هل يؤدي تحرير سوريا إلى فتح مجالات جديدة لحل المشكلة الكردية في المنطقة؟
تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
شهدت تركيا منذ مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول 2024 تطورات متسارعة في ملف تعامل الدولة مع القضية الكردية؛ إذ أطلق رئيس حزب الحركة القومية حليف الرئيس أردوغان “دولت بهتشلي” في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2024 مبادرة طلب فيها السماح لعبد الله أوجلان زعيم تنظيم “حزب العمال الكردستاني PKK” السجين في تركيا منذ 1999م بإلقاء كلمة في البرلمان التركي يدعو فيها تنظيمه إلى ترك السلاح وحلّ التنظيم[1].
ومع التطورات الأخيرة في سوريا بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 عادت هذه المبادرة إلى الواجهة؛ إذ سمحت الحكومة التركية لوفد من قيادات حزب الديمقراطية والمساواة الشعبية (DEM Parti) بزيارة أوجلان في سجنه في جزيرة إمرالي لمناقشة هذه المبادرة، وبعد هذه الزيارة توجه الوفد إلى لقاء قادة الأحزاب التركية في البرلمان لمناقشة الخطوات التالية وسط تصريحات إيجابية من جميع الأطراف[2].
لا يمكن فصل الملف الكردي في سوريا عن الملف الكردي في تركيا؛ إذ ترتبط “قسد” بشكل وثيق بتنظيم “حزب العمال الكردستاني PKK”، وتطبّق أيديولوجيا قائده عبدالله أوجلان (الكردي التركي)، كما أن تركيا تحارب “قسد” وتسعى لإزالتها لأنها تراها فرعاً من فروع التنظيم المصنَّف على قوائم الإرهاب في تركيا؛ لذا فإن أية عملية صلح أو تفاهم بين التنظيم والدولة التركية ستنعكس بشكل مباشر على الأرض في سوريا من حيث العلاقة بين تركيا والفصائل التي تدعمها من جهة، و”قسد” من جهة” ثانية، والإدارة السورية الجديدة من جهة أخرى.
“قسد”؛ بين ملف المفاوضات وملف المواجهة العسكرية:
بعد انطلاق عملية “ردع العدوان” بثلاثة أيام في تاريخ 30 نوفمبر/تشرين الثاني أطلقت فصائل الجيش الوطني السوري المقرب من تركيا عملية “فجر الحرية”، التي هدفت إلى تحرير المناطق التي تسيطر عليها “قسد” في ريف حلب الشمالي مثل تل رفعت ومنبج[3]، وما تزال المعارك بين الجيش الوطني و”قسد” مستمرة حتى اليوم في ريف حلب عموماً وحول سدّ تشرين ومدينة مسكنة خصوصاً[4]، تخللتها مجموعة من الهدن برعاية أمريكية[5]، فيما قامت “قسد” خلال هذه الفترة بأعمال سرقة وتخريب في بعض مناطق سيطرتها التي تشعر بقرب خسارتها مع احتدام المعارك[6]، كما استهدفت محطات المياه المغذية لمدينة حلب عدة مرات، مما أدى إلى أزمة مياه في المدينة[7].
في المقابل لم تنشب حرب بين قوات “ردع العدوان” و”قسد” بعد سيطرة الأولى على حلب أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2024، رغم تحصن قوات “قسد” في حيي الأشرفية والشيخ مقصود، واستمرارها باستهداف العابرين من هذه المناطق[8]، وكانت التصريحات المتبادلة بين الطرفين معتدلة وتدعو للتوصل إلى حل وسط؛ إذ صرّح السيد أحمد الشرع برفضه مشاريع التقسيم أو الفدرالية، لكنه قال: إن المفاوضات مع “قسد” جارية للتوصل إلى اتفاق وضمّ القوات المسلحة للجيش السوري الجديد[9]؛ فيما أبدت “قسد” استعدادها أيضاً للانضمام للجيش الجديد، وفتحت الباب أمام عقد مشاورات مع الحكومة الجديدة للتوصل إلى اتفاق[10].
وبالنظر إلى المواقف الخارجية أكدت تركيا عدم قبولها أية مشاريع انفصالية في سوريا، وطالبت بإخراج جميع المقاتلين الأجانب في صفوف “قسد” إلى خارج سوريا[11]، فيما كانت التصريحات الأوروبية داعية إلى إقرار وقف مستدام لإطلاق النار بين “قسد” وفصائل الجيش الوطني، وإطلاق عملية سياسية لدمج “قسد” في الدولة السورية الجديدة وإشراكها في المرحلة الانتقالية[12].
موقف الحكومة التركية من حلّ المشكلة الكردية:
بدأت هذه العملية بمبادرة من شريك التحالف الحاكم رئيس حزب الحركة القومية “دولت بهتشلي” الذي دعا في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول 2024 للسماح لعبدالله أوجلان بإلقاء خطاب في البرلمان يدعو فيه تنظيمه لترك السلاح وحلّ نفسه[13]، ولم تتجاوب الحكومة التركية مع هذه المبادرة في البداية، لا بالسلب ولا بالإيجاب، كما اتخذت بعض الخطوات المعاكسة لهذا التوجه، مثل عزل رؤساء بلديات من حزب الديمقراطية والمساواة الشعبية في المدن ذات الغالبية الكردية مطلع شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ومن أبرزهم رئيس بلدية ماردين الكبرى “أحمد ترك” بتهمة الانضمام لتنظيمات إرهابية[14]. واستمر هذا التوجه حتى مطلع عام 2025؛ فقد عزلت الحكومة التركية الرئيسَين المشاركَين لبلدية أكدنيز في مدينة مرسين بتهم متعلقة بالإرهاب، في توجُّه قد يُفهَم منه أنه استمرار للضغط على الأحزاب الكردية للقبول بشروط الدولة التركية في هذه المفاوضات[15].
تزامن سقوط نظام الأسد في سوريا مع اتخاذ الحكومة التركية خطوات جديدة في مسار حل المشكلة الكردية؛ إذ سمحت لقياديي الحركة الكردية بزيارة أوجلان في سجنه في أواخر شهر ديسمبر/كانون الأول 2024 [16]، وكرّر المسؤولون الأتراك خلال هذه المرحلة تأكيدهم تحقيق هدف “تركيا الخالية من الإرهاب”، وعزمهم تقوية أواصر الأخوّة بين الأتراك والأكراد الممتدة لأكثر من ألف عام بحسب الخطاب الرسمي[17].
وفي الوقت نفسه أظهر الخطاب الرسمي التركي صلابة في مسألة إنهاء الإرهاب واجتثاثه من جذوره، وتزامنت هذه التصريحات مع عمليات عسكرية ضد تنظيم PKK في شمال العراق وفي ريف حلب في سوريا، وتهديدات مزيد من التصعيد العسكري في سوريا والعراق في حال رفض التنظيم العرض التركي المتمثل بترك السلاح وحل التنظيم بالكامل[18]، وصرّح وزير الخارجية التركي “هاكان فيدان” أن تركيا تعرف أسماء جميع عناصر حزب العمال الكردستاني في سوريا، وتطالب بإخراجهم من سوريا، وإلا فإنها ستتدخل عسكرياً لإنهاء وجودهم[19]، فيما أظهر الإعلام المقرب من الحزب الحاكم موقفاً مشابهاً؛ إذ تكرر في كثير من مقالات الرأي أن الدولة التركية ستُنهي خطر الإرهاب بهذه المبادرة، أو أنها ستنهيه بالقوة إذا لم يستجب التنظيم[20].
مواقف الطرف الكردي من المبادرة التركية:
أظهر القياديون السياسيون في الحركة الكردية في تركيا تجاوباً مع مبادرة دولت بهتشلي؛ إذ كانت تصريحاتهم إيجابية داعية لإيجاد حلّ عادل للمشكلة الكردية، وبعد زيارتهم أوجلان في سجنه نقلوا عنه رسالة أشار فيها إلى أخوّة الأتراك والأكراد التاريخية، وإلى أهمية إنهاء الصراع الطويل، لاسيما بعد التطورات الأخيرة التي حدثت في غزة وسوريا، مبدياً استعداده لاتخاذ الخطوات المطلوبة منه في حال توافرت الظروف المناسبة[21].
وكان موقف حزب الديمقراطية والمساواة الشعبية -الذي يُعد الحزب السياسي الممثل للقضية الكردية في تركيا والمتهم بعلاقته بحزب العمال الكردستاني- مماثلًا؛ فقد رحّب الحزب بهذه المبادرة وعدّها فرصة تاريخية لتحقيق السلام، وأكّد أن التطورات في تركيا يجب أن تنعكس على سوريا لإحلال السلام في شمال شرق سوريا أيضاً، بحسب البيانات الرسمية للحزب[22].
ولكن في الوقت نفسه سعى حزب الديمقراطية والمساواة الشعبية لإظهار قوته للحكومة التركية عبر إطلاق مسيرات شعبية في المدن ذات الأغلبية الكردية للمطالبة بإيقاف هجمات الجيش التركي والجيش الوطني السوري على “قسد”[23]، ومسيرات أخرى في ولاية هاتاي للاحتجاج على ما وصفوه بـ”المجازر” ضد الطائفة العلوية في سوريا[24]، كما صرّحت الرئيسة المشاركة للحزب “تولاي حاتم أوغلاري” قائلة: “إمّا أن ننجح بتحقيق السلام أو ستشهد منطقتنا تغيرات سلبية كبيرة، وستتحول المنطقة إلى غزة أخرى”؛ في تصريحٍ عدّه بعض المقرّبين من حزب العدالة والتنمية تهديداً للحكومة[25]، فيما عادت أوغلاري وبرّرت تصريحها بأنه مقتطع من سياقه، وأن حزبها سيعمل دائماً من أجل تحقيق السلام والعدالة[26].
الانعكاسات المحتملة لهذه المبادرة على سوريا:
يبدو من خلال التطورات الأخيرة أن تركيا قد ضيّقت الخناق بشكل كبير على تنظيم حزب العمال الكردستاني وفروعه في العراق وسوريا من خلال العمليات العسكرية المستمرة منذ بضع سنوات، وقد حصلت تركيا مؤخراً على زخم كبير في هذه المواجهة بعد سقوط نظام الأسد وبعد ظهور بوادر اقتراب الانسحاب الأمريكي من سوريا، مما قوّى موقفها وجعلها تكثّف من هجماتها وهجمات الجيش الوطني السوري على “قسد” في ريف حلب؛ ولكن في الوقت نفسه يبدو أن تركيا تحاول أن تعطي للتنظيم مخرجاً أخيراً يخفّف من تكلفة المواجهة، بحيث يعلن تنظيم حزب العمال الكردستاني استجابته لخطاب أوجلان المنتظر، فيحلّ نفسه ويغادر -بموجب هذا الاتفاق- المقاتلون الأجانب التابعون للتنظيم من سوريا، وتنضمّ القوات الكردية السورية إلى الجيش السوري الجديد.
في الطرف المقابل يبدو موقف تنظيم حزب العمال الكردستاني ضعيفاً في هذه المرحلة؛ إذ تعرّض لضربات كبيرة في العراق في الفترة الماضية، وتواجه “قسد” الآن في سوريا احتمال الانسحاب الأمريكي، بالإضافة إلى مواجهتها انتفاضات شعبية في المناطق التي تسيطر عليها في سوريا، خاصة في المدن والقرى ذات الغالبية العربية؛ فيما يواجه حزب الديمقراطية والمساواة الشعبية (DEM Parti) في تركيا وضعاً صعباً في ظل سجن عدد من قيادات الحزب بتهم متعلقة بالإرهاب، وعزل رؤساء البلديات التابعين له، والتهديد المستمر بقطع ميزانية الحزب وإغلاقه بشكل نهائي؛ مما يجعل هامش المناورة في المفاوضات مع الحكومة التركية ضيقاً من جهته.
يبدو أن التهدئة والاتجاه للمفاوضات مع قوات “قسد” جزءٌ من تصوُّر لحل المشكلة الكردية؛ إذ إنّ توقُّف المعارك التي يقودها الجيش الوطني والدعوة إلى هدنة تأتي في سياق محاولات الضغط في الملف ذاته، وهو ما يشير إلى تحديات جمّة إن تعثرت المفاوضات التركية مع أوجلان، أو رفض تنظيم حزب العمال الكردستاني تنفيذ ما سيأتي في خطاب أوجلان المنتظر؛ فمن المرجّح أن تستمر تركيا في تنفيذ الخيار العسكري عبر دعم فصائل الجيش الوطني في تكثيف الهجمات العسكرية ضد “قسد” لتحرير مزيد من الأراضي وإجبارها في النهاية على الاتفاق مع الإدارة السورية الجديدة، أو إنهائها بشكل كامل.
الأثر المتوقع للمواقف الخارجية في هذا الملف:
يُعد الموقف الأمريكي حاسماً في هذه القضية، لاسيما بعد تولي الإدارة الجديدة بقيادة دونالد ترامب مقاليد الحكم في نهاية شهر يناير/كانون الثاني الجاري؛ إذ كان دونالد ترامب قد لمّح سابقاً إلى عزمه سحب القوات الأمريكية من سوريا، ولكن مع عودة الهجمات الإرهابية التي وقعت في أمريكا مؤخراً، واتُّهِم تنظيم “داعش” بالوقوف خلفها، فقد يؤدي ضغط المؤسسات الأمريكية على ترامب إلى العدول عن قراره بشأن الانسحاب من سوريا، مما يعني استمرار الدعم الأمريكي المباشر لـ”قسد”، وتقوية موقفها في المفاوضات مع الإدارة السورية الجديدة وتركيا.
ومن العوامل المؤثرة في هذه القضية أيضاً الموقف الفرنسي؛ إذ توجد قوات فرنسية تدعم “قسد” على الأرض في سوريا، وصرّح مؤخراً الرئيس الفرنسي ماكرون بأنه لن يتخلى عن “المقاتلين الأكراد”[27]، مما يشير إلى أن فرنسا تريد استخدام هذا الملف لإجبار الإدارة السورية الجديدة على بعض الخطوات التي تتوافق مع مصالحها، كما ستستخدم “قسد” أداة للتنافس مع تركيا في المنطقة، ولكن لا يُتوقع أن تستطيع فرنسا وحدها اتخاذ موقف قوي داعم لـ”قسد” بمعزل عن أمريكا؛ إذ يبقى الموقف الأمريكي هو الفاصل الذي سيُجبر الدول الأوروبية الأخرى على الالتزام به.
أما “إسرائيل” فلا يبدو حتى الآن أنها قادرة على تقديم الدعم العسكري المباشر لـ”قسد”؛ ولذا فمن الممكن أن تسعى إلى الضغط على ترامب من أجل عدم سحب القوات الأمريكية من سوريا إن أصرّت على استخدام ورقة “قسد” من أجل إضعاف الدولة السورية الجديدة، والعمل على تقسيمها بنظام فدرالي أو تقسيمها بشكل كامل[28].
ختاماً:
بالنظر إلى جميع المؤشرات السابقة يبدو أن “قسد” تواجه خيارات صعبة؛ إذ تواجه ضغطاً عسكرياً من تركيا والجيش الوطني السوري، وضغطاً سياسياً من تركيا ومن أوجلان إذا تطورت عملية حل المشكلة الكردية في تركيا وأصدر الخطاب الذي يدعو فيه حزب العمال الكردستاني لترك السلاح وحلّ نفسه، وضغطاً خارجياً في حال انسحاب أمريكا من سوريا بعد تسلُّم ترامب. وحتى الآن لا يُعد الدعم “الإسرائيلي” أو الفرنسي كافياً لمواجهة كل هذه الضغوطات؛ لذا من الراجح أن تلجأ “قسد” إلى قبول عرض الإدارة السورية الجديدة عبر الانضمام إلى الجيش السوري الجديد بعد إخراج المقاتلين الأجانب من صفوفها وحلّ جميع التنظيمات الخارجة عن الدولة، في مقابل تحصيل بعض الحقوق للمكون الكردي من الشعب السوري، مثل: التعليم باللغة الأم، واحترام الثقافة والتاريخ والهوية الكردية، دون الحصول على إقليم حكم ذاتي. أما إذا لم تتوصل إلى اتفاق فإنها ستواجه مزيداً من التصعيد العسكري من قبل تركيا والجيش الوطني السوري الذي قد يؤدي إلى خسارتها بشكل كامل، وإلى تضييع جميع المكاسب التي يمكن أن تحصل عليها من اتفاقها مع الإدارة السورية الجديدة.
بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري