الأبحاث والدراساتالإصداراتوحدة الهوية المشتركة والتوافق

العدالة الانتقالية في التجارب العربية وما يُستفاد منها في الحالة السورية

تقرير صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري

ملخص:

شهدت دول عربية عديدة محاولات لتطبيق العدالة الانتقالية في سياق التحوُّل الحاصل بها كما حصل في تجارب دولية أخرى، وقد كانت أولى هذه التجارب في المملكة المغربية وبقيادة النظام الملكي منذ عام 1999، أي قبل ثورات الربيع العربي، في حين كانت تونس أولى التجارب العربية، بعدها كذلك شهدت ليبيا واليمن محاولات لإطلاق مسارات العدالة.

تسعى هذه الورقة وعبر التحليل النقدي والمنهج الاستقرائي والمقارن إلى تحليل سياق هذه التجارب والوقوف على كيفية تطبيق آليات العدالة الانتقالية ومنجزاتها من جهة، والفجوات والإخفاقات من جهة أخرى، بهدف الوصول إلى أبرز الدروس المستفادة وإسقاطها على حالتنا السورية في سياق التحضير لإطلاق مسار للعدالة الانتقالية.

وقد توصّلت هذه الورقة إلى مجموعة من الخلاصات لعلّ أبرزها يتمثل من حيث الأصل بتعثر تطبيق المساءلة في التجارب العربية، ووجود تأثير قوي ممتد لبنى الأنظمة السابقة بما يُعيق المضي قدماً في تطبيق منظومة العدالة الانتقالية.

في حين انعكست الظروف الخاصة في كل دولة على محاولات التطبيق؛ ففي المملكة المغربية أنتجت معادلة التعويض والإصلاح الهادئ مقابل طي ملف المساءلة، أما في تونس وعلى الرغم من قوة التشريع وإنشاء المؤسسات المعنية فإن الانقسام السياسي والتراجع عن العزل السياسي والتطهير المؤسساتي في لحظات حاسمة أفرغ المسار من نتائج جوهرية وعملية كان يمكن أن تُحقّق قطيعة من الماضي، أما في ليبيا، فقد أدت الظروف العامة إلى اضطراب تشريعي، وحتى عند استقراره فإن الفوضى الأمنية والعسكرية أفشلت محاولات تطبيقه وأدى الانقسام لاستمرار الانتهاكات بشكل أكبر، في حين أن اليمن ورغم التضحية بمسار المساءلة مقابل التوافق السياسي ومع وجود قوى صلبة للنظام السابق أو الحوثي كقوة خارج نطاق الدولة حصل انقلاب على المسار والدخول في مأساة كبرى.

تقدم التجارب العربية رغم اضطراباتها دورساً مهمة في السياق السوري من أهمها التفكير في قوة المؤسسات بالتوازي مع جودة النصوص وأهمية الوعي بأن الانقسامات الحادة حول مقاربات العدالة المناسبة قد تسمح بوجود عملية انقلابية.

مقدمة:

على الرغم من أن مفهوم العدالة الانتقالية وتطبيقاته الأساسية وُلدت من رحم تجارب شرق ووسط أوروبا وتجارب دول أمريكا اللاتينية والدول الأفريقية؛ إلا أن مناطق أخرى في العالم كآسيا والمنطقة العربية شهدت بدورها تجارب عديدة مهمة، بغضّ النظر عن مدى نجاحها أو تعثّرها في تحقيق أهداف العدالة الانتقالية وغاياتها على المستويين النظري والتطبيقي في تجارب أخرى.

بدأت التجارب العربية في المغرب العربي من خلال قيام النظام السياسي الملكي في المملكة المغربية بقيادة العملية دون وجود تحول سياسي ثوري سلمي أو عسكري أو حتى تفاوضي منذ عام 1999م مع وصول الملك محمد السادس، وهي تجربة غير مألوفة عادة، لتأتي التجارب اللاحقة جميعها بعد انطلاق موجات الربيع العربي التي اندلعت في تونس كانون الأول عام 2010، وانتقلت موجات التغيير تباعاً إلى ليبيا ومصر واليمن وإلى سوريا؛ حيث تميزت مسارات العدالة الانتقالية في المنظومة العربية بخصائص مختلفة عن مثيلاتها؛ ولعلّ ذلك يعود إلى طبيعة الصراع بين قوى التغيير وقوى الاستبداد، وإلى قوة حضور الثورات المضادة التي نجحت في إجهاض وعرقلة المسارات الانتقالية ككل.

بناءً على ما سبق؛ وفي إطار سلسلة العدالة الانتقالية في سوريا التي أطلقها مركز الحوار السوري، واستكمالاً للورقة الأولى التي جاءت بعنوان: “التقرير التمهيدي: العدالة الانتقالية وأهمية إنضاج المقاربة السورية”[1]، والورقة الثانية التي ركّزت على المحاكم الجنائية الخاصة والخيار الأنسب لسوريا[2]، والثالثة التي ركّزت على دراسة التجارب الدولية المختلفة[3]؛ تأتي هذه الورقة لتركز على دراسة التجارب العربية بهدف استقراء الدروس المستفادة منها، لاسيما وأنها جاءت في سياقات أقرب ما تكون للحالة السورية، مع تفرّد الحالة السورية بأكثر الأنظمة إجراماً ودموية، وعلى إثر ثورات الربيع العربي التي تُعد موجة رابعة كبرى للتغير السياسي في العالم.

تركّز هذه الورقة على أربعة جوانب رئيسة، وهي:

  • محاولة فهم أثر السياق السياسي والاجتماعي عموماً في الممارسات التطبيقية في العدالة الانتقالية ونتائجها.
  • تحليل نتائج المسارات والآليات المتبعة في تحقيق أهداف العدالة الانتقالية وغاياتها.
  • تحديد أسباب تعثُّر تطبيق العدالة الانتقالية في التجارب التي شهدت اشتعال صراعات جديدة.
  • استخلاص مجموعة من الدروس المستفادة من هذه التطبيقات العملية العربية المختلفة، والاستفادة منها في التحضير للعدالة الانتقالية في الحالة السورية.

تهدف الورقة إلى رصد التجارب التطبيقية العربية بعد رصد التجارب الدولية؛ بما يسمح بزيادة الوعي العام من جهة، والانطلاق في الحالة السورية بأكبر قدر ممكن من الوعي بالفجوات والتحديات والمآلات الناتجة عن المسارات المطبقة من جهة أخرى.

اعتمدت هذه الورقة على منهجية البحث المكتبي؛ الذي يعتمد على البيانات الثانوية، وبالاستناد إلى أساليب التحليل النقدي من حيث مراجعة الأدبيات وتقديم خلاصات تحليلية مُبسَّطة[4]، كما اعتمدت على المنهج الاستقرائي بغية الوصول إلى نتائج كلية من التجارب الخاصة والاستفادة منها في الحالة السورية، مع استخدام المنهج المقارن كلما دعت الحاجة إلى ذلك.

تنقسم هذه الورقة خمس فقرات رئيسة؛ نناقش في الأولى التجربة المغربية باعتبارها أولى التجارب العربية، وفي الثانية التجربة التونسية وهي أولى التجارب العربية بعد ثورات الربيع العربي، في حين نركّز في الفقرتَين الثالثة والرابعة على التجارب في ليبيا واليمن، ليتم التركيز في الفقرة الخامسة الأخيرة على ما يكمن الاستفادة منه عبر استقراء التجارب المختلفة في الحالة السورية.

أولاً: التجربة المغربية؛ جدلية العدالة في ظل استمرار السلطة:

انتهج الحكم الملكي في المغرب بقيادة الملك محمد الخامس بعد الاستقلال عن فرنسا نهجاً قمعياً على أساس من التحكم والسيطرة ومواجهة الحركات المطلبية في المغرب، واستمر النهج الملكي مع الملك الحسن الثاني في ستينيات القرن العشرين لتبدأ معه فترة زمنية طويلة من الانتهاكات بحق المناوئين للحكم الملكي من مختلف التيارات، وهي الفترة التي عُرفت لاحقاً تحت مسمى “سنوات الرصاص”، ومن أبرز محطاتها كانت المحاولات الانقلابية الفاشلة (انقلاب الصخيرات) عام 1971، والانقلاب بقيادة الجنرال الشهير (أوفقير) وهو وزير الدفاع والداخلية 1972م، والانتفاضات الشعبية كـ “انتفاضة الخبز” في الثمانينيات وموجات الاحتجاج في التسعينيات[5].

جاء دائماً رد السلطة عنيفاً ودموياً، وتم خلال ذلك إخفاء كثير من الأشخاص قسراً، وارتكاب عمليات الإعدام خارج إطار القضاء، وممارسة شتى أشكال التعذيب في معتقلات سرية كسجن “تازمامارت”[6]. وبعد عقود طويلة من إنكار السلطة للانتهاكات _فضلاً عن ممارستها_ بدأت مبادرات إيجابية تهدف لتحسين صورة المغرب وإحداث انفراج سياسي، وذلك لأسباب عديدة، من أبرزها: الموجات الاحتجاجية، وهيكلة المجتمع المدني، وقضية الصحراء[7]، ونشاط القوى المعارضة، فضلاً عن نهاية نظام القطبية الثنائية دولياً مع سقوط الاتحاد السوفيتي[8]، وتوسيع هامش الحريات والمشاركة السياسية، وإطلاق مبادرات العفو المتكررة، وأشهرها العفو الشامل في عام 1994 وتأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان عام 1990م[9]، وتنظيم انتخابات 1997 التي تمخضت عن تشكيل حكومة “التناوب التوافقي” التي عكست الرغبة بالتغيير والإصلاح[10].

جاء التغيير الأكبر مع تولي الملك محمد السادس للعرش نهاية عام 1999، وإطلاق السلطة في المغرب لعملية تسوية للماضي في عام 1999م بشكل مدروس من السلطة ومخطط بشكل يظهر انفتاحاً لا يمسّ نظام الحكم.

يمكن تتبع الخطوات الرئيسة للعدالة الانتقالية في المغرب من خلال المراحل الآتية:

  • المرحلة الأولى من مساعي تسوية الماضي: جاءت مع اقتراح المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في عام 1998م بتشكيل هيئة رسمية تتولى عمليات التعويض لضحايا الاختفاء والاعتقال التعسفي في المغرب، وبالفعل صدر الأمر الملكي بإنشائها عام 1999م[11]، وانطلقت أعمال “هيئة التحكيم المستقلة” التي اختصت بجانب محدد، وهو: التعويض الفردي لضحايا التوقيف التعسّفي والاختفاء القسري وعائلاتهم بقرارات مبرمة وفق آلية عمل غير علنية[12].

استمرت الهيئة بأعمالها في تلقّي الطلبات وإجراء التحقيقات حتى عام 2003[13]، ثم قامت ختاماً برفع تقريرها النهائي للملك[14]، بعد أن بلغ مجموع التعويضات التي دفعتها قرابة مئة مليون دولار للقضايا المقبولة ممولة من خزانة الدولة؛  إلا أن أعمال الهيئة تعرضت لموجات واسعة من الانتقادات، من أبرزها: اختصاصها المحدود، وعدم تحقيقها مع أي من المسؤولين أفراداً أو مؤسسات، ورفض التعويض عن ضحايا القتل في التظاهرات، وغياب المعايير والمنهجية الواضحة، وعدم كشفها عن مصير المختفين قسراً أو الذين أُعدموا سرّاً، أو رد الممتلكات المصادرة، ورفضها لكثير من الطلبات كونها خارج المدة[15]؛ مما أدى عملياً لتصاعد الضغط، خاصة من القوى الحقوقية والمدنية، والمطالبة بتشكيل هيئة شاملة وأكثر جدية لتسوية الماضي، وهو ما تم فعلياً في المرحلة الثانية[16].

  • المرحلة الثانية: جاءت أكثر جدية من سابقتها، وبدأت بإنشاء هيئة جديدة تحت مسمى ” هيئة الإنصاف والمصالحة” بمقتضى قرار ملكي بتاريخ 7 كانون الثاني 2004، استناداً لتوصية المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وأعلن الملك في خطابه بوضوح أن الهيئة بمثابة لجنة للحقيقة والإنصاف والمصالحة[17].

اختصّت الهيئة في التقييم والبحث في حالات الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي ابتداءً من عام 1956م، والنظر في مسؤوليات مؤسسات الدولة عن الانتهاكات، دون أن تمتلك صلاحية تحديد المسؤولية الفردية، أو أن يُبنى على ذلك أية مسارات قضائية، وهو ما يُعد استمراراً لمقاربة السلطة في تسوية الماضي فحسب. في مقابل ذلك كانت الهيئة هي الأولى في العالم التي تستطيع أن تقدّم تعويضات مالية مباشرة، وقد أنهت الهيئة أعمالها في عام 2005م بعد أن نظرت في 20 ألف ملف، وقدّمت تعويضات لقرابة 10 آلاف شخص، وقرّرت تقديم تسويات إدارية وتدابير دعم إضافية لـ1895حالة، لكنها لم تستطع كشف مصير سوى 742 حالة اختفاء من أصل 808 حالة[18]، كما قدمت توصيات واسعة للإصلاح المؤسساتي والقانوني وحفظ الذاكرة[19]، فضلاً عن التوجه لترسيخ فكرة جبر الضرر الجماعي، وهي فكرة مقتصرة على بعض التجارب كجنوب أفريقيا والبيرو، وبمقتضاها تم تحديد سبع مناطق بقيت خارج “استراتيجيات التنمية” في المملكة، وأدى ذلك لضرر كبير  للسكان بسبب إقامة المعتقلات السرية قرب منازلهم، فحُرموا بسبب ذلك من أبسط الخدمات، مثل الطرقات والمراكز الصحية والمدارس، وقد تكفلت خزينة الدولة بالقسم الأكبر من تنفيذ التوصيات مع الحصول على تمويل جزئي من الاتحاد الأوربي[20].

  • المرحلة الثالثة: جاءت بعد تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة وبناءً على أعمالها، ومن أبرز توصياتها: إجراءات حفظ الذاكرة الوطنية التي بُنيت أساساً على ما كشفته هيئة الإنصاف، وتنظيمها جلسات سماع علنية للشهود والضحايا حول المعتقلات والتعذيب، لكن هذه الإجراءات ارتبطت أيضاً بحفظ صوت الضحية مع إخفاء هوية الجلّاد؛ إذ صدرت كثير من الكتابات والمذكرات والشهادات عن فترة الانتهاكات وأصبحت متداولة على الصعيد العام، كما أُصدر قانون الأرشيف الوطني عام 2007، وأُنشئت مؤسسة الأرشيف المغربي وأُدمجت قضايا “سنوات الرصاص” في التعليم الجامعي[21]، والعمل التدريجي على تحويل بعض المعتقلات الشهيرة إلى مراكز للتذكر[22].

كذلك جاءت سلسلة من الإجراءات الإصلاحية “النسبية” التي تعزّز من مساحة الحريات في المغرب[23]، وبُنيت على كثير من توصيات هيئة الانصاف والمصالحة[24]، كتطوير المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وتوسيع اختصاصاته من أجل التصدّي للانتهاكات الجسيمة، وإنشاء ديوان المظالم كمؤسسة وطنية مستقلة. كذلك إنشاء مجلس أعلى للمغاربة القاطنين في الخارج، وفصل وزير العدل عن المجلس الأعلى للقضاء، ومراجعة تنظيم واختصاصات وزارة العدل بشكل يحول دون أي تدخل أو تأثير للجهاز الإداري في مجرى العدالة وسير المحاكمات، إضافة الى توضيح سلطات البرلمان وتقويته في البحث وتقصّي الحقائق فيما يخصّ احترام حقوق الإنسان، وتوسيع صلاحيات رئيس السلطة التنفيذية على حساب بعض اختصاصات الملك .. إلخ[25]، وصولاً إلى دستور عام 2011 الذي جاء إبان الحراك الشعبي الذي جاء في سياق اندلاع ثورات الربيع العربي، وطوّر الضمانات الخاصة بالحقوق والحريات بصورة محدودة امتداداً لأعمال هيئة الإنصاف وتوصياتها[26].

رسم توضيحي 1 يوضح الخطوات التي اتخذت في تونس قبل صدور قانون العدالة الانتقالية

بتقييم عام للتجربة المغربية يمكن الوقوف على وجهتَي نظر رئيستَين تعكسان انقسام الآراء حول تقييم ما حصل في المغرب بين مَن رفض اعتبار ما حصل تجربة عدالة انتقالية، ومَن رآها تطبيقياً للعدالة الانتقالية في السياق والخصوصية المغربية رغم الفجوات الموجودة، وذلك على النحو الآتي:

  • الرأي الأول: رأى أن ما حصل بشكل عام لا يرقى إلى تجربة عدالة انتقالية، وأن الخطوات التي حصلت كانت مجرد مناورة ذكية من السلطة من أجل طيّ الماضي وليس معالجته بشكل صحيح، وقد استدلوا على ذلك بما تم من عملية تحجيم منطق العدالة الانتقالية إلى منطق التعويض المالي فقط، وأن مجمل المسار أسهم في ترسيخ حالة الإفلات من العقاب التي سمحت ببقاء المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة في وظائفهم العليا حتى دون اعتذار أو الحصول على عفو عن جرائمهم[27]. إضافة إلى انتقادات عديدة تشير إلى عدم وجود جلسات علنية بين الضحايا والجلّادين، أو استرداد للأموال المنهوبة، أو حتى التغيير الجوهري في آليات الحكم التي أنتجت الاستبداد والانتهاكات.
  • الرأي الثاني: رأى أنّ التجربة المغربية تمثّل مساراً خاصا للعدالة الانتقالية يتناسب وسياق المغرب الذي جاء بقيادة السلطة التي امتلكت الجرأة على المضي بمسار العدالة، وإن كانت تعويضية؛ بغضّ النظر عن الظروف الدولية والخارجية، واختارت أن تقوم بفتح ملفات الماضي بدلاً من الاستمرار في سياسة النكران كما تفعل الأنظمة الشمولية عادة، وتحملت بوضوح المسؤولية الأخلاقية عن الانتهاكات، وسعت لمصالحة المجتمع المغربي للتطلع إلى المستقبل، وأن العملية في المغرب وإن ابتعدت عن خيار المقاضاة إلى خيار التصالح التاريخي والسياسي فإنها لم تقتصر على جبر الضرر؛ وإنما طالت حفظ الذاكرة الوطنية وإصلاحات عديدة، وأن هيئة الإنصاف والمصالحة تجسد هيئة حقيقية سعت إلى كشف مصير المختفين قسراً، وإلى التعمق في أنماط الانتهاكات وتقديم التوصيات لضمانات عدم التكرار[28]، وقد تم بالفعل دسترة معظم توصياتها في دستور عام 2011، وأنها قدّمت نموذجاً فريداً في تقديم التعويضات الفردية والعمل على جبر الضرر الجماعي على مستوى المناطق المهمشة[29]. كما استمرت آثار عملها حتى اليوم؛ إذ أثمرت الجهود المبذولة من قبل مختلف المؤسسات المغربية عن كشف مصير 801 متوفى من ضحايا الاختفاء القسري أو الاعتقال التعسفي أو الأشخاص المتوفين خلال أحداث اجتماعية مختلفة منذ دستور عام 2011، وبذلك لم تتبقّ إلا 6 حالات من أصل 66 حالة تركتها الهيئة[30].

عموماً يمكن القول: إنّ ما حصل في السياق المغربي كان تطبيقاً واقعياً “بدرجة ما” للمعطيات الوطنية والتحول التدريجي الهادئ والمسيطر عليه، وأن ما حصل قد بُني بشكل عام على توافقات عامة بين القصر الملكي والنخب السياسية والحقوقية في البلاد، وهذا بحدّ ذاته مقدَّر في سياق استمرار نظام الحكم ذاته وعدم وجود عملية تحول جذرية. ورغم فرض الملك خطوطه الحمراء، لاسيما من حيث عدم السماح بوجود أي نهج للمساءلة بشتى أشكالها، وأن ذلك سمح باستمرار الإفلات من العقاب ووجود فجوات كبيرة تظهر بين الحين والآخر عبر ممارسات قمعية في المغرب حتى اليوم، وكل ماسبق وإن كان يبتعد عن المقاربات النظرية للعدالة الانتقالية؛ إلا أنه ليس ببعيد تماماً عن حالات أخرى شهيرة لم يتم فيها تطبيق العقاب، إما بسبب قوانين حصانة، وإما بسبب فشل الملاحقات عملياً، وإما عبر عملية متوافق عليها خلال التسويات كما حصل في بولندا وتشيلي وجنوب أفريقيا[31]؛ لذا فإنه رغم كل الانتقادات لا يمكن تجاهل ما حققته العملية من نجاحات “نسبية” تم البناء عليها لاحقاً عبر إصلاحات، وإن كان ذلك لا يرقى إلى التحول المنشود في المغرب، ولم ترقَ العملية بطبيعة الحال للمطالب والآمال الشعبية. ولعلّ هذا الجدل واختلاف زوايا التقييم لما حصل في المغرب ونتائجه سيبقى مستمراً، ولا أدل على ذلك من المؤتمر الدولي الذي استضافته المغرب في احتفالها بالذكرى السنوية العشرين لإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة في العام الماضي، وفيه طُرحت وجهات نظر مختلفة حقوقية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وقد تعددت في تقييم النموذج المغربي للعدالة الانتقالية بين مَن أقرّ بنجاح التجربة المغربية ومَن اعتبرها لم تنجز تفكيك جميع مظالم الماضي[32].

ثانياً: التجربة التونسية؛ الانقسامات الحادّة أقوى من المسارات:

بعد استقلال تونس عن فرنسا في 20 آذار من عام 1956م أصبح بورقيبة حاكماً دكتاتورياً لتونس، وأسّس نظاماً علمانياً “شرساً” فيها، وكأي ديكتاتور آخر في السلطة عسكر وزارة الداخلية ونقل ضباط الجيش إليها لتكون أداة للسيطرة المطلقة، وكرّس الدستور لسيطرة الرئيس وحزبه على الدولة والمجتمع، فشهدت تونس في هذه المرحلة انتشاراً للفساد والمحسوبيات، وقمعاً للمعارضين والحريات[33]. كما حصل في قمعه للتظاهرات العمالية في كانون الثاني 1978م، وهو ما خلّف مجزرة رهيبة قُتل فيها مئات المتظاهرين، وجرح الآلاف على أيدي الأمن ومليشيات الحزب الدستوري الحاكم، وهو ما عُرف لاحقاً بأحداث “الخميس الأسود”[34].

استمر حكم “بورقيبة” حتى عام 1987 حين أطاح به انقلاب وزير داخليته ورئيس حكومته زين العابدين بن علي بذريعة ضعف قواه العقلية، وهو الذي تحوّل سريعاً بعد بعض الإصلاحات الشكلية إلى دكتاتور جديد عدّل الدستور باستمرار لتمديد ولايته، وأصبحت تونس تخضع لسيطرة مطلقة في شتى المجالات لأسرة الرئيس وزوجته وأسرتها، وانتشر الفساد بشكل أوسع من ذي قبل[35].

جاء التغيير بشكل مفاجئ في نهاية عام 2010 م عندما أقدم الشاب طارق البوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجاً على صفعة شرطية له ومصادرة عربة الخضار التي يملكها[36]، لتنطلق موجة شعبية عارمة نجحت أخيراً في دفع بن علي للتنحي والهرب من تونس في يوم 14 كانون الثاني عام 2011م؛ لتنطلق بذلك في تونس مرحلة انتقالية تم خلالها السعي لتطبيق العدالة الانتقالية، ومعالجة الإرث الطويل من الاستبداد وآثاره.

ومع سيولة النصوص والهياكل يمكن إجمال السمات العامة للعدالة الانتقالية في تونس بالسمات الآتية:

  • مسارات العدالة المبعثرة:

جاءت في المرحلة الأولى التي تلت هروب “بن علي”، واتصفت باتخاذ خطوات متعددة تسهم في العدالة الانتقالية، من دون أن يكون هنالك استراتيجية واضحة ناظمة لها، حيث كان من أبرز الخطوات التي اتُّخذت في هذه المرحلة:

  • إطلاق سراح سجناء سياسيين، وحلّ الحزب الحاكم، وانتخاب المجلس الوطني التأسيسي عام 2011 [37].
  • رفع دعاوى قضائية ضد بعض المسؤولين والقنّاصة في النظام السابق: من خلال تحرك مجموعة من المحامين تحت مسمى “مجموعة الـ 25″، بالتزامن مع دعاوى تتعلق بالفساد المالي، والشروع بمحاكمة غيابية للرئيس المخلوع وزوجته بجرائم اختلاس أموال الدولة[38].
  • تأسيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد من خلال المرسوم رقم 220 لعام 2011م، بمهمة رئيسة تتمثل بالكشف عن مواطن الفساد في القطاع العام والقطاع الخاص، وتلقّي الشكاوى.
  • تشكيل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة في شهر شباط من عام 2011م، التي قدّمت مقترحات القوانين بهدف إصلاح المنظومة القانونية في تونس[39].
  • إنشاء وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية، لتتولى مهمة تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني في بناء مقاربة للعدالة الانتقالية[40] .
  • تشكيل اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق حول الانتهاكات والتجاوزات أثناء الثورة، بمقتضى المرسوم عدد 8 لسنة 2011 المؤرخ في 18 شباط 2011 [41].
  • تشكيل اللجنة الوطنية لاستعادة الأصول المهربة إلى الخارج، التي استمر عملها أربع سنوات وواجهت صعوبات وتحديات في استعادة الأموال المنهوبة[42].

رسم توضيحي 2 يوضح الخطوات التي اتخذت في تونس قبل صدور قانون العدالة الانتقالية

 على الرغم من كثافة الإجراءات السابقة إلا أنها كانت عملية مبعثرة، بمعنى أنها لا ترتبط بمقاربة شاملة للعدالة الانتقالية وحسم توجهاتها في كيفية التعاطي مع الماضي، كما حصل في تجارب أخرى كجنوب أفريقيا أو رواندا أو حتى المغرب؛ مما أضعف الإنجازات المحققة[43]، وأدى إلى شعور متزايد بالغضب من قبل الضحايا، ولم يسمح بتطبيق فعلي شامل لمنظومة العدالة الانتقالية؛ وكل ذلك جاء وسط انقسامات حادّة في تونس بين القوى السياسية والنخب المجتمعية والقوى المدنية التي توسعت أدوارها بشكل غير مسبوق.

  • إصدار القانون الشامل للعدالة الانتقالية، وإنشاء هيئة الحقيقة والكرامة:

صدر قانون العدالة الانتقالية في تونس بعد حوارات ومناقشات بين وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية ومنظمات المجتمع المدني، وكذلك بعد إطلاق حوار وطني لمعرفة تطلعات الضحايا والمواطنين وآرائهم والاستجابة لها في نصوص مشروع القانون، تحت رقم (53) في 24/12/ 2013 م[44]، بوصفه أول قانون شامل للعدالة الانتقالية في العالم[45].

بناءً على القانون تم إنشاء هيئة الحقيقة والكرامة، التي حازت على اختصاصات واسعة حددتها المواد (39 و40 و42) من القانون رقم 53، كامتلاك سلطة اتّخاذ القرارات لتسيير مختلف مهامها وإنجازها، وسلطة استدعاء أي شخص للتحقيق، والنفاذ إلى الوثائق الرسمية، وتحديد المسؤولين عن الانتهاكات وإحالة ملفاتهم إلى النيابة العامة، ومتابعتها أمام الجهات القضائية.. إلخ. لتبدأ الهيئة نهاية عام 2014 في تلقي الشكاوى من المواطنين، واستمرت في ذلك حتى عام 2016؛ إذ تلقت 62720 شكوى، ونظمت 49546 جلسة استماع سرية، وهو أكبر رقم للشكاوى في تاريخ هيئات الحقيقة في العالم حتى تاريخه، ولتعلن الهيئة في مؤتمر ختامي مخرجات أعمالها للجمهور على مدار يومي 14 و15 كانون الأول من عام 2018[46].

تحدّثت الهيئة أيضاً عن الصعوبات والعراقيل التي واجهت أعمالها، ومن أبرزها: عرقلة أجهزة الدولة التونسية لأعمالها ومنعها من الوصول للمعلومات والوثائق، وامتناع القضاء العسكري من التعامل مع الهيئة، والضغط الرئاسي على أعضائها وسحب جوازاتهم والتصريحات العدائية ضدهم[47]. فضلاً عن الهجوم المنظم الذي تعرضت له حتى من منظمات مجتمع مدني حقوقية محسوبة على الأحزاب اليسارية التي نظرت للهيئة على أساس موقف أيديولوجي معارض للخط المحافظ، وهو ما استغله أيضاً أنصار النظام السابق الذين شنّوا هجوماً على العملية ككل بوصفها “نهجاً صهيونياً ومتطرفاً”[48].

  • خطوات متعثرة في العزل السياسي في تونس:

على الرغم من مصادرة أملاك الحزب الدستوري (الحزب الحاكم ما قبل الثورة) ومنع اجتماعاته وأنشطته، وصدور قرار قضائي في 9 آذار 2011 بحله[49]؛ فقد نجح الحزب في إعادة إنتاج نفسه من جديد من خلال ولادة 20 حزباً منبثقاً عنه، ورغم أن المرسوم 35 لعام 2011م المنظم لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي قد نصّ في المادة (15) منه على ضمان العزل السياسي عبر منع ترشح مَن تحمل مسؤولية في التجمع الدستوري[50]، لكن صفحة العزل السياسي طُويت بعد ذلك مع فشل المجلس الوطني في إقرار مشروع قانون التحصين السياسي للثورة، الذي يتضمن منع مَن تتوافر به الشروط السابقة من الترشح لمدة سبع سنوات؛ مما فتح الباب بالكامل للمشاركة السياسية للآلاف ممن كانوا يتقلدون مناصب في زمن الرئيس المخلوع بن علي[51].

  • تعثُّر مسارات الـمُساءلة وجبر الضرر:

عملت الدوائر القضائية المتخصصة بموجب قانون إرساء العدالة الانتقالية بالنظر في 69 لائحة اتهام شملت 1120 ملفاً، وُجهت التهم فيها إلى 1426 مدعى عليه، فيما شملت هذه الملفات 1220 ضحية. لكن هذه الجهود شهدت تعثرات كثيرة، منها: عدم تفرُّغ القضاة، وعدم استكمال برامج التدريب لهم، مع ضعف الإمكانيات المادية واللوجستية والبشرية بسبب الشغور في الدوائر المحدثة، وحالة “العصيان” بسبب رفض بعض أعوان وزارة الداخلية تنفيذ القرارات الصادرة عن رؤساء الدوائر، والضعف في أسانيد بعض الملفات المُحالة من هيئة الحقيقة والكرامة في ظل ضعف أداء جهاز التحقيق داخل الهيئة[52].

أما على صعيد جبر الضرر فرغم إنشاء صندوق “الكرامة” لجبر ضرر الضحايا في عام 2018، وقيام هيئة الحقيقة بإصدار قرار حول معايير جبر الضرر[53]، ووضع خطط توزيعه على الضحايا التي تتألف من 18 ألف مقرر جبر ضرر مادي و15 ألف مقرّر جبر ضرر معنوي؛ فإن التجاذبات السياسية حوله وتقديم التمويل الحكومي اللازم أبقى العملية دون تنفيذ فعلي[54]، على الرغم من المطالبات المتكررة بإعماله من قبل حركة النهضة[55].

بناءً على ما سبق يتضح أن مسار العدالة الانتقالية في تونس اتسم بالاضطراب والتعثُّر والعرقلة، بسبب قوة البُنى الاجتماعية “النخبوية” التي تحمل فكر النظام السابق وتأثيرها، واستمرار عناصر النظام السابق في أجهزة الدولة المختلفة، وهم مَن سعى إلى إحداث ما يمكن اعتباره بـ”الموت البطيء” للمسارات المختلفة. إلى جانب الانقسامات السياسية الحادّة في تونس، ومنها: الانقسام السياسي في القوى المؤثرة بين مَن يريد إغلاق هذا الملف بأقل التكاليف ومَن يريد مسارَ عدالة انتقالية حقيقي، إلى جانب تعاقب الحكومات واختلاف توجهاتها تبعاً للانقسامات السابقة.

ليأتي انقلاب قيس سعيد على التجربة التونسية بمثابة إعلان نهاية مسارات العدالة الانتقالية وإعادة نظام الاستبداد بشكل أكثر شراسة، فعلى سبيل المثال: لم يتضمن دستوره المفروض عام 2022 أي إشارة للعدالة الانتقالية، كما تم إهمال توصيات هيئة الحقيقة والكرامة[56]، فضلاً عن اعتقال رئيسة الهيئة السيدة سهام بن سدرين نفسها في عمل انتقامي من السلطة الجديدة[57]، واعتقال الشخصيات السياسية التي كانت تُعد داعمة للعدالة الانتقالية في السنوات السابقة، وإطلاق برنامج لـ”تطهير الإدارة” بعد السيطرة على السلطتين التشريعية والقضائية[58].

رسم توضيحي 3 يوضح أبرز محطات مسار العدالة الانتقالية في تونس

ثالثاً: التجربة الليبية؛ سيولة تشريعية بلا جدوى عملية:

 سيطر معمر عبد السلام “القذافي” مع ضباط آخرين عبر انقلاب عسكري على الحكم في ليبيا عام 1969م، ليبدأ نظام حكم “ثوري” عمل سريعاً على إلغاء الصحف والسيطرة على النقابات واحتواء أنشطة المجتمع؛ حيث انتشرت حملات اعتقال “الرجعيين” والتوقيف دون محاكمة لفترات طويلة، ومع تأميم القطاع الخاص وتضخم القطاع العام بنى نظام القذافي منظومة من الولاءات والمحسوبيات والامتيازات على أساس الولاء، وبذلك تم بناء مملكة للخوف والرعب[59].

على الرغم من توفر الثروات النفطية في ليبيا، والاستقرار الشكلي لفترة زمنية طويلة[60] خرج الليبيون في مظاهرات احتجاجية قابلها القذافي بالقمع الوحشي[61]، لتدخل البلاد سريعاً في أتون نزاع مسلح، ويتم إسقاط النظام عسكرياً مع تدخل حلف شمال الأطلسي في 20 تشرين الأول عام 2011[62].

بدأت بعد ذلك مرحلة انتقالية شديدة التعقيد؛ ونظراً لذلك يمكن تتبع منظومة العدالة الانتقالية في التجربة الليبية بالتوازي مع تطور السياق الوطني والدولي، وذلك عبر تتبع النقاط السبع الآتية:

  1. السياق العام: شهدت ليبيا في المرحلة التي تلت الإطاحة بنظام القذافي تحديات رئيسة جعلت البلاد على حافة انتكاسة؛ حيث كانت سلطة الدولة ضعيفة وسط حالة من انعدام الأمن وفوضى السلاح، فقد فشلت جهود توحيد المؤسسة العسكرية والأمنية، واستمرت حالة المليشيات، وهو ما دفع جماعات أخرى لتشكيل مليشيات خاصة بها، لاسيما مع تميز المجتمع الليبي بالحالة القبلية اجتماعياً؛ وبذلك استمر غياب احتكار الدولة لاستخدام القوة، وتزايدت فرص الأطراف الخارجية في دعم تحويل فوضى السلاح لمهدِّد مستمر لبناء الدولة الليبية[63].
  2. القانون الناظم للعدالة الانتقالية: جاء أول عمل تشريعي في ليبيا في ظل المجلس الانتقالي الليبي الذي نشأ بعد الثورة الليبية ممثلاً عن الشعب الليبي واستمر حتى عام 2012[64]؛ إذ صدر القانون رقم (17) لعام 2012 “بشأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية”، الذي تضمن إنشاء “هيئة تقصّي الحقائق والمصالحة”[65]. وقد تشكلت الهيئة، وأنشأت فروعاً لها في كل أنحاء ليبيا، وبدأت الهيئة في إجراء التحقيقات وجمع الوثائق والمستندات، وفي طور قيامها بعملها تم إنهاء الهيئة وتشكيل هيئة جديدة مع إلغاء القانون ككل في العام التالي[66].

إلا أنه وفي مرحلة  تشكيل “المؤتمر الوطني العام” الذي تولى السلطة التشريعية في ليبيا بتاريخ 7 تموز 2012 أصدر  القانون رقم (29) لسنة 2013 في شأن العدالة الانتقالية الذي ألغى القانون السابق رقم (7)، وكان أبرز ما جاء به هو: التوسع في شمولية العدالة الانتقالية لتطال أيضاً الانتهاكات التي ارتُكبت من قبل الثوار، وإنشاء هيئة برلمانية كهيئة لتقصي الحقائق والمصالحة؛ لكن هذا القانون لم يُطبق عملياً ولم تصدر له لائحة تنفيذية بسبب التطورات الميدانية[67]؛ مما أدى إلى عدم المضي بأعمال هيئة تقصّي الحقائق السابقة وإلى تسريح موظفيها وتسليم مقراتها[68].

  1. قضايا العفو: جاء أول إجراء خاص بالعفو في ليبيا في 2 أيار 2012؛ حين أصدر المجلس الانتقالي “قانون رقم (35) لسنة 2012 بشأن العفو عن بعض الجرائم، مع تطبيق العفو بشروط منها: التصالح مع المجني عليه، وإعلان التوبة وتسليم أدوات الجريمة[69]. على العكس مما سبق وفي مرحلة تشكيل “مجلس النواب الليبي” الذي انتقل من طرابلس إلى مناطق سيطرة خليفة حفتر[70] صدر قانون العفو العام رقم 6 لعام 2015، وهو عفو عام لكل الليبيين عما ارتكب من جرائم منذ 15 شباط إلى تاريخ صدوره في أيلول 2015، وهو ما لاقى انتقادات هائلة على اعتبار أنه أحد القوانين المفصلة للعفو عن بعض الشخصيات السياسية المنتمية للنظام السابق، ليصدر البرلمان نفسه _في ظل الانقسام الليبي_ قانوناً جديداً أيضاً للعفو وهو القانون رقم 4 لعام 2024، الذي وسّع النطاق الزمني للعفو إلى ما قبل عام 2011.[71]
  2. التعويض وجبر الضرر: أصدر المجلس الانتقالي القانون رقم 50 لعام 2012 حول تعويض السجناء السياسيين[72]، الذي أُصدرت لائحته التنفيذية في أيلول من العام التالي[73]، كما تم إصدار القانون رقم 1 لعام 2014 بشأن رعاية أسر الشهداء والمفقودين، الذي عرّف الشهيد بشكل رئيس بـ: مَن قُتل في مواجهة نظام القذافي، أو كان من ضحايا النظام السابق والعمليات العسكرية[74].
  3. حسم الرواية التاريخية: أصدر المجلس الانتقالي القانون رقم 37 لسنة 2012 بشأن تجريم تمجيد الطاغية، الذي حدد عقوبة كل مَن يقوم بالثناء على القذافي ونظام حكمه وأفكاره وتمجيدهم؛ لكنّ هذا القانون تم إلغاؤه بموجب قرار صادر عن المحكمة العليا في 14 حزيران 2012، الذي قضى “بعدم دستوريته” بعد دعوى مجموعة من المحامين الليبيين [75].
  4. العزل السياسي والتطهير المؤسساتي: تأخر إصدار قانون خاص في تجربة ليبيا إلى عام 2013؛ حين أصدر المؤتمر العام القانون رقم (13) “في شأن العزل السياسي والإداري”، الذي أقصى مَن تولى مناصب قيادية في زمن القذافي من تولي أية مناصب سياسية وسيادية لمدة 10 سنوات، وأنشأ بدوره هيئة تُسمى هيئة تطبيق معايير تولي المناصب العامة[76]، ومع عدم وضع ضوابط معيارية للقانون والتوسع في تفسيره ليشمل أعداداً كبيرة أدى ذلك إلى تعزيز الانقسام السياسي والاجتماعي في ليبيا[77]، وقد تم تعليق القانون لاحقاً من البرلمان الليبي المنحل “مجلس النواب الليبي” المنعقد في طبرق يوم 2 شباط 2015.
  5. جهود الـمُساءلة القضائية في ليبيا: انطلقت كبرى المحاكمات القضائية في ليبيا متأخرة، وتركزت على محاكمة 37 متهماً من رموز النظام السابق، بينهم سيف الإسلام القذافي[78]، وانتهت تلك المحاكمات بإصدار أحكام إعدام بحق 9 متهمين، منهم رئيس مخابرات القذافي ورئيس وزرائه ونجله، الأمر الذي أثار موجة استنكار دولية باعتبار المحاكمات افتقرت لضمانات المحاكمة العادلة[79]، ليتم لاحقاً إطلاق سراح “سيف الإسلام” عملياً من قبل كتيبة مسلحة بموجب عفو برلمان شرق ليبيا في عام 2017[80]، فيما تستمر محاكمات أخرى كمحاكمة رئيس الاستخبارات في طرابلس، وقد تم الإفراج عن بعض المحكومين كرئيس جهاز الاستخبارات الخارجية السابق لأسباب صحية[81].

أما دولياً فمنذ عام2011  تبنى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 1970 بإحالة الوضع في ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي أصدرت بعد أشهر أوامر توقيف بحق “القذافي” ونجله “سيف الإسلام”، ورئيس المخابرات الليبي السابق، وقد طعنت السلطة الانتقالية “باختصاص المحكمة في هذه القضايا، وهو ما يُسمى “طعن المقبولية”[82]، لتستمر بعدها تحقيقات الجنائية الدولية وإصدار مذكرات توقيف بحق العديد من الأشخاص في ليبيا، خاصة بعد عام2020[83]، وسط نزاع مستمر مع السلطة الليبية التي وصلت حد مطالبة مجلس القضاء الأعلى في ليبيا بعدم تدخل الجنائية الدولية في المساءلة عن الانتهاكات في البلاد؛ باعتبار ليبيا مستعدة وقادرة على إجراء المحاكمات الوطنية[84].

كذلك شهدت ليبيا تشكيل هيئات دولية لتقّصي الحقائق، من أبرزها: اللجنة الأممية التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان في حزيران 2020م، وأناط بها ولاية التحقيق في ادعاءات انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان وادعاءات تجاوزات القانون الإنساني الدولي المقترفة في ليبيا منذ العام 2016م، وقد واجهت تحديات تمويل وتأخرت في انطلاق أعمالها، مع مجموعة من التحديات العملية كتعاون الشهود[85]. وقد كشفت الهيئة في تقارير عديدة صادرة عنها عن انتهاكات جسيمة في ليبيا، واختتمت اللجنة أعمالها بتقرير نهائي في عام2023م أكدت فيه أن ثقافة الإفلات من العقاب ما تزال سائدة في ليبيا[86]، وقد طالبت منظمات حقوقية ليبية الأمم المتحدة بإنشاء آلية للمُساءلة عن الانتهاكات الموثقة في ليبيا[87].

بشكل عام يمكن القول: بعد الانقسام الحادّ في ليبيا مع ظهور الضابط المتقاعد خليفة حفتر في  شباط 2014 م وإعلان  سيطرة قواته على مواقع عسكرية وحيوية، وتجميد عمل المؤتمر الوطني والحكومة؛ دخلت البلاد في سلسلة من المعارك الشرسة، وشهدت انتهاكات جسيمة متعددة وعمليات نهب منظمة للمال العام[88]، وبذلك تحول الانقسام السياسي _خاصة بعد انتخابات عام 2014م_ إلى انقسام مادي وجغرافي، وأصبحت البلاد مقسمة بين سلطتين في كل منهما أجهزة تنفيذية وتشريعية، وسط استمرار للتدخلات الإقليمية والدولية سياسياً وعسكرياً؛ وهو ما وأد مسار العدالة الانتقالية الوليد في ليبيا، وأنهى المحاولات القائمة عملياً[89].

كنظرة عامة فإن ضعف مؤسسات الدولة الجديدة في ليبيا، وانتشار السلاح، وانقسام المجتمع بما فيه من تداخلات قبلية، وضعف السلطة القضائية التي تعرّض كثير من قضاتها للخطف على أيدي من حكمتهم من المجرمين، إضافة إلى أزمة توافق وطني وتشرذم النخب السياسية، والاختلاف حول المشروع الوطني والبرامج الوطنية وأدوات التنفيذ؛ كل ذلك أسهم في تعذُّر بناء رؤية واضحة للمرحلة الانتقالية بشكل عام وللعدالة الانتقالية بشكل خاص، التي تُرجمت إلى تشريعات تتخللها العديد من الثغرات[90]. وكان لذلك أثرٌ كبيرٌ في تعثُّر المرحلة الانتقالية أصلاً والعدالة الانتقالية بالضرورة، كما أسهمت التدخلات الخارجية والفشل المتتالي للبعثات الأممية _مع تعدُّد رؤى المبعوثين الأربعة على التوالي إلى البلاد[91]_ بدخول ليبيا في دوامة عنف جديدة بدلاً من معالجة الماضي والتطلع للمستقبل.

                    شكل رقم (4) يوضح أبرز محطات مسار العدالة الانتقالية في ليبيا

رابعاً: التجربة اليمنية؛ الانقلاب على مسارات العدالة التصالحية الوليدة:

شهد اليمن قبل ثورة 2011 تدهوراً حادّاً في مستوى الخدمات الصحية والتعليمية، وازدادت نسبة البطالة، وانخفض مستوى المعيشة، في مقابل نشوء طبقة طفيلية فاسدة تكوّنت حول نظام الحكم. واتسم نظام “صالح” باعتماده على تركيبة سياسية واجتماعية وقبلية/مناطقية موالية وسيطرة عائلية على الجيش والأمن، من خلال الأبناء والأقارب، مع تغوّل تدريجي للأمن وتزايد للقمع، ليختم كل ذلك بسعي لتوريث السلطة لابنه البكر[92]، خلال هذه الفترات استمرت الإضرابات نسبياً ومن أبرزها عودة مظاهر الحراك الجنوبي المطالب بالانفصال، وحصول ستة حروب مع جماعة أنصار الله -الحوثيين (2004-2010م)[93].

جاءت مرحلة ثورات الربيع العربي وسط تجاهل “صالح” نداءات الإصلاح، حتى أطلق الشباب اليمني ثورة 11 شباط عام 2011م بخروج مئات الآلاف من اليمنيين إلى الشارع متظاهرين لعدة أشهر ضد نظام “صالح”، الذي واجهها بقمع وحشي أدى إلى مقتل ما يقارب 200 شخص وجرح المئات[94].

بعد عدة محاولات لتحقيق تسوية سياسية عبر مجلس التعاون لدول الخليج العربي ترتكز في جوهرها على نقل السلطة من رئيس الجمهورية إلى نائبه وتشكيل حكومة وحدة وطنية بقيادة المعارضة، وقّع الرئيس اليمني علي عبد الله صالح على المبادرة الخليجية التي شكّلت أساساً للانتقال السياسي في اليمن في 23/11/2011، ليعقب ذلك إقرار مجلس الأمن الدولي بالمبادرة ودعم الجهود الأممية لتحقيق الانتقال السياسي على أساسها[95].

تركزت العملية الانتقالية في اليمن على تطبيق الاتفاق السياسي بين الأطراف المؤثرة بموجب المبادرة الخليجية، التي كانت أولى مراحل تنفيذها تشكيل حكومة الوفاق الوطني في مطلع عام 2012م، أعقبها انتخابات توافقية فاز بها الرئيس عبد ربه منصور هادي[96].

بذلك بدأت مرحلة انتقالية في اليمن لم تستمر طويلاً حتى انزلقت البلاد في نزاع مسلح شامل، فمع تصاعد سوء سمعة الأطراف التي تقاسمت الحكم في المرحلة الانتقالية، بسبب ضعف مؤسسات الدولة وانعدام الثقة تجاه إدارة المرحلة الانتقالية خصوصاً من القوى المحسوبة على حراك 2011م، تشكل  تحالف بين أعداء الأمس “صالح -الحوثي” وانقضا معاً عسكرياً على العملية الانتقالية في: 21/9/2014 عبر اجتياح العاصمة صنعاء، وبذلك انتهت المرحلة السابقة ونسفت المبادرة الخليجية وخاصة بعد قيام الحوثيين بإعلان دستوري في شباط 2015م وهو ما تبعه إعلان السعودية لعملية “عاصفة الحزم”، لتدخل البلاد في نزاع مسلح شامل وتشهد تحالفات وصراعات جديدة للقوى العسكرية المنتشرة، ورغم أن المشهد كان معقداً بشدة يمكن لنا تتبع أبرز المحطات في التجربة اليمنية وفق ما يلي:

  • الاشتراطات السياسية المعوّقة للعدالة الانتقالية: جاءت أولى العثرات في مسار العدالة الانتقالية عبر إصدار القانون رقم (1) للعام 2012م المتعلق بمنح الحصانة من الملاحقة القانونية والقضائية، وهو ما شكّل عملياً حصانة للرئيس “صالح” وأركان نظامه من المساءلة عن الجرائم ذات الطبيعة السياسية، التي تشمل قتل المتظاهرين أثناء الثورة[97].
  • التوازنات السياسية التي عاقت اكتمال الإطار القانوني للعدالة الانتقالية في اليمن ثم أدت إلى انهياره: بعد إقرار قانون الحصانة السابق حصل ضغط حقوقي وشعبي من أجل إقرار قانون شامل للعدالة الانتقالية في اليمن، وبعد مسودات ومقترحات من الطرفين الشريكين في الحكم “أحزاب اللقاء المشترك” و”حزب المؤتمر الشعبي” صاحب الأغلبية في البرلمان وهو حزب “صالح” قدّم رئيس الجمهورية الانتقالي عام 2012مإلى مجلس النواب اليمني مشروع القانون لنقاشه[98]؛ وهو ما لم يقبله أنصار “صالح”، وفي الوقت نفسه لم يلبِّ تطلعات الضحايا والمنظمات الحقوقية لأنه يتجاهل المساءلة[99].

في مطلع عام 2014صدرت وثيقة نتائج مؤتمر الحوار الوطني الشامل في اليمن، وتضمّنت في أحد أبرز محاورها ملف العدالة الانتقالية؛ إذ جاء فيها الدعوة لتأسيس هيئة لاسترداد الأراضي المنهوبة بسبب سوء استخدام السلطة، وإصدار قانون وهيئة للعدالة الانتقالية والمصالحة، وإجراء إصلاح مؤسساتي بما يحول دون انتهاكات جديدة لحقوق الإنسان، والكشف عن مصير المختفين قسراً[100]. ليأتي مشروع دستور 2014 متضمناً نقاطاً تفصيلية في مسار العدالة الانتقالية، من قبيل التأكيد على أهمية كشف حقائق الانتهاكات، وتحديد مهلة 3 أشهر لإصدار قانون العدالة الانتقالية، وإنشاء هيئة للعدالة الانتقالية، وهيئة وطنية لاستراد الأموال المنهوبة[101].

من جانب آخر وخلال هذه الفترة تم تشكيل بعض اللجان الرسمية في قضايا محددة، كالأراضي في المحافظات الجنوبية، ولجنة معالجة قضايا الموظفين المبعدين، وصندوق رعاية أسر شهداء وجرحى ثورة 11 شباط، وصندوق تعويض ضحايا حقوق الإنسان في حرب 1994م، وحروب صعدة؛ إلا أن كل هذه الخطوات انهارت عملياً مع انقلاب الحوثي في أيلول 2014[102].

لتقوم وزارة الشؤون القانونية في مرحلة لاحقة بالعمل على إعداد مشروع قانون عدالة انتقالية جديد، من خلال ورشات تشاورية مع برامج أممية وأصحاب مصلحة آخرين[103]؛ لكن المشروع كسابقيه لم يتحول إلى قانون بسبب الظروف السياسية والأمنية في البلاد.

  • اقتصار العدالة الانتقالية على الإجراءات التحضيرية والمساندة: دولياً جاء قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2140 لعام 2014 يدعو الحكومة اليمنية لسنّ قانون للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية وفقاً لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني[104]، كما أنشأت الأمم المتحدة فريق الخبراء البارزين (GEE) أواخر عام 2017 لإجراء معاينة شاملة لجميع الانتهاكات المزعوم ارتكابها منذ عام 2014 وتحديد المسؤولين عنها. ورغم أهمية تقريرها النهائي في مناقشات مجلس الأمن حول المساءلة جاء القرار الأممي بعدم تجديد ولاية الفريق في عام 2021، ويمكن تفسير ذلك بتركيز المبعوث الأممي الخاص إلى اليمن على تسوية شاملة للنزاع، وبدأ يتلاشى حضور قضية العدالة الانتقالية في اليمن؛ حيث لم يعد يُشار إليها بشكل واسع من قبل الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن الدولي[105].

كما شهد المجتمع المدني اليمني نشاطاً كبيراً في شتى المجالات، وفي جوهرها جاءت قضايا العدالة والمصالحة رغم نشاطها في بيئة شديدة التعقيد والخطورة؛ حيث تتعرض لانتهاكات متعددة، لكنها لم تتوقف عن رصد وتوثيق الانتهاكات التي تُرتكب ضد المدنيين، ودعم مسار المصالحات المحلية، وإطلاق رؤيتها حول متطلبات تحقيق استقرار في اليمن وقطيعة مع الانتهاكات، كما فعلت في “إعلان اليمن للعدالة والمصالحة”[106].

تُظهر التجربة اليمنية أنه رغم حصول انتقال عبر نموذج تفاوضي للسلطة بعد انطلاق ثورة شعبية، وعدم إطلاق عمليات مساءلة عن الانتهاكات وتقديم حصانة لأركان النظام السابق، والمضي بخطوات حوارية طويلة، وذلك على العكس تماماً من الحالة  الليبية القائمة على انتقال ثوري عسكري وعملية اقتصاص من النظام السابق وأركانه تُظهر أن النتائج جاءت متشابهة لجهة الانقلاب على العملية الانتقالية وتعطيل الخطوات الأولى في العدالة الانتقالية، وانزلاق البلاد في حالة أشد قسوة من حيث الانتهاكات رغم حرص مؤتمر الحوار ومشروع الدستور على التأسيس الشامل للعدالة الانتقالية؛ فقد أسهم وجود السلاح والانقسامات الداخلية والتدخلات الإقليمية في تلاشي الآمال في معالجة انتهاكات الماضي، وأما المساعي بوقف الانتهاكات الجديدة _حتى الآن_ فيبدو أن مسار تحقيق العدالة والسلام في اليمن، والموازنة بينهما لا يزال طويلاً ومعقداً.

شكل رقم (5) يقارن بين المرتكزات الأساسية للعدالة الانتقالية في التجارب العربية 

خامساً: ما يُستفاد من التجارب المختلفة في الحالة السورية:

يؤكد استقراء التجارب العربية المختلفة وجود تنوُّع كبير في مسارات العدالة الانتقالية ومنطلقات تقييم نجاحاتها أو فجواتها أو استمرارها، قبل أن يفرض السياق الميداني نفسه مجدداً كأولوية؛ إلا أنها تكشف عن مجموعة واسعة من التقاطعات والنتائج التي يمكن الاستفادة منها في جميع التجارب اللاحقة عموماً وفي سوريا على وجه الخصوص؛ بما يخفّف قدر الإمكان من التطلعات النظرية المحضة أو التوترات الناجمة عن خيبات الأمل أو المقاربات غير الواقعية.

من أبرز هذه النقاط التي يمكن استحضارها واعتبارها مساعدة في توجيه آليات التفكير الوطنية السورية لإنتاج مقاربة العدالة الانتقالية نستعرض ما يلي:

  • ليس من السهولة بمكان في الدول العربية بشكل عام تحقيق غايات العدالة الانتقالية في بعدها النظري على الأقل، رغم القوة الدافعة للتغير والاستعداد الشعبي للتضحية “عموماً”؛ حيث وقفت العوامل السياسية والاقتصادية، وفساد أو ترهُّل البُنى الإدارية، وحجم الانتهاكات من الأنظمة السابقة ومعه عدد المتضررين عملياً من تطبيق العدالة الانتقالية بأي شكل في وجه تحقيق إنجازات جوهرية؛ ففي كل التجارب كان ثمّة شرائح من الأنظمة السابقة معرقلة للمسارات، وترغب بعودة النظام السابق بطريقة ما.

ففي سوريا التي واجهت واحداً من أشرس وأطول الأنظمة القمعية، ومع وجود التعقيدات ذات البُعد الاجتماعي من جهة وتورُّط معظم بُنى الدولة ككل في انتهاكات النظام البائد، ووجود التدخل الإقليمي والدولي واسع النطاق؛ فإن إعمال العدالة الانتقالية عملية حساسة لا يكفي التفكير بها من بُعد قانوني محض فحسب؛ لأنها تصبح _بدرجة أكبر من تجارب أخرى_ عملية ذات طابع سياسي واجتماعي واستراتيجي تحتاج مزيجاً مركباً وشجاعاً وواعياً بالموازنة بين متطلبات الانطلاق بالمسارات والمتطلبات للعامة المرتبطة بالاستقرار والبناء والظروف المناسبة للإنجاز.

  • في التجربة الاستثنائية في المغرب تحكمت السلطة مباشرة في توجهات العدالة نحو تسويات مع الضحايا وذويهم، رغم ذلك أسهم الضغط الحقوقي والمدني والتمسك بالمعايير الدولية في الضغط على السلطة لتطبيقات أكثر إنصافاً لهذه الجهة وبطريقة لا تصل لنقطة صفرية معها، عبر تفهُّم أسباب طيّ التدابير الأخرى في ظل استمرار السلطة ذاتها.

لذا فرغم اختلاف السياقات يمكن الاستفادة في سوريا من بعض نجاحات هيئة الإنصاف والمصالحة بالمغرب في جبر ضرر الضحايا رغم إشكالية الواقع الاقتصادي السوري والعدد الهائل للضحايا، خاصة تقديم الأولوية في جبر الضرر للنساء على سبيل المثال. ويمكن أيضاً التركيز على أهمية التوصل إلى حلول وسطية منطقية بين الحالتين المثالية والواقعية؛ فقد سمحت قلة عدد الانتهاكات والضحايا في المغرب _قياساً على سوريا_ مع وجود سلطة مستقرة بعملية جبر ضرر مباشرة بعد مضي فترات طويلة من التحقق، ولكنّ مسار جبر الضرر في سوريا من المرجح أن يكون طويلاً وفي أضيق الحدود نتيجة العوامل المعاكسة؛ لكثرة عدد الانتهاكات، ولهشاشة الأوضاع العامة وضعف الموارد الاقتصادية.

  • كان للتردُّد في العزل السياسي في تونس _كما في اليمن_ والتوجُّه نحو التوافق مع القوى السياسية المحسوية على النظام السابق، أو التي تحمل روحه عموماً على حساب التقدُّم الجريء في تطبيق العدالة أثرٌ كبيرٌ في تغيير المشهد السياسي العام وإفراغ إنجازات هيئة الحقيقة والكرامة من مضامينها، كما أدى الالتفات إلى تحديات الواقع على حساب إحداث القطيعة الفعلية مع إرث الماضي في تونس إلى المساهمة في إعادة إنتاج نظام استبدادي لم يتردد بدوره في ممارسة انتقام واسع.

لذا فإن الخطوة الأساسية في سوريا التي جاءت عبر حلّ حزب البعث وأحزابه الرديفة عملياً _أي: أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية”_ تُعد خطوة أساسية مهمة، لكنها غير كافية؛ إذ يتطلب المضي الجديّ بتطهير الحياة السياسية السورية القادمة من أركان نظام الأسد البائد -من غير العسكريين والأمنيين- بوصفها قوى تسعى لإفراغ مسارات العدالة الانتقالية من جوهرها، والقيام بخطوات جزئية بالعزل السياسي على مستوى الأفراد داخل هذه المنظومة السياسية ولكن بمعايير محددة وعادلة ولفترة زمنية مناسبة تتناسب مع المسار الطويل المتوقع للعدالة الانتقالية في سوريا في ضوء تجارب دولية عديدة.

  • تُظهر تجربة تونس أنه رغم قوة المجتمع المدني ووجود دعم تقني دولي وفعالية الحوارات الوطنية والمجتمعية، ورغم قوة المسار الإجرائي لإنتاج قانون شامل للعدالة الانتقالية “نسبياً” الذي قادته وزارة العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان عبر لجنة مشتركة لهذا الغرض؛ أنّ تشعُّب المسارات والنصوص والهياكل المعنية بالعدالة الانتقالية لم يشكّل بحدّ ذاته ضمانة لتحقيق إنجازات، بل على العكس كان ما سبق من أسباب محدودية الإنجاز عملياً.

على ذات النحو تُظهر التجربة الليبية أنه رغم السيولة التشريعية وتعدُّد الهياكل فيما يتعلق بمسارات العدالة الانتقالية أنّ الفوضى الأمنية، وضعف المؤسسات العامة، وغياب التوافق المؤثر بين القوى الرئيسة، وتشتُّت النخب أدى ذلك كله إلى مستوى إنجاز محدود جداً، حتى قبل حصول الثورة المضادة وانقسام السلطة والجغرافيا.

كما ذهبت الدول العربية الأربع إلى الاعتماد على هيكل هيئة حقيقة رغم تعدد المسميات واختلاف مستوى التطبيق أو الاستمرار؛ حيث كانت (هيئة الإنصاف والمصالحة) في المغرب، و(هيئة الحقيقة والكرامة في تونس)، و(هيئة تقصي الحقائق والمصالحة) في ليبيا، و(هيئة العدالة الانتقالية) غير المفعلة و(اللجنة الوطنية للتحقيق) في اليمن؛ وفي جميع تلك الحالات كانت الهيئات وليدة للقانون، وليس العكس.

بناءً عليه: في سوريا ومع سيولة الأفكار والطروحات والتوصيات حول التشريعات أو إنشاء لجان وهياكل عديدة.. إلخ فإنّ مخاطر التشتت والضياع يجب أن تكون حاضرة في الأذهان أيضاً؛ ولذا فإنّ الإجراءات التمهيدية تكون مطلوبة ومناسبة إذا كان لها أهداف واضحة وتساعد في إنتاج المسار بدلاً من تشتيته، مثل: الحجز على الأموال، والتأسيس لتتبع الأموال المنهوبة، واعتقال كبار المجرمين كرؤساء الأجهزة الأمنية وأقسام التحقيق فيها ..إلخ.

 مقابل ذلك تبدو الحاجة ماسّة حالياً للمسارعة في تشكيل “هيئة العدالة الانتقالية” بناء على المادة 49 من الإعلان الدستوري، وبما أنه ليس واضحاً من حيث المبدأ إذا كانت هذه الهيئة التي نُصّ عليها ستكون بمثابة “هيئة حقيقة سورية”، أي أنها مَن سيباشر العمل في الآليات غير القضائية على الأقل، كالتحقيق وكشف الحقائق واقتراح خطط جبر الضرر ..إلخ، أو أنها ستكون هيكلاً أكثر استقلالية من فكرة الوزارة وتتولى عملية إعداد مقترح قانون للعدالة الانتقالية والمساهمة في الآليات الأخرى؛ فإنّ تشكيل الهيئة وفق التصور الأول _وهو المرجَّح_ يتطلب بدوره تأجيل التشكيل حتى إقرار قانون العدالة الانتقالية الذي يحتاج مساراً تشاورياً خاصاً ومعمّقاً يمكن أن تقوده وزارة العدل تشاركياً مع منظمات وشخصيات حقوقية ومدنية، أو عبر وزارة حقوق الإنسان في حال إنشائها في سوريا.

  • تبدو السمة العامة للتجارب العربية هي الإفلات من العقاب بأساليب متعددة؛ كالتوجه نحو المصالحة فقط كالمغرب، أو الفشل العملي لقوة المنظومة السابقة كتونس، أو استخدام قوانين عفو كليبيا بغض النظر عن اتجاهها، أو قانون الحصانة كثمن تفاوضي كاليمن؛ رغم ذلك لم يكن التساهل في المساءلة في ثلاث حالات ثمناً كافياً لتحقيق الاستقرار، أما عملياً تصبح عملية المساءلة لأركان الأنظمة السابقة أكثر صعوبة مع تراكم مجموعة من الانتهاكات الجديدة تصبح محطّ اهتمام.

في سوريا ومع استخدام أسلوب التسوية نمطاً يقترب من أسلوب العفو العام في ظروف عسكرية يمكن اعتباره أمراً مفهوماً للسماح بتسهيل إسقاط النظام البائد أصلاً، أو التوصل إلى اتفاق يوحّد سوريا كحالة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”؛ ولكن من جانب آخر فإن ذلك يجب ألا يمنع من التركيز على المساءلة القضائية لكبار مجرمي نظام الأسد كما أسّس الإعلان الدستوري، ومن البحث في آليات تمنع الإفلات من العقاب بطرق عملية، وإن كانت بعيدة عن المنطق الجنائي التقليدي (الحبس والسجن ..إلخ)؛ شريطة أن  تكفل الإنصاف للضحايا، كالتعويض المباشر وكشف الحقائق، وهو ما حصل بشكل عام في  مقاربات غير تقليدية في جنوب أفريقيا و رواندا عبر نموذج المحاكم الشعبية “الجاكاكا”.

وهذا ما يكفل التأسيس لضمانات عدم التكرار، ويسهم في تسوية ملفات الماضي، بما لا يعرقل الحاضر والمستقبل. وبناءً على تلك المقاربة يمكن النقاش بشكل مستقل ومكثف حول الآليات المناسبة مع السياق السوري وإرثه الحضاري، كالقيم المجتمعية والموروث الديني والعشائري ..إلخ.

  • في البُعد المالي تُظهر التجارب الأربع عدم وجود نجاحات في استرداد الأموال المنهوبة أو تحقيق إنجازات في الأبعاد الاقتصادية للعدالة الانتقالية الأوسع مدى؛ وبذلك فإن الأثر المالي للانتهاكات استمر في حضوره طويلاً، أي أن المنظومات المستفيدة مالياً من أنظمة الاستبداد استمرت في مراكزها المالية القوية، أما في قضايا التعويض وجبر الضرر فإن الوضع المستقر مالياً سمح بتطبيقات عملية للتعويض في المغرب وليبيا (مرحلة ما قبل الانقسام)، في حين جاءت مسارات التعويض هزيلة في تونس وغير منطلقة في اليمن (مرحلة ما قبل الانقسام).
  • في البُعد المرتبط بتطهير الحياة السياسية والاقتصادية من الفساد فكان التقصير واضح الأثر؛ حيث أدى عدم إنجاز المصالحة الاقتصادية _بمعنى التسويات لصالح الخزينة العامة وفق قانون العدالة الانتقالية بين السلطة العامة والمستفيدين من إرث الاستبداد والفساد_ إلى استمرار تداول حجم من الأموال في الحياة العامة مصدرها الفساد، كما أسهم غياب العزل السياسي والتطهير المؤسساتي في المغرب وتونس واليمن أو التطبيق بشكل غير حكيم في ليبيا إلى فجوات وإشكالات مستقبلية.

بناءً عليه فإن الحالة السورية التي شهدت أنماطاً واسعة من العلاقة بين المالي والسياسي والانتهاكات خلال عقود من النظام الاستبدادي، وهو ما ازداد بشكل كبير خلال سنوات الثورة وأدى إلى تشكيل نخب مالية مستفيدة من الظروف العامة، بما فيها أدوات السلطة العامة كقرارات وممارسات؛ يأتي المضيّ بجرأة في تطهير الحياة السياسية والاقتصادية في جوهر التغيير الحقيقي المأمول، ومع التعقيدات القانونية والعملية واحتمالية التفكير بالآليات الجنائية الحديثة للمصالحة الاقتصادية فإن ضبط العملية بقواعد محددة و”إظهار العار الأخلاقي بوضوح” أمرٌ في غاية الأهمية.

  • تُظهر تجارب الدول العربية غير المكتملة (ليبيا واليمن) أولوية توحيد المؤسسة العسكرية والأمنية وقدرة السلطات الانتقالية على احتكار القوة بالتوازي أو حتى كشرط تأسيسي لإطلاق مسارات عدالة انتقالية حقيقية، لاسيما على صعيد المساءلة بأشكالها؛ لأن استمرار القوى خارج منظومة الدولة عامل أساسي في إغراء التدخل الخارجي، وتسهيل آثاره في الانقلاب على العملية الانتقالية ككل، وحينها تغدو جهود العدالة الانتقالية مجرد عملية من دون جدوى.

فمع تعقيد المشهد السوري، ووجود قوى عسكرية متعددة لم تندمج بشكل كامل داخل وزارة الدفاع، ووجود قوى عسكرية أخرى رافضة عملياً للاندماج والمجلس العسكري في السويداء والقوى المحلية المسلحة، فضلاً عن الهجمات الواسعة لمسلحي “الفلول”؛ فإن الشرط اللازم غير الكافي لإطلاق مسار عدالة انتقالية سورية بشكل جدّي ما زال غير متحقق في سوريا.

  • في جميع التجارب كان صوت المجتمع المدني _خاصة المنظمات الحقوقية_ حاضراً في الضغط لإطلاق المسار ومساندته؛ إلا أن ذلك لم يكن كافياً لتحقيق نجاحات وإنجازات، باستثناء المغرب؛ حيث أدى الضغط على السلطة للتحول من هيئة التحكيم المستقلة إلى هيئة الانصاف والمصالحة مع التغيرات الموضوعية المحددة في إطار وضعته السلطة عملياً. في حين بقي المجتمع المدني في ليبيا واليمن يسعى لمقاربات صعبة توازي متطلبات السلام والعدالة، في حين كان المجتمع المدني الأكثر قوة وتأثيراً في حالة تونس يمكن اعتباره خليطاً بين الإيجابي والسلبي؛ حيث لم تكن تنظيماته معزولة عن الانقسام الأيدلوجي وأثر التمويل الخارجي والمحلي، وأسهم بشكل عام في تعقيد التجربة التونسية وتشعبها.

يُستفاد مما سبق للحالة السورية التي تقترب من حيث نمو دور المجتمع المدني _إن صح التعبير_ من الحالة التونسية أن أدواره قد تكون مزيجاً من العوامل الإيجابية والسلبية معاً؛ وعليه فمن الضروري عزل الأيدلوجيا وتأثير المانحين قدر الإمكان عن طريقة تعاطي المجتمع المدني مع مسار العدالة الانتقالية، بحيث يركّز على معايرة الخطوات؛ ليس فقط بالمبادئ الحقوقية والأممية المعيارية، وإنما بمنطق الواقع والمكاسب الاستراتيجية طويلة المدى.

  • في الحالة الليبية، وفي الحالة اليمنية بشكل عام لعب البُعد العشائري والقبلي دوراً سلبياً في مسار المساءلة وتشويش مسار العدالة الانتقالية ككل، ومع وجود شبكات اجتماعية تقليدية في سوريا فإن تغليب معيار الانتماءات الضيقة قد يلعب دوراً في تعطيل المساءلة؛ وهذا ما يمكن أن يمتد للشبكات الأكبر على أساس دوائر طائفية تتضامن ضد مساءلة أعضائها، وتحول ذلك إلى حالة طائفية عامة مستنفرة للهويات؛ وهذا ما يتطلب بدوره حساسية عالية في طريقة الخطاب والنهج لمؤسسات إنفاذ القانون ووعياً وطنياً يُعلي المصلحة الوطنية وحقوق الضحايا على أي معيار آخر.

 

المعوّقات
مقترحات تذليلها في الحالة السورية
دور النخب والقوى المدنية والأهلية في التشويش على مسارات العدالة الانتقالية وإفراغها من مضمونها.
بناء الخطاب السياسي والحقوقي والإعلامي القائم على العقلانية.
السعي لبناء أرضية مشتركة لأكبر قدر ممكن بين النخب السورية والابتعاد عن تقديم الدعم لمرتكبي الجرائم للإفلات من العقاب على أسس دون وطنية.
ارتكاب انتهاكات جديدة يزيد من تعقيد مهمة معالجة انتهاكات الماضي.
وعي القوى والأفراد التي تطالب بالعدالة الانتقالية أنّ تكرار أنماط الانتهاكات يسهم في إفلات المجرمين السابقين من العقاب.
استمرار فوضى السلاح والقوى العسكرية المحلية يؤدي إلى منع أية مسارات جدية للعدالة.
تحقيق حد أدنى من الاستقرار السياسي والأمني في سوريا كشرط لازم لمسار عدالة انتقالية متكامل؛ ولكن ذلك لا يمنع من العمل على الإجراءات الأساسية والتمهيد لإطلاق المسار.
من الصعوبة العمل على آليات قضائية واسعة وسريعة لمرتكبي الجرائم والانتهاكات.
التخلي عن الشروط التعجيزية في مقاربة العدالة الانتقالية السورية المبنية على منطلقات صلبة نظرية محضة.
كلما ازدادت التدخلات الخارجية ازداد تعقيد ملف العدالة الانتقالية، والعكس صحيح.
الموازنة بين إنتاج مقاربة سورية والمضي بها بدعم دولي، وتدويل المسار ككل.
النهج التصالحي مع أركان الأنظمة السابقة وقواها السياسية والعسكرية قد يفتح الباب لإعادة تركيز القوى والانقلاب على المسارات.
التمييز بين عملية المصالحة المطلوبة بالتوازي مع العدالة المطلوب إنجازها وعدم الاستسلام لابتزاز السلم الأهلي بملف العدالة في سوريا.
الضغوط الواسعة على الكوادر التي تسهم في مسارات العدالة.
تعزيز الحصانة على المستوى الشخصي لمن يتصدى لمهام جوهرية في سياق العدالة الانتقالية.
شراسة انتقام القوى المضادة للثورة في حال استعادة سيطرتها أو حتى قدرتها بإعادة التموضع، واستغلال الضعف في المراحل الانتقالية.
الوعي من السلطة والقوى الداعمة للتغير بقدرة القوى الداعمة للنظام البائد على استغلال الانقسامات في تعطيل مسارات المساءلة.
تغرق البلاد التي تشهد ثورات مضادة بموجة من الانتهاكات أكثر شراسة من الانتهاكات في مرحلة الأنظمة السابقة.
التفكير بالقضايا التي تؤسس عليها الثورات المضادة داخلياً على الأقل عند تصميم برامج العدالة الانتقالية.
بالمنطق النظري فإن جميع التجارب العربية فشلت في تحقيق القطيعة مع الماضي وتحقيق أهداف العدالة الانتقالية الكبرى.
ضرورة الوعي والتمييز بين متطلّبات العدالة الانتقالية المرنة التي قد تحقق مكاسب مستقبلية أكبر من المكاسب الآنية، ومتطلّبات العدالة الشكلية الصارمة التي قد يستحيل تطبيقها في السياق السوري.
العوامل الداعمة للعدالة الانتقالية
مقترحات لاستغلالها في الحالة السورية
أهمية دور النخب والقوى المدنية في إطلاق وإنجاح مسارات العدالة الانتقالية.
الخطاب السياسي والحقوقي والإعلامي القائم على العقلانية.
أهمية السعي لبناء أرضية مشتركة بين النخب.
وجود كمّ كبير من المشاورات الوطنية حول مقاربة العدالة الانتقالية يحشد الرأي العام وراء إنجاح المسار.
إطلاق عملية حوارية وطنية منظمة عبر لجنة خاصة مشتركة بين السلطة العامة والمنظمات غير الحكومية لإجراء مشاورات فعالة.
تطبيق العزل السياسي بشكل دقيق وغير انتقامي يساعد في تطهير الحياة السياسية.
إصدار تشريع خاص بالعزل السياسي في سوريا.
المساءلة القضائية لكبار مرتكبي الانتهاكات تشكل ضماناً أساسياً للقطيعة مع الماضي.
 المضي في إنشاء المحاكم الخاصة بمحاكمة كبار المجرمين.
المساءلة غير القضائية لمنع الإفلات من العقاب.
التفكير بالإرث القانوني والقيمي والثقافي السوري لإنتاج آلية مقبولة تراعي التحديات ومتطلبات العدالة.
إسهامات المنظمات غير الحكومية والنقابات والقوى المدنية في إطلاق مسار العدالة ودعم آلياته وتقويم مساراته.
ضمان مشاركة فاعلة ومساحة للتنظيمات المدنية في مسارات العدالة الانتقالية والرقابة عليها ودعمها.

جدول رقم 1 يوضح أبرز معوّقات العدالة الانتقالية في التجارب العربية ومقترحات تذليلها في الحالة السورية

خاتمة:

تواجه الدول عادة في المراحل الانتقالية استحقاقاً استثنائياً تفرضه ضرورة الإجابة عن سؤال رئيس، وهو: كيف يمكن التعامل مع الفظائع التي ارتكبها النظام السابق؟ وهو ما ينطوي على آلاف التفاصيل والتحديات التي لا تتضح عادة إلا في نهاية المحاولات عبر منظومة العدالة الانتقالية؛ إلا أن التجارب العربية التي رصدتها هذه الورقة لم تكن الإشكالية الكبرى فيها بطريقة الإجابة عن هذا التساؤل، بل في جوانب أكثر تعقيداً، وهي كيف يمكن بناء دولة وتحصينها من الانقسامات الوجودية والانزلاق نحو النزاع المسلح أو إعادة إنتاج النظام مجدداً وبصورة أكثر شراسة؟

باستثناء الحالة المغربية التي كان السؤال فيها عن العلاج التصالحي الأكثر جدوى لصرخات الماضي وبما يسمح بالتحول الهادئ للمستقبل المختلف. وقد تمايزت التجارب العربية الثلاث من نظيرتها الدولية بجوانب عديدة، من أهمها: فشل محاولات المساءلة، وعمق الانقسامات السياسية التي تستعين بالقوة والخارج لفرض نفسها بدلاً من الاستسلام لفكرة التوافق، وهو ما أدى إلى مسارات غير مكتملة أو منقلب عليها كلياً، أو مسار جزئي لا ينعكس على أسس المنظومة السائدة في البلاد.

ورغم اتباع التجارب العربية أساليب تتشابه في بعض الجوانب وتختلف في جوانب أخرى بناءً على متغيرات متعددة مرتبطة بالسياق الوطني لكل دولة على حدة، وتأثراً بتراكم الجهود والخبرات الإنسانية والدولية تجربة بعد أخرى؛ فإن استمرار آلام الماضي بصور جديدة تحت مبررات مختلفة كان السمة الرئيسة.

في الحالة السورية وعلى الرغم من الاتفاق الأولي في سوريا على ضرورة التعامل مع إرث الانتهاكات _مع استثناء دعاة طي الماضي كلياً في هذا الصدد_ فإن سبر التجارب العربية فضلاً عن الدولية يُظهر أهمية التعلم من الدروس المختلفة وأخذ تجارب الدول في عين الاعتبار عند إنضاج مقاربة سورية، بحيث تكون حساسة للتجربة البشرية والخصوصية السورية والظروف الراهنة والتطلعات المستقبلية. ولعل العدالة الانتقالية في سوريا _وإن سهل تأويلها نظرياً_ تسير في حقل ألغام بين تطلعات ملايين الضحايا المشروعة لتحقيق العدالة بأسرع وقت وتدخلات دولية وإقليمية سياسية وعسكرية، وبُنى دولة مدمرة أخلاقياً وتقنياً قبل تدميرها المادي، وتحديات اقتصادية هائلة في ظل عقوبات دولية وانتشار للسلاح والقوى المسلحة ذات البعد الاجتماعي والتحالفات السياسية والمفرزات المدنية؛ وذلك كله يرجح ارتباط نجاح العدالة الانتقالية بوجود حد أدنى من الاستقرار الميداني والإرادة الداخلية للسوريين والسوريات التي تستطيع الصبر وتمتلك الوعي وتميل للتوافق على مسارات قد تتأخر طويلًا ثمارها المرضية، لكنها تشكّل ضمانة  للقطيعة النهائية مع إرث نظام الأسد البائد وآثاره الشاخصة في كل مناحي الحياة.

ملحق يوضح خلاصات التجارب العربية في تطبيق العدالة الانتقالية

التجربة
طبيعة النظام السابق
إرث الانتهاكات
طبيعة التحول
السمة الرئيسة للعدالة الانتقالية
حضور الإجراءات
المحاكمات الجنائية لكبار المجرمين
مساءلة المتورطين جنائياً
كشف الحقائق
آليات جبر الضرر
الإصلاح الدستوري والقانوني
التطهير الوظيفي والعزل السياسي
حفظ الذاكرة الوطنية
الفكرة الجديدة في التجربة
المغرب
ملكي استبدادي
نسبي
بقيادة النظام الملكي
 مصالحة مجتمعية
لا يوجد
لا يوجد
محدود جداً
حاضرة
حاضرة نسبياً
لا يوجد
متحكم به
منح تعويضات مباشرة
تونس
يساري استبدادي
واسع
ثورة شعبية
نجاحات نسبية
نسبية
نسبية ومعطلة
واسع
مشروع معطل
حاضرة
متراجع عنها
جزئي
قانون شامل للعدالة الانتقالية
ليبيا
القائد الثوري
واسع وعنيف
ثورة مسلحة
سيولة تشريعية
وطنية ودولية
نسبية
معطلة
واسعة
مضطربة
واسعة وموقوفة
معرقل
لا يوجد
اليمن
عائلي وقبلي
واسع في محطات
ثورة شعبية -تفاوضي
محاولات أولية
لا يوجد
لا يوجد
توثيقية
مشروع معطل
مشاريع فقط
تقاسم نفوذ
لا يوجد
لا يوجد

[1] استعرضنا من خلالها أبرز الخلاصات المفاهيمية للعدالة الانتقالية وناقشنا أهمية إنتاج مقاربة سورية خاصة وكيفية الانطلاق بتأسيس المسار.
للاطلاع على الورقة يُنظر: د. أحمد قربي ونورس العبد الله، التقرير التمهيدي: العدالة الانتقالية وأهمية إنضاج المقاربة السورية، مركز الحوار السوري، 26/12/2024.
[2] استعرضنا من خلالها دور المحاكم الجنائية الخاصة في قمع الجرائم الخطيرة ومنع الإفلات من العقاب والبحث في الوسيلة الأنسب لنظر الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد البائد بحق السوريين.
للاطلاع على التقرير يُنظر: محمد حربلية، المحاكم الجنائية الخاصة بملاحقة الجرائم الدولية: في الإجابة حول الخيار الأنسب لسوريا، مركز الحوار السوري، 17/5/2024.
[4] يُعرف البحث المكتبي باسم البحث الثانوي أو البحث التكميلي، ويتضمن: جمع المعلومات والبيانات من المصادر الموجودة، مثل: الكتب والمجلات والمقالات ومواقع الويب والتقارير وغيرها من المواد المنشورة. يقوم المستخدمون بتحليل المعلومات وتلخيصها من المعلومات المتاحة بالفعل:
What Is Desk Research? Meaning, Methodology, Examples, Meltwater, April 2024.
[5] عبد الكريم عبد اللاوي، تجربة العدالة الانتقالية في المغرب، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة، 2013: ص46 وما بعدها.
[6] للتوسع يُنظر: إدريس ولد القابلة، تزمامارت آكل البشر، موسوعة تزمامارت، الموقع الرسمي، شوهد في: 5/2/2024، وأحمد المرزوقي، تزممارت الزنزانة رقم 10، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 2012.
[7] تُصنّف قضية الصحراء الغربية على أنها من أقدم النزاعات الأفريقية التي خلّفها الاستعمار، ومازالت تستنزف الموارد والمستعصية على الحلول التوافقية، حيث تمثل حالة صراع مستمر بين جبهة البوليساريو والمملكة المغربية مع وجود أبعاد إقليمية ودولية.
للتوسع يُنظر: قضية الصحراء الغربية، موسوعة الجزيرة، 2/11/2015، شوهد في: 14/4/2025.
[8] عبد الواحد بلقصري، الأحداث السياسية الكبرى للمغرب المستقل، هسبريس، 11/8/2023، شوهد في: 10/4/2025.
[9] جاء في الظهير الملكي المؤسس للمجلس ما يلي: “لمواجهة هذا القصور بمختلف أنواعه وأشكاله وتحقيق احترام حقوق الإنسان إلى أبعد مدى ارتأينا أن نحدث جهازاً مختصاً بحماية هذه الحقوق أطلقنا عليه اسم “المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان”.
يُنظر: تنظيم ومهام المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، المملكة المغرب، الموقع الرسمي، شوهد في: 5/2/2025.
[10] د. جمال المحافظ، السياسة في المغرب بين التحول والاستمرارية، القدس العربي، 23/2/2022، شوهد في: 10/4/2025.
[12] تُنظر المواد 1 و26 من النظام الداخلي لهيئة التحكيم المستقلة للتعويض المترتب عن الضررين المادي والمعنوي لضحايا وأصحاب الحقوق ممن تعرضوا للاختفاء والاعتقال تعسفي.
[13] للتوسع في أنظمة وأعمال الهيئة يُنظر: هيئة التحكيم المستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، اللبنة الأولى في مسار العدالة الانتقالية في المغرب، منشورات المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، الرباط، 2010.
[15] فيرلا أوبغنهافن، مارك فريمان، العدالة الانتقالية في المغرب: تقرير عن تقدم العمل، المركز الدولي للعدالة الانتقالية، 1/11/2005: ص .21 وما بعدها.
[16] من أشهر هذه المؤسسات: الجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي تأسست عام 1979م، والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان التي تأسست عام 1989م.
[17] من الجدير الإشارة إلى أن بعض الباحثين لا ينظرون إلى هذه الهيئة كهيئة حقيقية باعتبارها لم تكشف عن الجناة أو تسعى لمنع الإفلات من العقاب، وهو جزء من نظرة تقييمية نناقشها في الفقرات القادمة؛ إلا أن هذه الآراء تقابل بدورها بآراء أخرى تشير إلى عدم وجود نمط واحد لهيئات الحقيقة، وأن اختصاصاتها وصلاحياتها مختلفة عادة.
يُنظر: تقديم هيئة الإنصاف والمصالحة، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، 26/1/2024، شوهد في: 2/6/2025، وتجربة هيئة الحقيقة المغربية: خطوة أخرى نحو الحقيقة والعدالة، المركز الدولي للعدالة الانتقالية، 9/11/2025، شوهد في: 8/4/2025.
[18] يُنظر: إدريس ولد القابلة، هيئة الإنصاف والمصالحة والحقيقة المعوقة، دنيا الوطن، 21/1/2006، شوهد في: 14/4/2025.
[19] درست الهيئة 20046 طلبا مقدماً حول الانتهاكات المرتكبة، كان منها 9106 طلبات خارج نطاق اختصاصها الزمني، فيما توزعت الطلبات إضافة إلى طلبات الاختفاء القسري بين كل من طلبات تتعلق الوفاة في المعتقلات، وطلبات التعرض للتعذيب وهي أكثر من 10 آلاف طلب، والإصابة والاعتداء الجنسي، والاغتراب الاضطراري خارج البلاد. وقد قرّرت الهيئة رفض طلبات أخرى بعد دراستها، وذلك لأسباب متنوعة كعدم واقعية الادعاءات، أو التعرض للاعتقال في نطاق الشرعية القانونية بما يتوافق مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، أو عدم الاختصاص الزمني القبلي أو البعدي.
 يُنظر: التقرير الختامي: إنصاف الضحايا وجبر الضرر، الكتاب الثالث، هيئة الانصاف والمصالحة، المملكة المغربية: ص64 وما بعدها، وزهير عطوف، تجربة العدالة الانتقالية في المغرب بين الإنصاف والمصالحة، مركز إدراك للدراسات والاستشارات، أكتوبر 2017: ص. 13 وما بعدها.
[21] يُنظر: عبد العزيز الطاهري،  تدبير الذاكرة في سياق العدالة الانتقالية دراسة مقارنة للتجربة المغربية، مجلة أسطور، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، المجلد السابع، العدد 13، كانون الثاني 2021، شوهد في: 6/2/2025.
[22] حفظ الذاكرة، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الموقع الرسمي، شوهد في: 6/2/2025.
[23] عبد الواحد بلقصري، الممارسة المغربية للعدالة الانتقالية، المركز الديمقراطي العربي، 21/8/2024، شوهد في: 6/2/2024.
[24] من الجدير ذكره أن قضايا الإصلاح القانوني والمؤسساتي يحتاج لإفراد مساحة خاصة، وهو ما سيتم التركيز عليه في إطار سلسلة العدالة الانتقالية في الفترة القادمة، ولذلك نكتفي بالإشارة إلى أبرز القضايا كأمثلة رئيسة دون الولوج في التفاصيل.
[25] د. السعدية الدبس، ما بعد هيئة الإنصاف والمصالحة، فضاء المعرفة القانونية، 11/2/2025، شوهد في: 10/4/2025.
[26] المغرب: نموذجاً للعدالة الانتقالية في منطقة الشرق الأوسط، ولكن تظل هناك تساؤلات، المركز الدولي للعدالة الانتقالية، 12/2/2016، شوهد في: 6/2/2024.
[27] يُنظر على سبيل المثال: نبيل زكاوي، انحراف مسار ما بعد العدالة الانتقالية وهشاشة: الانتقال الديمقراطي في المغرب، سياسات عربية، المجلد 8، العدد 47، تشرين الثاني 2020، شوهد في: 6/2/2024.
[28] يُنظر على سبيل المثال: قاسم الحادك، حصيلة تجربة العدالة الانتقالية في المغرب: تقييم ومساءلة نقدية، دورية کان التاريخية: المستقبل الرقمي للدراسات التاريخية، المجلد 16، العدد 59، آذار 2023: ص 226.
[29] يُنظر: سناء العاجي الحنفي، عشرون سنة من العدالة الانتقالية في المغرب، مونت كارلو، 9/12/2024، شوهد في: 8/4/2024.
[31] للتوسع تُنظر فقرة “العدالة الانتقالية في التجارب التي غلّبت منطق الـمُسامحة على الـمُساءلة” في:  نورس العبد الله، التطبيقات العملية للعدالة الانتقالية: الدروس المستفادة من التجارب الدولية، مركز الحوار السوري، 11/2/2025.
[32] المصطفى بوجعبوط، هل انتهت العدالة الانتقالية بالمغرب؟ مدار، 8/12/2024، شوهد في: 4/10/2025.
[33] د. ثامر سعداوي، التعديلات الدستورية آلية ترسيخ الاستبداد السياسي في تونس من 1959 إلى 1987، دورية كان التاريخية، العدد 59، مارس 2023.
[34] الخميس الأسود بتونس.. مأساة تأبى النسيان، الجزيرة، 6/2/2017، شوهد في: 2/3/2025.
[35] منى هرموش، الفساد في تونس خلال فترة حكم بن علي، مجلة العلوم القانونية والسياسية، مجلد 8، العدد 15، جانفي 2017.
[36] الثورة التونسية: محطات رئيسية، بي بي سي عربية، 14/1/2022، شوهد في: 3/3/2025.
[37] يوسف أزروال وليلى لعجال، الإطار التشريعي للعدالة الانتقالية في تونس ما بعد الثورة، المجلة الجزائرية للأمن الإنساني، العدد ـ2، 1/7/2016، شوهد في: 3/3/2025، وانتخاب المجلس الوطني التأسيسي في تونس، 23/10/2011، التقرير النهائي، شوهد في: 3/3/2025.
[38] يُنظر على سبيل المثال: سعاد خوجة، العدالة الانتقالية دراسة نظرية تطبيقية، أطروحة دكتوراه، جامعة الأخوة منتوري، قسنطينة، كلية الحقوق، عام 2016-2017: ص97 وما بعدها، وتونس – الأحكام الصادرة في قضية بن علي تشوبها بعض العيوب،  هيومن رايتس وتش، 5 تموز 2012، شوهد في: 3/3/2025.
[40] من أبرز مهام الوزارة التي حددها الفصل الخامس من أمر إنشائها: تنظيم استشارات بخصوص الإطار القانوني للعدالة الانتقالية وسُبل تفعيلها، وذلك بالتنسيق مع الأطراف الحكومية ذات الصلة والمجتمع المدني، واقتراح النصوص القانونية في المجال، واقتراح التدابير العاجلة لفائدة عائلات الشهداء وجرحى الثورة بالتنسيق مع الوزارات المختصّة.
[43] كاستعادة بعض الأموال المنهوبة والحكم الصادر بحق بن علي، وإصدار تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق المكلفة بكشف التجاوزات والانتهاكات التي سجلت خلال الأحداث التي شهدتها البلاد التونسية خلال الفترة الممتدة من 17 ديسمبر 2010 إلى غاية نهاية فترة الانفلات الأمني الذي أعقب انتصار الثورة في 14 جانفي 2011. وتوصلت اللجنة إلى تحديد حالات الوفاة بـ ـ338 شخصاً منهم 86 كانوا بمؤسسات سجنية و14 من قوات الأمن و5 من الجيش الوطني، وتوصلت لكون 60 في المئة من حالات الوفاة كانت نتيجة لطلق ناري، كما كشفت أن عدد الجرحى يبلغ 2147 منهم 62 جريحاً من بين السجناء و14 من قوات الأمن.
يُنظر: محمد الجعيدي، أين الحقيقة في تقرير لجنة تقصي الحقائق حول أحداث الثورة؟، المفكرة القانونية، 15/5/2012، شوهد في: 14/4/2024.
[44] تونس: الانتقال الديمقراطي العسير، سلسلة قضايا الإصلاح (36)، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2017: ص140 وما بعدها، شوهد في: 4/3/2025، وقانون أساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 يتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها، شوهد في: 4/3/2025.
[45] يُنظر: تم إنشاء دوائر قضائية متخصصة لتكملة عمل هيئة الحقيقة والكرامة، وبذلك قصد المشرّع التعامل مع الإفلات من العقاب على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، في إطار عملية شاملة. تحدث عملية العدالة الانتقالية أولاً من خلال الكشف عن الحقيقة، ثم من خلال المساءلة، ثم بعد ذلك المصالحة.
[46] جاء تقرير الهيئة الشامل في أربعة أجزاء كبرى، تناول الجزء الأول منه عهدة الهيئة، وتناول الثاني موضوع تفكيك منظومة الفساد، وتطرق الثالث إلى موضوع جبر الضرر ورد الاعتبار، في حين تضمن الجزء الرابع توصيات الهيئة ومقاربتها بخصوص ضمان عدم التكرار.
للتوسع يُنظر: التقرير الختامي الشامل لهيئة الحقيقة والكرامة، هيئة الحقيقة والكرامة، الموقع الرسمي، شوهد في: 4/3/2025.
[47] المرجع السابق، ص 119 و125.
[48] يُنظر على سبيل المثال: مجموعة مؤلفين، العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية، المجلد الثاني: التجربة التونسية، المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية، 17/8/2022، شوهد في: 23/3/2025.
[49] لبانا صالح، القضاء يقرر حل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم سابقا، فرانس 24، 9/3/2011، شوهد في: 4/3/2025.
[50] وحيون كمال، تموجات مسار العدالة الانتقالية في تونس، كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية، حوليات جامعة الجزائر، العدد 33،  الجزء ـ2، 2019: ص499 وما بعدها.
[51] كان الفصل رقم 15 في المرسوم عدد 35 لعام 2011 المتعلق بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي قد نص على: … ولا يمكن أن يترشح:
– كل من تحمّل مسؤولية صلب الحكومة في عهد الرئيس السابق، باستثناء من لم ينتم من أعضائها إلى التجمع الدستوري الديمقراطي، ومن تحمل مسؤولية في هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي في عهد الرئيس السابق. وتحدّد المسؤوليات المعنية بأمر باقتراح من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.
– من ناشد الرئيس السابق الترشح لمدة رئاسية جديدة لسنة 2014، وتضبط في ذلك قائمة من قبل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.
إلا أن الفشل في إقرار قانون التحصين السياسي عام 2014 فتح الباب أمام الفلول للترشيح للانتخابات التالية.
 يُنظر: مصطفى القلعي، لماذا أسقط راشد الغنوشي قانون العزل السياسي في تونس، العرب، 6/5/2024، شوهد في: 4/3/2025، وقائد السبسي يصف قانون العزل السياسي في تونس بـ’الفتنة’، القدس العربي، 21/4/2014، شوهد في: 4/3/2025.
[52] كريم المرزوقي، الدوائر المتخصّصة للعدالة الانتقالية في تونس: العدالة المدفونة، المفكرة القانونية، 30/1/2024، شوهد في: 4/3/2025.
[54] مريم الناصر، تونس: جبر الضرر نصوص بلا تطبيق، العربي الجديد، 10/8/2020، شوهد في: 4/3/2025.
[55] حُددت مصادر تمويل الصندوق كالتالي: الأموال المتأتّية من تنفيذ القرارات التحكيميّة الصّلحيّة الصادرة عن هيئة التحكيم والمصالحة المُحدثة صلب هيئة الحقيقة والكرامة، بالإضافة إلى مصادر تمويل أخرى، مثل الهبات والتبرّعات لدى إحداثه، تُساهم الدّولة في تمويل هذا الصّندوق بمبلغ قدره 10 مليون دينار.
رغم ذلك استمرت المماطلة الحكومية، فعلى سبيل المثال: في عام 2021 _أي بعد سنوات_ طالب عبد الكريم الهاروني رئيس مجلس شورى حركة النّهضة رئيس الحكومة بالانطلاق في تفعيل صندوق الكرامة في ذكرى إحياء عيد الجمهورية، فأثار هذا التصريح موجة من الاحتجاج والاستنكار في وقت يتطلّب تركيز كلّ الجهود والنّفقات لتجهيز المستشفيات وتوفير الأكسجين والحصول على تلاقيح لمواجهة الوباء. “
يُنظر على سبيل المثال: تونس.. غضب شعبي من مطالبة حركة النهضة بتفعيل صندوق الكرامة، سكاي نيوز، 13 يوليو 2021، شوهد في: 4/3/2025.
[56] بسمة بركات، العدالة الانتقالية في تونس.. مسار معطّل بعد انقلاب قيس سعيد، 3 يوليو 2023، العربي الجديد، شوهد في: 4/3/2025.
[59] للتوسع يُنظر: مصطفى عمر التير، الدولة والمجتمع في ليبيا قبل ثورة 17 فبراير 2011 وبعدها: مقاربة سوسيولوجية، معهد أبحاث المغرب العربي المعاصر، 2024، شوهد في: 6/3/2025.
[60] من الجدير ذكره أن ليبيا شهدت عدداً من التوترات خلال هذه المراحل، وقد أدت إلى انتهاكات جسيمة بحقّ الحركة الإسلامية، كالاعتقالات التعسفية والتهجير القسري والإعدامات خارج إطار المحاكمات العادلة، ومن أشهرها مجزرة سجن أبو سليم عام 1996 التي أدت إلى قتل ما يقارب 1200 سجين ميدانياً.
[61] احتلت ليبيا عام 2010 المرتبة 146 من أصل 178 طبقا لمؤشر الفساد العالمي.
[63] يُنظر: د. محمد الشيخ، مسارات العدالة الانتقالية في ليبيا: آليات التشكيل وتحديات التعطيل، المركز الديمقراطي العربي، مجلة العلوم السياسية والقانون، برلين-ألمانيا، مجلد 5، العدد 30، كانون الأول 2021: ص93 وما بعدها.
[64] يُنظر: المجلس الوطني الانتقالي، المجمع القانوني الليبي، الموقع الرسمي، شوهد في: 6/3/2025.
[65] نصت المادة 4 من القانون 17 على مهام الهيئة، التي جاء أبرزها بـ: تقصّي الحقائق حول الوقائع المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان، والتوصية بإحالة المسؤولين عن ارتكابها إلى القضاء المختص، والبحث بشأن حالات الاختفاء القسري والكشف عن مصير المختفين، وتقديم مقترحات بتفعيل عملية نزع السلاح وتسريح المقاتلين ودمجهم في المجتمع… إلخ. يُنظر: قانون رقم (17) لسنة 2012 م بشأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية.
[66] جمعة أبو زيد، نقد وتعليق على جهود المصالحة الوطنية ومشروع قانون العدالة الانتقالية في ليبيا، المجمع القانوني الليبي، 10/8/2022، شوهد في: 8/3/2024.
[68] جمعة أبو زيد، مرجع سابق.
[69] أحمد علي الأطرش، العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية في ليبيا: جدلية الأولويات، مركز الجزيرة للدراسات، 6/10/2021، شوهد في: 6/3/2025.
[71] للتوسع يُنظر: جمعة أبو زيد، أضواء على قانون العفو العام رقم 4 لسنة 2024 مع التعليق، المجمع القانوني الليبي، 25/3/2024، شوهد في: 13/3/2025.
[73] تم النص في المادة رقم 5 على مبلغ التعويض بما لا يزيد كل منها على مبلغ 300.000 ثلاثمائة ألف دينار، وهو مبلغ كبير انتقده بعض الاقتصاديين بكونه يستنزف الخزينة، باعتبار أن 7000 سجين سياسي ليبي سيحصلون على مقابل مادي يصل إلى 8000 دينار عن كل شهر حبس، أي ما يقارب 960 ألف دينار عن كل عشرة أعوام سجن، فيكون الرقم الكلي يقارب 2.5 مليار دينار، أي ما يقارب 2 مليار دولار.
يُنظر: خالد المهير، تعويضات بالملايين لسجناء ليبيين، الجزيرة، 17/6/2013، وخالد المهير، خلاف حول تعويضات السجناء السابقين بليبيا، اخبار ليبيا، الجزيرة، 26/1/2014، شوهد في: 8/3/2025.
[75] يُنظر: الحكم بعدم دستورية قانون ليبي مقيّد لحرية التعبير، هيومن رايتس وتش، 15/6/2012، شوهد في: 8/3/2025.
[76] يُضاف إلى هؤلاء كل مَن أيد نظام القذافي علناً عبر وسائل الإعلام وغيرها، أو كان له موقف معاد من ثورة 17 فبراير 2011، وقد شمل عملياً قياديين في السلطة الليبية الجديدة، بمن فيهم رئيس الوزراء علي زيدان، ورئيس المؤتمر الوطني محمد المقريف، ورئيس تحالف القوى الوطنية رئيس الوزراء الأسبق محمود جبريل، باعتبار أنهم تولوا وظائف في عهد النظام السابق مشمولة بالعزل، مع أن بعض هؤلاء لم يعمل ضمن مؤسسات الدولة سوى فترة قصيرة وانضم بعدها للمعارضة.
يُنظر: قانون العزل السياسي في ليبيا، الجزيرة، 10/3/2015، شوهد في: 13/3/2025.
[77] يُنظر: محمود حمد، مرجع سابق، ص. 76.
[78] خالد المهير، محاكمة رموز نظام القذافي اختبار للقضاء الليبي، الجزيرة، 25/3/2014، شوهد في: 14/3/2025.
[79] يُنظر على سبيل المثال: ليبيا: المحاكمة غير العادلة للمسؤولين في عهد القذافي تفضي إلى أحكام مزرية بالإعدام، منظمة العفو الدولية، 28/7/2015، ومحاكمة نظام القذافي في ليبيا لم تستوفِ المعايير الدولية – تقرير للأمم المتحدة، الأمم المتحدة، مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، 21/2/2017، شوهد في: 14/3/2025.
[82] للتوسع ينظر: ليبيا والمحكمة الجنائية الدولية، هيومن رايتس وتش، 13/أيار/2013، شوهد في: 13/3/2025.
[87] اشارت المنظمات في بيانها: لم يُحاسب أي قادة أو ليبيين أو مقاتلين أجانب على تورطهم في جرائم بموجب القانون الدولي وغيرها من الانتهاكات أو التجاوزات الجسيمة.
[89] ينظر: د. محمد الشيخ، مسارات العدالة الانتقالية في ليبيا: آليات التشكيل وتحديات التعطيل، مرجع سابق، ص. 84 وما بعدها.
[90] ضياء شقورة، العدالة الانتقالية والمساءلة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان في ليبيا، مجلة “الميزان” ـ عدد تمهيدي رقم (0) ـ عدد متخصص حول الحق في الوصول إلى العدالة في ليبيا ـ مايو 2022، شوهد في: 8/3/2025.
[91] ينظر: محمود حمد، مرجع سابق، ص. 80.
[92] ناصر يحيى، عشرة أخطاء أسقطت حكم صالح، الجزيرة، 25/2/2013، شوهد في: 21/3/2025.
[93] أسسها بدرالدين الحوثي منذ ستينيات القرن العشرين، والذي قام منذ التسعينيات  ببناء شبكة اجتماعية قوية وشاملة لإحياء الحركة الزيدية شملت التزاوج مع عائلات القبائل والسادة، وانشاء معسكرات “شباب المؤمنين” كتنظيم قتالي عسكري، وتدريجياً بدأت جماعة الحوثي تظهر مظاهر ثقافية وفلكلورية لم يعهدها المجتمع اليمني، كان أبرزها الاحتفال بيوم الغدير، ومناسبات ولادة آل البيت، فضلا عن تنظيم مسيرات عاشوراء في أواخر عام 2000م، تبنت الحركة الحوثية شعارها ، “الصراخ”: “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة اليهود، النصر للإسلام”.
للتوسع ينظر: يوسف المعمري، قراءة مفصلة في الاستراتيجية العامة لجماعة الحوثي، مركز بينون للدراسات والبحوث، بلا تاريخ، شوهد في: 21/3/2025.
[94] يُقدر مجمل القتلى في أحداث ذات صلة بالثورة اليمنية بـ 2195 من المدنيين والعسكريين والمسلحين بين فبراير وأغسطس 2011م.
يُنظر: 2011.الحالة اليمنية خلال الثورة: أكثر من ألفي قتيل وتراجع للثارات القبلية وتوازن عسكري، مركز أبعاد للدراسات والبحوث، 20/9/2011، شوهد في: 22/3/2025.
[95] قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2014 لعام 2011، الأمم المتحدة، شوهد في: 20/3/2025.
[96] يُنظر: يوسف حمود: 10 أعوام على تنحي صالح.. ماذا حققت المبادرة الخليجية في اليمن؟ الخليج أون لاين، 22/11/2021، شوهد في 19/3/2025.
[98] تضمن مشروع القانون في المادة رقم 5 إنشاء هيئة مستقلة تسمى (هيئة الإنصاف والمصالحة)، تهدف إلى إجراء مصالحة وطنية بين أفراد المجتمع اليمني وإنصاف وتعويض وجبر ضرر من انتُهكت حقوقهم أو عانوا من تلك الصراعات أو ورثتهم، على أن تُشكل الهيئة من أحد عشر فرداً على ألا تقل نسبة النساء عن 30%.
[99] يُنظر: جدل واسع في اليمن بشأن قانون المصالحة الوطنية، مركز الاتحاد للأخبار، 8/1/2013، شوهد في:22/3/2025.
[102] محمد الشويطر، مرجع سابق: ص. 10.
[103] يُنظر: عام / بدء ورشة عمل حول مشروع قانون العدالة الانتقالية في اليمن، وكالة الأنباء السعودية، 6/5/2014، شوهد في: 22/3/2025.
[104] قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2140 لعام 2014، الأمم المتحدة، شوهد في: 20/3/2025.
[105] ماريتا منديز، يزيد الجداوي، إشراك الضحايا في عملية صنع السلام والعدالة الانتقالية في اليمن، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 24/3/2024: ص18.

باحث في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى