السياسة، ليكون مؤسسة وطنية مستقلة وحيادية ومهنية[25].

– وجود كتلة عسكرية أساسية مُمثّلة بهيئة تحرير الشام:

قد يمثّل وجود كتلة عسكرية قوية عاملاً مساعداً في دفع بقية الفصائل العسكرية للاندماج في جيش سوريا المستقبلي، وهذا ما تقوم به هيئة تحرير الشام باعتبارها أساس الفصائل العسكرية التي دخلت دمشق حالياً؛ فحلُّها سيدفع بقية الفصائل إلى اللحاق بها.

– الرغبة الإقليمية والدولية في استعادة الاستقرار:

قد يكون هنالك توافُق بين العديد من الأطراف الإقليمية _خاصة تركيا_ على ضرورة منع تكرار سيناريوهات الفوضى والحالة الفصائلية، مثل ما جرى في ليبيا أو اليمن والسودان وغيرها. ولا يقتصر ذلك على الدول الإقليمية، بل إنّ غالبية الدول _بما فيها أوروبا_ عانت من حالة الفوضى التي أدت إلى انتشار التنظيمات الإرهابية وموجات كبيرة من اللاجئين تأمل في انتهاء هذه الحالة، بما يساعد في استعادة الاستقرار وعودة اللاجئين إلى مدنهم وبلداتهم.

خامساً: أفكار أولية في إمكانية تطبيق برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج:

قد يكون من المهم النظر في إمكانية تطبيق برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR)[26] كجزء من استراتيجية طويلة الأمد في الحالة السورية، على الرغم مما يعتري ذلك من تحديات نظراً لتجارب غير ناجحة في بعض الدول العربية التي خرجت من حالة الثورة[27]، وكذلك نظراً لخصوصية الحالة السورية المتشعّبة.

من أهم مكونات برامج [28]DDR:

  • جمع الأسلحة الثقيلة والخفيفة من جميع الأطراف، ووضع خطط لإدارة الأسلحة المُجمّعة لضمان عدم إعادة استخدامها، ومراقبة عمليات التسليم من قبل جهات محايدة لضمان الشفافية.
  • تسريح مقاتلين من الفصائل، وتقديم برامج توعية لدمجهم في المجتمع، إضافة إلى توفير المساعدات المالية أو العينيّة المؤقتة لتسهيل الانتقال من الحالة العسكرية إلى المدنية.
  • إعادة الإدماج عبر تدريب المقاتلين السابقين في الفصائل العسكرية على المهارات المهنية، إضافة إلى العمل على دمجهم في برامج اقتصادية ودعم المجتمعات المستقبلة للمقاتلين لضمان التعايش الاجتماعي.

بالنظر إلى أبرز مكوّنات البرنامج تبرز عدة تحديات تم المرور عليها خلال هذا التقرير، ومن أبرزها: تنوّع الفصائل، وغياب عامل الثقة[29]، وصعوبة إقناع جميع الفصائل بتسليم سلاحها والانخراط في الجيش الجديد، إلى جانب صعوبة إقناع كثير من الشرائح والمجتمع المحلي بضرورة التخلي عن السلاح وتسليمه للدولة بعد 12سنة من الثورة المسلحة؛ وهذا ما يفرض تحدّياً على السلطة الحالية لتقديم ضمانات ألا يكون نزع السلاح من أية جهة مقدمة لإقصائها من المشهد تماماً.

كما قد يلعب العامل الاقتصادي دوراً في عملية نزع السلاح؛ لأن الحصول على الموارد شكّل سابقاً أحد أبرز أسباب الصدام، ولأن حالة الفقر والبطالة هي المشهد العام تقريباً في المناطق السورية، كما أن الموارد المحدودة تُصعّب عملية تمويل برامج التدريب والإدماج، وهذا ما يتطلب دعماً أممياً ودولياً لإنجاح سياسات الإدماج وضخّ الأموال اللازمة، وهو ما يبدو غير متوفر بشكل كبير؛ لأن معظم الدول والجهات الداعمة تركّز حالياً على تعزيز مشاريع التعافي المبكر والسلل الإغاثية العاجلة.

إضافة إلى ذلك قد تتسبّب رغبة بعض الدول باستمرار دعمها لفصيل معيّن في عرقلة سياسات الاندماج، وهذا ما يمثّل أحد أبرز التحديات التي يواجهها برنامج DDR[30] ، خاصة مع تعدّد الأطراف الخارجية المرتبطة ببعض القوى العسكرية.

بالمجمل يمكن القول: إن برامج DDR تحتاج إلى بيئة سياسية واجتماعية أكثر استقراراً، وقد لا تكون فعّالة في ظل انقسام الأطراف وتنافسها وانعدام الثقة فيما بينها؛ لكن ذلك لا يعني تجاهل ما يمكن تطبيقه ويأتي بالنفع للصالح العام.

ختاماً:

يُعدّ دمج الفصائل العسكرية في سوريا في إطار جيش وطني جديد خطوة مفصليّة في مسار إعادة بناء الدولة السورية بعد سقوط النظام البائد؛ لكن هذا الدمج يتطلّب تضافر جهود محلية بشكل أساسي، ومنها: تجاوز الانقسامات المناطقية والولاءات المتعددة والخشية من فقدان النفوذ؛ وهذا ما يمكن التغلب عليه إذا تم تغليب مصلحة السوريين على مصلحة الأشخاص والجماعات.

ومن المهم الإشارة إلى أن بناء مؤسسة عسكرية وطنية يتطلب أكثر من مجرد دمج الفصائل؛ إذ يستلزم صياغة عقيدة وطنية واضحة، تضمن استقلالية الجيش عن أية توجهات أيديولوجية أو ولاءات خارجية، كما يجب وضع استراتيجيات تتيح الاستفادة من تجارب الدمج السابقة، مثل إعادة تأهيل المقاتلين وإشراكهم في مهام مدنية أو عسكرية جديدة، بما يمنحهم أدواراً منتجة بعيداً عن المعارك الداخلية.

ويبقى شرط تعزيز الثقة بين المكونات السورية بمختلف أطيافها السياسية والاجتماعية ركيزة أساسية لأي نجاح محتمل؛ فمن دون حوار وطني صريح وشامل وشفّاف يشارك فيه الجميع، وتفاهمات عادلة حول مستقبل الموارد الوطنية وتمثيل الأطياف المختلفة قد تبقى فكرة الجيش الوطني الموحد بعيدة المنال؛ مما يهدّد بتكرار نماذج عربية دخلت في صراعات وفوضى بعد نجاح ثوراتها، وهذا ما يتطلّب من الجميع تغليب المصلحة الوطنية على أية مصلحة خاصة بفصيل مُعيّن مهما بلغت قوّته في المشهد.


[1] أحمد الشرع يقود اتفاقاً لحل “فصائل المعارضة” ودمجها، تلفزيون سوريا، 24 / 12/ 2024، شوهد في: 29 / 12 / 2024.
[2] قد لا تكون هناك تجارب شبيهة بالمعنى الحرفي لما يجري في سوريا؛ إذ تبقى لكل حالة خصوصيتها، ولكن من المفيد الاطلاع على التجارب المقارنة لما فيها من دروس مستفادة، لاسيما إذا كان فيها كثير من أوجه الشبه مع الحالة السورية، كما هو الحال مع التجربة الليبية.
[3] يُنظر: يزيد صايغ، اليمن في خضمّ حرب إقليمية بالوكالة، ملخص محاضرة، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، بيروت، 26/5/2015، شوهد في: 6/1/2025.
[5] أصدر مركز الحوار السوري في وقت سابق تقريراً تطرق لحالة الانقسام في ليبيا وعوامل فشل دمج الفصائل ضمن جيش موحد.
[7] يُنظر: أنس القماطي، حكاية جيشين، ضمن بحث: سياسات السلطوية العسكرية في شمال أفريقيا، تحرير: يزيد صايغ وناثان تورنتو، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 17/3/2021، شوهد في: 6/1/2025.
[8] يُنظر: صاموئيل راماني، تحوّل سياسي متعثر في السودان، ضمن بحث: سياسات السلطوية العسكرية في شمال أفريقيا، تحرير: يزيد صايغ وناثان تورنتو، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 17/3/2021، شوهد في: 6/1/2025. وتقرير للخارجية الأمريكية يظهر دعم الإمارات لقوات الدعم السريع وشراء الجيش السوداني مسيرات من إيران، القدس العربي، 16 / 10/ 2024، شوهد في: 29 / 12/ 2024.
[9] سنكتفي بإيراد المواقف الرسمية المعلنة، مع الإشارة إلى بعض المعلومات التي تم الحصول عليها من لقاءات ومقابلات خاصة أجراها فريق المركز.
[10] نود التنبيه أن الفصيل الوحيد الذي أصدر بياناً بخصوص الاندماج هو جيش الإسلام، وأكد أنه متوافق مع القيادة الجديدة في قضية بناء المؤسسات.  يُنظر: حساب جيش الإسلام، تويتر، شوهد في: 10/1/2025.
[11] سيتم المرور بشكل تفصيلي على موقف فصائل الجنوب في الفقرة التالية والدور المحتمل لأحمد العودة.
[12] أعلن الفصيل بدءه بدوريات لضبط الأمن في بعض مناطق جنوب سوريا، يُنظر: غرفة عمليات فتح دمشق، تويتر، 26/12/2024، شوهد في: 7/1/2025.
[14] سيتم المرور في هذا التقرير على موقف فصائل السويداء بشكل تفصيلي.
[15] بحسب تصريحات تلفزيونية لقائد الفصيل سالم تركي العنتري؛ قائد “جيش سوريا الحرة” للعربية: الفصائل يجب أن تجتمع تحت إدارة واحدة، شاشة العربية، يوتيوب، 24/12/2024، شوهد في: 30/12/2024.
[16] سيتم المرور على الموقف من “قسد” في الفقرة التالية.
[17] اجتماع درعا: دمج الفصائل تحت مظلة إدارة العمليات العسكرية، تجمع أحرار حوران، 24 / 12/ 2024، شوهد في: 27 / 12/ 2024.
[21] أشار سليمان عبد الباقي قائد تجمع أحرار جبل العرب إلى أن اللقاء مع الشرع كان إيجابياً. يُنظر: رابط يوتيوب، شوهد في: 29 / 12/ 2024.
[22] من المهم الإشارة إلى أن شيخ الطائفة حكمت الهجري أعرب عن تمسكه بالوحدة في سوريا، وأضاف متوجهاً في حديثه لرئيس الطائفة في “إسرائيل” موفق طريف: “نحن أبناء طائفة واحدة، لكن هنا في سوريا وضعنا مختلف عنكم. نحن هنا أبناء سوريا ووجودنا هنا هو وجود مدني وحضاري وليس طائفياً، سوريا كانت وستبقى الوطن الأم لكل أبنائها ونحن جزء لا يتجزأ من أبنائها”. هل تستخدم إسرائيل قضية “حماية الدروز” لضمان إقامة منطقة عازلة؟ إندبندنت عربي، 16 / 12 / 2024، شوهد في: 29 / 12/ 2024.
[24] تطرق تقرير لمركز الحوار السوري مؤخراً إلى ملف “قسد” شمال شرقي سوريا، وأشار إلى ضرورات الحشد نحو مشروع التحرير الشامل في سوريا. يُنظر:
[25] يجدر بالذكر أن هذه المبادئ وردت في ورقة سابقة أصدرها مركز الحوار السوري بعنوان: “الرؤية المستقبلية لفصائل الثورة”؛ إذ حاولت تحديد دور الفصائل العسكرية، وعلاقتها مع مختلف القوى الثورية الأخرى، خصوصاً السياسية منها، وأثر ذلك في تحقيق أحد أهم أهداف الثورة، المتمثل في إيجاد جيش وطني محترف يحل محل جيش الأسد الطائفي. يُنظر: الورقة البحثية ” الرؤية المستقبلية لفصائل الثورة “، مركز الحوار السوري، 1 / 9/ 2015، شوهد في: 2 / 1/ 2025.
[26] برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR – Disarmament, Demobilization, and Reintegration): هي استراتيجية مهمة تُستخدم في مراحل ما بعد النزاعات لتحويل المقاتلين إلى مدنيين منتجين وإعادة بناء المجتمعات.
نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، موقع الأمم المتحدة، شوهد في: 2 / 1/ 2025.
[29] على سبيل المثال: منعت فصائل السويداء قبل أيام رتلاً لإدارة العمليات العسكرية من دخول مدينة السويداء.
[30] برز هذا على سبيل المثال في الحالة العراقية، وكذلك الليبية؛ نظراً لكثرة الأطراف الخارجية المتدخلة. يُنظر: فاعلية برامج DDR في دول الصراعات العربية، مرجع سابق.

مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري، يحمل شهادة الدكتوراه في القانون العام من جامعة حلب، وحائز على اعتمادية المعهد العالي للحقوق في الشرق الأوسط، وعمل سابقاً مدرساً في كلية الحقوق في جامعة حلب الحرة. يركز في أبحاثه الحالية على دراسة ديناميكيات العلاقة بين المجتمع السوري والنصوص القانونية والدستورية منها على وجه التحديد.

باحث مساعد في مركز الحوار السوري، يعمل ضمن وحدة تحليل السياسات، كتب وشارك في العديد من الأوراق المتعلقة بتحليل سياسات الفاعلين في سوريا، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى