الرؤية التركية لمستقبل العلاقات مع سوريا.. قراءة في تقرير مركز “سيتا” حول المشهد الجيوسياسي لتركيا عام 2025
تقرير صادر عن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري
اتسمت العلاقات التركية-السورية منذ تأسيس الدولتين بالتذبذب والتقلُّب، وبرز هذا التذبذب في العلاقة بشكل واضح في العقدين الماضيين، إذ تقاربت الحكومتان بشكل كبير وغير مسبوق، قبل أن تنهار العلاقة وتتحوّل إلى عداء كبير بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، ثم عادت تركيا وحاولت التقرُّب من نظام الأسد وتطبيع العلاقة معه من جديد في عام 2022، لكن تعنُّت الأسد دفع بتركيا لتأييد عملية “ردع العدوان” التي نجحت بإسقاط نظام الأسد وتأسيس دولة جديدة.
تبرز الآن آفاق جديدة للتعاون بين تركيا والدولة السورية الجديدة، إذ أعلنت تركيا دعمها الكامل للإدارة الجديدة، وعرضت التعاون في العديد من المجالات، مثل الطاقة والاتصالات والبنى التحتية وإعادة الإعمار، كما قدمت الدعم الدبلوماسي للإدارة السورية الجديدة في عدد من المحافل الدولية.
وفي إطار السعي لفهم التوجُّهات التركية الدبلوماسية المستقبلية نحو سوريا، من المهم الاطلاع على ما تنشره مراكز الأبحاث التركية، والتي يأتي في مقدمتها مركز وقف الأبحاث السياسية والاقتصادية والمجتمعية “سيتا”، ونعرض بين يديكم قراءة في النقاط المتعلّقة بالملف السوري في التقرير الصادر عن المركز بعنوان “رادار سيتا الأمني: المشهد الجيوسياسي لتركيا في عام 2025″، والذي يهدف لتقديم رؤية استشرافية لمستقبل السياسة الخارجية التركية في عام 2025.
ينقسم التقرير إلى عدد من الأقسام، يتناول كل منها علاقة تركيا بدولة من الدول، وسيعرض هذا الملخّص النقاط المتعلقة بسوريا في كل قسم من التقرير.
العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة بعد سقوط نظام الأسد:
أشار التقرير إلى أنّ ملف دعم الولايات المتحدة الأمريكية لـ “قوات سوريا الديمقراطية -قسد” في شمال شرق سوريا يُعَدّ من أبرز القضايا الشائكة في العلاقات التركية-الأمريكية، خاصة بعد سقوط نظام بشار الأسد، إذ قدّمت الولايات المتحدة دعمًا ماليًا وعسكريًا كبيرًا لـ”قسد”، شمل توفير السلاح والذخيرة والمساندة الميدانية، لكنها في الوقت نفسه لم تتخذ موقفًا صارمًا إزاء الهجمات التركية على مواقع “قسد”، التي جاءت ردًا على استهداف شركة “توساش” للصناعات الدفاعية في أنقرة في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2024.
ومن الأمثلة الأخرى التي عرضها التقرير على المواقف المتذبذبة في العلاقات بين الدولتين، معارضة الولايات المتحدة إجراء “قسد” لانتخاباتها البلدية في شهر أغسطس/آب 2024 بحجة عدم توفر الشروط اللازمة، وهو موقف لاقى استحسانًا من الجانب التركي، لكن في الطرف الآخر استمرت الولايات المتحدة في تقديم الدعم لـ”قسد”، مما أبقى العلاقة بين الطرفين متوترة.
وبالنظر لمرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، ذكر التقرير أن الولايات المتحدة أظهرت مرونة تجاه العمليات العسكرية التي نفذها الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا لتحرير مناطق مثل تل رفعت ومنبج، وأطلقت تصريحات داعمة لمكافحة تركيا للإرهاب، لكنها لم توقف دعمها المستمر لـ”قسد”، ما جعل هذا الملف مصدرًا للخلاف الدائم بين البلدين.
يرى محللو مركز “سيتا” أن هناك سيناريوهين محتملين لتطوّر العلاقات التركية-الأمريكية في العام الحالي:
- الأول: إذا قرّرت الولايات المتحدة تعزيز التعاون مع تركيا فقد تُقلّل دعمها لـ”قسد”، مع الضغط عليها لقطع علاقتها بحزب العمال الكردستاني (PKK) والتحوّل إلى حزب سياسي يشارك في العملية الانتقالية في سوريا دون تهديد الأمن التركي. في هذا السيناريو، يمكن أن يشهد التعاون بين البلدين تطورًا ملحوظًا في ملفات مثل مكافحة تنظيم داعش وتعزيز استقرار سوريا.
- الثاني: إذا استمرت الولايات المتحدة في تقديم الدعم لـ”قسد”، فقد تلجأ تركيا إلى الخيار العسكري ضدها، مما قد يؤدي إلى توتر العلاقات بين البلدين ويؤثر على ملفات أخرى، منها التعاون لدعم الإدارة السورية الجديدة.
وأشار التقرير إلى أن العلاقة الشخصية الجيدة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب هي عامل مهم قد يُسهم في تهدئة التوترات بين البلدين أو تصعيدها، حيث تلعب هذه العلاقة دورًا مباشرًا في التعامل مع الملفات الخلافية، وعلى رأسها ملف “قسد”.
تربط بين الرئيس أردوغان والرئيس الأمريكي ترامب علاقة أفضل بكثير من التي تربطه بالرئيس بايدن، ونجح باستخدام هذه العلاقة في تحقيق مصالحه في عدد من الملفات، من بينها الملف السوري، وتجلى هذا بوضوح في الفترة الأولى لترامب عندما نفّذت تركيا عمليات عسكرية برية في سوريا ضد “قسد” دون معارضة أمريكية واضحة، ومن المتوقع أن تستمر هذه العلاقة الجيدة وتستثمر مجدداً في الفترة الثانية لولاية الرئيس ترامب وتمكّن تركيا من الحصول على المزيد من الدعم الأمريكي في ملف “قسد”.
وتشير التطورات الحالية إلى أن المزاج الدولي الإيجابي عربياً ودولياً تجاه الإدارة السورية الجديدة قد يُسهم بتشجيع الولايات المتحدة الأمريكية للعمل على تعزيز الاستقرار في سوريا وحل المشاكل العالقة مثل الوصول إلى تفاهم بخصوص “قسد” ودمجها تحت مظلّة الإدارة السورية الجديدة؛ ما لم يكن هناك ضغطٌ من “إسرائيل” على الإدارة الأمريكية لإبقاء وجود “قسد” في المنطقة كحليف بشكل يُغيّر من هذه المعادلة ويرجّح الاحتمال الثاني الذي وضعه محللو “سيتا”.
العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي:
فتح سقوط نظام الأسد الباب أمام فرص جديدة للتعاون بين تركيا والاتحاد الأوروبي، بحسب ما ورد في التقرير، خاصة في مجالات إعادة إعمار سوريا ودعم الإدارة الجديدة. ومع ذلك، يبقى ملف “قسد” عقبة رئيسية قد تعرقل هذا التعاون، حيث يواصل الاتحاد الأوروبي تقديم الدعم لـ”قسد”، في حين تستمر تركيا في حربها ضد التنظيم.
تحاول فرنسا على وجه التحديد، وبعض الدول الأوروبية الأخرى، محاربة النفوذ التركي في عدد من المناطق في العالم، ومن بينها سوريا، وذلك عبر تقديم الدعم لـ”قسد”، لكن الدول الأوروبية لم تعد تملك الثقل الكافي لتتصرّف بشكل مستقل على الساحة الدولية، وباتت تابعة للمعسكر الأمريكي ولا تستطيع الخروج عن التوجُّهات الأمريكية، لذا فإن أي توجُّه أمريكي بإيقاف الدعم لـ”قسد” أو تخفيفه سيتبعه قرار مشابه من الدول الأوروبية.
في المقابل، تشترك تركيا وأوروبا في السعي لحل مشكلة اللاجئين والهجرة غير الشرعية، ويُشكّل سقوط نظام الأسد فرصة للطرفين للوصول إلى تصوُّر يُخفّف عنهما جزءًا كبيرًا من عبء هذه المشكلة، لذا من المتوقع أن يدعم الطرفان جهود إعادة الإعمار وتثبيت الاستقرار في سوريا وضخ الاستثمارات فيها بهدف تهيئة البيئة المناسبة لتشجيع اللاجئين على العودة وتخفيف الظروف الصعبة التي تدفع بالشباب السوري للهجرة إلى تركيا وأوروبا.
ومصداقًا لذلك، اتخذت الدول الأوروبية حتى الآن موقفًا إيجابيًا نسبيًا تجاه العلاقة مع الإدارة السورية الجديدة، وأعلنت عن رفع جزئي للعقوبات المفروضة على سوريا في بعض القطاعات لمدة عام واحد[1]، كما أعلنت عن تنظيم مؤتمر للمانحين في شهر مارس/آذار المقبل لدعم عملية التعافي المُبكّر وإعادة الإعمار[2]، لذا يمكن أن يكون هناك اتفاق في وجهات النظر التركية والأوروبية في الملف السوري في المستقبل القريب.
العلاقات التركية مع روسيا:
ذكر التقرير أن العلاقة بين تركيا وروسيا شهدت تغيُّرات كبيرة بعد سقوط نظام الأسد، حيث تراجع النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، في حين ازداد نفوذ تركيا التي دعمت القيادة السورية الجديدة في بناء نظام حكم جديد. وفي هذا السياق، استمرت الخلافات بين البلدين، خاصة فيما يتعلّق بملف “قسد”، حيث تساند تركيا فصائل الجيش الوطني ضد التنظيم، بينما تلتزم روسيا بمواقف مغايرة.
وبحسب ما ورد في التقرير، تُمثّل سوريا بالنسبة لروسيا أكثر من مجرّد قواعد عسكرية، فهي جزء من أمنها القومي ونقطة استراتيجية لدعم نفوذها في البحر المتوسط وأفريقيا، كما استخدمت روسيا خلال السنوات الماضية الورقة السورية وسيلة ضغط في مفاوضاتها مع تركيا، حيث كانت المصالح الروسية غالبًا ما تتعارض مع المصالح التركية وتُشكّل تهديدًا لأمنها القومي، في حين ترى تركيا سوريا بنفس الأهمية التي ترى بها روسيا أوكرانيا، ما دفع أنقرة إلى التركيز على تحييد كل وسائل الضغط التي تستخدمها روسيا والدول الأخرى لتهديد استقرارها الإقليمي.
وتوقّع محلّلو “سيتا” أن مستقبل القواعد الروسية في سوريا سيبقى عاملًا مؤثرًا على الديناميكيات الإقليمية، إذ ما يزال مصير قاعدتي حميميم وطرطوس مجهولًا، لكنه سيلعب دورًا رئيسيًا في تحديد مدى استمرار النفوذ الروسي في سوريا. تتراوح الاحتمالات بحسب آراء محللي مركز “سيتا” بين انسحاب كامل لروسيا من سوريا، مما سيؤدي إلى تراجع وجودها في المنطقة وتضرُّر صورتها أمام حلفائها، أو تقليص وجودها العسكري إلى الحد الأدنى مع الإبقاء على القاعدتين، وفي كلتا الحالتين، من المتوقع أن تستفيد تركيا من الفراغ الذي قد تتركه روسيا، مما يُعزّز من نفوذها في سوريا.
على الرغم من ذلك، لا تزال هناك قضايا عالقة بين البلدين بحسب آراء مُحلّلي “سيتا”؛ أبرزها الاعتراف الروسي بالإدارة السورية الجديدة ودعمها، بالإضافة إلى موقف روسيا من دعم الجهود التركية لمكافحة حزب العمال الكردستاني، ويُرجّح أن تعترف روسيا بالإدارة السورية الجديدة، لكن من غير المتوقع أن تُقدّم دعمًا واضحًا للعمليات العسكرية التركية في سوريا.
منذ انطلاق عملية “ردع العدوان” كان موقف روسيا من الأحداث في سوريا شبه محايد، إذ لم تُقدّم الدعم الجوي لنظام الأسد بشكل كبير واكتفت ببضعة ضربات جوية، كما انسحبت من الكثير من قواعدها المتوزّعة في أنحاء سوريا واكتفت بقاعدتي حميميم وطرطوس، ولم يُصرّح المسؤولون الروس بشكل عدائي ضد الإدارة السورية الجديدة، ما يشير إلى وجود تفاهم غير معلن بين روسيا والإدارة السورية الجديدة والقوى الإقليمية على هذه الخطوات.
وفي هذا الصدد، أجرى المبعوث الروسي الخاص للشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، زيارة للعاصمة دمشق التقى فيها أحمد الشرع، وناقشا فيها قضايا احترام السيادة السورية ووحدة أراضيها، وسبل إعادة ثقة الشعب الروسي بروسيا عبر دعمها إعادة الإعمار والتعافي وتقديم تعويضات للضحايا وتحقيق العدالة الانتقالية[3].
من المرجّح أن تستغل الإدارة السورية الجديدة، ومن خلفها تركيا، مسألة وجود القواعد الروسية في سوريا من عدمها أداة للمساومة مع الغرب، بحيث يشترطون تخفيف الدعم الغربي لـ”قسد” أو إنهاءه، ورفع العقوبات مقابل مطالبة روسيا بالانسحاب الكامل من سوريا[4]؛ كما أنه من الممكن أن تستغلّه الإدارة السورية الجديدة في مفاوضة روسيا على الأموال السورية التي أودعها النظام البائد في روسيا، وعلى تسليم رؤوس النظام المخلوع لسوريا لمحاكمتهم، وعلى دعم قضايا التعافي وإعادة الإعمار[5].
الملف السوري:
رأى مُحلّلو “سيتا” أن المعارضة السورية نجحت في استغلال الظروف الإقليمية لصالحها، حيث بدأت عملية “ردع العدوان” بعد استنزاف روسيا بحربها في أوكرانيا وضعف كبير لإيران وأذرعها، خاصة بعد الضربات “الإسرائيلية” التي تلقّتها عقب انطلاق عملية طوفان الأقصى، وأسهمت هذه العوامل في تقليص الدعم الخارجي لنظام الأسد وتسريع انهياره.
في الوقت نفسه، أشار التقرير إلى أن “قسد” باتت تواجه تحدّيات كبيرة بعد سقوط نظام الأسد الذي تحالفت معه طيلة السنوات الماضية، فقد ازداد الزخم لدى المعارضة السورية، وتزايد التململ الشعبي في المناطق العربية التي تسيطر عليها “قسد”، مما أدى إلى خسارتها لأكبر مواقعها في غرب الفرات، مثل منبج وتل رفعت.
وأضاف التقرير أنه منذ تولّي إدارة أحمد الشرع زمام الأمور، عملت على التشاور مع الفصائل العسكرية المختلفة لدمجها في جيش واحد، رغم المخاوف من نشوب خلافات حول هذا الموضوع، إلا أن سرعة التقدُّم في هذا الملف تشير إلى وجود استعدادات مسبقة لدى الإدارة السورية، فضلاً عن حصولها على دعم دبلوماسي خارجي.
تشترك تركيا والإدارة السورية الجديدة في رفض تقسيم سوريا أو تطبيق نظام فدرالي فيها، ورفض وجود عناصر تنظيم حزب العمال الكردستاني على الأراضي السورية، كما أبدت تركيا اهتمامًا كبيرًا بملف إعادة الإعمار في سوريا، بحسب ما ذُكِر في التقرير.
أدى سقوط نظام الأسد إلى فتح الباب لحراك دبلوماسي مُكثّف تجاه سوريا، لاسيما من دول تركيا والخليج العربي والدول الغربية التي تسعى إلى تقليص نفوذ إيران وروسيا في المنطقة، وبالنظر إلى السياسة التركية تجاه سوريا، يرى محللو مركز “سيتا” أنها ترتكز على أربعة محاور رئيسية: دعم تأسيس حكومة مركزية، بناء سوريا موحّدة، تعزيز الدبلوماسية في الإقليم، وتفعيل المشاركة الدولية متعدّدة الأطراف.
أشار التقرير إلى أن تركيا تسعى إلى دعم الإدارة السورية الجديدة في تقوية المؤسسات الحكومية خلال المرحلة الانتقالية، ودعم جهود سحب سلاح الفصائل، بالإضافة إلى إنشاء جيش مُوحّد وتعزيز قوة القطاع الأمني لضبط الاستقرار في مختلف المناطق السورية، أما فيما يتعلّق بالحفاظ على وحدة سوريا ستستمر تركيا في محاربة “قسد” ودعم جهود التسوية لتعزيز السلم المجتمعي بين الطوائف.
كما ذكر التقرير أن تركيا تسعى إلى قيادة تحالفات إقليمية لدعم استقرار سوريا وإحياء اقتصادها، وتقوية التواصل العربي والإسلامي عبر الملف السوري، إلى جانب إنشاء إطارات دبلوماسية جديدة لدعم سوريا في استعادة سيادتها على أراضيها وحلّ مشكلاتها، أما فيما يخص المشاركة الدولية، ستدعم تركيا الجهود للاعتراف بالإدارة السورية الجديدة على الساحة الدولية وتنظيم جهود الاستثمار وإعادة الإعمار في سوريا، مع تعزيز التعاون الدولي لمحاربة الإرهاب ودعم عملية الانتقال السياسي في البلاد.
تملك تركيا وسوريا اليوم فرصة تاريخية لتحسين العلاقات بين البلدين على جميع المستويات، إذ يمكن للإدارة السورية الجديدة أن تستفيد من الشركات التركية في عمليات إعادة الإعمار وإصلاح البنى التحتية في مجالات الطرق والماء والكهرباء والإنترنت، كما يمكن أن تستفيد من تركيا في مجال الصناعات الدفاعية.
وتتشارك الإدارة السورية الجديدة وتركيا في وجهات النظر في مسائل متعدّدة، مثل رفض إنشاء كيان انفصالي، وتوحيد الفصائل المسلّحة تحت مظلّة جيش موحّد، وتهيئة الظروف المناسبة لعودة اللاجئين السوريين من تركيا إلى بلادهم، لذا من المتوقع أن يزيد التعاون بين البلدين بشكل كبير في الفترة المقبلة.
لكن، تواجه الإدارة السورية الجديدة تحدّياً كبيراً في عدم الاعتماد بشكل كلّي على تركيا، إذ إن أولوية الإدارة إنعاش الإنتاج المحلي لإحياء القطاع الصناعي في البلاد من جديد، وهذا يستلزم عدم الاعتماد الكامل على الصادرات التركية التي قد تغزو الأسواق وتنافس البضائع المحلية، كما ستحاول الإدارة السورية الجديدة الحفاظ على استقلاليّتها بدرجة مُعيّنة لإنشاء علاقات متوازنة مع الدول العربية والعالمية، وهذا يفرض عليها عدم الاعتماد بشكل كامل على تركيا وعدم التبعيّة المُطلقة لها.
العلاقات التركية مع “إسرائيل”:
شهدت العلاقات بين تركيا و”إسرائيل” توترًا كبيرًا عقب حرب “طوفان الأقصى” بحسب ما ورد في التقرير، إذ فرضت تركيا عقوبات تجارية على “إسرائيل” بسبب جرائم الإبادة التي ارتكبتها في غزة، فردت “إسرائيل” باستمرار دعمها لـ”قسد” في سوريا بالتصريحات وفي المجال الدبلوماسي، وبعد سقوط نظام الأسد في سوريا، من المتوقّع أن يزداد التنافس بين تركيا و”إسرائيل”، حيث تدعم أنقرة الحكومة السورية الجديدة وتحارب ميليشيا “قسد” في شمال شرق سوريا، وهو ما يتعارض مع سياسة “إسرائيل” التي تدعم الجماعات المعادية لتركيا في سوريا، كما بدأت تتوغّل في جنوب سوريا.
وفي هذا السياق، أشار التقرير إلى أن تركيا تعمل على الضغط على الولايات المتحدة لدفع “إسرائيل” إلى الانسحاب من الأراضي السورية التي احتلّتها مؤخّرًا، لكن السياسات الأمريكية المنحازة بشكل كامل إلى “إسرائيل” تحت قيادة ترامب، قد تُسهم في زيادة التوترات بين تركيا و”إسرائيل” في سوريا وفلسطين.
لم تشهد العلاقة بين تركيا و”إسرائيل” انقطاعًا تامًا رغم التوتر الكبير بينهما، إذ تستمر صادرات النفط عبر تركيا بالمرور إلى “إسرائيل”، ومع دخول اتفاقية وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في غزة بدأ بعض المسؤولين الاتراك بالتلميح إلى إمكانية عودة العلاقات التجارية من جديد؛ لذا فلا يمكن الحكم على أن “إسرائيل” ستستمر باتخاذ كل الخطوات الممكنة للإضرار بتركيا، وقد يتفقان على صيغة مُعيّنة لإيقاف هذا التوتر، الأمر الذي قد ينعكس على الساحة السورية بانسحاب القوات “الإسرائيلية” من القرى التي احتلّتها مؤخرًا في الجنوب السوري.
لكن هذه الاحتمالات ليست مؤكدة، إذ تتصرّف حكومة نتنياهو بوحشيّة كبيرة في المنطقة دون أن يكون لها رادع فعلي من القوى الإقليمية، ولا يمكن الضغط على حكومة “إسرائيل” إلا عن طريق التفاهم مع الولايات المتحدة، التي بدا جليًا قدرتها على إجبار “إسرائيل” على شروطها في اتفاقية غزة التي كانت حكومة نتنياهو تتعنّت في قبولها منذ أشهر، لذا فقرار إدارة ترامب سيكون هو الحاسم بالنسبة للتدخُّل “الإسرائيلي” في سوريا ودعمها لـ”قسد”.
العلاقات التركية مع إيران:
بحسب ما ورد في التقرير، فقد أدى سقوط نظام الأسد في سوريا إلى تراجع النفوذ الإيراني لصالح النفوذ التركي، ما قد يدفع إيران إلى دعم جماعات معادية لتركيا، وبالتالي تعميق التوترات في العلاقة بين البلدين التي كانت أصلاً متأرجحة؛ ومع ذلك، من غير المحتمل أن تتخلّى إيران عن سوريا بشكل كامل نظرًا لأهميتها الاستراتيجية؛ لذا، قد تطلب إيران من تركيا التوسط بينها وبين الحكومة السورية الجديدة لإصلاح العلاقات، ولكن تركيا ستظل تتبنّى موقفًا حذرًا تجاه إيران بحسب رأي محللي مركز “سيتا”.
تحاول إيران في هذه المرحلة التعافي من آثار تبعات عملية “طوفان الأقصى” عليها بأقلّ كلفة ممكنة والحفاظ على مشروعها النووي وإجراء اتفاقية جديدة مع أمريكا والغرب في هذا الموضوع، حتى لو كان ذلك على حساب حلفائها التاريخيين مثل “حزب الله” ونظام الأسد، لذا فمن المستبعد أن تعاود إيران التفكير بالتدخُّل العسكري في سوريا مثل السابق بعد أن فقدت مليشياتها ونفوذها في سوريا.
لكن، لن تترك إيران الساحة السورية بالكامل، وستستمرّ بمحاولة زعزعة الأمن في سوريا بكل الطرق الممكنة، بما في ذلك تحريض العلويّين والشيعة على وجه الخصوص وباقي الأقلّيات بشكل عام ضد الإدارة السورية الجديدة وتدعمهم مالياً لإحداث قلاقل قد تتيح لإيران التدخُّل من جديد في المستقبل أو إفشال التجربة، كما أن إيران ما تزال تدعم “قسد” بطائرات مُسيّرة، وذلك بهدف زعزعة سوريا ومحاولة تقسيمها.
بالنظر إلى موقف تركيا، نجد أنها قد استمرت بدعم العراق وذلك ضمن مساعيها في محاربة التنظيمات الانفصالية، كما ستستمر تركيا بضخ الاستثمارات في العراق في محاولة منها لإبعاده عن إيران، وبغض النظر عن مدى قدرتها على تحقيق ذلك، فقد استفادت تركيا من تراجع النفوذ الإيراني الكبير في سوريا عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وقامت بملء الفراغ الذي خلّفه انسحابها.
خاتمة:
قدّم تقرير مركز “سيتا” نظرة بانورامية على احتمالات السياسة الخارجية التركية في عام 2025، وكان الملف السوري مطروحًا بشكل كبير في جميع المجالات التي تربط تركيا بدول العالم، وذلك نتيجة للتقدُّم الكبير الذي حقّقته سوريا في جميع الأصعدة بعد سقوط نظام الأسد أواخر عام 2024.
تُظهِر توقُّعات مُحلّلي مركز “سيتا” أن تركيا ستستغلّ قوتها الدبلوماسية في دعم الإدارة السورية الجديدة في مساعيها لإعادة بناء الدولة، وتوحيد الفصائل تحت جيش موحد، وإعادة الإعمار، وإنهاء خطر التقسيم أو الفدرلة، وستستغلّ نفوذها الذي كسبته مع تراجع النفوذ الروسي والإيراني في تحقيق مكاسب إقليمية ودولية، بحيث تضغط على الولايات المتحدة الأمريكية لإنهاء دعمها لـ”قسد” الذي يُعتبر من أولوياتها، وإيقاف التوغُّل “الإسرائيلي” في جنوب سوريا، كما ستضغط على روسيا مع أجل كسب اعترافها بالإدارة السورية الجديدة وفي حربها مع “قسد”.
وتبدو التوجُّهات التركية في سوريا طموحة جداً وفيها العديد من التحدّيات، ويمكن أن تُشكّل أعباء إضافية على الحكومة التركية التي تعاني من أزمة اقتصادية حادّة ومن توترات سياسية داخلية، إلا أن نجاحها في تحقيق هذه التوجُّهات سيصبُّ في خدمة المصالح المشتركة السورية والتركية ويُحقّق مكسباً سياسياً كبيراً للحزب الحاكم الذي راهن سابقاً على الثورة السورية ودعمها، وجاءت الأحداث الأخيرة لتقوّي موقفه السياسي وتثبت صوابيّة توجُّهاته في هذا الملف.
بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري