الإصداراتالتقارير الموضوعيةوحدة تحليل السياسات

“ممر داوود”: أحلام “تل أبيب” الجيوسياسية في مواجهة إرادة أصحاب الأرض

تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري

مُلخّص:

يمثل ما يُعرف بـ “ممر داوود” تصورًا جيوسياسيًا “إسرائيليًا” يستهدف رسم خريطة نفوذ جديدة في قلب المشرق العربي، يمتد من الجولان السوري المحتل مرورًا بجنوب وشرق سوريا، وصولًا إلى كردستان العراق. ويقوم هذا المشروع كما يتضح من المؤشرات والتحركات المتزايدة على تطويع الكيانات المحلية الهشة في الجنوب والشمال الشرقي السوري، لصالح مسار استراتيجي يهدف إلى تأمين منفذ بري لـ”إسرائيل” نحو العراق، وربما أبعد إلى حدود إيران، ضمن سياق متكامل لاختراق العزلة الجغرافية للكيان الغاصب، وتكريس واقع إقليمي جديد.

ينبع هذا المخطط من جذور أيديولوجية ضاربة في عمق الفكر الصهيوني العقدي، ويتغذى على متغيرات النزاع السوري، حيث تسعى “إسرائيل” إلى استثمار لحظة التحول، وسقوط نظام الأسد، لإعادة رسم الجغرافيا السياسية على أسس طائفية وعرقية، ويعتمد المشروع على تكتلات محلية يتم صناعتها بدعم خارجي، تمثلت في “المجلس العسكري في السويداء”، والتحالف مع قوات “قسد”، مع دعم أميركي غير مباشر، وتنسيق “درزي–إسرائيلي” يعيد إحياء ما يُعرف بـ”حلف الدم”، في استدعاء واضح للرموز الدينية والولاءات الطائفية على حساب الهوية الوطنية السورية الجامعة.

وعلى الرغم من الزخم الإعلامي والسياسي الذي يُحيط بالمشروع، إلا أن تنفيذه يصطدم بجملة من التحديات الكبرى، من أبرزها رفض الأكثرية الشعبية السورية، والاصطفاف الإقليمي الحاسم ضده، خاصة من قبل تركيا، إلى جانب هشاشة البيئة الأمنية على امتداد خط الممر، وغياب التوافق بين الفرقاء المحليين، فضلاً عن التباين داخل البيت الكردي بين سوريا والعراق، كما يفتقر المشروع لأي غطاء شرعي دولي، ويظل عرضةً للاستنزاف، وربما الانهيار، على غرار تجارب مشابهة في لبنان، وكردستان العراق، وأفغانستان، حيث أثبتت الوقائع هشاشة الاتكاء على التحالفات الخارجية.

إن اللحظة الراهنة في سوريا، بكل تعقيداتها، تفرض على القوى الوطنية الترفع عن الإغراءات المرحلية، والانخراط في مسار سياسي يعيد بناء الدولة على أسس المواطنة والعدالة واللامركزية الإدارية الحقيقية (لا التقسيمية وفق أجندات خارجية). فالتجارب التاريخية تُظهر أن “إسرائيل” وعموم القوى الخارجية تتخلى سريعاً عن عملائها حين تنقضي مصالحها، وأن الشعوب وحدها، بوحدتها وتماسكها، قادرة على صدّ المشاريع العابرة، مهما بدت مغرية أو محمية بالدعم الخارجي.

مقدمة:

“ممر داود” (David’s Corridor) ) هو تصوّر إستراتيجي لممر بري يُعتقد أن “إسرائيل” تسعى إلى إنشائه عبر سوريا وصولاً إلى العراق. يقوم هذا الممر بربط الأراضي التي تسيطر عليها أو تحظى بدعم مباشر أو غير مباشر من “إسرائيل”، انطلاقاً من الجولان السوري المحتل جنوباً، مروراً بمحافظات جنوب سوريا: القنيطرة، ودرعا، والسويداء المحاذية للأردن، ثم امتداداً شرقاً عبر البادية السورية نحو قاعدة التنف عند مثلث الحدود السورية–الأردنية–العراقية، وصولاً إلى مناطق سيطرة “قسد” في شمال وشرق سوريا، وانتهاءً بإقليم كردستان العراق[1].

بعبارة أخرى، يتشكّل الممر من شريط جغرافي يمتد من مرتفعات الجولان غرباً حتى نهر الفرات شرقاً، بهدف تأمين منفذ بري لـ”إسرائيل” نحو عمق المنطقة، وصولًا إلى حدود إيران. وتصف بعض التقارير هذا الممر بأنه سيفضي فعليًا إلى نشوء “سوريا بديلة”، تمتد على رقعة واسعة من الجنوب والشرق السوري، تحت وصاية أو نفوذ “إسرائيلي” غير مباشر، ما يمنح “إسرائيل” فرصة لاختراق الخارطة الإقليمية وكسر عزلتها الجغرافية من خلال منفذ بري فعّال[2].

وفق التصوّر المتداول، يُفترض إنشاء كيان درزي ذاتي موالٍ لـ”إسرائيل” ليمر الممر منه ليصل إلى مناطق شرق الفرات الخاضعة لسيطرة “قسد”، المدعومة من الولايات المتحدة. في المرحلة الأخيرة، يمتد الممر إلى داخل الأراضي العراقية، ليرتبط بإقليم كردستان العراق، الذي تحظى حكومته بعلاقات جيدة مع”إسرائيل”.

بهذه الطريقة، تأمل “إسرائيل” في إنشاء شريان بري متصل يبدأ من الجولان المحتل، وينتهي في كردستان العراق، بما يتيح لها التمدد جغرافيًا نحو الشرق، والوصول إلى مناطق نفطية واقتصادية، وتحقيق عمق إستراتيجي إقليمي جديد.

جذور الفكرة وسياق تجدُّدها:

إن فكرة الربط البري بين “إسرائيل” وشمال العراق عبر سوريا ليست جديدة كليًا، إذ تستند جذورها إلى طموحات صهيونية قديمة تُعرف بمشروع “إسرائيل الكبرى” الممتد “من النيل إلى الفرات”. وقد ظهر هذا التصور في كتابات ثيودور هرتزل وغيره من مؤسسي الحركة الصهيونية، مستندًا إلى خرائط دينية يهودية تضع أجزاءً من سوريا والعراق ضمن حدود “إسرائيل” التوراتية. ولهذا السبب، يربط بعض الباحثين مشروع «ممر داوود» بهذه الخلفية الأيديولوجية؛ فالاسم ذاته يُحيل إلى النبي داوود عليه السلام ومملكته التاريخية، ويُنظر إليه على أنه تجسيد حديث لحلم توسّع “إسرائيل” باتجاه الشرق[3].

ورغم أن جذور الفكرة قديمة، فإن الظهور الحديث لمفهوم «ممر داوود» كمشروع جيوسياسي تبلور خلال السنوات القليلة الماضية، ضمن سياق تطورات القضية السورية وما أفرزته من مناطق نفوذ. ويبدو بأن هذا المصطلح بدأ بالانتشار في خطاب مراكز الأبحاث والإعلام الإقليمي ابتداءً من عام 2023 تقريبًا. فعلى سبيل المثال، تداولت وسائل إعلام تركية في أواخر ذلك العام معلومات عن خطة “إسرائيلية”–أمريكية لإنشاء ممر سُمِّي بـ«ممر داوود»، ووصِف بأنه “الخطة ب” الأمريكية في المنطقة، لربط “كردستان” بالبحر المتوسط[4].

وقد ظهرت مؤشرات عديدة في الخطاب “الإسرائيلي” خلال عامي 2024 و2025 تتوافق مع مضمون الفكرة، ففي فبراير/شباط 2025، صرّح وزير الخارجية “الإسرائيلي” أن استقرار سوريا مرهون بتحويلها إلى “سوريا فيدرالية” تضم مناطق حكم ذاتي متعددة. وأبدى سخرية واضحة من فكرة تشكيل حكومة انتقالية في دمشق، واصفًا إياها بأنها “جماعة جهادية إرهابية من إدلب” لا ينبغي أن تحكم كل سوريا. ويكشف هذا الموقف عن تفضيل “إسرائيل” لتقسيم سوريا وإضعاف سلطتها المركزية[5].

وقبل تصريح وزير الخارجية “الإسرائيلي”، كان بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء “الإسرائيلي”، قد طالب بجعل جنوب سوريا منطقة منزوعة السلاح بالكامل، ورفض السماح لأي من قوات الحكومة السورية الجديدة أو ما سماها “هيئة تحرير الشام” بدخول محافظات درعا والقنيطرة والسويداء[6]. وفي الوقت نفسه، كشفت صحيفة “يسرائيل هيوم” أن منسق أعمال الحكومة “الإسرائيلية”، اللواء الدرزي غسان عليان، اجتمع بقيادات درزية سورية لتعزيز العلاقات بين الطرفين[7]، وذلك بالتزامن مع قيام “إسرائيل” بتوغلات عسكرية واحتلال أراض سورية جديدة[8].

صدى المشروع في الأوساط “الإسرائيلية” وارتباطه بالتطورات على الأرض:

يمكن ملاحظة نشاط الصحافة والمواقع “الإسرائيلية” في الكتابة عن الموضوع، على سبيل المثال، في الأول من آذار/مارس نشر تقرير عن مبادرة “إسرائيلية”–أمريكية–درزية–كردية جديدة تُعرف باسم “ممر داوود”[9]. ووفقًا للتقرير، تهدف هذه المبادرة إلى إنشاء ممر بري يبدأ من مرتفعات الجولان الموسعة، ويمر عبر مناطق “سنيّة” موالية لـ”إسرائيل” في جنوب سوريا (والتي سيطر عليها الجيش “الإسرائيلي” مؤخراً)، وصولًا إلى محافظة السويداء التي وصفها التقرير بـ”الدرزية”، والتي من المتوقع – بحسب التقرير – أن تتحول بحكم الأمر الواقع إلى منطقة حكم ذاتي ذات قوة عسكرية مستقلة.

من هناك، وبحسب التقرير، يمتد “الممر” – في قفزة طويلة ومعقدة تتطلب مواجهة تنظيم “داعش” ومجموعات مشابهة – نحو مناطق الحكم الذاتي الكردية في “روج آفا” شمال سوريا. ويفترض في حال نجاح هذا المشروع، أن يشكل محورًا جديدًا بديلًا داخل سوريا، يُستخدم كممر لنقل السلاح والتمويل بين “إسرائيل” ومن وصفهم الموقع بـ”الأكراد” في العراق وإيران.

اللافت في التقرير إشارته إلى نية “إسرائيل” المحتملة دعم مجموعات كردية داخل إيران، بالتزامن مع التصعيد العسكري “الإسرائيلي”–الإيراني. وهو ما قد يُفهم كاستراتيجية جديدة تعتمدها “إسرائيل” في مواجهة إيران، من خلال دعم مجموعات مناهضة لها بنفس الأسلوب الذي تتبعه إيران بدعم مجموعات معادية لـ”إسرائيل”.

وفي السياق ذاته، ذكر التقرير أنه قد تم تعيين رجل معروف بعلاقاته الطيبة مع “قسد” رئيسًا لما وصفه الموقع بـ “قوات الأمن الدرزية الموحدة الجديدة في جنوب سوريا”، في إشارة إلى العقيد المنشق عن النظام طارق الشوفي، رئيس “المجلس العسكري في السويداء”، وهو ما أكدته تقارير ومصادر متعددة.

وتشير تلك المصادر إلى أن “المجلس” تم تشكيله بالتنسيق مع “قسد”، المدعومة من الولايات المتحدة، ويحظى بدعم لوجستي من التحالف الدولي، وتوضح أن “المجلس العسكري” يتبنى رؤية انفصالية تحت مسمّى “الإدارة الذاتية” أو “اللامركزية الإدارية”، ويتخذ موقفًا عدائيًا صريحًا من حكومة دمشق، حيث يهاجمها الشوفي باستمرار ويصفها بـ”سلطات الأمر الواقع”[10].

وقد أعلن المكتب السياسي لـ”المجلس العسكري” عدم اعترافه بالحكومة الانتقالية، واصفًا إياها بـ”حكومة اللون الواحد”، كما رفض الإعلان الدستوري الصادر عن دمشق، مطالبًا بإقامة نظام حكم “علماني ديمقراطي لا مركزي”. وهي مطالب تتقاطع مع رؤية “قسد” لتكريس اللامركزية بصيغة فيدرالية[11].

كما تبنّى “المجلس العسكري” علمًا خاصًا به يحمل خريطة سوريا، هو نفسه الذي تستخدمه “قسد”، مع تعديل يبرز محافظة السويداء بنجمة خماسية درزية. وقد أعرب عن استعداده للتعاون مع “قسد”، مشيدًا بها كقوة “دافعت عن أرضها وشعبها ضد الإرهاب والدكتاتورية”، وأعلن المجلس تأييده لطلب الحماية الدولية الذي تقدم به حكمت الهجري، الرئيس الروحي للطائفة الدرزية، عقب أحداث جرمانا وأشرفية صحنايا في ريف دمشق[12].

وقبل ذلك، في 12 من كانون الأول/ديسمبر 2024، أي بعد أربعة أيام فقط من سقوط نظام الأسد، نشرت صحيفة “إسرائيلية” مقالاً حول ذات الموضوع[13].

يتحدث المقال عن “حلم” إنشاء ممر بري يمتد من “تل أبيب” عبر جنوب سوريا، وصولًا إلى كردستان العراق، بوصفه مشروعًا استراتيجيًا يجمع بين “الدروز” في الجنوب السوري، والأكراد في الشمال الشرقي، بدعم مباشر من “إسرائيل” والولايات المتحدة. ويعرض الكاتب رؤية خيالية تستند إلى “واقع جديد” نشأ بعد سقوط الأسد، حيث يمكن للسيارات “الإسرائيلية” المرور عبر الجولان ثم إلى بلدات درزية “مزدهرة”، ومنها إلى مناطق الحكم الذاتي الكردي.

ويؤكد المقال صراحةً على:

  • الدور المركزي للدروز في جنوب سوريا، الذين يُقدَّمون كحلفاء لـ”إسرائيل”، ويتلقّون دعمًا أمنيًا وسياسيًا مباشرًا منها، خصوصًا بعد مقتل سبعة أطفال دروز في مجدل شمس في هجوم نُسب إلى “حزب الله”.
  • التحالف بين الدروز و”قسد”، حيث يشير الكاتب إلى تعاون فعلي في مواجهة ما يسميه “التطرف السني”، وتمهيدًا لمشروع “فيدرالي” يربط بين الكيانين.
  • الفوائد الاقتصادية الكبرى للممر الجديد، من خلال ربط ميناء حيفا بأنابيب نفط قادمة من كردستان العراق، بعد توقف تصدير النفط عبر تركيا، مما يحوّل شمال “إسرائيل” إلى مركز لوجستي ينافس قناة السويس.
  • دعم الولايات المتحدة المحتمل، سواء سياسيًا أو ماديًا، لتنفيذ المشروع، لما فيه من تعزيز لأمن سلاسل التوريد العالمية وتقويض النفوذ الإيراني في المنطقة.

ويقر الكاتب بأن المشروع سيواجه تحديات أمنية كبيرة، لكنه يرى أن “إسرائيل” تمتلك القدرة العسكرية والتكنولوجية التي تؤهّلها لقيادته، بمساعدة “الدروز والأكراد” كحلفاء طبيعيين يتشاركون نفس “القيم” والخصوم، بحسب تعبيره.

ويختم الكاتب مقاله باستدعاء مقولة هرتزل: “إذا شئت، فليس ذلك حلمًا، لدى إسرائيل والولايات المتحدة والتحالف الدرزي الكردي فرصة لتحويل هذا الحلم إلى حقيقة. الآن هو وقت التحرك”[14].

كل  المؤشرات السابقة تُظهر تنسيقًا عالي المستوى بين “المجلس العسكري” في السويداء، والهجري، و”قسد”، والتحالف الدولي، و”إسرائيل”.

 وقد نشط الحديث عن المشروع في سياق أحداث السويداء الأخيرة، وهو ما سوف نتناوله في الفقرة اللاحقة.

تنامي الحديث عن المشروع بالتزامن مع أحداث السويداء:

تصاعد الحديث بشكل لافت عن هذا المشروع أثناء تفاقم الأزمة في السويداء، وكان من اللافت دعوة حكمت الهجري إلى فتح معبر دولي بين السويداء والأردن، وفتح الطرق التي تربط السويداء بمنطقة شرق الفرات شمالًا[15]، وهي المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد”. ويُعدّ ذلك مؤشراً واضحاً على وجود نية جدية للعمل على تنفيذ هذا المشروع، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار علاقة الهجري مع “إسرائيل” عبر موفق طريف، شيخ الطائفة الدرزية في “إسرائيل”.

وكان الهجري قد طالب بشكل واضح بدعم نتنياهو، في خطوة مستهجنة ومستغربة، وعكست تقارباً غير مسبوق بينه وبين الجهات الداعمة لهذا المشروع[16].

ومع اندلاع الاشتباكات في السويداء وتصاعدها، وفي سياق الحديث عن “ممر داوود” المرتبط برؤية دينية توراتية تستند إلى مفاهيم “إسرائيل الكبرى”، أُثير أيضاً ربط هذا المشروع بالمعتقدات الدينية للطائفة الدرزية، من خلال ما يُعرف بـ”حلف الدم”؛ وهو تحالف عقائدي تُقدّمه الأوساط الدرزية و”الإسرائيلية” كميثاق ديني وتاريخي، يُلزم “إسرائيل” بالدفاع عن الدروز[17].

تستند هذه العلاقة إلى رواية دينية تفيد بأن “النبي موسى” التقى بشعيب (الذي يُعد في العقيدة الدرزية أحد أركان التوحيد)، ما يُضفي على العلاقة بعدًا روحانيًا يتجاوز المصلحة السياسية إلى “عهد حياة”، وفق دراسة صادرة عن المركز الفلسطيني للدراسات “الإسرائيلية”. وقد تأسس هذا الحلف رسميًا عام 1956 بدعوة من بن غوريون، حين وقّعت “إسرائيل” اتفاقًا مع 16 زعيمًا درزيًا لفرض الخدمة العسكرية الإلزامية على الدروز، ما جعلهم ينخرطون لاحقًا في وحدات عسكرية وأمنية، حتى وصل بعضهم إلى مناصب رفيعة، مثل غسان عليان (وقد ذكرنا سابقاً أنه كلف بتحسين الاتصالات مع المكون الدرزي السوري). وكان ذلك جزءًا من رؤية صهيونية تعتبر الدروز “مختلفين عن باقي العرب”، ويمكن التحالف معهم ضد الأغلبية المسلمة[18].

وفي تموز/يوليو 2025، عادت هذه العلاقة إلى الواجهة مع تصاعد المواجهات في السويداء، حيث انتقد الشيخ موفق طريف (زعيم الدروز في “إسرائيل”) تقاعس حكومته عن “نصرة أشقائهم في سوريا”، واعتبر الصمت الرسمي “خيانة لحلف الدم”. ونقلت مصادر “إسرائيلية” بحث إدخال مقاتلين دروز من الجيش “الإسرائيلي” للقتال في سوريا “لدعم إخوتهم في السويداء”[19].

كما أصدر مكتب نتنياهو بيانًا في 15 تموز/يوليو، أكد فيه التزام “إسرائيل” بـ”منع إيذاء الدروز في سوريا”، انطلاقًا من “العلاقة الأخوية العميقة” مع دروز “إسرائيل”، وروابطهم التاريخية والعائلية مع دروز سوريا[20].

وبالتالي، فإن مقدمات صناعة هذا المشروع، من خلال تعبئة المعتقدات الدينية وتوظيفها، يجري إعدادها بطريقة تشبه إلى حد كبير الأساليب التي استُخدمت في المشروع الصهيوني، والذي قامت على أساسه دولة “إسرائيل” أصلاً.

الأهداف “الإسرائيلية” من مشروع “ممر داوود”

يمكن من خلال الاطلاع على ما سبق، استنتاج الأهداف “الإسرائيلية” التي تقف خلف الدفع بمشروع “ممر داوود”، والتي تتجاوز الطابع العسكري أو الأمني، لتُشكّل منظومة طموحات جيوسياسية واقتصادية وعقائدية متكاملة، ويمكن تلخيص أبرز هذه الأهداف فيما يلي:

1. إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية لصالح “إسرائيل”:

تهدف “إسرائيل” من خلال هذا المشروع إلى إعادة هندسة المشرق العربي، ولا سيما سوريا والعراق، بتحويلهما إلى كيانات ضعيفة مُفكّكة تفتقر إلى مركزية الدولة. فبهذا التفتيت، تضمن “إسرائيل” القضاء على أي جبهة موحدة يمكن أن تشكّل تهديدًا تقليديًا لها، ويُعاد إحياء ما يُعرف بـ”إستراتيجية الجدار الواهن”[21]، القائمة على دفع الدول المحيطة بها إلى التآكل الداخلي.

2. تعميق العمق الأمني ونقل جبهة الصراع إلى الداخل السوري:

يسعى المشروع إلى توسيع الفضاء الاستراتيجي لـ”إسرائيل”، بحيث لا تدور المواجهات العسكرية على حدودها، بل في عمق الأراضي السورية. فمن خلال إنشاء هذا الممر، تتيح “إسرائيل” لنفسها فرصة التعامل مع أي تهديدات يمكن أن تتطور مستقبلاً داخل سوريا وغرب العراق، بعيدًا عن الجليل أو النقب أو الجولان المحتل. كما أن وجودها العسكري أو الاستخباراتي في نقاط مثل البوكمال والبادية السورية يمكّنها من استهداف خطوط الإمداد الإيرانية، وعرقلة ما تسميه “الجسر البري الإيراني” بين طهران وبيروت، وفق هذا المنظور، ليس مجرد ممر بري، بل امتداد لحزام أمني مرن يخترق عمق سوريا وصولًا إلى الحدود العراقية، كما أنه يمنع تمدد النفوذ التركي في المنطقة، وتطور سوريا لتكون دولة قوية تطالب بحقوقها في الأراضي المحتلة.

3. توسيع دائرة الحلفاء وتطويق الخصوم الإقليميين:

يرتكز المشروع على إحياء “إستراتيجية التحالف مع الأطراف أو ما يُسمى بالمبدأ المحيطي، التي طالما اعتمدتها “إسرائيل” منذ الخمسينيات، والقائمة على التحالف مع الأقليات والجماعات غير العربية في مواجهة الأغلبية السنية العربية[22]. من خلال توثيق العلاقة مع “الأكراد والدروز”، تعمل “إسرائيل” على تطويق محور إيران–سوريا من جهة، وتهديد الخاصرة الجنوبية لتركيا من جهة أخرى، فالممر يمنح دعمًا معنويًا وماديًا لطموحات الانفصال الكردية، ويُقوّض النفوذ التركي في الشمال السوري والعراقي.

4. السيطرة على مصادر الطاقة وتحقيق المكاسب الاقتصادية:

يمنح الممر “إسرائيل” فرصة نادرة للوصول البري إلى منابع النفط والغاز في شمال شرق سوريا وكردستان العراق، ويمهد الطريق لإحياء حلم قديم بمد خط أنابيب نفطي من كركوك أو أربيل إلى ميناء حيفا على البحر المتوسط. مثل هذا الخط سيُحرر “إسرائيل” من الاعتماد على الممرات النفطية التقليدية عبر تركيا أو الخليج، ويوفر لها إمدادات آمنة ومباشرة بأسعار أقل. إلى جانب ذلك، يتيح الممر فرصًا لتوسيع النشاط التجاري بين “إسرائيل” وشرق سوريا والعراق، سواء من خلال تصدير المنتجات “الإسرائيلية”، أو استيراد المواد الخام، أو حتى التأسيس لمناطق تجارة حرة ومشاريع سياحية على طول الممر. كما يُمكن أن يشكّل منفذًا بريًا لـ”إسرائيل” نحو الأسواق الآسيوية، عبر العراق، في حال استقرت الظروف الجيوسياسية.

5. إحياء الأسطورة الدينية وتعزيز الروح القومية داخل “إسرائيل”:

يحمل المشروع بعدًا رمزيًا عميقًا داخل المجتمع “الإسرائيلي”، خاصة لدى التيارات الدينية والقومية المتشددة. فالوصول شرقًا حتى الفرات يتماهى مع سرديات “الوعد التوراتي” و”حدود إسرائيل الكبرى”، ويُستثمر لتغذية المشاعر القومية والدينية، وتحقيق نوع من الإجماع الداخلي خلف القيادة السياسية في أوقات الحرب أو التوسّع. كما يُستخدم هذا المشروع لتبرير زيادات ضخمة في الإنفاق العسكري، ولقمع أي معارضة داخلية بذريعة “تحقيق الرؤية التاريخية”، وهو ما يحقق أهداف نتنياهو في تصدير أزمته الداخلية والهروب للأمام من خلال محاولة حشد “الإسرائيليين” خلفه بإشعال الحروب والتوسع وتحقيق الإنجازات.

في المجمل، تراهن “إسرائيل” من خلال مشروع “ممر داوود” على مكاسب استراتيجية متشابكة: كسر العزلة الجغرافية، وتحجيم خصومها الإقليميين (وفي مقدمتهم تركيا)، وترسيخ تحالفاتها مع القوى المحلية، والاستفادة من الموارد الطبيعية، وتحقيق غطاء أيديولوجي لمشروعها التوسعي. وهو مشروع يمزج بين الأسطورة الدينية والسياسة الواقعية.

العقبات والتحديات أمام المشروع:

  1. معاداة المشروع للأكثرية في سوريا، والقوة الإقليمية الأهم (تركيا):

 يمثل التحدي الأساسي أمام مشروع “ممر داوود” اصطدامه المباشر مع البنية الديموغرافية والسياسية لسوريا، فالمشروع يتجاهل ويستفز الكتلة السكانية الأكبر في البلاد، وهي الأكثرية العربية السنية والقوى الوطنية الموالية للثورة السورية والداعمة لوحدة سوريا أرضاً وشعباً، والرافضة للتدخلات الأجنبية من عموم المكونات السورية، التي تمثّل العمود الفقري لأي حل سياسي أو ميداني مستقبلي، إضافة إلى موقف الحكومة السورية الانتقالية الرافض بشدة لأي انتهاك للسيادة. إقليميًا، يشكّل المشروع تهديدًا مباشرًا لتركيا؛ القوة الإقليمية المتنامية التي أثبتت قدرتها – عبر تنسيق عملياتي مع دمشق – على تحييد أبرز التهديدات في الشمال السوري، خاصة الجماعات الانفصالية. وتحظى تركيا في هذا المسعى بدعم قطاعات واسعة من الشارع العربي والإسلامي، الذي يرى في الحفاظ على وحدة سوريا هدفًا استراتيجيًا. لذا، فإن أي تحرك لـ”إسرائيل” نحو تأسيس ممر داخل الجغرافيا السورية، سيُواجه بمعارضة شعبية وإقليمية حازمة، ما يضع المشروع في مواجهة بيئة معادية واسعة النطاق.

  1. سياق أمني هش ومسار ملغّم:

 الممر المقترح يمر عبر مناطق تُعد من بين الأكثر اضطرابًا وخطورة في سوريا. فمحافظة درعا، وإن هدأت نسبيًا، ما زالت تمثّل بؤرة توتر تضم خلايا مقاومة ترفض أي وجود لـ”إسرائيل”. أما في الشرق، فبادية الشام لا تزال تعج ببقايا تنظيم “داعش” وجماعات متطرفة، إلى جانب عصابات تهريب وقبائل مسلحة، مما يجعل أي مرور عسكري محفوفًا بالمخاطر. وأي محاولة لـ”إسرائيل” لشق هذا الممر ستكون عرضة لهجمات مباغتة وعمليات تخريب تعرقل المشروع، في ظل طريق طويل تزيد مسافته عن 300 كلم عبر تضاريس قاسية تتطلب جهداً لوجستياً هائلًا.

  1. غياب قوة محلية موحّدة ومتماسكة:

 يعتمد المشروع على التنسيق مع أطراف محلية متعددة: فصائل معينة من دروز السويداء، فصائل المعارضة الجنوبية، مقاتلي العشائر في الشرق، و”قوات قسد” الكردية. غير أن هذه الأطراف لا تجمعها أجندة موحّدة، بل تسود بينها التباينات والصراعات. فالعلاقة بين “قسد” وفصائل المعارضة متوترة تاريخيًا، والدروز منقسمون بين تيارات تقليدية وأخرى شبابية متمرّدة على قياداتها الدينية. هذا التشرذم يجعل من المستحيل تقريبًا تشكيل حلف محلي متجانس، مما قد يضطر “إسرائيل” للاعتماد على قواتها أو على شركات أمنية خاصة، وهو ما يُعرّضها لخسائر ميدانية واستنزاف طويل الأمد، ويجعل المشروع خاسراً وغير مجد.

  1. معضلة الخلاف بين أكراد سوريا والعراق:

 نجاح المشروع يتطلّب ربط شمال شرق سوريا بشمال العراق، لكن العلاقة بين “قسد” وإقليم كردستان العراق متوترة بسبب التباين الأيديولوجي المعروف بين حزب العمال الكردستاني (PKK)، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة البرزاني. هذا التوتر تُرجم إلى إغلاق للمعابر ومنع مرور النفط والبضائع[23]. في ظل هذا الانقسام، سيُعيق أي تنسيق بين الطرفين تمدد “الممر”، خاصة إذا رفضت أربيل مرور عناصر أو دعم عسكري لـ”قسد”. كما أن حكومة بغداد أيضاً تعارض منح “إسرائيل” أو وكلائها موطئ قدم على حدودها.

  1. الموقف الروسي المتذبذب:

 رغم انشغالها في أوكرانيا، لا تزال روسيا طرفًا مؤثرًا في المعادلة السورية. وهي تقف تقليديًا ونظريًا ضد أي وجود مباشر لـ”إسرائيل” داخل سوريا، وتزداد مصالحها ارتباطًا بتركيا بسبب عزلتها بعد حرب أوكرانيا، وكون تركيا أصبحت منفذًا مهمًا لها. من هذا المنظور، فإن أي مشروع “إسرائيلي” على الأرض السورية قد يُواجه مقاومة روسية.

  1. غياب الغطاء الشرعي الدولي:

 مشروع “ممر داوود” يُعدّ انتهاكًا واضحًا لسيادة سوريا ووحدتها، وسيُقابل برفض قانوني أممي. وحتى في ظل ضعف المؤسسات الدولية، قد تستغل دمشق وحلفاؤها هذا الوضع لاستصدار إدانات أو عقوبات ضد أي جهة تشارك في المشروع. وحتى الولايات المتحدة – الحليف التقليدي لـ”إسرائيل” – قد لا تتمكن من منحه شرعية سياسية كاملة دون إطار قانوني دولي. وعليه، فإن المشروع سيظل هشًا وغير معترف به دوليًا، مما يجعله عرضة للانهيار مع أي تغير سياسي إقليمي أو دولي.

  1. شبح الاستنزاف العسكري لـ”إسرائيل”:

 يُعيد المشروع إلى الأذهان تجربة الغزو “الإسرائيلي” للبنان عام 1982، والذي تحول إلى مستنقع مقاومة أجبر “إسرائيل” على الانسحاب بعد 18 عامًا من الخسائر. المشروع الحالي أكثر طموحًا وأصعب من الناحية الجغرافية، إذ يمتد عبر البادية السورية شديدة التعقيد. حتى لو استعانت “إسرائيل” بوكلاء محليين، فوجودها ولو رمزياً سيكون هدفًا مغريًا للمقاومين من مختلف الاتجاهات، وقد يفتح الباب لوجود جماعات جديدة لديها أهداف ضد النفوذ “الإسرائيلي”، مما قد يفضي إلى نقمة داخلية “إسرائيلية” ويقوّض الدعم الشعبي لأي مغامرة طويلة الأمد، خاصة وسط تعثر “إسرائيل” في حل موضوع الأسرى في غزة على الرغم من الاستخدام المفرط والوحشي للقوة وطول أمد الحرب.

وفي هذا السياق، يشكل مصير جيش لحد اللبناني الجنوبي درسًا بالغ الدلالة لأي أقلية أو فئة محلية تفكر بالتحالف مع “إسرائيل”، فبعد أن تأسس هذا الجيش في سبعينيات القرن الماضي بدعم “إسرائيلي” مباشر، وضَمّ في صفوفه غالبية من الطائفة المارونية وبعض الدروز والشيعة، واستخدمته “إسرائيل” كذراع محلي خلال احتلالها لجنوب لبنان؛ إلا أن انهياره المفاجئ بعد الانسحاب “الإسرائيلي” عام 2000 نتيجة الضربات الأليمة التي نفذها “حزب الله”، كشف عن هشاشة هذا التحالف، فغالبية عناصر الجيش إما فرّوا إلى الداخل “الإسرائيلي” حيث تمت معاملتهم بصورة مهينة، أو تم اعتقالهم. هذه التجربة تمثل دليلاً واضحاً على أن “إسرائيل” لا تتردد في التخلي عن شركائها المحليين متى انتفت مصلحتها، ما يُفقد التحالف معها أي ضمانة حقيقية أو مستقبلاً مستقراً[24].

كما مثّل انسحاب قوات البشمركة الكردية من مدينة كركوك في أكتوبر/تشرين الأول 2017 درسًا حيًّا حول هشاشة الاعتماد على التحالفات الخارجية، خاصة في اللحظات المصيرية. فبعد الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان، تحركت القوات العراقية، بدعم مباشر من إيران، وغير مباشر من تركيا لاستعادة السيطرة على المدينة الاستراتيجية، بما فيها حقول النفط. هذا التحرك فَرض على وحدات البشمركة، المدعومة سابقًا من الولايات المتحدة و”إسرائيل” الانسحاب السريع دون مقاومة تُذكَر، خصوصًا في ظل الانقسامات داخل القيادة الكردية بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني.

وبفقدان السيطرة على كركوك، خسرت القوى الكردية أبرز مكاسبها الاقتصادية والسياسية في المناطق المتنازع عليها. لقد كشفت هذه الحادثة عن الطبيعة المؤقتة والدفع الذاتي للمصالح لدى الحلفاء الدوليين، حيث فُسِر الانسحاب الأمريكي “الإسرائيلي” على أنه تخلٍّ في لحظة حاسمة، ما أدى إلى انهيار طموحات الاستقلال الكردي وترك السكان المحليين يواجهون تبعات سياسية واقتصادية قاسية[25].

وبشكل مشابه، وفي مثال أكثر معاصرة، يمكن استحضار مصير قوات الحكومة الأفغانية التي انهارت سريعًا بعد قرار الولايات المتحدة الانسحاب من أفغانستان في أغسطس 2021. فمع غياب الغطاء الجوي والدعم اللوجستي الأمريكي، تلاشت تلك القوات أمام تقدم حركة طالبان، رغم سنوات من الدعم والتدريب الأمريكي المكثف. هذا النموذج يُعزّز المخاوف لدى القوى المحلية المتحالفة مع واشنطن في مناطق النزاع، وعلى رأسها “قسد” في شمال شرق سوريا، فقد سبق أن أشار السفير الأمريكي السابق في سوريا، روبرت فورد، إلى أن الولايات المتحدة قد تنسحب من سوريا في أي وقت، دون أي التزام طويل الأمد تجاه شركائها المحليين. وبالفعل، في عهد الرئيس دونالد ترامب، اتخذت الإدارة الأمريكية قرارًا بالانسحاب الكامل من سوريا، ثم تم تنفيذ الانسحاب بشكل جزئي نتيجة لتوازنات داخلية في مؤسسات صنع القرار الأمريكية. وقد تَركَ هذا الانسحاب المفاجئ قوات “قسد” لمواجهة مصيرها بمفردها في عدة مناطق، وهو ما استغلّته تركيا لتنفيذ عملية “نبع السلام” عام 2019. هذا السيناريو قد يتكرر مستقبلًا، خاصة مع وجود قوة إقليمية كبرى مثل تركيا تمتلك علاقات استراتيجية مع واشنطن، إلى جانب وجود قوة محلية مدعومة بزخم سياسي وثوري شعبي واسع وهي الحكومة السورية الحالية، مما يُضعف فرص “قسد” في الحفاظ على مكتسباتها دون مظلة أجنبية.

  1. تحديات اقتصادية وإنسانية ولوجستية:

 يحتاج المشروع إلى تأمين مسار طويل عبر الجبال والبادية والحدود، وهو أمر يتطلب ميزانية ضخمة لتأمين البنية التحتية، ونقاط الإمداد، والمراقبة الدائمة، كما أن أي انقطاع في سلاسل التموين أو خطوط الدعم سيعني انهيار أجزاء من الممر، ناهيك عن انعكاس المشروع على السكان المحليين، إذ قد يُثير موجات نزوح جديدة، أو مقاومة شعبية ضد التهجير والسيطرة، مما يزيد من التكاليف الأمنية والإنسانية.

كيف يمكن مواجهة مشروع “ممر داوود”؟

لا يمكن التعاطي مع مشروع “ممر داوود” كفكرة محايدة أو مجرد تطور جيوسياسي في محيطنا؛ بل هو مشروع تفكيكي عدواني يتناقض جوهريًا مع مصالح الشعب السوري ووحدة أراضيه، ويُهدد أمن واستقرار المنطقة بأكملها، ومن هذا المنطلق، فإن التصدي له يتطلب رؤية استراتيجية وموقفًا سياسيًا وأخلاقيًا واضحًا، ينطلق من حشد الإرادة الوطنية، ويتبلور في مجموعة من المسارات العملية:

أولًا: رفع الوعي السياسي والتعبئة الفكرية

ينبغي تكثيف العمل الإعلامي والسياسي للتعريف بخطورة المشروع، ليس فقط على سوريا، بل على الأمن الإقليمي والدولي. “إسرائيل” لا تطرح مشروعًا للتنمية أو الاستقرار، بل تسعى لخلق شرق أوسط مجزأ هشّ، تتحكم به عبر وكلاء وهياكل تابعة. هذه الاستراتيجية لا تخدم حتى مصالح حلفائها الغربيين على المدى البعيد، بما في ذلك الولايات المتحدة، التي بدأ بعض مفكّريها يدركون أن استقرار سوريا عبر دولة مركزية موحّدة قد يكون أكثر فاعلية في مواجهة النفوذ الإيراني والصيني، كما أشار بعض أعضاء الكونغرس إلى أن العدوان “الإسرائيلي” يُفضي عمليًا إلى خدمة الصين وإيران[26]، لا الحد منهما.

ثانيًا: تمتين العلاقة مع الحاضنة الشعبية والثورية

لا يمكن لأي مواجهة أن تنجح دون عمق شعبي وطني حقيقي. لقد أثبتت الحاضنة الثورية عبر تاريخها الممتد وعبر محطات حرجة مؤخراً أنها الأكثر تمسكًا بوحدة سوريا، والأكثر استعدادًا لتحمل أعباء التحرير وإعادة البناء. لذلك، يجب العمل على تمكين هذه الحاضنة عبر دعم العدالة الانتقالية، وإتاحة الفرص أمام الكوادر الوطنية والثورية للمشاركة الفاعلة في مؤسسات الحكم الجديد، بما يعزز الثقة والتماسك الداخلي.

ثالثًا: الانفتاح والحوار المجتمعي

من المهم فتح حوارات وطنية حقيقية وشاملة مع مختلف الفئات المجتمعية، بما في ذلك الفئات التي قد تشعر بالتهميش أو تعيش حالة من الشك تجاه المشروع الوطني، ويشمل ذلك النقاش المفتوح حول القضايا الجدلية، مثل بعض البنود الواردة في الإعلان الدستوري، بهدف بناء عقد اجتماعي جديد يتم تبنيه بشكل عرضي ضمن كافة الشعب السوري، ما يجعل الاختراقات للإجماعات الوطنية محدودة ويسهل عزلها.

رابعًا: تعزيز التحالفات الإقليمية والدولية

ينبغي توثيق العلاقات مع الحلفاء الطبيعيين لسوريا، وفي مقدمتهم تركيا والدول العربية، عبر تقديم قراءة واضحة للمخاطر الجسيمة التي يمثلها مشروع “ممر داوود” على الأمن القومي العربي، وعلى استقرار المنطقة، إذ يفتح المشروع الباب أمام تصاعد التطرف العنيف، ويفاقم أزمات النزوح واللجوء، مما يُهدد الجوار الإقليمي والاتحاد الأوروبي على حد سواء.

خامسًا: الحراك السياسي والمدني

من الضروري أن تنخرط الأحزاب السياسية، والتيارات المدنية، ومنظمات المجتمع المدني، في معركة مواجهة المشروع “الإسرائيلي” عبر حملات توعية، وأنشطة ميدانية، وتحالفات عابرة للتيارات، تدعو إلى التماسك الوطني، وتعزز ثقافة التعايش والحوار، وتُعيد الاعتبار للفعل السياسي كوسيلة لبناء الدولة.

سادسًا: بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية الوطنية

لا يمكن مواجهة مشروع تقسيمي، تدعمه أجندات خارجية ومليشيات محلية، دون جيش وطني موحد. المطلوب هو الإسراع في تعزيز المؤسسات الأمنية والعسكرية، والتخلص من ظاهرة الجماعات المسلحة المتعددة، عبر تحقيق إجماع وطني حقيقي على حصر السلاح بيد الدولة وحدها، وإطلاق مسار إصلاح أمني مبني على الكفاءة والشرعية الوطنية.

سابعًا: تعزيز الهوية الوطنية وروح الانتماء

يجب استعادة الروح الوطنية السورية الجامعة، وإعادة الاعتبار لإمكانات التغيير السلمي التدريجي، ضمن أطر الحوار والبناء المشترك، بعيدًا عن الإقصاء والانتقام. إن وحدة السوريين حول مشروع وطني جامع هي السلاح الأقوى في وجه أي محاولة خارجية لفرض واقع تجزئة أو وصاية.

خاتمة:

لطالما اعتمدت الاستراتيجية الاستعمارية، في مراحلها المختلفة، على أدوات تفريق المجتمعات وفق مبدأ “فرِّق تسُد”، وقد عانت سوريا، كما سائر دول المنطقة، من هذا النهج الاستعماري، ومن أدواته ما يسمى بـ”تمكين الأقليات” على حساب الأكثرية، ويمكن وصف ما حدث في سوريا بـ”لعنة تمكين الأقليات” و”تحالف الأقليات”، وهي ظاهرة بدأ زرع بذورها الاحتلال الفرنسي، وامتدت جذورها إلى التدخّلات الاستعمارية إبان الدولة العثمانية، لكنها تجلّت بوضوح  عقب الانفصال بين سوريا ومصر، حين بدأ تحالف الأقليات السيطرة على الجيش السوري، ليتحول ذلك إلى مرحلة سوداء في تاريخ البلاد منذ الانقلاب المشؤوم في عام 1963، حيث اعتمد نظام الأسد لاحقاً على طائفته في إحكام قبضته على الحكم، وجَرّها معه إلى مستنقع العداء مع غالبية الشعب السوري[27].

من هنا، على جميع مكونات الشعب السوري أن تستخلص هذا الدرس جيدًا، وألا تقع فريسة سهلة للمغريات الاستعمارية الجديدة، وفي مقدّمتها المغريات “الإسرائيلية”، فقد أثبتت التجارب أن “إسرائيل” ليست قادرة، ولا راغبة، ولا تملك التزامًا أخلاقيًا حقيقيًا في الدفاع عن من تعتمد عليهم كمرتزقة أو أدوات لحماية أمنها، وسرعان ما تتخلى عنهم عند أول تحوّل، كما فعلت سابقًا مع جيش لحد في جنوب لبنان.

إن الوضع الراهن في سوريا يشكّل لحظة فارقة، فرغم الأخطاء العديدة التي يمكن أن تكون وقعت فيها الحكومة السورية الوليدة، إلا أن هناك فرصة واضحة لفتح باب الإصلاح والتغيير السلمي، دون اللجوء إلى السلاح أو الانخراط في أجندات انفصالية لا تخدم سوى مصالح الأعداء الخارجيين، وهؤلاء لا يريدون لسوريا أن تكون قوية، ولا موحدة، ولا يريدون الخير لها ولا لمكوناتها المختلفة، بل يسعون لإبقائها ضعيفة ومقسّمة، بما يتيح لهم التحكم بمصيرها ومصير مكوناتها، كما يهدفون من خلال ذلك إلى كبح جماح النفوذ الإقليمي المتصاعد، وعلى رأسه تركيا، التي باتت تشكّل ثقلاً يحسب له حساب في معادلات المنطقة.


[1] ما قصة مشروع ممر داوود الإسرائيلي؟، الجزيرة نت، 18/إبريل/2025، الرابط.
[2] David’s Corridor: A Strategic Link from Israel to the Kurds in Iraq and Iran,” NZIV.net (Hebrew-language Israeli military and intelligence commentary website), 27/June/2024, link.
[3] Why Israel’s David’s Corridor project is a threat to Syria’s territorial integrity, Murat Sofuoğlu, TRT Global, July 24, 2025, link.
[4] What is Israel’s Kurdistan project, the David Corridor?, TVNET, 17 December 2023, link.
[5] ساعر: سوريا المستقرة هي سوريا الفيدرالية، المدن، 25 فبراير 2025، الرابط.
[6] المرجع السابق.
[7] المرجع السابق.
[8] شيرين شريف، بي بي سي تقصي الحقائق، ما هي المناطق التي أعلنت “إسرائيل” استمرار السيطرة عليها في جنوب سوريا؟، بي بي سي عربي، 17 فبراير 2025،  الرابط.
[9] نشره موقع Nziv.net، وهو موقع “إسرائيلي” ناطق بالعبرية ذو توجه يميني أمني متخصص في الشؤون العسكرية والاستخباراتية
David’s Corridor: A Strategic Link from Israel to the Kurds in Iraq and Iran,” NZIV.net (Hebrew-language Israeli military and intelligence commentary website), 27/June/2024, link, previous reference.
[10] المجلس العسكري في السويداء: بوابة انفصال بغطاء خارجي أم مشروع وطني؟، العربي الجديد، 4/3/2024، الرابط.
[11] المرجع السابق.
[12] عباس شريفة، المجلس العسكري في السويداء: لماذا تشكل الآن؟، مجلة المجلة الالكترونية، 23 مايو 2025 الرابط.
[13] هي صحيفة “The Jerusalem Post” الإسرائيلية الناطقة بالإنجليزية، والمقال بعنوان: From fantasy to reality: The vision of an Israel-Iraq highway، كتبه الناشط السياسي الموالي لـ”إسرائيل” والمرتبط بدوائر الضغط الأمريكية إريك غالاغرإريك غالاغر هو كاتب رأي ورئيس قسم جمع التبرعات سابقًا في منظمة The Israel Project في واشنطن، وهي منظمة إعلامية داعمة لـ”إسرائيل” في الولايات المتحدة، قبل ذلك، كان يعمل في جماعة الضغط المؤثرة AIPAC، إحدى أبرز منظمات اللوبي الموالي ل”إسرائيل”، مما يعكس مشاركته الطويلة في شبكة العلاقات التي تربط بين “إسرائيل” وصناع السياسة الأميركي، ينظر:
Eric Gallagher Profile, Spotlight on Hate, link: link.
[14] From Fantasy to Reality: The Vision of an Israel–Iraq Highway, The Jerusalem Post, December 12, 2024. Link.
[15] أحمد الحيلة، هذا هو حلم “إسرائيل” الأكبر في سوريا، الجزيرة نت – الآراء، 22 تموز/يوليو 2025، الرابط.
[16] ماذا يريد حكمت الهجري من الحكومة؟، الجزيرة نت – السياسة، 21 تموز/يوليو 2025، الرابط.
[17] نار السويداء وثلج الجولان وحلف الدم”، موقع الجزيرة نت، 20 تموز/يوليو 2025، الرابط.
[18] المرجع السابق.
[19] المرجع السابق.
[20] المرجع السابق.
[21] تقوم استراتيجية “الجدار الواهن” على تصور طرحه عوديد ينون عام 1982، وهو صحفي ومستشار للخارجية “الإسرائيلية” يدعو فيه إلى تفتيت الدول العربية المحيطة بـ”إسرائيل” إلى كيانات طائفية وعرقية ضعيفة ومتصارعة، لضمان بقاء “إسرائيل” الدولة الأقوى والأكثر استقرارًا في المنطقة المضطربة. اعتبر ينون أن التهديد الأكبر لـ”إسرائيل” ليس الدول المعادية، بل “الوحدة” في هذه الدول، ومن هنا جاءت الدعوة لتفكيكها. OdedYinon, “A Strategy for Israel in the 1980s”, Kivunim (Directions), February 1982, Demosophy, Link
[22]  اعتبرت تل أبيب أن مواجهة التهديد، المتمثل في وجود جبهة عربية موحدة، يتطلب إقامة علاقات مع دول غير عربية في المحيط الإقليمي للتغلب على العزلة، واشتهر هذا النهج باسم “عقيدة المحيط”، وظل في طليعة الأجندة الدبلوماسية الإسرائيلية منذ خمسينيات إلى سبعينيات القرن العشرين، ينظر:
عقيدة المحيط الإسرائيلية الجديدة، الجزيرة نت، 26 أبريل 2024، الرابط.
[23] إغلاق معبر سيمالكا إثر خلاف بين “الوطن” و”قسد”، عنب بلدي، 12 أيار/مايو 2023،  الرابط.
[24] «جيش لحد».. «جيش العملاء» الذي صنعته “إسرائيل” ثم تركته في وجه العاصفة، موقع موطني 48، 27 آذار/مارس 2021، الرابط.
[25] أزمة كردستان.. لماذا انسحبت البيشمركة دون مقاومة؟، العربية نت، 18 تشرين الأول/أكتوبر 2017، الرابط.
[26]  الإخبارية السورية, “عضو الكونغرس الأمريكي جو ويلسون عبر منصة X: أؤيد جهود الرئيس ترامب لتهدئة الوضع في سوريا ويجب أن تتوقف الضربات الإسرائيلية”، X، منشور بتاريخ مايو 2025، الرابط.
[27] وفي هذا السياق، كان مركز الحوار السوري أصدر كتاباً بعنوان: إضاءات على إدارة التنوع في سوريا.. في لزوم الوعي الوطني مع المواطنة، حيث حاول هذا الكتاب علاج الموضوع بعد استعراض تاريخه المؤلم، وقدم إضاءات أساسية في هذه القضية، سعياً لتأسيس توافقات كبرى بين المكونات السورية وتأصيلاً لوعي وطني غير طائفي يسمح بوجود مواطنة فاعلة، ينظر:

باحث ومستشار، كتب و شارك في كتابة العديد من الأوراق المتعلقة بالملف السوري. كما عمل مستشاراً وباحثاً في الشأن السوري لدى عدة مراكز سياسات سورية ناشئة، ولدى منظمات دولية. مدرب في مجال أساسيات ريادة الأعمال وأساسيات التحليل السياسي،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى