المرحلة التحضيرية للحوار الوطني؛ ما تقوله الأدبيات والتجارب المقارنة
تقرير صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري
بين يدَي سلسلة التحضير للحوار الوطني السوري؛ في السعي لبداية صحيحة:
في إطار الحديث عن إقامة الحوار الوطني في سوريا ما بعد سقوط نظام الأسد البائد، وفي ظل تقسيم مراحل الحوار الوطني عادة إلى ثلاث مراحل: التحضير والعمليات والتنفيذ؛ تأتي هذه السلسة لتركّز على مرحلة التحضير للحوار الوطني مدخلاً لإنجاح العملية كاملة، من خلال تسليط الضوء على أهم الأدبيات النظرية التي ناقشت هذه المرحلة، انتقالاً إلى استعراض أبرز التجارب المقارنة، وصولاً إلى إسقاطها على حالتنا السورية عبر استخلاص الدروس المستفادة؛ وذلك للخروج بأفضل الخيارات والوسائل لإدارة مرحلة التحضير للحوار الوطني.
نأمل أن تكون هذه السلسلة إضاءات مفيدة للسوريين تقدح النقاش العام حول الوسائل والسبل المتاحة للتحضير للحوار الوطني الذي يمهّد للخروج بنتائج تسهم بإنجاحه، بما ينعكس إيجاباً على حاضر السوريين ومستقبلهم.
مقدمة:
يُعد “الحوار الوطني” من أهم أنواع الحوار على المستوى الوطني، خصوصاً في الحالات المفصلية؛ بسبب شموليته وضمّه التيارات الفكرية والثقافية والسياسية والمجتمعية والدينية. إذ إنّ الحوار الوطني يشهد سلسلة عمليات تكون ذات ملكية وطنية، يعمل على تنظيمه أبناء الوطن، بينما قد يكون للجهات الخارجية دورٌ مساندٌ فحسب. ويركّز الحوار الوطني عادة على قضايا مثل: الترتيبات الأمنية، والتعديلات الدستورية، وكسر الجمود السياسي، أو التوافق على عمليات تغيير واسعة مثل: بناء نظام سياسي، وتصميم عقد اجتماعي، وإنشاء سلطات انتقالية، وإعداد إطار دستوري جديد[1]. تدريجياً اكتسب هذه النوع من الحوارات أهمية خلال العقد الأخير بوصفه منصة للتحوّل السلمي وإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع؛ فاعتُمد هذا النوع من الحوار في عدد من البلدان، منها: اليمن والبحرين وأفغانستان وليبيا والسودان[2].
تمرّ الحوارات الوطنية عادة بعدة مراحل؛ بدءاً من التحضير، مروراً بالعملية الحوارية، إلى تنفيذ النتائج، وفي كل مرحلة يلزم تطوير الأدوات بالشكل الذي يلائم حالة الحوار وسياقه والتوافقات الحاصلة بين الأطراف والمتطلبات الفنية والإدارية. ومع أهمية جميع المراحل إلا أن مرحلة التحضير تُعد حجر الأساس لأي حوار ناجح؛ فمن خلالها يتم تمهيد الأرضية المناسبة لإطلاق العملية وتأسيس فهم واضح لأهداف الحوار وفهم مصالح وتوجهات القوى الفاعلة، ورغم أن لكل حوار خصوصيته وبنيته ومفاعيله إلا أن إيجاد أوجه تشابه بين الحوارات الوطنية ليس بالأمر الصعب، خاصة خلال العقد الأخير؛ حيث تركزت الحوارات الوطنية على قضايا الحكم وحلّ الخلافات، لاسيما في المدة التي تلت الربيع العربي.
تختلف عمليات التحضير للحوار الوطني من سياق إلى آخر؛ بناءً على طبيعة النزاعات والقوى الفاعلة والبيئة السياسية والاجتماعية المحيطة والأهداف المرجوة، ورغم عدم وجود نموذج جاهز أو مثالي للحوارات الوطنية إلا أن ثمّة توافقاً عاماً على مجموعة من المراحل يمكن العمل بها بشكل تسلسلي أو بالتوازي، بحسب طبيعة الحوار ومتطلباته.
في سوريا، وبعد إسقاط نظام الأسد البائد في 8/12/2024 بدأت النقاشات في الفضاء العام حول ترتيب المرحلة الانتقالية، وما يقتضيه ذلك من عقد مؤتمر وطني جامع بين مختلف أطياف الشعب السوري[3]، وهذا بدوره أثار نقاشاً _وما يزال_ حول ترتيبات عقد هذا المؤتمر، مثل: الجهة التي ستدعو إليه وشرعيتها، وموعد المؤتمر، وطريقة الدعوة له، ومدته، وأجندته، والجهات والشخصيات التي ستُدعى إليه وطريقة اختيارها…إلخ، من القضايا المرتبطة بالتحضير للحوار الوطني.
فإذا كان الحوار الوطني يمرّ بثلاث مراحل: التحضير، وعملية الحوار، وتنفيذ المخرجات[4] فإنّ هذا التقرير يسلّط الضوء على المرحلة الأولى فقط “المرحلة التحضيرية”؛ لأن الأسئلة والنقاشات في الفضاء العام السوري تنصبّ عليها حالياً، ولأنها هي الاستحقاق الحالي بعيداً عن المراحل اللاحقة “مرحلتي العمليات والتنفيذ”، وذلك من خلال النظر في الأدبيات النظرية التي ناقشت ترتيبات هذه المرحلة، والنظر في بعض التجارب المقارنة، بما يساعد لاحقاً في الاستفادة من بعض الدروس لحالتنا السورية. ولذا يخرج من نطاق هذا التقرير إسقاط الإطار النظري والمقارن الوارد فيه على الحالة السورية الحالية، وسيأتي بحثها في مقالات تالية.
تبرز أهمية هذا التقرير في أنه يضع الأرضية المعرفية للحوار الوطني من خلال سبر الأدبيات والتجارب المقارنة لاستشراف التحديات وأبرز الأسئلة التي ستثور أثناء الإعداد لمؤتمر الحوار الوطني، لاسيما وأن الكثير منها بدأ ينتشر في الفضاء العام السوري منذ الآن، مثل: موعد المؤتمر، وآلية اختيار اللجنة التحضيرية والأجندة ..إلخ، وهو أمرٌ يتطلب استعراض الأدبيات النظرية والتجارب المقارنة في خطوة أولى للاستفادة من ذلك في سياقنا السوري.
يناقش هذا التقرير مرحلة التحضير للحوار الوطني بخطواتها الأربع تباعاً: تمهيد الأرضية، وشرعية البدء وإطلاق العملية، ومعايير اختيار المشاركين، وإجراءات بناء الثقة (الشكل رقم 1).
الشكل رقم 1: مراحل التحضير الأولية للحوار الوطني
تمهيد الأرضية اللازمة للحوار الوطني؛ نِظرة معيارية:
التمهيد لأية عملية حوارية هو حجر الأساس لنجاح الحوار، وتبدأ هذه الخطوة بعد الإعلان عن الرغبة في عقد مؤتمر وطني، وقد يأتي على شكل مبادرات تقدمها جهات فاعلة وطنية أو السلطة الحاكمة أو من خلال مبادرات خارجية.
ويلي مرحلة الإعلان عن الرغبة في إجراء الحوار الوطني البدءُ بالمشاورات بين الجهات الفاعلة لتشكيل اللجنة التحضيرية بهدف إحداث حالة توافق تجاهها؛ إذ تشير التجربة الليبية لمؤتمر الحوار 2013 – 2014 إلى أن أبرز أسباب فشل الجنة التحضيرية الأولى واللجنة الثانية في إقناع جميع الأطراف بضرورة الانخراط ضمن مؤتمر وطني هو عدم إجرائها مشاورات أولية وإيضاح الهدف الرئيس من ذاك المؤتمر، بل على العكس ظلت هذه الدعوات مشروعاً يخدم طرفاً دون آخر؛ إذ تشكلت من قبل حكومة رئيس الوزراء علي زيدان وبدأت باختيار أعضائها بالتنسيق معه، مما أفقدها صفة الشمولية، وانعكس لاحقاً على أدائها ومشروعيتها[5].
تقود عادة المشاورات الواسعة بين الأطراف إلى اختيار اللجنة التحضيرية أو الهيئة التوجيهية[6]، وتختلف طريقة الاختيار من حالة إلى أخرى؛ فقد يتم تعيينها من قبل الحكومة أو السلطات القائمة، أو بالتشارك مع الجهات الفاعلة المحلية التي تمثل المجتمع، بحيث تكون اللجنة ضامنة لتمثيل عادل وشامل، وفي الحالات التي تكون فيها مبادرة الحوار الوطني خارجية قد تتدخل هذه الأطراف للتوسط في تشكيل اللجنة التحضيرية. إلا أنه بصورة عامة تضمّ هذه اللجنة عادة شخصيات سياسية وأخرى مؤثرة إلى جانب الخبراء، وتختلف أحجامها ومستوى شمولها؛ فقد تكون محدودة لا تتجاوز 10 أشخاص كما هو الحال في تحضيرات مؤتمر جمهورية بينين 1990، أو تضم أعداداً أكبر قد تصل إلى 100 شخص[7].
تبدأ مهمة هذه اللجنة بتمهيد الأرضية للعملية الحوارية من خلال الاستكشاف والتقييم والمشاورات[8]، وتتضمن جمع معلومات حول القضايا والمعلومات المطروحة، وفهم المواقف ومصالح الفاعلين ووجهات نظرهم، والعمل على التحليل الأولي لأية مؤتمرات حوارية سابقة[9].
وفي هذا السياق تكون قضية توقيت المؤتمر من القضايا المهمة التي تحتاج بحثاً ودراسة، خصوصاً فيما يتعلق بالوضع الأمني والسياسي. فعلى سبيل المثال: من الانتقادات التي وُجّهت لمؤتمر الحوار اليمني أنه بُدئ به مع معرفة القائمين عليه بوجود نقاط إشكالية مرتبطة بـ “قضية الجنوب” تحتاج حوارات أطول، يكون من الصعب معها التوصل إلى حلول خلال المؤتمر[10]، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مؤتمر الحوار الوطني في ليبيا تموز 2013؛ حيث أدّى عدم وجود جدول أعمال توافقي يتضمن قضايا تهمّ الجميع إلى إحداث انقسامات بين المشاركين الذين انخرطوا في الحوار، منهم ممثّلو مصراتة الذين شعروا أن العملية برمّتها لا تمثّلهم ولا تخدم أهدافهم، إضافة إلى انتقادهم اللجنة التحضيرية التي وجّهوا لها اتهامات بعدم وضع أجندة واضحة للحوار وكيفية تطبيق قرارته وضمانات ذلك[11].
يُضاف إلى ذلك أن جميع المؤتمرات التي صُمّمت لحل الأزمة الليبية جرت في حالة عدم استقرارٍ وانتشارٍ للسلاح ونشوب حروب بين عدة أطراف مؤثرة في السياق الليبي، أبرزها حكومة الوفاق الوطني وقوات حفتر، وكان لتدخل القوى الدولية والإقليمية والتنافس فيما بينها أيضاً دورٌ في عرقلة انطلاق أي مؤتمر وطني توافقي[12]؛ إذ برزت مجموعة خلافات تباينت في طبيعتها وفقاً للجهة الراعية لمؤتمر الحوار، بمعنى أن أجندة الحوار كانت ترتبط بالجهة الراعية أكثر من كونها وليدة احتياجات المجتمع الليبي[13].
إلى جانب قضية التوقيت تُثار قضية “النطاق”؛ أي نطاق القضايا التي ستُناقش في المؤتمر، فغالباً ما يتم التمييز بين القضايا التقنية والفنية مثل القضايا الاقتصادية وقضايا التنمية، وتلك التي تحتاج إلى نقاش سياسي ويمكن طرحها ضمن المؤتمر مثل قضية مبادئ العدالة الانتقالية؛ فإدراج الأولى في برنامج مؤتمر الحوار الوطني يؤدي إلى إضاعة الوقت، وعدم القدرة على الخروج بنتائج عملية، لاسيما إذا كان عدد المشاركين في المؤتمر كبيراً[14].
وتشير التجربة اليمنية إلى أنه يجب حصر جدول الأعمال في أقل عدد ممكن من البنود، مما لا يمكن حلها أو تحقيق النتائج المطلوبة فيها دون إجراء مناقشة وطنية واسعة النطاق وعلنية، وهو ما لا يمكن أن يتوفر إلا في الحوار الوطني.
قد يساعد جدول الأعمال الواقعي والأكثر انسيابية في تحقيق قدر أعظم من التركيز والمتابعة والنجاح في الحوار الوطني، لاسيما إذا كان هنالك تناسب بينه وبين الوقت المخصص له[15].
عموماً تتطلب هذه المرحلة بالذات قدراً طويلاً من الوقت، يُقدر بالأسابيع أو بالشهور، وفي بعض الأحيان قد يمتد لعام في حال كانت الظروف معقدة كـحالة رواندا[16]، كما تضطلع اللجنة التحضيرية بمهام أخرى ترتبط بمعايير اختيار المشاركين في المؤتمر[17]، واعتماد إجراءات اتخاذ القرارات، وهذه الإجراءات مهمة في قضية الحوار؛ لأن تفرُّد مجموعة أو جهة أو تحالف ما بهذه الإجراءات يؤدي إلى اختطاف العملية الحوارية وإخراجها عن مسارها المرسوم، ولذا وُضعت في اليمن قواعد واضحة تتعلق باتخاذ القرار قائمة على لجان ضمن عدة مستويات منعاً لاتخاذ قرارات تصبّ في صالح طرف دون آخر، ومع ذلك أُثيرت بعض الانتقادات [18].
الشكل رقم 2: إجراءات خطوة تمهيد الأرضية للحوار الوطني
شرعية البدء وإكساب العملية الحوارية الصفة الرسمية:
بعد إنهاء المشاورات بين القوى والأطراف يتم إطلاق عملية الحوار الوطني بصورة رسمية من خلال ما يُسمى: “التفويض” “mandate”، وهو الصكّ القانوني الذي بموجبه يحدد ميعاد الحوار الوطني ولجنته التحضيرية وأجندته.
تتعدد مصادر التفويض وفقاً لسياق كل عملية حوارية وظروفها؛ فحينما تكون ثمّة أزمة سياسية في دولة ما، ولا تكون مدوّلة خارجياً فغالباً يتم التحضير للمؤتمر داخلياً، والعكس بالعكس. وللتفويض عدة أنواع:
- التفويض الحكومي/ الملكي/ الرئاسي: يكون التفويض صادراً عن الحكومة أو السلطة الحاكمة، سواءٌ أكانت رئاسية أو ملكية، ويجري إطلاق دعوة رسمية للبدء بحوار وطني، ومن الأمثلة العملية لهذا التفويض:
- الحوار الوطني الذي أعلنه الرئيس السوداني السابق عمر البشير في عام 2014؛ فقد كلّف مجلس الوزراء بإطلاق حوار وطني، ولأن التفويض كان صادراً من الرئيس واجه العديد من الشكوك والانتقادات من بعض القوى المعارضة التي أعلنت فيما بعد مقاطعته[19]، بسبب ما اعتبرته محاولة لتجميل صورة النظام الحاكم دون تحقيق التغييرات الجوهرية التي دعت إليها[20]، خاصة بعدما اتضح أن جميع الهيئات التحضيرية سيترأسها الرئيس السوداني.
- الحوار الوطني الذي أعلن عنه ملك البحرين بعد سلسلة احتجاجات شعبية وأعمال عنف مؤقتة انتهت بتدخل قوات الأمن عام 2011. وقد لقي التفويض في البداية مقاومة من المعارضة التي رأت أن الدعوة جاءت في ظل أجواء مشحونة وغير مهيأة لحوار جاد؛ إلا أنها انخرطت في نهاية المطاف بالحوار بشكل مؤقت، قبل أن تنسحب واحدة من أكبر وأهم الحركات السياسية المعارضة في البحرين المعروفة باسم “حركة الوفاق” التي تمثل شريحة كبيرة من الطائفة الشيعية[21].
- التفويض الدولي أو الخارجي: يكون مصدر التفويض جهات دولية أو إقليمية بالتعاون مع جهات فاعلة وطنية، ويهدف عادة إلى معالجة أزمات أو نزاعات داخلية تتجاوز قدرة السلطات المحلية على حلها بمفردها، ومن أمثلة ذلك:
- مؤتمر الحوار الوطني في اليمن 2013، الذي رعاه مجلس التعاون الخليجي بدعم من الأمم المتحدة والأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي، وقد تمت دعوة 565 شخصية يمنية تمثل مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية؛ إلا أنه سرعان ما انسحبت بعض القوى المعارضة، منها “جماعة الحراك الجنوبي” بحجة استنفاد كل المحاولات والجهود السياسية للتوصل إلى حل عادل للقضية الجنوبية[22]، وعرقلت أخرى المخرجات “حركة الحوثي”[23].
- مؤتمر الحوار الأفغاني 2003 – 2004: رعته الأمم المتحدة في إطار ما يُعرف بـ “اتفاقية بون”، ومثّل هذا التفويض محاولة دولية لإعادة بناء النظام السياسي وتعزيز الأمن والاستقرار في البلاد، من خلال دعم تشكيل حكومة انتقالية تضم مختلف الفئات الأفغانية؛ إلا أن منتقديه رأوا في رعايته من قبل جهات خارجية إسهاماً في تعزيز طرف “تحالف الشمال” على حساب حركة طالبان، التي أُقصيت من الحوار[24].
- التفويض من القوى الوطنية: يكون مصدر التفويض المجتمع المدني أو القوى السياسية أو المجموعات المعارضة السياسية أو العسكرية أو السلطة الانتقالية، ويقدم لنا مؤتمر الحوار الوطني في مالي 1991 مثالاً عملياً للتفويض من قبل “اللجنة الانتقالية لإنقاذ الشعب” بعد الإطاحة بنظام الحكم، وكان الهدف الرئيس لذلك الحوار إحداث تغيير في نظام الحزب الواحد إلى الحالة التعددية وإعادة تنظيم الدولة؛ إلا أن ما جرى من إقصاء لبقايا النظام السابق دفع شريحة من الناس للاحتجاج واعتباره مؤتمراً للمنتصرين[25].
من الأمور المهمة التي يجب أخذها في الحسبان أن يعكس التفويض الاهتمامات الرئيسة للجهات صاحبة المصلحة، وألا يُفرض من قبل طرف دون آخر، ويُضاف إلى ذلك ضرورة احتوائه على أحكام واضحة حول الهدف من العملية والأجندة المبنية عليها، شريطة ألا تكون مثقلة بالأعباء. ففي الحالة اليمنية: كانت هنالك انتقادات واسعة من جهة سوء اختيار الأجندة المناسبة؛ إذ جُمعت القضايا المصيرية مثل: “القضية الجنوبية، وبناء الدولة” مع قضايا غير مصيرية، مثل: استقلالية الهيئات، والحكم الرشيد[26].
ومن الأمور الواجب توفرها أيضاً أن يكون هناك قبول مجتمعي (أفراد وجماعات) لمضمون التفويض ومصدره، بمعنى ألا يكون معدّاً من قبل جهة خارجية بشكل جزئي أو كلي؛ كما هو الحال في مؤتمر الحوار العراقي 2004 الذي كان جزءاً من الإطار الذي وضعه مجلس الحكم الانتقالي المعين من قبل الولايات المتحدة وسلطة التحالف المؤقتة، ويُضاف إلى ذلك قضية عدم وضوح مضمون التفويض وعدم مناقشته كثيراً من القضايا التي تواجه البلاد، وعدم توفر غطاء سياسي محلي كافٍ لانعقاده[27] .
كذلك من الأهمية بمكان أثناء الحديث عن شرعية مؤتمر الحوار الوطني شرعنته شعبياً؛ ولا يعني ذلك تمثيل مختلف المكونات والشرائح المجتمعية، بقدر ما يلزم أن يكون هنالك توعية مجتمعية أن المؤتمر هو بمثابة حجر الأساس للحياة السياسية التي لابد منها من أجل الانطلاق نحو التنمية المستدامة؛ ولكنه ليس عصا سحرية، ولا يؤثر انعقاده سلباً أو إيجاباً في جهود الحكومة بتأمين الخدمات الأساسية؛ حيث إن من الأخطاء التي تحصل عادة _خاصة في الدول التي تخرج من نزاعات، ويكون فيها الاقتصاد والبنية التحتية مدمرة إلى جانب سوء الخدمات_ أن ينظر الجمهور إلى الحوار الوطني كونه عملية “دولية نخبوية” لا تخدم المصالح التي يهتم بها المواطن، مثل الأمن والخدمات[28].
الشكل رقم 3: المصادر والمحددات والقضايا الإشكالية في التفويض
معايير اختيار المشاركين في الحوار الوطني:
تمثل عملية تحديد الجهات المدعوة للمشاركة في الحوارات الوطنية في الدول غير المستقرة أو التي خرجت من صراعات أو شهدت سقوط أنظمة حكم تحدّياً؛ ولذا فإن وضع معايير واضحة للمشاركة يجب أن يتسم بالمرونة والمصداقية والشمولية، من أجل أن تكون الحوارات شاملة وذات قاعدة عريضة[29].
يؤثر اختيار المشاركين بشكل مباشر في العملية الحوارية وشرعيتها ونتائجها، ويشمل ذلك العدد والتمثيل وطبيعة الأطراف المدعوة؛ لِـمَا له من دور في تحقيق تمثيل عادل وشامل للمجتمع. ويتم عادة اختيار المشاركين بناءً على تمثيلهم الأحزاب السياسية المسجلة[30]، والنقابات المهنية، ومنظمات المجتمع المدني[31]، إضافة إلى الأكاديميين والخبراء، وممثلين عن الفصائل العسكرية في حال وجودهم[32] لأنهم من أصحاب المصلحة ولقدرتهم على تخريب أية اتفاقيات، فضلاً عن أن عملية إشراكهم قد يدفع العملية نحو السلم، أما إقصاؤهم فقد يزيد لديها حدة العنف[33]، إلى جانب ممثلين عن الحكومة البيروقراطية[34]، بالإضافة إلى مراعاة وجود شريحة المثقفين وأصحاب الرأي والخبرة في القضايا المطروحة للنقاش لضمان فعالية الحوار. كما يُعتمد على التوازن الجغرافي والاجتماعي؛ بحيث تُشارك جميع المناطق والفئات العمرية لتكون نموذجاً مصغراً من النظام الاجتماعي[35].
يرتبط اختيار المشاركين بالهدف الرئيس للعملية الحوارية؛ فإن كان متعلقاً ببعض القضايا السياسية فالدعوة تُوجه إلى الأطراف المعنية، أما إذا كان أوسع ويناقش قضايا كالدستور وإصلاح النظام السياسي وحل النزاعات فيتطلب مشاركة شريحة واسعة من المجتمع.
وليس ثمّة عدد مثاليّ للمشاركين؛ ففي الحوارات الوطنية في أوروبا الشرقية والوسطى بلغ عدد المشاركين بين 12 و55 شخصاً، بينما كان العدد في مؤتمر الحوار اليمني 565 شخصاً، ووصل عدد المشاركين في حوار المجلس الأعلى لقبائل البشتون في أفغانستان إلى ما يقارب 1600 مشارك[36]، فيما بلغ عدد المشاركين في جيبوتي 3000 مشارك[37].
من أهم القضايا التي تُثار لدى الحديث عن اختيار المشاركين في الحوار الوطني:
- مشاركة/عدم مشاركة الجهات الفاعلة التي تُصنف أنها “إرهابية” أو “غير مشروعة”، من الأمثلة في هذا السياق استبعاد “طالبان” من المشاركة في مؤتمر الحوار في أفغانستان؛ فقد تأثرت عمليات اختيار المندوبين بشكل كبير بالأطراف الفاعلة الخارجية، وفي المقابل سُمح لمجموعات أخرى ارتكبت انتهاكات لحقوق الإنسان بالمشاركة، مما انعكس على شرعية الحوار والحكومة الانتقالية[38]. وكذلك استبعاد “حزب البعث” العراقي من المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني في العراق بعد إصدار قانون “اجتثاث البعث”، وفي اليمن عدم إشراك بعض الجماعات وقضاياهم “الحراك الجنوبي والحوثيون”، وتجاهل أخرى مثل قضية “تهامة ومأرب وحضرموت “[39].
لعل التوصية الأساسية في هذا المجال هي التركيز على الشمولية؛ بصرف النظر عن التصنيف بالإرهاب والدوافع السياسية، والتعامل مع المسألة من باب التمثيل الشعبي؛ فالجهة التي لديها حضور شعبي معتبر لابد من إشراكها من أجل تحقيق مبدأ الشمولية[40]، سواء بشكل مباشر من خلال دعوتها، أو دعوة بعض منظمات المجتمع المدني التي تمثل التيارات الشعبية المحسوبة عليها، وممثلين عن مجتمعات اللجوء في الخارج[41].
- دعوة شخصيات محسوبة على النظام السابق إلى مؤتمر الحوار الوطني: لاسيما أنه في بعض الحالات _كما هو الأمر في الحالة اليمنية_ يكون لحضور بعضها أثر سلبي من جهة السعي لإعادة إنتاج النظام نفسه، أو تجاوز الجرائم المرتكبة من خلال تعطيل آليات العدالة الانتقالية التي تُعد أحد أهم مواضيع الحوار الوطني في المراحل الانتقالية[42].
- وضع معايير عادلة للتمثيل تأخذ بعين الاعتبار التوازن بين القوى القديمة والجديدة من أجل تعزيز شرعية المؤتمر، وتقدم التجربة العراقية المتعلقة بمؤتمر الحوار 2004 مثالاً على هذه الحالة حيث أثارت المعايير التي تبنتها اللجنة التحضيرية على أساس زمني بأن يكون للحزب أو القوة السياسية قد مضى على تأسيسها تمثيل أكبر من القوى المشكلة حديثا جدلا وانتقادات حول دقة وحيادية هذه المعايير فمن جهة ينظر لهذا الشرط انه يعطي الأفضلية للقوى القديمة ويعزز نفوذها بينما يضعف فرص القوى الجديدة التي من الممكن ان تمتلك تأثيرا ونفوذ شعبياً، ولكن لم يتم تقديره نتيجة غياب الاستقرار من جهة وعدم تنفيذ انتخابات التي يظهر من خلالها مدى شعبيتها وتأثيرها من جهة أخرى[43] .
- تأخذ عملية الاختيار بشكل عام أشكالاً عدة حسب كل حالة وسياقها: فقد تكون على أساس توزيع متساوٍ بين المشاركين، مثل الحالة البحرينية، حيث منحت اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني جميع الأحزاب _بغضّ النظر عن نفوذها وتأثيرها_ مقاعد متساوية، فسُمح لكل جماعة بإرسال خمسة من مندوبيها يمثّلونها، مما أثار استياء كثير من القوى الكبرى، وفقدَ المؤتمر زخمه.
وقد تكون قائمة على التمثيل النسبي بناءً على ميزان القوى، كما حدث في مؤتمر الحوار في الصومال؛ حيث جرى تقسيم العشائر الصومالية الأربع الرئيسة إلى مجموعتين متساويتين، بينما جُمعت العشائر الأقل عدداً وقُسمت مجموعتين أيضاً، فتمّ تخصيص عدد أكبر من المقاعد للمجموعة الأكبر من حيث عدد السكان، بهدف ضمان تمثيل يتناسب مع حجم كل عشيرة، مما يعني أن عدد الممثلين لكل عشيرة كان مرتبطاً بنسبتها السكانية مقارنة ببقية العشائر[44].
وقد تكون مزيجاً على أساس ديمغرافي واجتماعي وسياسي وعمري، والهدف الحصول على شريحة تمثيل أوسع، وإحداث حالة استقلالية نسبية عن أطراف الصراع، كما في الحالة اليمنية؛ حيث خضعت عملية الاختيار لثلاثة طرق تمثلت بتحديد الأحزاب السياسية والحركات والجماعات المسلحة ممثليها مباشرة، فيما عملت اللجنة التحضيرية على إطلاق دعوة مفتوحة للتقديم والترشح للحصول على مقاعد المجتمع المدني والشباب والنساء البالغ عددها 120 مقعداً من أصل 565 [45]، وعمل الرئيس ومساعدوه باختيار 62 مقعداً تشمل المشايخ والزعامات القبلية والشخصيات المؤثرة[46]. وعلى الرغم من السعي لضمان تمثيل حقيقي لجميع الشرائح إلا أن البيئة الاستقطابية التي يعيش بها العديد من الناس وامتلاكهم هويات متعددة تتقاطع مع بعض الجهات جعلت من قضية ايجاد شريحة مستقلة بشكل كامل قضية صعبة، وإلى جانب ذلك فإن امتلاك بعض القوى نفوذاً على شخصيات وكيانات ضمن المجتمع المدني جعل من الصعب “تحديد المستقلين”[47] .
بالنسبة إلى آليات اختيار المشاركين في الحالة الليبية بعد 2011 فقد تأثرت بشكل كبير بعدد من العوامل، ولم تكن دائماً قائمة على معايير محددة وواضحة؛ إذ إن قضية اختيار المشاركين في أغلب الأحيان تتم بناءً على تمثيل الأطراف الرئيسة في النزاع، مثل حكومة الوفاق الوطني والجيش بقيادة خليفة حفتر، مع دعوة شخصيات سياسية بارزة تمثل القوى والأحزاب الليبية، ورغم أن اللجان التحضيرية أظهرت اهتماماً بتمثيل جغرافي ومناطقي لضمان وجود أصوات من مختلف المناطق الليبية _سواءٌ على مستوى القبائل أو المجتمع المدني_ فإن هذا التمثيل كان محدوداً بسبب هيمنة قوى معينة على مناطق بعينها، ولذا كان هذا التمثيل أحياناً متأثراً برؤية المسيطِر، كما أن تدخُّل الجهات الدولية الراعية في اختيار المشاركين كان له أثر سلبي في قضية استبعاد بعض الأطراف ودعوة أخرى وفقاً لمصالحها وتوجهاتها[48].
الشكل رقم 4: السمات العامة لاختيار المشاركين والقضايا الإشكالية
إجراءات تعزيز الثقة مدخلاً لعملية الحوار الوطني:
تُعد هذه المرحلة مهمة جداً في مسار تأسيس أية عملية حوارية ذات معنى، ولكن ليس بالضرورة أن تكون في حالة متقدمة؛ إنما يكفي كمرحلة أولى تحقيق الحد الأدنى من الثقة، فهي بمثابة شرط لازم لإجراء أي حوار حول القضايا ذات الأهمية الوطنية؛ لأن توفرها يُعد علامة على الاستعداد المبدئي للجلوس حول الطاولة، ولاحقاً يتم تعزيز هذه الثقة بشكل تدريجي[49]. ولا يعني ذلك وجود وصفة جاهزة يمكن الاعتماد عليها من أجل تحقيق درجة من الثقة بين الأطراف؛ إذ إن هذه العملية عبارة عن سلسلة إجراءات يتم التوافق أو التفاوض عليها من قبل الأطراف ذات المصلحة.
في المقابل قد يسهم عدم التركيز على هذه القضية في إفشال الحوار أو تعطيله، كما جرى على سبيل المثال في مؤتمر الحوار الوطني البحريني عام 2011؛ فقد أدى غياب الثقة بين الأطراف السياسية خلال مرحلة الحوار السياسي 2013 إلى إضاعة كثير من الوقت في مناقشة أمور شكلية واقتصار النتائج على التصريحات الإعلامية تارة، وعلى تبادل التهم تارة أخرى، ولاحقاً أدى إلى انسحاب طيف واسع من القوى السياسية[50]. كذلك الأمر في السودان أدى غياب التدابير المعنية ببناء الثقة وهيمنة الحكومة على هيكل التحضيرات إلى تراجع القدرة على إقناع الأطراف بأن المؤتمر سيلبّي تطلعاتهم وانسحابهم فيما بعد[51]. والأمر ذاته في اليمن؛ فلم يكن هنالك التزام فعليّ من قبل الوفود المشاركة في العملية التحاورية برمّتها، حيث إن بعض الوفود المشاركة لم تكن منخرطة ومشاركة بشكل جدّيّ، ولكنها شاركت من أجل عرقلة الجهود التفاوضية أو من أجل الحصول على أموال[52]. ومن الأمور التي أثّرت في سير العملية الحوارية وعملية بناء الثقة في اليمن تدهور الوضع الأمني بشكل نسبي؛ حيث تصاعدت عمليات الاغتيال بحق قوات الجيش والأمن، وطالت أيضاً سياسيين وبرلمانيين، مما زاد من حدة التوتر بين الأطراف المشاركة وأثّر سلباً في الثقة بإمكانية نجاح الحوار الوطني؛ فالاضطراب الأمني المتزامن مع جلسات الحوار خلق بيئة غير ملائمة نسبياً للتفاوض، حيث انشغلت بعض الأطراف بتأمين مناطق نفوذها أو حماية أعضائها، بدلاً من التركيز على القضايا المطروحة[53].
على الجانب الآخر ثمّة خطوات يمكن اتخاذها من شأنها أن تسهم في بناء الثقة، من أبرزها:
- القيام بخطوات إجرائية مرتبطة بمؤتمر الحوار ذاته: كوضع شخصيات تمثل مختلف أطياف المجتمع _سواءٌ من السلطة أو المعارضة[54]_ ضمن اللجنة التحضيرية، كما جرى خلال مؤتمر الحوار الوطني في اليمن؛ حيث أسهم إدراج شخصيات معارضة في اللجنة الفنية، وكتابة وثيقة تتضمن 20 بنداً لبناء الثقة في الجنوب وصعدة بتحسين الأجواء الأولية للحوار وبرفع نسبة الثقة؛ إلا أن عدم تنفيذ ما جاء في الوثيقة أدى لاحقاً إلى تراجع الثقة ومن ثَمّ تراجع المشاركة[55].
- الشفافية والإعلام: من القضايا التي تدعم بناء الثقة بين الأطراف والحاضنة الشعبية قضية إعلامهم بتطورات المؤتمر الوطني في جميع مراحله، فعلى سبيل المثال: أدى عدم إبلاغ اليمنيين بتفاصيل المؤتمر الذي استغرق 3 سنوات بدلاً من سنتين باستياء وظهور حالة إحباط من عدم جدواه، مما أثّر بشكل أو بآخر في سير العملية ومشروعيتها بشكل نسبي[56].
- تصميم العملية الحوارية: من القضايا التي تساعد على بناء الثقة أن يكون تصميم الحوار الوطني واضحاً ومتسلسلاً، أي أن تكون البداية بالمسائل الأقل إثارة للجدل، ثم التوجه نحو القضايا الإشكالية والجدلية؛ وذلك منعا لانهيار الحوار في مراحله الأولى[57] .
- وضع قواعد أساسية لمواجهة مشكلات قد تواجه العملية الحوارية: يكون من شأنها تقديم إجابات وحلول سريعة، مثل: ما الذي يجب فعله في حال نشبت خلافات بين القوى؟ وما القرارات الواجب اتخاذها في هذا الموقف؟ وقد قدمت العديد من الأدبيات وصفات جاهزة للتطبيق يمكن من خلالها تصميم هذه المرحلة، مثل: الاتفاق على القيم السلوكية، ووضع مذكرة تفاهم من شأنها منح جميع القوى أو معظمها فهماًً لمحتوى ومضمون القضايا المثارة، وشكل الاجتماعات، والناطقون الرسميون.. إلخ[58].
- تقديم ضمانات للقوى والأحزاب المعارضة بعدم تعرضها للاعتقال: لأن عدم تنفيذ أي من هذه الخطوات قد يؤدي إلى تقويض الثقة، كما حدث في اليمن، وكذلك في السودان؛ حيث اعتقلت الحكومة شخصيات معروفة من المعارضة، مما دفع 16 حزباً إلى تجميد كل ما اتفق عليه خلال مؤتمر الحوار الوطني[59] . وكذلك الأمر أيضاً في أفغانستان حيث تمت دعوة جماعات تحت إسلامية -متهمة بارتكاب جرائم حرب- للمشاركة في المؤتمر وفي الوقت ذاته تم تكليف جهاز الخدمة السرية الأفغاني بتوفير الأمن أثناء الحوار، واستخدم هذا الدور لتهديد المشاركين[60].
الشكل رقم 5: عوامل وخطوات بناء الثقة
خاتمة:
تُعد مرحلة التحضير من أبرز المراحل التي تحدد نجاح أو فشل أية عملية حوار وطني، فهي الأساس الذي تُبنى عليه جميع الخطوات اللاحقة؛ لذا فإن التحضير لها ليس مجرد إجراء شكلي أو سريع، وإنما يتطلب تحديد الأهداف بوضوح وتحضير الأرضية، بدءاً من تمهيد الأرضية والحصول على التفويض وصولاً إلى اختيار المشاركين وبناء الثقة بين أطراف الحوار الوطني، مع ضرورة عدم التقليل من أهمية كل مرحلة أو تبسيطها أو عدم منحها الوقت اللازم؛ لأن فشل الحوارات الوطنية أو تعثرها عادة ما يكون مردّه إلى غياب التحضير الجيد وعدم القدرة على تحقيق التوازن بين الأطراف المشاركة.
يُعد التفويض ركيزة أساسية في العملية الحوارية؛ فمن خلاله يتم تحديد معايير العملية وأهدافها، ووضوح التفويض وتوافق أطراف الحوار الوطني عليه أمران ضروريان لضمان استمرار الحوار. وأما إن كان التفويض مفروضاً أو لاقى رفضاً محلياً فإن إمكانية فشله وتعثره واردة، كما حدث في بعض الحالات التي تم تناولها في التقرير.
أما عملية بناء الثقة التي تشكل خطوة أولى لضمان تفاعل الأطراف واستعدادهم للوصول إلى حلول مشتركة فيجب أن يُرتب لها مجموعة من الإجراءات، سواءٌ من قبل الحكومة أو الجهة المنظّمة للحوار؛ لأن غياب الثقة بين الأطراف أو لدى طرف واحد في مرحلة من مراحل الحوار قد يؤدي إلى تراجع المشاركة وتعطيل العملية ورفع الشرعية عنها، وهو ما شهدناه في العديد من التجارب، مثل الحوار الوطني البحريني والحوار السوداني.
إجمالاً يمكن القول: إن التحضير الجيد والتخطيط المسبق هما الأساس لأي حوار ناجح؛ فكلما كانت الأرضية معدّة بشكل مناسب، وكانت المعايير والآليات واضحة وملائمة ارتفعت فرص نجاح الحوار وتحقيق نتائج ملموسة.
في النهاية يبقى السؤال الرئيس: ما هي الدروس المستفادة من هذا الإطار النظري والتجارب المقارنة في الحالة السورية؟
هذا ما سيتم استعراضه في مقالات قادمة.