
تطوير البلديات في سوريا: هل يصلح النموذج التركي؟
تقرير صادر عن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري
عانت سوريا طيلة عقود من فساد المؤسسات الحكومية عامة، ومن بينها البلديات والمجالس المحلية، في ظل نظام الأسد، وقد اتسم أداؤها بالضعف والبيروقراطية واقتصر على المهام الرئيسية كخدمات النظافة وجباية الضرائب ومتابعة المخالفات وغيرها، وزادت هذه المعاناة بعد انطلاق الثورة السورية، إذ استخدم نظام الأسد المخلوع هذه المؤسسات وسيلة لابتزاز الشعب، وأهمل متعمّداً تقديم الخدمات للمواطنين تاركاً المدن والقرى محرومة من العديد من الخدمات الأساسية.
سعت قوى الثورة والمعارضة السورية أثناء سنوات الثورة لبناء نموذج إدارة محلية لتنظيم شؤون المناطق المحررة، وأنشأت المجالس المحلية التي كان بعضها يتم اختياره بالتعيين، والبعض الآخر بالانتخاب، وحاولت هذه المجالس المحلية سدّ الفراغ الحاصل وتأمين الخدمات الأساسية، وكانت نموذجاً له عدد من الإيجابيات وعليه عدد من السلبيات.
وبعد سقوط نظام الأسد، يبرز الآن تحدّي بناء الدولة من جديد، ومن بين أجهزتها البلديات ومؤسسات الإدارة المحلية، والتي ستواجه تحديات كبيرة في هذه المرحلة، إذ ستتحمل مسؤولية إعادة إنشاء البنى التحتية المتهالكة والمدمرة بفعل إهمال نظام الأسد وحربه ضد الشعب السوري، وسيتوجب إعادة هيكلتها وقوننتها بشكل عصري بعيداً عن النظم السابقة التي كانت تفتح أبواب الفساد والسرقة، وتزيد من استبداد النظام السياسي، وتهمل احتياجات السكان، بالإضافة إلى ضرورة أخذها أدواراً اجتماعية جديدة تناسب الواقع الحالي بحيث تكون وسيلة لتقوية الروابط المجتمعية ومساحة يتدرب فيها المواطنون على المشاركة في العملية الديمقراطية واختيار الأكفاء من خلال الانتخابات؛ لذا يتوجب دراسة نماذج أخرى للإدارات البلدية والتي تجاوزت أدوارها في تقديم الخدمات إلى أداء أدوار اجتماعية راسخة، من أجل الاستفادة منها في تأسيس النظام الإداري البلدي الجديد في سوريا.
تقدم البلديات في تركيا نموذجاً للتنافس السياسي بين الأحزاب على خدمة المواطن، وتُعد واحدة من مراكز القوى في البلاد؛ نظراً للميزانيات والإمكانيات المخصّصة للبلديات، ونظراً للمسؤوليات الواسعة ومجال العمل المتنوع المفتوح أمام البلديات في خدمة المواطن وكسب ودّه من أجل إقناعه بالتصويت للحزب في الانتخابات العامة، لذا من الممكن الاطلاع على النموذج التركي ودراسة سلبياته وإيجابياته من أجل الاستفادة من هذه التجربة في سوريا.
يعتمد هذا التقرير الأسلوب الوصفي التحليلي من خلال دراسة التجارب الشبيهة وتحليلها والإضاءة على جوانب القوة والضعف فيها، وتحليل إمكانية الاستفادة منها في الحالة السورية، وذلك بهدف تقوية الإدارات المحلية في البلاد بعد سقوط نظام الأسد، وإنشاء نظام بلدي قوي في سوريا يقوم بخدماته الأساسية ويُقدّم إسهامات مجتمعية تزيد من تماسك المجتمع وترفع من مستوى رفاهيته واستقراره.
العمل البلدي في سوريا:
شهدت سوريا نموذجين من الإدارة المحلية خلال السنوات الماضية، يتمثل الأول في نموذج البلديات المعتمد من قبل نظام الأسد البائد الذي كان مليئاً بالعيوب والسلبيات، كما كان هناك نموذج المجالس المحلية في المناطق التي خرجت عن سيطرة نظام الأسد وأدارها الأهالي بجهودهم المستقلة، والذي واجه الكثير من التحدّيات، وكانت له العديد من السلبيات والإيجابيات.
لمحة عن نموذج البلديات في حكم نظام الأسد:
ينصّ قانون الإدارات المحلية الذي كان معتمداً عند نظام الأسد البائد على أن الشعب ينتخب أعضاء المجلس المحلي (البلدية)، ولا ينتخب رئيس المجلس بشكل مباشر، بل يقوم أعضاء المجلس المنتخبين بإجراء انتخابات فيما بينهم لاختيار رئيس المجلس، بشكل مغاير للقانون التركي للبلديات[1].
ولكن يعطي نص القانون للمجالس المحلية مجالات واسعة للعمل، مشابهة للمجال الذي يمنحه القانون التركي للبلديات؛ إذ تكون المجالس المحلية مسؤولة عن الخدمات البلدية الأساسية، مثل البنى التحتية للماء والكهرباء والطرق وغيرها، بالإضافة إلى فتح مجال تنظيم أنشطة اقتصادية واجتماعية متنوعة، مثل: مساعدة المنظمات أو الجمعيات أو الروابط أو النوادي العلمية والثقافية والتربوية والخيرية والرياضية، وتقديم الخدمات الاجتماعية وغيرها من الأنشطة[2].
لم تكن منظومة المجالس المحلية في عهد نظام الأسد البائد مثالاً جيداً يمكن الاستمرار فيه؛ إذ كانت تشوب العملية الانتخابية عمليات التلاعب وفرض المرشحين التابعين لحزب البعث، إضافة إلى أن القانون لا يتيح للناخبين انتخاب رئيس البلدية بشكل مباشر، مما يجعل اختيار الرؤساء بيد الأعضاء المنتخبين عملية فاسدة، كما أن المجالس المحلية ذاع صيتها في عمليات الفساد المالي والإداري، والتقصير في أداء الواجبات، فضلاً عن الاجتهاد في أعمال إضافية غير مسؤولين عنها[3].
كانت الميزانيات المخصصة للبلديات في حكم نظام الأسد ضئيلة، وبالتالي كانت الخدمات التي تقدمها البلديات تكاد تكون منعدمة، الأمر الذي أجبر السكان على تدبُّر أمورهم بأنفسهم وتمويل بعض أعمال البنى التحتية والخدمات المسؤولة عنها مؤسسات الدولة على حسابهم، لتخرج وسائل إعلام نظام الأسد وتتبنى هذه المشاريع رغم أنها كانت بتمويل وتنفيذ شعبي بشكل كامل، أو عن طريق المنظمات الدولية[4].
لمحة عن نموذج المجالس المحلية في المناطق المحررة:
بعد بداية خروج المدن والقرى عن سيطرة نظام الأسد في السنوات الأولى للثورة السورية، برزت الحاجة لتشكيل مجالس محلية لإدارة الشؤون البلدية لهذه المدن، لذا بدأ الثوار بالتعاون مع السكان المحليين بتشكيل مجالس محلية تتبع للحكومة السورية المؤقتة تسدُّ الفراغ في القطاع الخدمي وتعمل على تأمين خدمات الماء والكهرباء والتعليم وغيرها من الخدمات الأساسية[5].
كانت هذه المجالس طارئة وإسعافية، ولم يكن بالإمكان إجراء انتخابات شعبية لتشكيل أعضائها وقياداتها، وإنما كان يتم تشكيل هذه المجالس بالغالب عن طريق التوافق بين القوى المدنية المحلية والفصائل العسكرية في تلك المناطق، فيما أجريت بعض التجارب الانتخابية في بعض المناطق، ولكن لم تستمر هذه التجربة[6]، ولم يكن هناك أنظمة داخلية موحَّدة تحكم عمل هذه المجالس في الغالب، كما عانت كثيراً في تأمين خدماتها نظراً لتعقيد الوضع على الأرض وسيطرة نظام الأسد في ذلك الوقت على المصادر الأساسية للخدمات مثل محطات الكهرباء والماء وغيرها[7].
تغيَّر الوضع في السنوات اللاحقة، إذ سيطر نظام الأسد مجدداً بفضل حلفائه الإيرانيين والروس على معظم المناطق في جنوب ووسط البلاد، وبقيت مناطق شمال البلاد في محافظتي إدلب وحلب مُحرّرة خارج سيطرة النظام، وجرى تطوير مجالس محلية مختلفة بإشراف تركي في مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام” تتبع للولايات التركية في الطرف الحدودي المقابل، وكانت المجالس المحلية في هذه المناطق تُدار من قبل الولاة الأتراك والفرق التابعة لهم، مع صلاحيات محدودة للمسؤولين السوريين في هذه المجالس، وكانت هذه المجالس أيضاً تعاني من مشكلة ضعف التمثيل، إذ جرى تهميش النازحين والمهجّرين في كثير من الأحيان في إدارة المجالس المحلية رغم أن عددهم في كثير من المناطق قريب من عدد أهالي المنطقة أو يتجاوزه في بعض الأحيان، كما كانت تعاني من مشكلة الفوضى بسبب عدم وجود مرجعية مركزية موحّدة[8].
فيما كانت محافظة إدلب وجزء من ريف حلب تحت سيطرة حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، والتي كانت تتبع لحكم مركزي موحّد، الأمر الذي جعلها أكثر استقراراً وأسرع تطوراً، إلا أنها كانت تعاني من مشكلات الاحتكار وارتفاع الأسعار وتحكّم طرف واحد بجميع مناحي الحياة في المنطقة [9].
التعريف بنظام البلديات في تركيا:
يُقدّم نموذج البلديات في تركيا لمحة عن الأدوار الخدمية والاجتماعية التي يمكن أن تمارسها هذه المؤسسات الحكومية، إذ يصب هذا النموذج في مصلحة ورفاهية المواطن، كما يعطي القانون التركي البلديات مساحة واسعة للعمل والحركة، ويخصّص لها ميزانيات كبيرة من الميزانية المركزية للقيام بالمسؤوليات الموكلة بها، مثل تنظيم مشاريع الإعمار، والصرف الصحي، والمواصلات العامة، والبنى التحتية، والمشاريع البيئية (الحدائق)، والنظافة والتخلُّص من النفايات، والضابطة (الشرطة البلدية المسؤولة عن مراقبة الدكاكين)، والإطفائية، والإسعاف، والإنقاذ، والدفن، والتشجير، وتنظيم الفعاليات الثقافية والسياحية والشبابية، وبناء المساكن الطلابية[10].
كما يتيح القانون للبلديات الحصول على عوائد مادية من خلال جباية الضرائب على بعض الخدمات، مثل ضريبة رخصة العقار وضريبة النظافة وغيرها، بالإضافة إلى إتاحة إمكانية الحصول على دخل إضافي من اللوحات الإعلانية، ومن بيع الخدمات بأسعار مناسبة، مثل خدمات المواصلات والكهرباء والماء وغيرها، كما يمكن للبلديات الحصول على قروض خارجية والتعاون مع جهات خارجية لتنفيذ مشاريع مشتركة وفق شروط مُعيّنة يُحدّدها القانون، ويفسح القانون أيضاً المجال للبلديات لتقديم خدمات في المجالات التعليمية والصحية والاقتصادية والدينية والثقافية وغيرها[11].
ومن الأمثلة على حجم الميزانيات الكبير للبلديات، بلغت ميزانية بلدية إسطنبول الكبرى لعام 2025 أكثر من 560 مليار ليرة تركية (حوالي 14.5 مليار دولار)[12]، وبلغت ميزانية بلدية أنقرة الكبرى لعام 2025 أكثر من 150 مليار ليرة تركية (حوالي 4 مليار دولار)[13]، وهذه الميزانيات خاصة بالبلدية الكبرى فقط، وميزانيات بلديات الأحياء تكون منفصلة عنها، وهذا يدلّ على حجم القوة الاقتصادية للبلديات ومدى تأثيرها على السياسة والمجتمع.
تنقسم البلديات في تركيا إلى:
- البلدية الكبرىBelediyesi Büyükşehir: وهي البلدية المسؤولة عن شؤون الولاية التي يزيد سكانها عن 750 ألف نسمة، وتكون مسؤولة عن الولاية بشكل كامل.
- بلدية المدينة İl Belediyesi: وهي البلدية المسؤولة عن المدينة المركزية في الولايات التي يقلّ عدد سكانها عن 750 ألف نسمة، ولا تكون مسؤولة عن الضواحي والمدن الصغيرة التابعة لهذه الولاية.
- بلدية المنطقة İlçe Belediyesi: وهي البلدية المسؤولة عن مدينة صغيرة/حي داخل الولاية[14].
تُنظّم تركيا انتخابات بلدية كل 5 سنوات، يتم فيها انتخاب رئيس بلدية المدينة الكبرى (في المدن الكبرى فقط) ورئيس بلدية المنطقة، ومختار الحي، وأعضاء المجالس البلدية، ويفوز صاحب الأصوات الأعلى حتى لو لم يحصل على أكثر من 50%، ولا يتفرد رئيس البلدية بالقرارات، بل يتم اتخاذها بالتصويت في مجلس البلدية؛ لذا قد يفوز رئيس بلدية من حزب ما ويفوز حزب آخر بأغلبية المجلس البلدي، فيعيق المجلس البلدي بعض قرارات رئيس البلدية، أو العكس[15].
مجالات تنافس البلديات في خدمة المواطنين:
تتنافس الأحزاب التركية بشكل كبير على البلديات؛ نظراً لقدرة البلديات على التأثير المباشر في حياة المواطنين، ومن ثَمّ إقناعهم ببرنامج الحزب لكسب أصواتهم في الانتخابات العامة، وأيضاً بسبب الميزانيات والإمكانات الاستثمارية الكبيرة التي تملكها البلديات وتجعلها مركز قوة في الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد، ولا يقتصر تنافس البلديات على الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء والنقل والنظافة فحسب، وإنما تتسابق البلديات في ابتكار خدمات جديدة لكسب ثقة المواطنين.
الخدمات الاجتماعية:
تؤدي البلديات دوراً مهماً في تقديم الخدمات الاجتماعية للمواطنين، رغم أنها ليست من مسؤوليات البلديات التي فرضها القانون؛ إذ تُقدّم بعض البلديات خدمات مثل بناء روضات أطفال لمساعدة الآباء والأمهات الموظفين، بحيث يتمكن الوالدان الموظّفان من وضع الأطفال في روضة الأطفال الموجودة في حيّهم مقابل مبلغ رمزي[16].
ومن الخدمات الأخرى التي تقدمها بعض البلديات: بناء مساكن للطلاب المغتربين عن أهاليهم، خصوصاً في المدن الكبرى التي تضم جامعات كبيرة يقصدها الشباب من جميع أنحاء البلاد، مثل إسطنبول وأنقرة؛ حيث تنشئ بلديات المدن الكبرى وبلديات الأحياء مساكن طلابية بأسعار رمزية تُقدّم خدمات متكاملة للطلاب المقيمين فيها[17].
كما تتنافس البلديات في تقديم مساعدات للفئات المحتاجة مثل المتقاعدين وربّات المنازل والطلاب والمشرّدين، سواء بتخفيض الفواتير وأجور المواصلات[18]، أو بتقديم مساعدات في بعض المواد الأساسية[19]، أو بتقديم دعم مالي مباشر لهذه الفئات أحياناً، أو بمنحهم بطاقات تتيح لهم التسوّق في بعض المتاجر بأسعار مخفّضة بشكل لا يكسر كرامتهم ويظهرهم أمام المجتمع بمظهر المحتاجين[20].
كما تفتح بعض البلديات مكاتب وساطة بين الشباب العاطلين عن العمل والشركات لمساعدة الشباب في الحصول على وظائف[21]، وتقديم دورات مهنية وتعليمية للسكان لمساعدتهم في اكتساب مهارات وخبرات تساعدهم في كسب رزقهم[22].
وتدعم بعض البلديات الشباب المقبلين على الزواج بتخصيص قاعات احتفال بأجور رمزية أو مجاناً[23]، وتقديم الفحوصات الطبية الضرورية قبل الزواج بشكل مجاني[24]، وتقديم دعم مالي أو عيني للمقبلين على الزواج[25]، وتنظيم حفلات الزواج الجماعي[26].
دعم القطاعات الزراعية والحيوانية:
تسعى البلديات -خاصة البلديات التي تدير مناطق ريفية- إلى دعم المزارعين بشتى الطرق؛ بدءاً بدعمهم بمنح الأسمدة والمواد الكيميائية اللازمة لعملية الزراعة، مروراً بدعمهم في توزيع البذور أو الشتلات بحسب الموسم، كما تساعد البلديات المزارعين في بيع محاصيلهم؛ إما عبر منحهم أماكن في معارض تُنظّمها البلدية، وإما بأن تكون البلدية وسيطاً بحيث تشتري المحاصيل وتبيعها لأسواق السوبر ماركت لبيعها للمستهلكين[27].
تدعم البلديات أيضاً العاملين في مجال تربية الحيوانات، عبر منح المربّين صغار الماشية منحة، ومساعدتهم في معاجلة الألبان ومنتجاتها في مصانع تابعة للبلدية بحيث تضمن جودة المنتج ثم تبيعه للمستهلكين، أو عبر تقديم الأعلاف والخدمات البيطرية اللازمة، كما تدعم بعض البلديات مربّي النحل بمنحهم خلايا النحل، ومربّي الأسماك بتقديم المعدات اللازمة لهم[28].
كما تنظّم بعض البلديات دورات تطبيقية للمزارعين أو الراغبين في العمل في القطاع الزراعي أو الحيواني لتحسين عملهم ومنتجاتهم، وتقديم خدمات استشارية للمزارعين، وتوزيع منشورات تعليمية لهم، ودعمهم في حال تضرّرت معدّاتهم ومحاصيلهم جرّاء ظروف طبيعية مثل العواصف والسيول وما شابهها[29].
الأدوار الدينية والثقافية:
تؤدّي البلديات في تركيا أدواراً دينية وثقافية إلى جانب مسؤولياتها الخدمية؛ إذ تشرف بعض البلديات على: تنظيف الجوامع والمساجد ودور العبادة للطوائف الأخرى، خصوصاً في شهر رمضان والأعياد، وتوزيع الكعك والحلوى في المناسبات الدينية، وتنظيم موائد إفطار جماعي في شهر رمضان، وتوزيع هدايا على الأطفال الصائمين لتحفيزهم على الصيام[30].
تُقدّم معظم البلديات خدمات متعدّدة في حالات الوفاة، بدءاً من عملية غسيل الميت ونقل جثمانه إلى مكان الصلاة ثم إلى المقبرة، ونقل المعزّين من الجامع إلى المقبرة. تساعد البلديات أيضاً ذوي المتوفى بتجهيز خيمة للعزاء ونقل المعزّين إلى مكان صلاة الجنازة وإلى مكان الدفن، كما تقوم بعض البلديات بتجهيز مكان العزاء وتقديم المساعدة لذوي الميت في استقبال المعزّين[31].
تهتم بعض البلديات بترميم الآثار في المناطق التي تشرف عليها، وإعادة تأهيلها لتصير معالم سياحية أو مواقع خدمية، مثل تحويلها لمكتبات أو لمواقع لاستضافة الفعاليات والمؤتمرات، كما تنظّم البلديات حفلات فنية ومعارض ثقافية، مثل معارض الكتاب والمعارض المخصّصة للتعريف بالمدن الأخرى وثقافاتها[32].
دعم القطاع التجاري:
تسعى العديد من البلديات لدعم القطاع التجاري في المناطق التي تديرها، خصوصاً دعم أصحاب الأعمال الصغيرة والمنتجين المحليّين بهدف حمايتهم من تغوُّل الشركات الكبيرة التي تحاول إزاحتهم من المنافسة، ومن الأمثلة على دعم البلديات التجار الصغار: التعاقد معهم في مشاريع البلدية الاجتماعية، بحيث تشتري البلديات البضاعة من هذه المحلات لتوزيعها على المحتاجين، أو تقديم تسهيلات مالية في الضرائب المخصّصة للبلديات، أو تقديم حزم دعم لهذه المتاجر في الظروف الاستثنائية، كما حصل في جائحة كورونا والزلزال[33].
تدعم بعض البلديات المنتجين المحليين، مثل ربّات المنازل اللاتي يعملن في الخياطة والطبخ وغيرها من الأعمال اليدوية؛ إذ تجمع بعض البلديات العاملات في الحرف اليدوية في مؤسسة تعاونية تحت إشراف البلدية، بحيث تزيد سرعة الإنتاج وتنتظم عملية البيع للمستهلك، وتتقاسم العاملات الأرباح فيما بينهن، أو تنظّم بعض البلديات معارض وبازارات لأصحاب الحرف اليدوية لجمعهم بالمستهلكين[34].
أعمال البلديات في القطاع التعليمي:
تنشئ العديد من البلديات مراكز تعليمية في المناطق التي تُديرها، وتنظّم دورات متنوعة للأطفال، وأحياناً للكبار في الحي، مثل دورات التقوية المدرسية، ودورات القرآن الكريم، ودورات السباحة والفنون القتالية، ودورات الطبخ والخياطة، وتعليم اللغات، وتعليم المهارات الأساسية في الحاسب الآلي، وغيرها من المجالات[35].
كما تقوم بعض البلديات بدعم المدارس الحكومية في خدمات النظافة، بحيث ترسل البلديات مستلزمات النظافة اللازمة للمدارس المحتاجة، أو ترسل عمال النظافة ليساعدوا في تنظيف المدرسة بشكل أسبوعي، فيما تقوم بعض البلديات بتقديم وجبات مجانية للطلاب في المدارس أو الجامعات[36].
أعمال البلديات في القطاع الصحي:
تُقدّم بعض البلديات خدمات صحية متنوعة للمواطنين في المناطق التي تديرها، مثل: تقديم خدمة الإسعاف لنقل المرضى والمصابين للمستشفيات، وفتح عيادات نفسية أو عيادات للتغذية والعلاج الطبيعي، وعلاج الحالات البسيطة للأسنان، وتقديم خدمات لذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة. فيما تفتح بعض البلديات أيضاً عيادات بيطرية لعلاج الحيوانات الأليفة للمواطنين، أو لعلاج المواشي وحيوانات المزارع في المناطق الريفية[37].
خلال جائحة كورونا، أدّت البلديات دوراً كبيراً في عملية تعقيم الشوارع والمنازل والمباني الحكومية، وأشرفت على توزيع الكمامات وتنظيم الأماكن العامة بشكل يراعي التدابير التي فرضتها وزارة الصحة، كما تنشط العديد من البلديات في توزيع المنشورات التوعوية للأسر بشأن أهمية التطعيمات للأطفال وغير ذلك من الأمور الصحية[38].
ومما سبق نجد أن النموذج التركي للبلديات يمتلك العديد من النقاط الإيجابية فيه؛ منح البلديات صلاحيات كبيرة تقلّل من سلطة الإدارة المركزية، وتمنح الإدارات المحلية إمكانية استغلال الموارد بالشكل الأمثل الذي يناسب سكان المدن واختياراتهم، كما أن ميزانيات البلديات ومجال عملها الواسع يجعل البلديات مؤسسات مؤثرة تمسّ حياة السكان في مجالات عديدة. وإلى جانب ذلك يدفع التنافس الحزبي على البلديات في تركيا إلى أن تجتهد البلديات في خدمة المواطنين بالأمور الأساسية، بالإضافة إلى استحداث خدمات جديدة تحسّن من حياة السكان في العديد من النواحي؛ كما أن النظام البلدي التركي يُخفّف من أعباء السلطة المركزية، ويمنح البلديات حرية وضع خطط وبرامج تنموية تناسب طبيعة المدينة/الحي وسكانها، وتلبي احتياجاتهم التي قد لا تكون متوافقة مع خطط الإدارة المركزية في حال كانت كل الصلاحيات بيدها.
ومن أبرز السلبيات التي بدت في تجربة البلديات التركية هو إمكانية السيطرة على الميزانيات وتقييدها من خلال عزل رؤساء البلديات وتعيين الحكومة المركزية رؤساء من طرفها دون انتخاب[39]، بشكل يُضعف من إمكانيات البلديات من جهة، ويزيد من التوتر المجتمعي من جهة أخرى بسبب عدم احترام أصوات الناخبين، وقد يجعل سياسة البلدية غير متناسبة مع احتياجات المنطقة، كما أن زيادة صلاحيات السلطة المركزية صعّب من عمل البلديات، خصوصاً التي انتقلت لإدارات معارضة؛ إذ ترتبط العديد من المشاريع بشرط موافقة رئيس الجمهورية، وهي العملية التي قد تأخذ وقتاً طويلاً حتى تتم، وأحياناً تتهم المعارضة الحكومة بتأجيلها عمداً لتعطيل مشاريع البلديات[40].
كما تحوَّل التنافس الحزبي في بعض الأحيان إلى سبب لتعطيل العمل البلدي؛ إذ ينصّ القانون التركي على أن قرارات البلدية تُؤخذ بتصويت أعضاء المجلس البلدي وليس بقرار مباشر من الرئيس وحده، وفي بعض الحالات يكون الرئيس من حزب وأغلبية أعضاء المجلس من حزب معارض، فيُعطّل الطرفان مشاريع الطرف الآخر، فتُصاب البلدية بالشلل وتتعطل كثير من المشاريع. ومن أبرز الأمثلة على ذلك: ما حدث في بلديتَي أنقرة وإسطنبول بين 2019-2024، إذ فاز حزب الشعب الجمهوري برئاسة البلديتَين، فيما فاز حزب العدالة والتنمية بأغلبية المجلسَين، وتسبّب الخلاف الحزبي في تعطيل كثير من المشاريع في هاتين المدينتَين[41].
خاتمة:
تُعدّ التجربة التركية في الإدارة المحلية مثالًا مهماً يمكن لسوريا الاستفادة منه في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، خاصة أن ملايين السوريين عاشوا في تركيا خلال سنوات الثورة، وتعلّموا لغتها، واطّلعوا على ثقافتها، وبنوا علاقات واسعة مع شعبها ومؤسساتها، وتفتح هذه الروابط إمكانية الاستفادة من خبرات الأفراد السوريين والجمعيات المدنية الناشطة في تركيا لتحسين أداء البلديات في سوريا، وتطوير آليات عملها بما يخدم المجتمع المحلي ويُعزّز من قدرتها على القيام بمهامها الحيوية.
لقد بادر عدد من البلديات التركية منذ سقوط نظام الأسد لإرسال وفود إلى سوريا لبحث سبل التعاون وتأمين احتياجات الإدارات المحلية السورية في المرحلة الحالية[42]، وهي خطوة إيجابية يمكن البناء عليها في المستقبل لتقوية علاقات البلديات بين البلدين وإنشاء اتفاقيات توأمة المدن[43]، والاستفادة من الخبرات التركية في هذا المجال، وتسريع عملية إعادة الإعمار في سوريا.
وفي هذا السياق، من المهم النظر إلى التجربة التركية بعين نقدية بنّاءة، من خلال دراسة عناصر نجاحها وتجنُّب سلبياتها، والعمل على تكثيف التعاون بين البلديات السورية والتركية في مختلف المجالات، وخاصة في مجالات إعادة الإعمار وترميم البنية التحتية، ويمكن لهذا التعاون أن يتجسّد عبر توقيع اتفاقيات “توءمة” بين البلديات في البلدين، بهدف تبادل الخبرات، وتسهيل تنفيذ مشاريع مشتركة تخدم السكان وتُسرّع عملية إعادة البناء.
إن سوريا اليوم تواجه تحدّيات هائلة تتطلّب استجابات محلية فاعلة، في مقدمتها إعادة الإعمار، وإصلاح البنية التحتية التي دمّرها إهمال النظام وحربه على شعبه، إضافة إلى هيكلة مؤسسات الدولة على أسس حديثة تضمن حقوق المواطنين، وتحسّن مستوى المعيشة لتمكين عودة اللاجئين والنازحين، وفتح المجال أمام السوريين للمشاركة في صنع القرار وفي إعادة بناء وطنهم.
وفي هذا الإطار، تلعب البلديات دوراً محورياً في التصدي لهذه التحدّيات، ما يستوجب إعادة هيكلتها، وتوسيع صلاحياتها، ومنحها ميزانيات تتناسب مع مهامها، ووضع نظام انتخابي شفاف يتيح التنافس بين القوى السياسية والمجتمعية على إدارتها، بما ينعكس إيجاباً على حياة السكان في المدن والقرى والأحياء.
كما ينبغي دراسة تجارب الإدارة المحلية التي أنشأتها قوى الثورة والمعارضة السورية في المناطق المحررة خلال سنوات الثورة ما قبل سقوط نظام الأسد، من أجل الاستفادة من النجاحات وتجنّب الأخطاء، والبناء على الخبرات المكتسبة لتطوير نماذج جديدة أكثر شمولاً، تتجاوز الأدوار التقليدية للبلديات المتمثّلة في تقديم الخدمات البلدية الأساسية، لتؤدي أدواراً مجتمعية واقتصادية متنوّعة تكسب ود المواطنين وتحسّن من مستوى معيشتهم وتسهم في إرساء السلم الأهلي وإعادة إعمار البلاد.
في الختام، فإن مستقبل سوريا لا يُبنى فقط عبر إعادة إعمار الحجر، بل من خلال بناء مؤسسات محلية قوية وشفافة تُعبّر عن إرادة الناس وتلبي احتياجاتهم. إن الاستثمار في البلديات وتمكينها، وتوسيع أدوارها وتمكينها من تحسين جودة الحياة والتنافس على رضا المواطنين هو السبيل لتغيير الصورة السلبية السابقة عن أداء المؤسسات الحكومية، كما يمكن أن يكون ركيزة أساسية في مشروع وطني شامل لإعادة بناء الدولة السورية على أسس العدالة والمواطنة والمشاركة الفاعلة بما يُحقّق استقرار سوريا وازدهارها في المرحلة المقبلة.
بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري