التقارير الموضوعيةالراصدوحدة تحليل السياسات

قراءة في زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى فرنسا

تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري

شهدت العاصمة الفرنسية باريس الزيارة الرسمية الأولى للرئيس السوري أحمد الشرع إلى أوروبا منذ توليه سلطة المرحلة الانتقالية في سوريا، حيث استُقبل في قصر الإليزيه من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الأمر الذي يحمل تساؤلات حول دلالات هذه الزيارة وأبعادها وتأثيرها على ملامح المرحلة السورية الجديدة.

يسعى هذا التقرير إلى تقديم تحليل موجز لأبرز مضامين التصريحات الصادرة عن الرئيسين الشرع وماكرون خلال المؤتمر الصحفي المشترك بينهما، والوقوف على أولويات وهواجس كل طرف، واستشراف أبعاد الزيارة بشكل عام.

خطاب ماكرون: رسائل مزدوجة ممزوجة بالحذر والانفتاح المشروط

حمل خطاب ماكرون خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره السوري أحمد الشرع رسائل سياسية متعددة مزج فيها بين المخاوف الأمنية والحقوقية والانفتاح السياسي المشروط مع التأكيد على علاقة فرنسا “التاريخية” بالسوريين[1]، ومحاولته تشجيع الإدارة السورية الجديدة على المُضيّ في خطوات إصلاحية مع اعتباره الشرع “قائداً وضع حدّا” للنظام الذي دعت فرنسا مراراً لمحاسبته، وربطه استقرار فرنسا بتحقيق الأمن والاستقرار في سوريا.

وردت في خطاب ماكرون العديد من النقاط الإيجابية تجاه الإدارة السورية، فقد عبّر عن الارتياح لبعض التغييرات التي قادتها إدارة الشرع، مثل تقليص إنتاج الكبتاغون، والانخراط في ملف ضبط الحدود مع لبنان وترسيم الحدود، مع تأكيد ماكرون على جاهزية فرنسا لتسهيل إطلاق المفاوضات بين سوريا ولبنان لترسيم الحدود و”توظيف خبرتها بهذا المجال”، إضافة لأهمية دور سوريا في مواجهة نفوذ إيران وأذرعها في المنطقة وخاصة “حزب الله”، ما ينعكس على استقرار سوريا ولبنان.

كما أشاد ماكرون باتفاق الشرع مع “قوات سوريا الديمقراطية-قسد” في آذار الماضي، واعتبره محطة هامّة تؤشر إلى قدرة السلطة الجديدة على بناء علاقات مع مختلف المكونات، وبالتالي بات ملف “قسد” فيما يبدو ضمن ملفات أخرى في قلب المعادلة الفرنسية لمنح الثقة بالسلطة الجديدة.

من جانب آخر، فتح ماكرون باب التعاون القضائي مع الإدارة السورية في ملف المقاتلين الأجانب، وهو من ضمن الملفات ذات الأهمية بالنسبة للطرف الفرنسي والأوروبي بشكل عام، ولا ينفصل عن جهود مكافحة تنظيم داعش التي شدد عليها ماكرون كذلك في الخطاب.

من جانب آخر، ورد في الخطاب العديد من الإشارات إلى الانفتاح المشروط؛ مثل النظر إلى الأفعال خلال الأشهر القادمة، وهي عبارة تكررت أكثر من مرة، وهذا ما قد يعكس عدم وجود قرار نهائي بعد بالتطبيع الشامل من الجانب الفرنسي مع سوريا، بل رغبة في المراقبة وتثبيت مسار قنوات التواصل، خاصة فيما يتعلق بقضايا جاءت على لسان ماكرون مثل ضمان حقوق كافة المكونات ومحاسبة مرتكبي أحداث العنف الطائفي في السويداء و”المجازر بحق العلويّين” في الساحل السوري، بحسب تعبيره.

في ذات الوقت، ترك ماكرون الباب مفتوحاً أمام تخفيف تدريجي للعقوبات خلال الأشهر الستة المقبلة بالتنسيق مع الشركاء الأوروبيين والأمريكيين، وقد بدا ماكرون أكثر انفتاحاً نحو رفع العقوبات فيما لو “اقترنت أقوال الإدارة السورية بالأفعال”.

ولم يخلُ الخطاب أيضاً من دعم موقف سوريا فيما يخص وقف الانتهاكات “الإسرائيلية”، إذ انتقد ضمنياً ممارسات “إسرائيل”، معتبراً أنها لا يمكن أن تضمن أمنها باختراق سيادات الآخرين.

خلاصة خطاب ماكرون تُشير إلى تثبيت المقاربة الفرنسية التي بدأتها باريس عند سقوط النظام البائد، وهي عدم عزل السلطة الجديدة، والمضي في الانفتاح عليها بحذر وبما يشبه نموذج الخطوة مقابل خطوة[2]، مع بروز ملامح رئيسة للتقدُّم أو التراجع، خاصة فيما يتعلّق بالملف الأمني ممثلاً بضبط المقاتلين الأجانب ومواجهة داعش، ثم الإنساني المرتبط بعودة اللاجئين، يليه الملف الاقتصادي وفق ما سيأتي، وصولاً إلى قضايا الحقوق والحريات باعتبارها وسائل ضغط  مثل ضمان حقوق الأقليات، وتمثيل كافة المكونات، ومحاسبة مرتكبي “الجرائم” في أحداث صحنايا وفي الساحل، والمُضيّ بتنفيذ اتفاق دمشق مع “قسد” في مقابل رفع العقوبات وإقناع الولايات المتحدة للانخراط بهذا المسار[3].

وتشير استضافة ماكرون للشرع أيضاً إلى أن فرنسا تسعى إلى تعزيز حضورها السياسي في المشهد السوري عبر لعب دور مباشر في ملفات استراتيجية، مثل ترسيم الحدود السورية اللبنانية، وهو ما يتيح لها التأثير في صياغة التوازنات الإقليمية المستقبلية، بعيداً عن أن تُترك هذه الملفات لفرقاء آخرين مثل تركيا على وجه الخصوص، خاصة مع الخلافات بينها وبين قبرص واليونان حول ملف شرق المتوسط عموماً[4]، ما يمنح فرنسا دوراً مؤثراً في الشرق الأوسط بشكل عام كتعويض عن انحسار دورها في بعض مناطق إفريقيا مؤخراً.

خطاب الشرع في باريس: تكريس المسؤولية وكسب ثقة المجتمع الدولي

جاء خطاب الرئيس أحمد الشرع خلال المؤتمر الصحفي ليعكس مساراً واضحاً نحو إعادة تموضع سوريا الجديدة أمام المجتمع الدولي، إذ ظهر في خطابه التأكيد على تقديم سوريا في مرحلة ما بعد النظام البائد كدولة قابلة للتعامل، ومسؤولة عن ملفاتها، دون التنازل عن السيادة.

استهلّ الشرع تصريحاته برسالة رمزية حين اعتبر زيارته إلى فرنسا لحظة اعتراف بقدرة الشعب السوري على تحقيق مصيره، فيما يبدو وكأنه اعتراف ضمني من إحدى القوى الأوروبية الكبرى بشرعية القيادة الجديدة في سوريا، مع التأكيد على ما طرحه ماكرون بخصوص جذور العلاقة مع فرنسا ضمن سياقها التاريخي، مُذكّراً بدعم فرنسا مطالب الشعب السوري في بداية ثورته.

لكن الرسائل الأوضح جاءت فيما يتعلق بالعقوبات، إذ شدّد على أنها لم تعد مبرَّرة بعد زوال النظام البائد الذي فُرضت بسببه، ويعكس هذا الطرح مسعى السلطة السورية الجديدة إلى إقناع المجتمع الدولي بضرورة إزالة العقوبات، كخطوة موازية لإعادة بناء الدولة واستعادة عافيتها، وهو توجُّه بدأ فيما يبدو يلقى تفاعلاً إيجابياً في عدد من العواصم الأوروبية[5].

ولعل أكثر الملفات حساسية التي تطرَّق لها الشرع كان ملف المقاتلين الأجانب الذي تنظر له بعض الأطراف على أنه عبء على الإدارة السورية الجديدة، إذ لم يتنصّل الشرع من وجودهم، بل أعلن عن السعي إلى دمجهم ضمن الإطار السوري الجديد، مستنداً إلى أن الكثير منهم وفدوا إلى سوريا بدافع التضامن والقتال ضد النظام البائد، ومن بقي في صف الثورة حتى معركة التحرير سيتم احتواؤه وفق القانون والدستور الذي سيُحدّد معايير منح الجنسية مع التأكيد على أن الدولة السورية مسؤولة عن التزام الجميع بالقانون السوري، وفي ذات الوقت كان هناك تأكيد من الشرع على مناقشة التعاون مع ماكرون لمكافحة “التنظيمات الإرهابية”، وأن “مكافحة الإرهاب” مسؤولية عالمية في دلالة على انخراط سوريا في معالجة المخاوف الأمنية الفرنسية والغربية بشكل عام خاصة فيما يتعلق بتنظيم داعش.

وفي معرض تناوله لأحداث الساحل، حملت تصريحات الشرع التأكيد على الاستمرار بمسار الشفافية والانفتاح على الجهات الحقوقية بما فيها مجلس حقوق الإنسان، وانتظار نتائج لجنة التحقيق السورية لتحديد الأطراف الضليعة بالانتهاكات خلال الأحداث التي افتعلتها فلول النظام البائد في مارس آذار الماضي، وأن المحاسبة ستطال أي جهة يثبت ضلوعها في الانتهاكات الأخيرة.

أما فيما يتعلق بـ “إسرائيل”، فقد أتى تصريح الشرع حول وجود مفاوضات غير مباشرة مع الاحتلال عبر وسطاء كإشارة متوقَّعة وطبيعية في ضوء تصاعد الانتهاكات “الإسرائيلية” مؤخراً داخل الأراضي السورية والتوغلات المتكررة داخل سوريا وصولاً إلى استهدف محيط القصر الرئاسي، ولذلك حرص الشرع على تأكيد عدم رغبة سوريا في الانزلاق نحو المواجهة، وبشكل عام لم يحمل الخطاب تنازلات سياسية في هذا الإطار، بل إنه يحاول سحب الذرائع من “إسرائيل” في أسباب التدخُّل بسوريا ويشير لتنسيق مع أطراف دولية لديها علاقات مع “تل أبيب” لوقف تدخُّلاتها في سوريا، وهو ما يبدو محل توافق فرنسي قياساً مع تصريحات ماكرون الذي أعلن رفضه للتدخلات في سوريا.

بالمجمل، يمكن القول إن الشرع سعى بشكل أساسي من خلال الزيارة إلى تثبيت شرعية الحكم الانتقالي ودعم مسار رفع العقوبات الذي تبدو أوروبا متشجّعة للمُضيّ فيه باعتبارها وسيلة قد تُمهّد لرفع العقوبات الأمريكية، كما لم يُخفِ الخطاب الرغبة في تشجيع الشركات الأوروبية على دخول سوريا، ما يجعل الزيارة ذات طابع سياسي-اقتصادي واضح، تستهدف فتح الأبواب أمام شراكات أوسع تعزز الاستقرار وتدعم عملية إعادة الإعمار، لا سيما إذا حظي هذا التوجُّه بدعم من قوى وازنة داخل الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا.

إضافة لذلك، سعى الشرع إلى ترسيخ صورة سوريا الجديدة كدولة مسؤولة وقادرة على ضبط ملفاتها الداخلية وضمان حقوق جميع مكوّناتها، ما يجعلها شريكاً موثوقاً في محيطها الإقليمي والدولي، وقد حمل الخطاب رسائل تطمينية واضحة فيما يتعلق بملف المقاتلين الأجانب، واستعداداً للتعاون المستمر مع الجهات الحقوقية الدولية وتثبيت مسار التحقيقات بأحداث الساحل، في محاولة لتبديد المخاوف الغربية.

أبعاد الزيارة: بين تثبيت الانفتاح العربي ومحاولة اختراق الجدار الأوروبي

بشكل عام تتمثّل أبرز أبعاد زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى باريس في محاولة الانفتاح السوري على الخارج بعد تقوية علاقة السلطة السورية الجديدة مع الدول العربية الوازنة والمؤثرة بالمنطقة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، لتفتح هذه الخطوة الباب أمام محاولة ترميم العلاقة مع الدول الغربية، وخصوصاً مع القوى الأوروبية ذات التأثير.

ورغم ما أبدته فرنسا من جديّة في المضي قُدماً نحو تخفيف العقوبات، إلا أن الخطوة لا تزال محكومة بسقف أوروبي مشروط بقضايا حقوقية وأمنية مع غياب الحديث مثلاً عن ملفات كانت تبدو صعبة التنفيذ بالنسبة للإدارة السورية مثل الحديث عن شرط إخراج القوات الروسية من سوريا، وهو ملف لم يتم المرور عليه في تصريحات ماكرون، وعلى ما يبدو أنه بات خطوة غير رئيسة بالنسبة لأوروبا على الأقل في الوقت الحالي.

وفي السياق، لا يمكن فصل الزيارة عن المشهد الاقتصادي الذي تسعى فرنسا إلى ترسيخ موطئ قدم فيه داخل سوريا، حيث جاءت بعد أيام من تسلُّم شركة فرنسية لإدارة ميناء اللاذقية بموجب عقد استثماري طويل الأجل[6]، وبالتالي قد تكون البوابة الاقتصادية أحد أبرز مفاتيح انخراط الدول الأوروبية في الملف السوري، لا سيما في ظل الحديث المتزايد عن فرص هامة في مجالات مثل التنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية السورية، ما يفتح المجال أمام الشركات الأوروبية للدخول في سوريا فيما لو تم رفع العقوبات.

بالمحصلة، تبدو زيارة الرئيس الشرع إلى فرنسا جزءاً من دينامية أوسع لإعادة تموضع سوريا الجديدة في الساحة الدولية، غير أن نتائجها ستبقى مرهونة بحجم الملفات التي يمكن أن تُقدّمها السلطة السورية ومدى الاطمئنان الذي تُشكّله لكل طرف، ما يجعل السلطة السورية الجديدة مُضطرة لخوض لعبة التوازنات بين الدول الفاعلة والمؤثرة بالمنطقة، وفي ذات الوقت لا تغيب توازنات الداخل السوري المعقد في ظل عدم وضوح الرؤية فيما يخص إمكانية تطبيق اتفاقات وتفاهمات محلية مثل موضوع “قسد” في شمال شرق سوريا والسويداء جنوباً، والدور الذي لعبته ولا تزال تلعبه “إسرائيل” في عرقلة الاستقرار وخلق الانقسامات بين المكوّنات السورية تزامناً مع غياب رؤية أمريكية حاسمة تجاه سوريا.


[1] يمكن العودة إلى المؤتمر الصحفي:
[2] يجدر في هذا السياق الإشارة إلى أن فرنسا هي أول دولة عقدت مؤتمراً دولياً حول سوريا بعد سقوط النظام البائد، ينظر:
[3] في هذا السياق، يُقلّل بعض المراقبين من قدرة فرنسا على الضغط على الولايات المتحدة للانخراط بمسار داعم للإدارة السورية الجديدة، لاسيما مع التوتر القائم مع الإدارة الأمريكية خاصة فيما يتعلق برغبة ترامب عقد صفقة لإنهاء حرب أوكرانيا لا تبدو محل رضا للاتحاد الأوروبي.
[5] على سبيل المثال قالت مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، إن الاقتراح بتخفيف العقوبات الأوروبية على سوريا الذي تحدث عنه رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون يوم الأربعاء يسعدها، ينظر:
[6] سوريا توقّع عقدا لتطوير ميناء اللاذقية مع شركة فرنسية، الجزيرة نت، 1 / 5 / 2025، شوهد في: 9 / 5 / 2025

باحث مساعد في مركز الحوار السوري، يعمل ضمن وحدة تحليل السياسات، كتب وشارك في العديد من الأوراق المتعلقة بتحليل سياسات الفاعلين في سوريا، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى