
هل يتوافق تشكيل محاكم خاصة للنظر في جرائم نظام الأسد مع الإعلان الدستوري؟
مع تأكيد ضرورة المضيّ بمسار العدالة الانتقالية في سوريا ضمن مخرجات مؤتمر الحوار الوطني السوري، والتكريس القانوني لهذا المسار في المادة 49 من الإعلان الدستوري؛ تُثار نقاشات حول قضية مهمة مرتبطة بهذا المسار، وهي قانونية إنشاء محاكم خاصة وطنية للنظر في الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد البائد بحق السوريين بين مَن يرى قانونية مثل هذه الخطوة على اعتبار أن إنشاء هذه المحاكم لا يُعد من قبيل المحاكم الاستثنائية التي نصت المادة 44 من الإعلان الدستوري على حظر إنشائها، ومَن يرى عدم قانونيتها.
تعريفات أساسية؛ القضاء الطبيعي والمحاكم الخاصة والقضاء المتخصِّص:
تتطلب الإجابة عن الأسئلة السابقة الإحاطة بعدة تعريفات تُطرح عادة عندما يتم الحديث عن السلطة القضائية، لعل من أبرزها “القضاء الطبيعي”، الذي يُعرف بأنه: “القضاء المنشأ والمحدد اختصاصه بقانون في وقت سابق على نشوء الدعوى أو وقوع الجريمة وبصفة دائمة، وأن يُشكّل من قضاة متخصصين في العمل القضائي، ويتوافر فيهم العلم بالقانون، وأن يتوافر لهم كافة ضمانات الاستقلال والحيدة وعدم القابلية للعزل. وأن يُكفل للأفراد أمام هذا القضاء حق الدفاع بكافة ضماناته، وكذا جواز الطعن في أحكامه بالطرق المقررة قانوناً”.
في مقابل القضاء الطبيعي يكون هنالك “القضاء الاستثنائي” أو “المحاكم الخاصة”، وهي: تلك الجهات التي تُسبغ عليها صفة القضاء وتمارس سلطة القضاء، ولكن تفتقد لأحد أو لجميع ضمانات القضاء الطبيعي، مثل: محاكم أمن الدولة ومحاكم الإرهاب ومحاكم الأحداث التي كانت موجودة في سوريا إبان حكم نظام الأسد البائد.
تختلف المحاكم الخاصة عن القضاء المتخصص الذي يُعد جزءاً من القضاء الطبيعي؛ حيث إن المشرِّع يرى ضرورة إنشاء قضاء متخصص تتحقق فيه جميع الضمانات المتوفرة للقضاء الطبيعي للفصل في منازعات محددة، لِـمَا في ذلك من تحقيق لسرعة الفصل في القضايا، وتسهيل لقيام القضاة بمهامهم نتيجة التخصص في نوع محدد من القضايا، وضمان أجوبة فنية مقنعة للقضايا المعروضة أمامه.
لذا فإنه لا يتعارض وجود محاكم مختلفة باختلاف أنواع المنازعات أو باختلاف طبيعة الجرائم مع مبدأَي القضاء الطبيعي ووحدة القضاء؛ بشرط ألا تُقام تفرقة أو تمييز بين أشخاص المتقاضين. وكذلك لا يخالف المبدأ وجود محاكم خاصة بشرائح معينة من المواطنين إذا دعت الضرورة لهذا؛ شريطة ألا يكون وجود مثل هذا النوع من المحاكم سبباً في تمييز فئة من الأفراد عن غيرها، ولا في انتقاص حقوق شريحة من الناس بالمقارنة مع طائفة أخرى.
القضاء الطبيعي والمتخصص والمحاكم الخاصة في الحالة السورية:
بغضّ النظر عن الانتقادات الكثيرة التي كانت تُوجه لمنظومة القضاء في سوريا إبان حكم نظام الأسد البائد فإن سلطة القضاء عموماً ممثلة بشكل أساسي في: القضاء العادي، والقضاء الإداري، والقضاء الدستوري، وكانت تمثل القضاء الطبيعي بحكم أن جميع الضمانات كانت متحققة فيه نظرياً.
إلى جانب القضاء الطبيعي شهدت المنظومة القضائية السورية سابقاً أنماطاً قضائية لمحاكم متخصصة تندرج ضمن القضاء الطبيعي، مثل: محاكم الأمن الاقتصادي التي أُنشئت عام 1977؛ إذ توفرت في هذه المحاكم جميع ضمانات القضاء الطبيعي وشروطه من الناحية النظرية، وماثلت محاكم الجنايات العادية من حيث توفر العنصر القضائي الخاضع لقانون السلطة القضائية، إلا أنها اختلفت عنها من حيث المؤهلات والشروط المطلوبة في قضاتها؛ حيث تطلب المشرِّع فيهم شروطاً معينة تتناسب مع تخصص هذه المحاكم بالنظر في الجرائم الاقتصادية، فكفلت محاكم الأمن الاقتصادي بذلك للفرد الحق في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي لتوافقها مع مبدأي القضاء الطبيعي وتخصص القضاء.
في المقابل كانت محاكم أمن الدولة العليا ومحاكم الميدان العسكرية التي أُلغيت عام 2011، ومحاكم الأحداث ومحاكم الإرهاب نماذج للقضاء الاستثنائي بحكم افتقادها لواحد أو أكثر من مقومات القضاء الطبيعي وشروطه؛ فعلى سبيل المثال: افتقدت محاكم الإرهاب التي أوجدها نظام الأسد البائد لضمانة التخصص والكفاءة عندما نصّ على وجود أحد القضاة العسكريين في تشكيل هذه المحكمة، كما أن عدم تقيُّد هذه المحكمة بالإجراءات والقواعد المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية يخلّ بمبدأ المساواة أمام القضاء. وكذلك الأمر بالنسبة إلى محاكم الأحداث؛ فهي تخرج عن نطاق القضاء الطبيعي لأنها تضم في عضويتها أشخاصاً لا ينتمون إلى الجهاز القضائي، ولا يتمتعون بضمانة الحصانة من العزل، وإن كانوا اختصاصيين اجتماعيين ونفسيين.
هل إنشاء محاكم خاصة للنظر في جرائم نظام الأسد يمثّل قضاءً استثنائياً أم قضاءً متخصّصاً؟
في حال تبنّى مجلس الشعب المؤقت خيار النظر في جرائم النظام البائد من قبل القضاء الوطني، ونصّ على تشكيل محاكم خاصة لنظرها، وكان اختصاص هذه المحاكم محدداً بقانون، وتوفرت لها ضمانات التخصص والكفاءة وعدم القابلية للعزل، وطُبّقت فيها القواعد الإجرائية المطبقة في القضاء العادي السوري من حيث ضمان حق الدفاع وتعدد درجات التقاضي؛ فإنه تبقى بعض ضمانات القضاء الطبيعي مفقودة حكماً في مثل هذه المحاكم، وهي: أن تحديد اختصاص المحكمة أتى تالياً لنشوء الدعوى وليس قبلها؛ فجرائم نظام الأسد ارتُكبت سابقاً والحق في نظرها نشأ قبل سقوطه، كما أن اختصاص مثل هذه المحاكم لن يكون دائماً بحكم أن ولايتها ستنتهي حكماً بانتهاء الهدف من تشكيلها، وهو النظر في جرائم نظام الأسد. بناءً على ذلك سيكون ثمّة انتقاص حكمي في ضمانات القضاء الطبيعي في أية محاكم خاصة يتم إنشاؤها لهذا الغرض، هذا في حال توفرت بقية الضمانات التي أشرنا إليها؛ فستبقى هذه المحاكم تمثّل قضاء استثنائياً.
وعليه يمكن للمحاكم العادية القائمة حالياً النظر في جميع الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد البائد، ولا داعي لإنشاء محاكم خاصة لا تتوفر فيها ضمانات القضاء الطبيعي؛ لأن سحب الاختصاص بنظرها من المحاكم العادية القائمة وإسنادها إلى محاكم أخرى يمثّل تعدّياً على اختصاص محاكم القضاء العادي واستقلال القضاء، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن القيام بهذه الخطوة ينتهك مبدأ المساواة أمام القضاء، على اعتبار أن الجريمة ذاتها يختلف القضاء الذي ينظر فيها باختلاف الجاني؛ فإذا كان الجاني هو أحد المنتمين إلى نظام الأسد فستُنظر أمام القضاء الجديد، أما إذا لم يكن كذلك فستُنظر أمام القضاء العادي، بما يذكّرنا بما كان يقوم به نظام الأسد عندما يحاكم معارضيه أمام محاكم الإرهاب.
ما هو الحل: من القضاء الخاص إلى القضاء المتخصص؟
قد يعتقد البعض أن إنشاء محاكم خاصة تتوفر فيها جميع ضمانات القضاء العادي من جهة التخصص والكفاءة وعدم العزل ..إلخ يمثّل الحل الأفضل في السياق الحالي؛ لأن ذلك سيسرّع من حسم القضايا، ويتجاوز المحاكم الحالية التي ربما يغلب على تشكيلها قضاة فاسدون أو يفتقدون للخبرات المطلوبة في هذا النوع من المحاكمات؛ إلا أننا نعتقد أنه يمكن تحقيق هذه المزايا من تسريع نظر القضايا ووجود قضاة نزيهين، إلى جانب تجاوز فكرة القضاء المؤقت اللاحق لنشوء الدعوى التي سترافق تشكيل هذه المحاكم الخاصة من خلال إنشاء دوائر خاصة ضمن هيكلية القضاء العادي القائم حالياً، سواءٌ على مستوى قضاء التحقيق بدرجتَيه أو على مستوى قضاء الحكم “الجنايات والنقض”، بحيث يُفرز إلى هذه المحاكم قضاة وطنيون مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة، وفي الوقت نفسه يُسند إليها فقط الاختصاص بالنظر في جرائم نظام الأسد، بما يضمن تسريع وتيرة صدور الأحكام، وفي هذه الحالة تكون جميع ضمانات القضاء الطبيعي متوفرة.
إن ضمان المحاكمة العدالة حتى لمجرمي نظام الأسد البائد هو استحقاق لثورة الحرية والكرامة قبل أن يكون مطلباً لهؤلاء المجرمين؛ لأنه استكمال للتفوق الأخلاقي والقيمي للدولة السورية الجديدة التي يجب أن تطوي إلى غير رجعة مفرزات ظلم نظام الأسد البائد، وهو ما يجسّد عملياً أحد تطبيقات عدم التكرار بوصفها من غايات العدالة الانتقالية.
مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري، يحمل شهادة الدكتوراه في القانون العام من جامعة حلب، وحائز على اعتمادية المعهد العالي للحقوق في الشرق الأوسط، وعمل سابقاً مدرساً في كلية الحقوق في جامعة حلب الحرة. يركز في أبحاثه الحالية على دراسة ديناميكيات العلاقة بين المجتمع السوري والنصوص القانونية والدستورية منها على وجه التحديد.