
أحداث السويداء بعيون وسائل إعلام عربية وعالمية
تقرير صادر عن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري
منذ سقوط نظام الأسد بقيت محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية جنوب سوريا بوضع خاص دون أن تندمج بشكل كامل مع الإدارة السورية الجديدة، إذ كانت تسيطر عليها فصائل مسلحة محلية من الطائفة الدرزية بقيادة بعض رجال الدين في الطائفة، ومنذ ذلك الحين شرعت الحكومة السورية الجديدة في سلسلة من المفاوضات المتواصلة مع ممثلين عن الطائفة الدرزية في المحافظة، سعياً للوصول إلى تفاهمات من شأنها تهدئة التوترات الأمنية المتفاقمة، والحدّ من انتشار السلاح والفوضى الناجمة عن غياب مؤسسات الدولة، إلا أن هذه المفاوضات لم تصل إلى نتيجة[1].
لحل هذه الإشكال عقدت الحكومة في نيسان 2025 سلسلة مشاورات مع قيادات الطائفة الدرزية أسفرت عن توقيع اتفاق مبدئي تضمّن عدة نقاط رئيسية، أبرزها: تفعيل دور قوى الأمن الداخلي من أبناء المحافظة فقط، وإعادة تفعيل الضابطة العدلية بكوادر محلية، إضافة إلى التزام الدولة السورية بضمان أمن الطريق الواصل بين دمشق والسويداء[2].
ورغم الترحيب بالاتفاق في حينه باعتباره خطوة إيجابية نحو استقرار الوضع في المحافظة، إلا أن تنفيذه اصطدم بعراقيل عدة، على رأسها مواقف بعض الفصائل المحلية المدعومة من شيخ العقل حكمت الهجري، الذي برّر تعطيل الاتفاق بحجج مختلفة، من بينها وصفه للإعلان الدستوري بـ”الاستبدادي”، مطالباً بتطبيق اللامركزية[3].
لم يسفر الاتفاق عن استقرار الأوضاع، واندلعت لاحقاً اشتباكات عنيفة في منطقتي أشرفية صحنايا وجرمانا بريف دمشق في أيار 2025 بعد تصاعد التوترات المجتمعية بسبب انتشار تسجيل صوتي منسوب لرجل دين درزي أساء فيه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، أدت إلى سقوط قتلى من المدنيين ورجال الأمن ومسلحي الفصائل الدرزية[4]، تلا هذه الاشتباكات إصدار حكمت الهجري، أحد مشايخ العقل في الطائفة الدرزية، بياناً طالب فيه بالحماية الدولية ووصف الحكومة بأنها “تكفيرية”[5]ـ تلاه تصعيد أمني لافت أدى إلى احتجاز محافظ السويداء مصطفى البكور والاعتداء عليه من قبل مجموعات محلية، الأمر الذي اضطره إلى مغادرة المحافظة وتقديم استقالته[6]، قبل أن يتراجع عنها لاحقاً ويظهر مجدداً في لقاء علني مع الشيخ الهجري[7].
وفي شهر تموز، عاد التوتر من جديد بعد اختطاف تاجر خضار من محافظة السويداء على طريق دمشق، وتطور الأمر ليصل إلى اشتباكات بين الفصائل الدرزية ومسلحين من بدو السويداء، لتقرر الحكومة التدخل لفض الاشتباك[8]، إلا أن القوات الحكومية تعرضت لاستهداف من مسلحي بعض الفصائل الدرزية أدى إلى مقتل عدد من الجنود، لتُقرّر على إثرها التدخل بشكل واسع لإنهاء الفصائل الخارجة عن القانون، لكن أثناء هذه العملية تدخلت “إسرائيل” وقصفت الأرتال العسكرية الحكومية التي دخلت الى السويداء، وصعّدت من استهدافاتها لتضرب مقر الأركان ومحيط قصر الشعب في دمشق، لتقرر الحكومة بعدها توقيع اتفاقية مع قيادات محافظة السويداء تقضي بانسحاب القوات الحكومية منها وتولي الفصائل المحلية إدارتها أمنياً، لكن بدأت تنتشر في اليوم التالي مقاطع فيديو تُظهِر استهداف المدنيين البدو بجرائم وحشية وتهجيرهم من منازلهم، ما تسبب بحالة غضب عشائرية كبيرة تحولت إلى فزعة شعبية من معظم المحافظات السورية، وعادت الاشتباكات في المحافظة وتخللها انتهاكات كبيرة بحق المدنيين والأسرى، وانتهت الاشتباكات مؤخراً بعقد اتفاق وقف إطلاق نار مع إجلاء المدنيين من البدو والعشائر العربية وبعض المسيحيين إلى مناطق آمنة[9].
لاقت هذه الأحداث اهتماماً سياسياً وإعلامياً كبيراً حول العالم، وخصوصاً في الدول العربية وتركيا، بالإضافة للإعلام الغربي في أوروبا وأمريكا، وذلك في ظل الاهتمام الإعلامي الكبير الذي تلقاه سوريا منذ سقوط نظام الأسد المخلوع، ومنذ أخبار رفع عدد من العقوبات الأمريكية والغربية عنها.
يسعى هذا التقرير إلى تقديم رصد الإعلام التركي والعربي والغربي حول أحداث السويداء، وذلك بهدف استقراء التوجهات الحكومية وغير الحكومية في تلك الدول تجاه سوريا، ومعرفة الصورة التي نشأت عن البلاد في ظل هذه الأحداث؛ وذلك باستخدام الأسلوب الوصفي التحليلي عبر الاطلاع على الأخبار والمقالات والتحليلات المنشورة في المصادر المفتوحة والمواقع الإخبارية.
الإعلام العربي:
تعامل الإعلام العربي في المجمل مع أحداث السويداء بمنطلق ينتقد العدوان “الإسرائيلي” بشكل مبدئي من ناحية، وتقديم المقترحات لحل الأزمات المجتمعية التي تعاني منها سوريا من ناحية أخرى. ومن الأمثلة على ذلك كانت صحيفة الشرق الأوسط، إذ انتقد كتّابها السياسة “الإسرائيلية” العدوانية تجاه المنطقة، والتي يرون أنها ستتسبب بإشعال الفوضى في المنطقة بأسرها[10]، فيما رأى قسم آخر من الكتّاب أن سوريا بحاجة إلى عملية سياسية شاملة تعمل على إعادة تأهيل المجموعات المتناحرة ودمجها في الحياة السياسية من جديد، وضربوا بذلك أمثلة من نجاح دول أوروبية ولاتينية في دمج الحركات اليسارية المتطرفة في الحياة السياسية بعد إعادة تأهيلها[11].
أما موقع الجزيرة، فقد ركّز على الخطر “الإسرائيلي” المحدق بسوريا، وقال المحللون في الموقع إن “إسرائيل” تسعى إلى استخدام ورقة الأقليات لتحقيق توسع جيوسياسي كبير في المنطقة عبر إنشاء ما يُسمّى “ممر داوود” الذي يربط جنوب سوريا بمناطق “قسد”[12]، مع الإشارة إلى وجود خلاف بين التوجهات “الإسرائيلية” والأمريكية تجاه سوريا مع الاتفاق في الغاية النهائية وهي إضعاف سوريا، إذ ترى أمريكا -بحسب محللي الجزيرة- أن الإبقاء على سوريا موحدة مع ربطها سياسياً واقتصادياً بها سيجعلها ضعيفة ومرهونة للسياسات الأمريكية، فيما ترى “إسرائيل” أنه من الأفضل لها تفكيك سوريا طائفياً وعرقياً[13].
بالنظر للإعلام الأردني، فقد تناول كتّاب صحيفة الرأي ملف السويداء من جوانب متعددة، إذ حذّروا من الخطط “الإسرائيلية” التي تستهدف تقسيم سوريا على أسس طائفية وعرقية[14]، والإشارة إلى أن التوترات الأمنية في الحدود تجعل من الضروري على الجيش الأردني أن يبقى على أهبة الاستعداد لمواجهة أي طارئ[15]، فيما رأى أحد كتاب الصحيفة أن الرئيس السوري أحمد الشرع أتى من خلفية مناقضة لتوجهات الدولة الأردنية والخليج العربي، إلا أن الظروف الحالية تحتّم على دول الإقليم التغافل عن هذا الماضي والعمل معه من أجل الحفاظ على سوريا موحدة، وأشار إلى أنه يجب على الإدارة السورية ضبط قواتها العسكرية وإعادة تهيئتها بشكل يناسب خطابها التصالحي تجاه جميع المكونات السورية[16].
أما الإعلام اللبناني، فقد اهتم بمواقف قيادات الطائفة الدرزية في لبنان تجاه ما يحدث في سوريا، وكان من أبرزها نقل تصريحات وليد جنبلاط، الذي أدان طلب الحماية “الإسرائيلية” ودعا قيادات السويداء إلى عدم عزل المحافظة عن محيطها وعدم التصرف بشكل يناقض مواقفها التاريخية العروبية[17]، فيما لفت الإعلام اللبناني الانتباه إلى الخلافات داخل دروز لبنان، إذ غادر جنبلاط مجلس العزاء المقام للضحايا في سوريا فور وصول السياسي وئام وهاب الداعم لتيار حكمت الهجري وأحد كبار المحرّضين خلال هذه الاحداث الأخيرة[18].
كما جاء الإعلام العراقي المقرب من الحكومة بخطاب متزن نسبياً مع استمرار استحضار الصورة النمطية السابقة تجاه الإدارة السورية الجديدة، حيث رأى المحللون أن الرئيس السوري أحمد الشرع بـ “خلفيته الجهادية” غير قادر على التعامل مع الأقليات بسياسة وطنية جامعة[19]؛ لكن كان الخطاب العام يُشجّع على رعاية المصالح المشتركة بين سوريا والعراق بغض النظر عن الخلافات السابقة، والتعاون بين البلدين لمحاربة خطط تقسيم المنطقة التي ستستهدف العراق بعد سوريا بحسب رأيهم[20].
وبالنظر إلى كتّاب “العربي الجديد”، فقد اتبعوا أسلوباً حاداً في انتقاد الحكومة السورية على “سوء تقديراتها” في العملية العسكرية، وعلى اتباعها سياسة “إقصائية” همّشت فيها كل المكونات السورية، وعلى تهاونها مع “إسرائيل” بل وحتى لمحوا إلى تعاونها معها في تنفيذ مخططاتها في المنطقة[21].
فيما ركز موقع العربية على المسألة من جانب آخر، إذ نشر عدة مقالات لمحللين عرب حول الموضوع السوري، ركزت على الدعوة لإجراء حوار مع جميع أطياف المجتمع، ومراجعة مسار الدولة وعدم تغليب الحلول العنيفة[22]، وذكّر محللون آخرون بأن سوريا ورثت تركة ثقيلة من عهد نظام الأسد وأن طريق بنائها لن يكون سهلاً، بل هو طريق صعبٌ مليء بالعقبات[23].
تعاملت مجلة “المجلة” مع الملف عبر التركيز على نقطتين؛ هما الانتهاكات التي وقعت في العملية العسكرية ومحاولة ربطها بـ”المقاتلين الأجانب”، والإشارة إلى أضرار التدخل “الإسرائيلي” في سوريا الذي يثبت -برأي محللي المجلة- أن “إسرائيل” لا تملك استراتيجية واضحة تجاه سوريا، وأنه من الواجب أن يُركّز الطرفان على المصالح المشتركة وأولوياتهما الاستراتيجية من أجل تخفيف الاحتقان بينهما[24]، كما دعا محللو المجلة إلى أن تكون أحداث السويداء فرصة لتصحيح مسار الدولة السورية ومعالجة الأخطاء التي ارتكبتها في الأشهر السابقة[25].
ونهجت صحيفة الاتحاد الإماراتية نهجاً مقارباً، إذ قال محللوها إن سوريا اليوم تحتاج إلى إعادة بناء الدولة بشكل يضمن تمثيل جميع المكونات، وبحاجة إلى دعم إقليمي تنموي واسع وتعزيز قدراتها الأمنية والإدارية ودعمها دبلوماسياً للحفاظ على سيادتها ووحدتها بوجه القوى الطامعة في الأراضي السورية، وفي مقدمتها “إسرائيل”[26].
وفي سياق متابعة الإعلام المحسوب على الإمارات العربية المتحدة، برزت قناتا “سكاي نيوز عربية” و”المشهد” بعد تقديمهما تغطية تحريضية ضد الحكومة السورية، حيث اتهمتها بأنها نفّذت مجازر بدوافع طائفية، بالإضافة إلى استضافة “مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان” المعروف بمواقفه التحريضية والمتحيزة وبإحصائياته غير الدقيقة [27]، كما نشرت القناتان الشائعات التي زادت من تأجيج الأوضاع والاحتقان المجتمعي[28].
أما صحيفة الأهرام المصرية القريبة من الرواية الحكومية الرسمية فقد أظهرت موقفاً محذّراً من التدخلات “الإسرائيلية” في سوريا مع التلميح بأن الحكومة السورية تحاول التطبيع مع “إسرائيل” وأنها من خلفية “إسلامية متطرفة” وأنه “لا يُستَبعد أن تصرُفها البراغماتي الحالي هو تصرف مؤقت وأنها ستُظهِر وجهها الحقيقي فيما بعد وتفرض سيطرتها الكاملة ورؤيتها الحقيقية”[29].
تظهر هذه التغطيات العربية من دول مختلفة التركيز المشترك على خطر العدوان “الإسرائيلي” على سوريا وخطر تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية/عرقية، لكن كانت هناك انتقادات بالتصريح أو بالتلميح للإدارة السورية الجديدة بأنها تتبع سياسة إقصائية تجاه مكونات الشعب السوري، واتفقت معظم التحليلات على اختلاف الوسائل التي نشرتها بأن سوريا بحاجة إلى سياسة جامعة تعيد وحدة المكونات السورية تحت هوية وطنية.
وبالنظر إلى دول الجوار، الأردن ولبنان والعراق، فكان من الواضح وجود تعامل حذر مع الإدارة السورية الجديدة بسبب الخلافات السابقة، سواء بسبب اتخاذ تلك الدول مواقف داعمة لنظام الأسد، أو بسبب اتخاذها موقفاً سلبياً تجاه الجماعات الإسلامية المسلحة التي ولدت من رحمها الإدارة السورية الجديدة، إلا أنها جميعاً اتفقت على أهمية الحفاظ على وحدة سوريا وتقديم الدعم للإدارة السورية الجديدة بغض النظر عن الخلافات السابقة بهدف الوقوف ضد المخططات “الإسرائيلية”.
الإعلام التركي:
تفاعل الإعلام التركي بشتى أطيافه بشكل كبير مع أحداث السويداء، فكان الإعلام المقرَّب من الحكومة التركية داعماً لإجراءات الحكومة السورية ووصفها بأنها خطوات مشروعة من الدولة تجاه مجموعات خارجة عن القانون[30]؛ كما كتب عدد من المحللين مقالات أشادوا فيها بدور العشائر العربية التي هبّت لنصرة بدو السويداء الذين تعرضوا لجرائم بشعة من الميليشيات الدرزية، وقالوا إن أحمد الشرع نجح في حشد قوة العشائر لمصلحته بهدف الحفاظ على وحدة البلاد، وأنه وجَّه لـ”قسد” رسالة تحذيرية قوية بهذه الخطوة[31].
كما ربط بعض المحلّلين في الصحف الموالية لحزب العدالة والتنمية بين التصعيد الأخير في سوريا وبين عملية “إنهاء الإرهاب في تركيا”، والتي قطعت خطوة جديدة بتسليم تنظيم PKK سلاحه مطلع هذا الشهر، وقالوا إن “إسرائيل” تحاول القيام بخطوات لإفساد هذه العملية عبر دعم الأطراف الانفصالية في سوريا التي ستستهدف تركيا في المستقبل[32].
هذا وأعاد الكثير من المحللين في الصحف المقربة من حزب العدالة والتنمية الحديث عن خطط “إسرائيلية” لتقسيم سوريا، إذ قالوا إن “إسرائيل” تسعى منذ عقود إلى إضعاف سوريا ومن ثم تقسيمها إلى 4 دويلات على أساس طائفي، على أن تكون هناك دولة درزية ودولة كردية ودولة علوية ودولة للعرب السنة، وأن يتصل الكيان الدرزي بالكيان الكردي عبر ممر يدعى “ممر داوود”، وأشاروا إلى أن هذه الخطة تمس الأمن القومي التركي، إذ سيكون الهدف التالي بعد تحقيقها هو استخدام هذه الكيانات في تقسيم تركيا إلى دويلات أيضاً وإنهاء نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، وقالوا إن تركيا لديها خطط مضادة لإيقاف هذه المخططات، وأنها تعتمد الصبر الاستراتيجي في مواجهة هذه التحديات، مشيرين إلى أن تركيا تضغط دبلوماسياً على “قسد” لتنفيذ اتفاق 10 مارس/آذار واندماجها مع الدولة السورية، وأنها إذا لم تفعل ذلك سيعود طرح الخيار العسكري على الطاولة[33].
أما الصحف المعارضة؛ سواء كانت من التوجه الكمالي المقرب من حزب الشعب الجمهوري أو من التوجه اليساري المقرب من الأحزاب الاشتراكية، والتي كانت تتخذ موقفاً معادياً للثورة السورية منذ انطلاقتها، فقد اتخذت موقفاً معادياً للدولة السورية، واصفة الجيش السوري بأنه “عصابات هيئة تحرير الشام”، ودعمت الميليشيات الدرزية، وحاول البعض منها تبرير تحالفها مع “إسرائيل” قائلة إن الحكومتين التركية والسورية تعملان على احتكار “معاداة إسرائيل” في الإسلام السني، وذلك بعلم “إسرائيل”، مقابل دفع الأقليات الدينية والعرقية للتحالف مع الأخيرة احتماءً بها من “هجمات المتطرفين الإسلاميين”[34].
أما وسائل الإعلام التابعة لحزب الديمقراطية والمساواة الشعبية (DEM Parti) المقرب من تنظيم “حزب العمال الكردستاني” و”قسد”، فقد صوّر الأحداث على أنها استمرار لـ”الإبادة” التي بدأتها “هيئة تحرير الشام” ضد العلويين، وأنها تسعى لإخضاع الدروز ومن ثم التوجه لإخضاع الأكراد وفق خطة المبعوث الأمريكي توماس باراك الذي ضغط على “قسد” للاندماج في الدولة السورية، وأشار المحللون في هذه الصحف إلى أن صمود الدروز وتدخل “إسرائيل” أفسد خطة باراك، وزاد من آمال الفدرالية في سوريا وقوّى موقف “قسد”[35].
تشير هذه التغطيات الإعلامية إلى أن توجُّه الدولة التركية تجاه هذا الملف هو في التأكيد على سعي “إسرائيل” لتقسيم سوريا، وأن هذه التحركات تهدد الأمن القومي التركي، حيث ترى السلطات التركية أن أي تقسيم في سوريا سيتبعه تحركات لتقسيم تركيا وعزلها عن الشرق الأوسط، إذ يرون أنه في حال نجحت “إسرائيل” في السيطرة على ما يُسمى “ممر داوود” وتأسيس كيان كردي في سوريا، فسيتم عزل تركيا عن العالم العربي، وستبدأ تحركات لتأسيس كيان كردي في تركيا وتقسيم البلاد بشكل نهائي.
كما تشير هذه التغطيات الإعلامية التركية إلى أن تركيا ترى أن هذه الأحداث تؤكد ضرورة توحيد البلاد وإنهاء المشاريع الانفصالية حتى ولو كان ذلك بالخيارات العسكرية، وأنها ما تزال تضغط على “قسد” لتنفيذ الاتفاق الذي وقّعته مع الحكومة السورية.
أما الصحف المعارضة المقربة من حزب الشعب الجمهوري، فقد أظهرت موقفاً متوقعاً نابعاً من الصورة النمطية التي تعاملوا بها مع الإدارة السورية الجديدة منذ سقوط نظام الأسد، إذ وصفت القوات الحكومية بأنها “عصابات تكفيرية تستهدف الأقليات”، واتبعت الصحف الداعمة لـ”قسد” أسلوباً مشابهاً في مهاجمة الحكومة السورية وعملت على تعزيز سردية الأقليات ونشر دعوات الفدرلة في سوريا.
الإعلام الغربي:
تفاعل الإعلام الغربي بشكل كبير مع الأحداث التي وقعت في محافظة السويداء، خصوصاً بعد تفاقمها وتطورها إلى اشتباكات عنيفة ومع قصف طيران الاحتلال “الإسرائيلي”، وكانت تغطية المصادر الكبرى، مثل رويترز، فيها تركيز على الضحايا من الجانب الدرزي واستخدام ألفاظ فيها تلميحات تدين الحكومة السورية، مثل “الحكومة الإسلامية” أو التذكير بأحداث الساحل التي وقعت في مارس/آذار الماضي[36]، بالإضافة إلى الاعتماد على أرقام ما يسمى “المرصد السوري لحقوق الإنسان” المعروف بتضليله الإعلامي منذ سنوات طويلة[37].
أما BBC البريطانية، فقد ذهب مراسلها للحديث مع مقاتلي العشائر المتجهين للسويداء، ونقل وجهة نظرهم وملاحظاته على تحركاتهم، إذ قال إن المقاتلين ذاهبون للسويداء لإنقاذ البدو المحتجزين عند الفصائل الدرزية، كما نقل شهادات البدو المهجّرين من السويداء وقال إنهم يؤكدون على أن التعايش المشترك في المحافظة غير ممكن إلا في حالة عودة سيطرة الدولة بشكل كامل، مشيراً إلى أن المهجّرين لا يثقون بالدروز ويعتقدون أنهم سيغدرون بهم[38]. إلا أن القناة ذاتها نشرت في موقعها تقريراً آخر هاجمت فيه القوات الحكومية بشكل كبير، ونقلت عن أفراد دروز اتهامات للقوات الحكومية بارتكاب “مجازر طائفية” في السويداء وأعدمت المدنيين والمرضى في المستشفيات، دون وجود أدلة تدعم هذه الادعاءات[39].
فيما تبنت CNN رواية الفصائل الخارجة عن القانون دون أن يكون لها مراسلون من قلب الحدث، حيث نشرت خبراً عن مقتل مواطن أمريكي من أصول سورية في السويداء على يد القوات الحكومية، ونقلت عن أقارب المقتول أنه عاد لسوريا من أمريكا لرعاية والده الكبير في السن، وأنه اقتيد هو و7 من أقاربه بعد اشتباكهم بالسلاح مع القوات الحكومية، وجرى إعدامهم ميدانياً دون محاكمة، وكان الخبر في مجمله داعماً لسردية الفصائل التي تمردت على الدولة[40].
واتبعت الغارديان أسلوباً مشابهاً، إذ نشرت تقريراً نقلاً عن شهادة ممرض في المشفى الوطني في السويداء وعن “المرصد السوري لحقوق الإنسان” اتهمت فيه القوات الحكومية بإعدام المئات من المرضى والأسرى الدروز وتكديس جثثهم في المشفى دون تقديم أدلة منطقية على هذا الادعاء[41]، حيث أظهرت تحقيقات أخرى أن هذه الجثث هي على الأرجح لأسرى من البدو والأمن العام أعدمتهم الميليشيات الدرزية ودفنتهم في مقابر جماعية[42].
ومن جانب آخر، كانت صحيفة الفايننشال تايمز غير منحازة لأي طرف، إذ نقلت التفاصيل عن مصادر من جميع الأطراف، سواء من الحكومة أو الفصائل المحلية أو العشائر التي دخلت للمعركة في أيامها الأخيرة، بالإضافة إلى ذكر العدد الكلي للقتلى وللتصريحات الدولية المتعلقة بهذه المسألة[43].
واتبعت أسوشيتد برس نهجاً مماثلاً في التعاطي مع الأحداث، إذ نشرت خبرَين منفصلَين؛ الأول كان تعريفياً بالطائفة الدرزية ومعتقداتها وتاريخها ومواقفها الحالية[44]، والثاني كان خبراً مصوراً يعرض تفاصيل معاناة المهجّرين البدو، وحركة مقاتلي العشائر، وجهود الأمن العام لاحتواء الأزمة، وآثار التخريب الحاصلة في المحافظة نتيجة الاشتباكات[45].
وفي غضون هذه الأحداث كانت تغطية قناة “سكاي نيوز” متحيزة بشدة رغم وجود مراسلتها على الأرض، إذ نشرت تقريراً مصوراً أظهرت فيه شاحنات تنقل المهجّرين من البدو ومعهم أمتعتهم، وقالت المراسلة إن السويداء تشهد حوادث نهب وسلب لمنازل الدروز، مدّعية أن هذه الشاحنات تنقل أمتعة مسروقة، واضطرت القناة لحذف تقريرها بعد ساعات بسبب ردة الفعل من المتابعين السوريين الذين بيّنوا كذب هذا الادعاء[46].
تشير هذه التقارير المتنوعة إلى عدم وجود سردية غالبة في الإعلام الغربي، مع وجود ميل طفيف تجاه التعاطف مع الدروز واستخدام إيماءات سلبية عند الحديث عن الحكومة السورية والعشائر، لكن لا يمكن إغفال وجود بعض الصحف والوسائل الإعلامية التي تبنت السردية المعادية بشكل كبير والتي قد تستخدم في زيادة الضغط على الحكومة السورية.
كما أظهرت بعض وسائل الإعلام الغربية موقفاً متحيزاً مبنيّاً على صور نمطية وقناعات مسبقة دون أن تتحقق من مصداقية هذه التصورات والادعاءات، وهذا ما أوقعها في موقف محرج بيّن ضعف مصداقيتها أمام الجمهور وبيّن عدم مهنية بعض وسائل الإعلام العالمية الشهيرة، مثل سكاي نيوز.
خاتمة:
أظهرت التغطية الإعلامية الواسعة للأحداث في سوريا أن البلاد ما تزال في بؤرة الاهتمام العربي والعالمي رغم مرور أكثر من 7 أشهر على سقوط نظام الأسد، إلا أن هذا الاهتمام في هذه الحادثة كان بأثر سلبي في الغالب، إذ كانت تغطية جزء من الإعلام العالمي وبعض وسائل الإعلام العربية والتركية مُحمّلة بمواقف سياسية نابعة من أحكام مسبقة ومواقف أيديولوجية تعكس رؤى الجهات التابعة لها، واستغلت الانتهاكات المتبادلة لزيادة العداء والاحتقان المجتمعي ولشيطنة القوات الحكومية.
أظهر الإعلام العربي والتركي في معظمه موقفاً قوياً ضد تقسيم سوريا وضد الانتهاكات “الإسرائيلية”، وأكّد على ضرورة دعم سوريا سياسياً واقتصادياً وأمنياً في سبيل درء المخاطر المحدقة بها من القوى الانفصالية داخل سوريا ومن الكيان “الإسرائيلي” الذي يحاول تقسيم سوريا وإضعافها وفرض واقع جديد في الإقليم يكون هو صاحب اليد الطولى فيه.
من المهم الاستماع إلى الانتقادات والتوصيات التي جاءت في هذه التغطيات، خصوصاً في مسألة إنهاء الانتهاكات والفوضى التي رافقت هذه العملية العسكرية، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات بغض النظر عن هويتهم والجهة التي ينتمون بها، إذ إلى جانب أن هذه الانتهاكات مرفوضة من الناحية الدينية والأخلاقية وتهدد بتمزيق النسيج الاجتماعي في سوريا، فهي تضر بموقف البلاد خارجياً وتضعها في موقف صعب في ظل التلويح بإمكانية تمديد العقوبات المتبقية.
لكن مواجهة هذا التحدي تتطلب أكثر من مجرّد النفي أو التبرير، بل تحتاج إلى تطوير خطاب إعلامي وطني موحّد، يعكس الواقع بمصداقية، ويدافع عن مصالح البلاد دون الوقوع في فخ الخطابات الانفعالية، كما تبرز الحاجة إلى تبني استراتيجية إعلامية دولية فعالة، تتيح شرح مواقف الدولة بلغة عقلانية مقنعة، بعيداً عن الشعارات.
وفي ذات السياق، فإن إثبات الجدية في محاسبة المتورطين في الانتهاكات، وتعزيز الشفافية، سيعززان من ثقة الداخل والخارج في نوايا الدولة الوليدة، ويفتحان الباب أمام استعادة الشرعية الأخلاقية والسياسية في نظر المعنيين، فالأمن وحده لا يكفي، ولا بد من موازنة دقيقة بين متطلبات بسط السيادة وضرورات احترام الحقوق والحريات.
لقد أثبتت هذه الأزمة، رغم صعوبتها، وجود رأي عام عربي متضامن مع وحدة سوريا واستقرارها، وهو ما ينبغي البناء عليه بتقوية العلاقات مع الشعوب العربية، وتفعيل دور الجاليات السورية في الخارج، لمواجهة حملات التشويه والتضليل المنتشرة في الفضاء الإعلامي العالمي.
بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري