الإصداراتالمقالات التحليلية

آليات تشكيل السلطة التشريعية في المراحل الانتقالية وسؤال النموذج السوري

مقال تحليلي صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري

تمهيد:

بعد إسقاط نظام الأسد البائد وانطلاق المرحلة الانتقالية في سوريا الجديدة؛ كان سؤال آلية سدّ الفراغ وتشكيل السلطة سؤالاً رئيساً يشغل السوريين ويسيطر على الفضاء العام، ورغم حسم آلية تشكيل السلطة التنفيذية بداية من خلال “الشرعية الثورية” عبر “مؤتمر النصر”، وما تضمّنه الإعلان من تفويض للرئيس بتشكيل السلطة التشريعية المؤقتة، وما جاء به الإعلان الدستوري من تأسيس لآلية تشكيل السلطة التشريعية المؤقتة عبر المادة 24 والتي تقوم على أساس تعيين الرئيس لثلث الأعضاء وتشكيله للجنة عليا وهيئات فرعية ناخبة لانتخاب ثلثي الأعضاء الباقين؛ إلا أن الجدل ما يزال مستمراً حول الأسلوب المتّبع في الحالة السورية لجهة تشكيل السلطة التشريعية، وهو ما يزداد مع تقدُّم العملية على أرض الواقع.

يمكن بشكل عام تتبُّع ثلاثة مواقف رئيسة: الأول يَعتقد أن ما يحصل يُعدّ خياراً مناسباً وواقعياً، والثاني يرى أن العملية تعني احتكار السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية من حيث النتيجة، وأن ما يجري أقرب للمسار الشكلي فارغ المضمون، وبينهما يأتي الموقف الثالث الذي هو أقرب للنظرة الوسطية التي تنظر إلى الآلية بحيادية، وتُرجئ موقفها إلى ما بعد التطبيق.

ولما كانت الحالة السورية ليست الأولى لجهة انهيار نظام سياسي وحاجة الدولة لبناء سلطاتها الانتقالية بما فيها السلطة التشريعية؛ فإن السؤال الذي يمكن طرحه بناءً على ذلك: ما هي الآليات المتّبعة في المرحلة الانتقالية لتشكيل السلطة التشريعية؟ وهل الآلية المتّبعة في السياق السوري تُعدّ آلية مُثلى وفق الظروف الحالية؟

تشكيل السلطة التشريعية في المراحل الانتقالية: نظرة على التجارب المقارنة

يُشير استقراء التجارب السابقة إلى وجود ثلاثة أنماط رئيسة لتشكيل السلطة التشريعية في المراحل الانتقالية، وهي:

أولاً: آلية التشكيل الانتخابية المباشرة: ومن خلالها يتم الاستمرار رغم التحوُّل بالاعتماد على الآليات الأساسية لتشكيل السلطة التشريعية عبر عملية انتخابية مباشرة أو جزئية أو محلية.. الخ، وهو ما يتطلَّب بطبيعة الحال وجود ظروف مؤسساتية وأمنية أشبه ما تكون بالطبيعية.

على سبيل المثال تم الاعتماد على الانتخابات في تجارب المنطقة بعد ثورات الربيع العربي كما حصل في تونس عبر تشكيل المجلس الوطني التأسيسي، وفي حالة مصر حيث أُجريت انتخابات تشريعية في نهاية عام 2011 بعد سقوط نظام حسني مبارك. كذلك الأمر شهدت تجارب أقدم في أمريكا اللاتينية كتشيلي والأرجنتين بعد انتهاء الأنظمة العسكرية انتخابات مباشرة لتشكيل السلطة التشريعية.

يُظهر ما سبق أن السمات العامة لآلية التشكيل الانتخابية المباشرة ترتبط بتوفر ثلاثة ظروف رئيسة؛ أولها توفُّر حدّ أدنى من الاستقرار الأمني والمؤسساتي، ووجود رغبة سياسية لدى الأطراف الفاعلة في الانتقال المنظّم نحو شرعية دستورية مستندة إلى التفويض الشعبي، وثالثها القبول الشعبي والدولي بالانتخابات كمدخل لإعادة بناء السلطة، كما تكشف هذه الآلية عن عدد من الإيجابيات، ومن أبرزها أنها تمنح شرعية مباشرة للسلطة التشريعية، وتُعزّز ثقة المواطنين بالمؤسسات الجديدة، وتُشجّع التعدّدية السياسية والمشاركة الأوسع للقوى الوطنية. في مقابل ذلك ثمة بعض السلبيات من أهمها صعوبة تنظيم الانتخابات، وإمكانية الطعن في نزاهتها أو عدم شمولها.

ثانياً: التشكيل التوافقي (التفاوضي): وهو الأسلوب الذي يقوم عادة عبر مفاوضات سياسية بين القوى الرئيسة الفاعلة كحركات سياسية أو فواعل مُسلَّحة ذات وزن.. الخ، ويسعى هذا النمط لتشكيل مجلس تشريعي مؤقّت يُعبّر قدر الإمكان عن المكوّنات دون اللجوء لانتخابات.

على سبيل المثال: شهد العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003 عملية تشكيل لمجلس الحكم الانتقالي الذي جاء مؤلَّفاً من ممثلين عن القوى المعارضة لنظام صدام حسين وبطريقة أسّست للمحاصصة الطائفية والعرقيّة، واستمر المجلس كسلطة تنفيذية وتشريعية “مُقيَّدة” بمرجعية الحاكم العسكري إلى عام 2005، أما في ليبيا فقد استمرّ المجلس الوطني الانتقالي المشكّل من قوى سياسية أثناء ثورة فبراير ضد نظام القذافي بوصفه سلطة تنفيذية وتشريعية، لينتهي دور المجلس في عام 2012.

في تجارب أخرى كأنموذج أفغانستان وبعد الغزو الأمريكي تم في عام 2002 بموجب اتفاقية “بون” تشكُّل ما يُعرف بـ ” لويا جيرغا”؛ أي مجلس الصلح الموسَّع بالعُرف القَبلي، حيث تم عملياً دعوة 1500 شخصية من أنحاء البلاد كطيف ممثل عن القوى والعشائر، والبدو، والنساء، والنازحين.. الخ، وبذلك شكَّل هذا المجمع ما يُشبه الجمعية التأسيسية التي أفرزت السلطة المؤقتة.

عموماً، ترتبط السمات العامة لهذه الآلية بأربعة ظروف رئيسة وهي: تعذُّر إجراء انتخابات عامة بسبب انهيار مؤسسات الدولة، ووجود قوى سياسية وعسكرية مؤثرة لا يمكن تجاهلها، والحاجة العاجلة لسد الفراغ، والضغط الدولي لعملية تفاوضية، وتحوز مجموعة إيجابيات من أهمها: عامل الزمن، والتوازن التمثيلي الأولي، فيما ترتبط سلبياتها باحتمالية التأسيس للمحاصصة وقابلية التفكُّك وإقصاء القوى الناشئة.

ثالثاً: الآليات الهجينة: (التعيين والانتخاب غير المباشر): والتي تقوم على أساس تداخل ما بين التعيين وانتخاب غير مباشر، حيث يتم اللجوء إليها عادة في بيئات شديدة التعقيد، عبر القيام بدمج أسلوب التعيين والتمثيل القطاعي أو المناطقي أو القوى السياسية والمجتمعية، وتُعدّ بذلك حلاً وسطاً بين المجلس المنتخب والمجلس ذي النمط التفاوضي بين الأطراف.

على سبيل المثال: في السودان وبعد حلّ مجلسَي الهيئة التشريعية تم تشكيل مجلس عسكري انتقالي توصَّل مع القوى الأخرى إلى اتفاقٍ ينصّ على تشكيل “المجلس التشريعي الانتقالي” بحيث تُعيّن قوى إعلان الحرية والتغيير الثلثين، والثلث الباقي يُعيَّن من قوى أخرى، أما في بوليفيا عام 2005 تم تشكيل السلطة التشريعية من مزيجٍ يجمع أعضاء سابقين منتخبين مع أشخاص مُعيَّنين من السلطة التنفيذية الانتقالية.

كذلك شهدت تجارب عديدة وخاصة الإفريقية أنماطاً شبيهة. على سبيل المثال في النيجر بعد انقلاب 2010 الذي أطاح بالرئيس تانجا تم تشكيل السلطة التشريعية عبر آلية مزدوجة من التعيين والتمثيل القطاعي، كذلك في تشاد عام 2021، كما تعرف حالة مصر وفق دستور 2014 وجود نسبة من الأعضاء يتم تعيينها من رئيس الجمهورية بنسبة 5% في مجلس النواب والثلث في مجلس الشيوخ.

مما سبق يظهر أن السمات العامة لهذه الآلية ترتبط بوجود ثلاث عوامل؛ وهي: غياب القدرة على إجراء انتخابات شاملة، وتنوُّع الفواعل السياسية والمناطقية مع الحاجة إلى تمثيل توافقي ولو بشكل غير مباشر، وأخيراً وجود سلطة تنفيذية قوية، أما أبرز الإيجابيات فتتمثل في مرونة العملية، وتوسيع نطاق التمثيل، والقدرة على احتواء الفاعلين المؤثرين، في حين تكمن السلبيات في احتمالية غياب المساءلة، وضعف المشاركة الشعبية، وتغوُّل السلطة التنفيذية.

آلية التشكيل
نماذج
عوامل دافعة
إيجابيات
سلبيات
الانتخابات المباشرة
الأرجنتين-تشيلي-تونس -مصر
توفُّر حدّ أدنى من الاستقرار الأمني والمؤسساتي
تمنح شرعية مباشرة للسلطة التشريعية
صعوبة تنظيم الانتخابات
وجود رغبة سياسية لدى الأطراف الفاعلة في الانتقال السلمي
تعزز ثقة المواطنين بالمؤسسات الجديدة
إمكانية الطعن في نزاهتها أو عدم شمولها.
القبول الشعبي والدولي بالانتخابات
تفتح المجال أمام مشاركة أوسع للقوى الوطنية
التشكيل التوافقي (التفاوضي)
العراق -ليبيا -أفغانستان
تعذُّر إجراء انتخابات مباشرة
سرعة التشكيل
التأسيس لنظام محاصصة
وجود قوى سياسية أو عسكرية مؤثرة لا يمكن تجاوزها
الحاجة العاجلة لسدّ الفراغ التشريعي والمؤسسي
توازن تمثيلي أولي
قابلية التفكك
وجود ضغط دولي يدفع نحو آلية تفاوضية
غياب القوى الناشئة
الآليات الهجينة
السودان -بوليفيا- النيجر -تشاد
غياب القدرة على إجراء انتخابات شاملة
مرونة العملية
احتمالية غياب المساءلة
الحاجة لتمثيل توافقي
توسيع نطاق التمثيل
ضعف مشاركة الشعبية
وجود سلطة تنفيذية قوية
القدرة على احتواء الفاعلين المؤثرين
تغول السلطة التنفيذية

جدول يوضح مجمل الآليات المتّبعة في تشكيل هيئات تشريعية في المراحل الانتقالية

نظرة على آلية تشكيل السلطة التشريعية في الحالة السورية:

تاريخياً، يُشير استقراء الواقع السوري إلى أنه مع انقلاب البعث على السلطة عام 1963 توجَّه إلى آلية احتكار السلطة التشريعية من قبل السلطة التنفيذية عبر تولّي “مجلس قيادة الثورة” لممارسة هذه السلطات، وهو ما استمرَّ حتى انقلاب الأسد الأب وتشكيل أول مجلس تشريعي في تلك الفترة بالتعيين لكامل أعضائه الـ 173، وبالتالي فإن السوابق السورية كانت بالسيطرة أو التعيين المباشر.

حالياً، وبعد سقوط نظام الأسد البائد، يمكن القول إن خيار الانتخاب لتشكيل السلطة التشريعية -وهو الخيار الأكثر تعبيراً عن قيم الثورة السورية وتطلعاتها- لم يكن متاحاً؛ فعلى الرغم من وجود حالة تحوُّل بناءً على ثورة فإن التجارب التي أخذت بهذا الأنموذج تختلف موضوعياً عن الحالة السورية لجهة عدم  وجود نزاع مسلح أصلاً في الدول الأربع وقصر الفترة الزمنية التي استمرت من خلالها الثورات الشعبية، فضلاً عن استمرارية مؤسسات الدولة وبقاء المؤسسات السيادية كالجيش والشرطة، فضلاً عن وحدة البلاد جغرافياً ووحدة السيطرة والتحكُّم، وهي عوامل مفقودة في الحالة السورية، إضافة إلى حالات التهجير والنزوح واسعة النطاق قبل سقوط نظام الأسد وما تُلقيه من ظلال في هذا الملف،  ولذلك كان من الطبيعي غياب التوجُّه نحو هذه الآلية في التطبيق العملي في المرحلة الحالية.

تبقى الخيارات قائمةً بين الخيارين الآخرين؛ سواء عبر التشكيل التفاوضي أو التشكيل بآليات هجينة، من حيث المبدأ يبدو أن التشكيل بالخيار التفاوضي كان متاحاً في الحالة السورية تبعاً لوجود قوى عديدة مستمرة كفواعل مؤثرة بعد إسقاط نظام الأسد البائد، وهي بشكل رئيس القوى السياسية المتمثلة بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وهيئة التفاوض والقوى المرتبطة بشمال شرق سوريا أو حتى بالسويداء، إلا أن توجُّه قوى الثورة والمعارضة الرسمية لحل نفسها وانخراط القوى العسكرية في مؤتمر النصر جعل الموقف أشبه بوحدة القوى المناوئة لنظام الأسد خلف الرئيس الانتقالي.

أما الحالة المستمرة وهي “الإدارة الذاتية” شمال شرق سوريا، فتبقى حتى الآن معزولة واقعياً عن السياق السوري العام رغم المفاوضات المستمرة مع الحكومة في دمشق، من جانب آخر فإن الخيار التفاوضي في التشكيل افتقد لوجود الضغط الخارجي، حيث ظهر قبول واسع دولياً وعربياً لنتائج مؤتمر النصر ومقرراته، وهو ما يختلف بدوره عن حالة الدول الأخرى.

أما الخيار الأخير وهو الأسلوب الهجين في التعيين والانتخاب غير المباشر وبالنظر إلى سياق الحالة السورية والسياقات التي طُبِّقَ فيها هذا الخيار في دول هشّة وبوجود مركز عسكري قوي، يبدو بالفعل أنه يُمثّل حالة واقعية ناشئة من سياق معقّد ويفرض أحكامه واقعياً.

الأسلوب
المتطلبات الموضوعية
توافرها في الحالة السورية
الانتخابات المباشرة
توفر حدّ أدنى من الاستقرار الأمني والمؤسساتي
وجود رغبة سياسية لدى الأطراف الفاعلة في الانتقال السلمي
القبول الشعبي والدولي بالانتخابات
التشكيل التوافقي
 أو التفاوضي
تعذُّر إجراء انتخابات مباشرة
وجود قوى سياسية أو عسكرية مؤثرة لا يمكن تجاوزها
الحاجة العاجلة لسدّ الفراغ التشريعي والمؤسسي
الآليات الهجينة
غياب القدرة على إجراء انتخابات شاملة
الحاجة لتمثيل توافقي
وجود سلطة تنفيذية قوية
العامل غير متوفر
العامل نسبي
العامل متوفر

جدول رقم 2 يقارن بين العوامل الموضوعية ومدى توفُّرها بالحالة السورية

ختاماً، ومع التسليم بواقعية النموذج السوري في ضوء استقراء الأساليب وسياقاتها؛ ثمة تساؤل مهم عن كيفية التخفيف من مساوئ هذا الأسلوب والتعظيم من الإيجابيات التي يُحقّقها؛ كالابتعاد عن ترسيخ فكرة المحاصصة الطائفية والعرقية ووجود فصل بين السلطة التشريعية والتنفيذية بدلاً من تولّي سلطة انتقالية واحدة للسلطتين معاً، ولعلَ أبرز الإجابات على ذلك ترتبط بنقطتين رئيستين؛ الأولى هي ابتعاد السلطة التنفيذية وأجهزتها في المحافظات والمناطق قدر الإمكان عن التدخُّل في اختيار أعضاء الهيئات الناخبة الفرعية، بحيث تعنى اللجنة العليا للانتخابات مع اللجان الفرعية في إنتاج آلية واضحة ومعايير مُحدَّدة ومبرّرة لاختيار أعضاء الهيئات الناخبة باعتبارها تحسم مبكراً النتائج حول المنتخبين من داخل كل هيئة، أما الثانية فترتبط باختيار رئيس الجمهورية لثلث أعضاء السلطة التشريعية بحيث يكون جميع الأشخاص من التكنوقراط كضمانة محتملة لعدم التعبير على رأي السلطة التنفيذية ومواقفها، وخاصة مع عدم وجود قدرة لرئيس الجمهورية وفقاً للإعلان الدستوري لعزل العضو البرلماني أو حلّ البرلمان وهو ما يُقدّم بدوره ضمانة إيجابية تُعزّز من قدرة السلطة التشريعية عن التوازن مع السلطة التنفيذية في المرحلة الانتقالية.

باحث في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى