
السياسة “الإسرائيلية” تجاه سوريا الجديدة.. مفاوضات تحت عدوان مستمر
تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
مقدمة:
تواجه سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد مرحلة مفصلية من تاريخها الحديث، إذ بدأت البلاد تخرج من قبضة نظام استبدادي دام لأكثر من نصف قرن، لتدخل في مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والمخاطر، ولم تقتصر هذه التحديات على الجوانب الداخلية فحسب؛ كضرورة الحفاظ على ما تبقى من مؤسسات الدولة المنهكة، وإطلاق عملية شاملة لإعادة الإعمار، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية، وبناء عقد اجتماعي جديد يُعيد الثقة بين مكونات الشعب السوري، بل امتدت أيضاً لتشمل تحديات خارجية لا تقل خطورة؛ أبرزها الحفاظ على وحدة البلاد الجغرافية والسياسية، في ظل تدخلات إقليمية ودولية تحاول إعادة تشكيل المشهد السوري وفقاً لأجنداتها الخاصة.
وبرز التدخل “الإسرائيلي” كأحد أخطر مظاهر التهديد الخارجي لسوريا الجديدة، فمنذ الساعات الأولى التي تلت سقوط نظام الأسد، لم تُخفِ “إسرائيل” عدوانيتها تجاه سوريا الجديدة، وسارعت إلى انتهاج سياسة عدائية تجاه الداخل السوري، تمثّلت في القصف الجوي الواسع، وتوسيع مساحة الأراضي المحتلة في الجولان، ومحاولات إثارة الفتن الطائفية ودعم قوى انفصالية في سعيٍ واضحٍ لإفساد مسار نهضة سوريا الجديدة بما يخدم أمنها القومي ورؤيتها الإقليمية.
وفي هذا السياق، يهدف هذا التقرير إلى رصد وتحليل التغيرات التي طرأت على الموقف “الإسرائيلي” تجاه سوريا منذ لحظة انهيار نظام الأسد وحتى إعداد هذا التقرير، وطبيعة سير المفاوضات بين سوريا و”إسرائيل”، كما يسعى إلى استقراء التوجهات المستقبلية للكيان الغاصب تجاه سوريا في طورها الجديد، وذلك من خلال تحليل مضمون التصريحات الرسمية وغير الرسمية، وتتبع السلوك العسكري والدبلوماسي “الإسرائيلي”، عبر الاعتماد على مصادر مفتوحة تشمل تغطيات إعلامية، وتقارير وتحليلات سياسية.
عدوان جيش الاحتلال “الإسرائيلي” ضد سوريا الجديدة:
بدأ الجيش “الإسرائيلي” عدوانه ضد سوريا الجديدة بعد ساعات من سقوط نظام الأسد يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، وتمثّل هذا العدوان باحتلال مناطق جديدة في المنطقة العازلة في الجولان وإعلان انتهاء معاهدة فض الاشتباك الموقعة عام 1974، وتنفيذ حملة قصف جوي شملت جميع مناطق سوريا استهدفت فيها مواقع عسكرية ومستودعات سلاح لجيش نظام الأسد البائد بحجة عدم وصول أسلحة استراتيجية إلى أيدي “تنظيمات متطرفة” بحسب الادعاءات “الإسرائيلية”[1]، ووُصفَت هذه الحملة الجوية بأنها أكبر عملية عسكرية جوية في تاريخ “إسرائيل”، واستهدفت تدمير القوة الجوية والبحرية لسوريا بشكل شبه كامل من أجل منع أي تهديد محتمل من سوريا[2].
وفي الوقت ذاته، صرّح نتنياهو قائلاً: “إسرائيل تريد إقامة علاقات مع النظام الجديد في سوريا، لكن إذا سمح هذا النظام لإيران بالعودة إلى ترسيخ وجودها في سوريا، أو سمح بنقل الأسلحة الإيرانية أو أي أسلحة أخرى إلى حزب الله؛ أو سيهاجمنا، فسنرد بقوة”، مع الإشارة إلى أن حكومته ستعمل على إقامة منطقة منزوعة السلاح في الجنوب السوري لمنع “الجماعات الجهادية” من تنظيم نفسها في هذه المناطق[3].
لم تتوقف التصريحات والمواقف “الإسرائيلية” العدوانية بعد ذلك، إذ أعلن نتنياهو ووزير دفاعه كاتس عن بقاء القوات “الإسرائيلية” في جبل الشيخ والمناطق المحتلة حديثاً إلى أجل غير مُحدَّد لحين إجراء ترتيب أمني جديد “يحفظ أمن إسرائيل” بحسب قوله، ووصف كاتس الإدارة السورية الجديدة بأنهم “مجموعة متطرفة تحاول الظهور بمظهر معتدل”، وأن “إسرائيل بحاجة إلى ردعهم قبل أن تزيد قوتهم”[4].
ومع مرور الوقت بدأت تتضح ملامح التوجّهات “الإسرائيلية” تجاه سوريا، إذ أرسلت لجنة “فحص ميزانية الأمن وبناء القوة”، المعروفة باسم لجنة “ناغل”، تقريراً لنتنياهو حذّرت فيه من مخاطر تحالف سوريا الجديدة مع تركيا، وأوصت فيه بزيادة ميزانية الدفاع وتطوير أنظمة الدفاع الجوي وزيادة إمكانيات القوات الجوية تحسّباً لأي صدام مستقبلي مع هذا التحالف المحتمل[5].
وفي أواخر شهر فبراير/شباط 2025، بدأت الحكومة “الإسرائيلية” بإطلاق تحذيرات جديدة للحكومة السورية، إذ قالت إنها لن تسمح بنشر أي قوات جنوب دمشق، وطالبت بنزع السلاح بالكامل في القنيطرة ودرعا والسويداء، كما أشار نتنياهو إلى أنه لن يتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية في جنوب سوريا[6].
وبالتزامن مع هذه التصريحات، بدأ حكمت الهجري، أحد مشايخ عقل الطائفة الدرزية في سوريا، بالمطالبة بتدخل دولي في سوريا بدعوى ضمان إنشاء دولة مدنية “تُمثّل الجميع وضمان فصل السلطات”، وأضاف الهجري أن “قيادة الدولة السورية لم يُظهِروا قدرة على إدارة شؤون البلاد وتشكيل الدولة على أسس صحيحة”[7].
بدأت التصريحات “الإسرائيلية” التي تشير إلى رغبة “تل أبيب” في “حماية الدروز” في سوريا خلال أحداث جرمانا الأولى التي وقعت مطلع شهر مارس/آذار، حيث وقعت اشتباكات بين الأمن العام وفصائل محلية درزية في المنطقة بسبب اعتدائها على دورية للأمن، وصرّح نتنياهو وقتها بأنه أوعز للجيش بالاستعداد للتدخل لحماية الدروز في جرمانا وهدد الإدارة السورية من التدخل، وانتهت الأحداث حينها بعقد اتفاق يقضي بدخول جزئي للأمن العام للمدينة[8].
وفي استمرار لسياستها التي تلعب على الوتر الطائفي، سمحت “إسرائيل” بدخول أكثر من 100 من رجال الدين الدروز السوريين إلى الأراضي المحتلة في “زيارة دينية” استمرت لمدة يومين، ووصفت الزيارة بأنها “تاريخية” كونها الأولى منذ عام 1973، والثانية منذ تأسيس “إسرائيل” عام 1948، وجرت بالتنسيق مع زعيم الدروز في فلسطين المحتلة موفق طريف[9].
كما ظهرت تقارير “إسرائيلية” تشير إلى أن نتنياهو حاول إقناع مسؤولين في الإدارة الأمريكية بعدم الانسحاب من سوريا خوفاً من زيادة قوة الإدارة السورية الجديدة التي تتهمها بالتطرف، وخوفاً من تعاظم النفوذ التركي في المنطقة، كما تواصل نتنياهو أيضاً مع روسيا لإقناعها بعدم الانسحاب من سوريا للسبب ذاته[10].
وفي ظل الحديث عن النفوذ التركي، قصف جيش الاحتلال “الإسرائيلي” قواعد جوية في تدمر وحماة وحمص كان وفد من الجيش التركي قد زارها واطلع عليها تمهيداً لاستلامها وتشغيلها، وبرر جيش الاحتلال “الإسرائيلي” هذا القصف بأنه استباقي لمنع أي تزايد للنفوذ التركي، وإنها لن تسمح بأي خطوة تُقوّض حريتها في العمليات الجوية في المنطقة[11].
كما ظهرت تقارير “إسرائيلية” تشير إلى أن نتنياهو حاول إقناع ترامب والإدارة الأمريكية بعدم رفع العقوبات عن سوريا، وأنه طلب منه فعل شيء للحدّ من النفوذ التركي المتصاعد في سوريا، إلا أن ترامب وإدارته قرروا رفع العقوبات وإجراء لقاء مع الرئيس السوري أحمد الشرع في العاصمة السعودية الرياض دون إبلاغ نتنياهو بذلك، في خطوة عدها محللون “إسرائيليون” إشارة على وجود خلاف في الآراء تجاه الملف السوري بين أمريكا و”إسرائيل”[12].
وعادت التوترات إلى جرمانا وأشرفية صحنايا بريف دمشق في أواخر شهر أبريل/نيسان، ودخلت قوى الأمن العام في اشتباكات عنيفة مع فصائل درزية في هاتين المدينتين، وصعّدت “إسرائيل” من هجماتها هذه المرة بقصف محيط القصر الرئاسي في دمشق، في خطوة وصفتها بـ”التحذيرية” للحكومة السورية من استمرار الهجمات على الدروز في جنوب دمشق[13].
واستخدمت “إسرائيل” حججاً أخرى لمهاجمة سوريا، إذ ادّعت في مطلع شهر يونيو/حزيران أنه جرى إطلاق صاروخين من الأراضي السورية باتجاه الجولان السوري المحتل، تلا ذلك قيام جيش الاحتلال “الإسرائيلي” بقصف محافظة درعا بالمدفعية، وخروج وزير الدفاع “الإسرائيلي” يسرائيل كاتس، بتصريحات هدد فيها الرئيس أحمد الشرع وقال إنه مسؤول مباشرة عن أي تهديد أو إطلاق نار يصيب “إسرائيل”[14].
وفي منتصف يوليو/تموز، اندلعت اشتباكات بين الفصائل الدرزية والبدو في مدينة السويداء، وتطورت الأحداث بعد تعرض قوى الأمن التي دخلت لفض الاشتباك إلى كمين أودى بحياة عشرات من العناصر، ليصل الأمر إلى تدخل الجيش بأسلحته الثقيلة لإنهاء سيطرة الفصائل المحلية الخارجة عن القانون، إلا أن جيش الاحتلال “الإسرائيلي” بدأ بقصف هذه الأرتال، وزاد من وتيرة اعتداءاته بقصف مبنى الأركان في دمشق بعدة غارات جوية وقصف محيط القصر الرئاسي، الأمر الذي أجبر القوات الحكومية على الانسحاب[15]، إلا أن العشائر عادت للهجوم للدفاع عن بدو السويداء الذين تعرضوا لانتهاكات كبيرة على يد الفصائل الدرزية، وبعد أيام من الاشتباكات المستمرة بين الدروز والعشائر جرى توقيع اتفاقية وقف إطلاق نار بين الحكومة السورية و”إسرائيل” برعاية أمريكية[16].
وخلال هذه الاشتباكات أرسلت “إسرائيل” شحنات مساعدات إلى العصابات في السويداء عبر إنزال مروحي[17]، فيما كرر حكمت الهجري وأنصاره المطالبة بفتح ممر “إنساني” مع مناطق “قسد”، بشكل يذكّر بالنوايا “الإسرائيلية” لإنشاء ما يُسمّى “ممر داوود” الذي يصل “إسرائيل” بمناطق سيطرة “قسد” ومناطق كردستان العراق[18].
وفي غضون هذه الأحداث كلها، لم تتوقف قوات الاحتلال “الإسرائيلي” عن اقتحاماتها المستمرة للقرى الحدودية في محافظة القنيطرة، وعن استفزازاتها المتواصلة للأهالي عبر حرق محاصيلهم وقتل مواشيهم وإفساد سبل عيشهم، بل وحتى اختطافهم واعتقالهم بتهمة “التعاون مع إيران”، دون وجود أي دليل يثبت هذه الادعاءات، وبلغت هذه الاعتداءات البرية ذروتها عندما دخلت دورية “إسرائيلية” ريف درعا الغربي، واشتبك معها شباب من أهالي المنطقة، ما أسفر عن مقتل 6 في بلدة كويا و9 في مدينة نوى[19].
بشكل عام يمكن القول إن السياسة “الإسرائيلية” تجاه سوريا الجديدة تقوم على 5 أركان أساسية:
1- التوسع البري وتوسيع المنطقة العازلة وغير العازلة.
2- إشعال نار العداوة بين المكونات السورية.
3 – استخدام ورقة الأقليات كذريعة للتوغل والهجمات في سوريا.
4- شيطنة الإدارة الجديدة.
5 – التفاوض تحت النار لتحقيق التنازلات خاصة نزع سلاح الجنوب السوري.
قراءة في حيثيات السياسة “الإسرائيلية” تجاه سوريا:
تعد السياسة “الإسرائيلية” العدوانية تجاه سوريا الجديدة حلقة جديدة في السياسة “الإسرائيلية” الإقليمية بعد 7 أكتوبر، إذ تسعى حكومة نتنياهو إلى فرض الهيمنة المطلقة على المنطقة بشكل عنيف وتصفية أي خطر أو تهديد محتمل لـ”إسرائيل” في المنطقة.
سعت “إسرائيل” منذ سقوط نظام الأسد إلى تدمير الأسلحة الاستراتيجية ومنظومات الدفاع الجوي وسلاح الجو والبحري السوري، خشية أن ينتقل إلى أيادي الحكومة السورية الوليدة، حيث تُفضّل “إسرائيل” أن تكون الحكومة السورية الجديدة ضعيفة التسليح، لا تملك الأفضلية الساحقة أمام الخصوم المحليين مثل فلول الأسد والفصائل المتمردة و”قسد”، فضلاً عن أن تملك قوة تُمكّنها من ردع الجيوش الأجنبية الطامعة في سوريا.
تملك “إسرائيل” منذ عقود هدفاً استراتيجياً يتمثل في إنشاء حلف أقليات يُساعدها بوجه الأكثرية المسلمة في المنطقة، وقد شهدت المنطقة في تاريخها أمثلة مشابهة مثل الاستعانة بفصائل لبنانية مارونية في اجتياح لبنان عام 1982، ويبدو أن “إسرائيل” تحاول صناعة نماذج مشابهة في سوريا، عبر دعم فصائل درزية وكردية في سوريا بهدف زعزعة استقرارها وجرّها إلى حرب أهلية وتقسيمها في النهاية على أسس طائفية وعرقية.
لم تتوقف التصرفات العدائية “الإسرائيلية” تجاه سوريا رغم مرور أكثر من 8 أشهر على سقوط نظام الأسد، ورغم كل التصريحات وبوادر عدم العداء التي أطلقتها الحكومة السورية الجديدة تجاه “إسرائيل”، و لا يُتوقَّع أن تُغيّر “إسرائيل” من سياستها العدوانية في الوقت الحالي، أو على الأقل طالما بقي نتنياهو في السلطة، إذ لا يثق الجناح المتطرّف من الساسة “الإسرائيليين” بالحكومة السورية الجديدة مهما بدا منها من توجهات، خاصة بعد الصدمة النفسية التي تلقوها في 7 أكتوبر والتي هزت ثقتهم بجميع الأطراف في المنطقة، كما أن “إسرائيل” لا ترى سوريا حالياً في موقع الند الذي تُرجّح المصلحة أن يتم توقيع اتفاقية سلام أو هدنة معه، وتُفضّل إبقاءها في وضعها الضعيف غير المستقر الذي يُتيح لها حرية في الحركة العسكرية والأمنية بشكل أكبر، ويُتيح لها تجنيد عملاء لها من داخل سوريا يُنفّذون لها مخططاتها دون تكاليف بشرية أو مادية عالية.
المفاوضات السورية مع “إسرائيل”:
منذ سقوط نظام الأسد بدأت الإدارة السورية الجديدة بالتأكيد على اتباعها دبلوماسية قائمة على حسن الجوار، مشددة على أن سوريا خرجت لتوّها من حرب مدمرة وأنها لا تسعى للمزيد من الحروب، وأنها لا تريد أن تكون تهديداً لأي أحد، وذلك بالتزامن مع التأكيد على التزام سوريا باتفاقية 1974 وإدانة التوغل “الإسرائيلي” في المنطقة العازلة في الجولان ومطالبتها بالانسحاب نظراً لعدم استمرار ذريعة الوجود الإيراني في سوريا التي كانت “إسرائيل” تدّعي خشيتها سابقاً[20].
لم تُغيّر اعتداءات “إسرائيل” المتكررة من خطاب الحكومة السورية، رغم وقوع ضحايا سوريين من الأمن العام أو من المدنيين، إذ أصرّت وزارة الخارجية على اتباع خطاب تدين فيه الاعتداءات، وتؤكد فيه التزامها باتفاقية 1974، وأنها لن تُشكّل أي تهديد لأي دولة مجاورة بما في ذلك “إسرائيل”[21]، إلا أن تأثير هذا الخطاب كان شبه منعدم، إذ لم تتوقف الاعتداءات أبداً[22].
لكن مع مرور الوقت واستمرار الاعتداءات “الإسرائيلية” رفعت الحكومة السورية حدة مواقفها في بعض المرات، إذ رد الرئيس أحمد الشرع على وزير الدفاع “الإسرائيلي” الذي وصفه بأنه “جهادي متطرف” قائلاً إن “الإسرائيليين” آخر من يتكلم عن الاعتداء على المدنيين، مُذكّراً بجرائم الكيان في غزة ولبنان وسوريا[23]، كما جدد الرئيس الشرع في كلمة في القمة العربية دعمه للشعب الفلسطيني في وجه العدوان “الإسرائيلي” الذي واجهه، وأعلن استعداد سوريا لتقديم الدعم الإغاثي لغزة[24]، وأخيراً بعد قصف القصر الرئاسي ومبنى وزارة الدفاع في دمشق، قال الرئيس الشرع إن الشعب السوري قاتل من أجل حريته، وإنه مستعد للقتال من جديد إذا فُرضت الحرب عليه[25].
حاولت الحكومة السورية استمالة الغرب عامة والولايات المتحدة الأمريكية خاصةً بهدف رفع العقوبات الاقتصادية عن البلاد، وكان من ضمن هذه المحاولات تصدير خطاب مسالم تجاه “إسرائيل”، والتأكيد على عدم تشكيل سوريا الجديدة أي تهديد عليها، بل إن دمشق لم تلغِ تماماً إمكانية التوصل لاتفاقية سلام لكنها استبعدت ذلك في الوقت الحالي بسبب الهجمات “الإسرائيلية”، وربطته بتطبيق اتفاقية فض الاشتباك وانسحاب “إسرائيل” من الجولان[26].
ومنذ شهر مايو/أيار الماضي، بدأت تظهر تصريحات رسمية حول وجود اتصالات غير مباشرة بين سوريا و”إسرائيل” لتخفيف التوتر وإيقاف الاعتداءات[27]، كما ظهرت تسريبات صحفية حول اتخاذ بعض الخطوات التي يمكن أن توصف بأنها مبادرة لتخفيف التوتر بين الطرفين، مثل تسليم أرشيف الجاسوس “الإسرائيلي” إيلي كوهين إلى السلطات “الإسرائيلية”[28].
كما ظهرت بعد ذلك تقارير صحفية أمريكية قالت إن نتنياهو طلب من المسؤولين الأمريكيين التوسّط لعقد مفاوضات مع سوريا للتوصل لاتفاق أمني جديد يُمهّد لعقد سلام شامل في المستقبل[29]، وتوالت بعد ذلك التلميحات “الإسرائيلية” حول احتمال توسع ما يسمى بـ”الاتفاقيات الإبراهيمية” لتشمل سوريا في المستقبل القريب[30]، إلا أن المسؤولين “الإسرائيليين” في الوقت نفسه قالوا إنهم لا يعتقدون أنه يمكن التوصل لاتفاق سلام شامل مع الحكومة السورية الحالية التي تشترط استعادة الجولان بالكامل مقابل عقد السلام مع “إسرائيل”[31].
ومؤخراً بعد أحداث السويداء، انتقلت هذه اللقاءات غير المباشرة إلى مستوى لقاء مباشر بين وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، ووزير الشؤون الاستراتيجية “الإسرائيلي” رون ديرمر، في العاصمة الفرنسية باريس بوساطة أمريكية، وذلك بهدف التوصّل إلى تفاهمات أمنية بين الطرفين بشأن الوضع في جنوب سوريا، وادّعى الإعلام “الإسرائيلي” أنه كانت هناك لقاءات مباشرة قبل هذا اللقاء، إلا أن الجانب السوري لم يؤكد أو ينفي صحة هذه الأخبار[32]، وصرّحت مصادر من وزارة الخارجية بأن الوفد السوري في اللقاء طالب “الإسرائيليين” بالانسحاب من الأراضي السورية المحتلة حديثاً بشكل فوري، ووقف الاعتداء على سوريا، ووقف إثارة النعرات الطائفية والانفصالية بين أفراد الشعب السوري[33].
سعت الدبلوماسية السورية الجديدة بشكل أو آخر لاحتواء التصعيد “الإسرائيلي” ضد سوريا الجديدة وتخفيف أضراره بمساعدة من دول حليفة وصديقة لسوريا، مثل دول الخليج وتركيا وأذربيجان، كما حاولت كذلك الفصل بين التوجهات الأمريكية و”الإسرائيلية” تجاه سوريا عبر إقناع الإدارة الأمريكية برفع العقوبات عن سوريا رغم الاعتراضات “الإسرائيلية” ورغم التوجه “الإسرائيلي” الساعي لتقسيم سوريا على أسس طائفية وعرقية.
لكن في الوقت نفسه، لم تؤد هذه المساعي الدبلوماسية واللقاءات المباشرة مع الجانب “الإسرائيلي” إلى إنهاء الخطر “الإسرائيلي”، ولا إلى إعادة العمل باتفاقية 1974، ولا تزال “إسرائيل” تمارس أعمالها العدائية في القنيطرة وفي السويداء مع استمرار الهجوم الإعلامي المكثف تجاه سوريا، والذي يوحي باحتمال القيام بحملة عسكرية جديدة في المستقبل.
إن السعي السوري نحو تجنّب الحرب والعمل على إعادة البناء لسوريا صحيح في جوهره، لكن في الوقت نفسه من المهم الاستعداد لجميع السيناريوهات المحتملة، والتي من بينها التعرض لهجوم “إسرائيلي” كبير يهدف لاحتلال أجزاء من سوريا أو إسقاط النظام الجديد أو تقسيم سوريا، وهذا الاستعداد يشمل جوانب عديدة، من أهمها السياسي والعسكري والصحي.
تملك سوريا أوراقاً يمكنها استخدامها بوجه الاعتداءات “الإسرائيلية”، واستخدمت الحكومة السورية بعضاً منها مثل التعاون مع دول حليفة للضغط الدبلوماسي على “إسرائيل”، ومحاربة التيارات الانفصالية داخل سوريا، والتهديد بنشوب فوضى في الإقليم سيتضرر منها الجميع في حال زادت وتيرة الاعتداءات “الإسرائيلية” وانعدم الاستقرار في سوريا، كما يمكن العمل على دعم سكان القنيطرة إغاثياً ومعيشياً وتعويضهم عن خسائرهم التي يتعرضون لها بسبب الاعتداءات المستمرة على أراضيهم وأملاكهم، وتسليط الضوء على هذه الانتهاكات إعلامياً ودبلوماسياً لزيادة الضغط على “إسرائيل”.
المستقبل المحتمل للعلاقات وتوصيات حول هذا المسار:
تشير الأنباء إلى احتمال استمرار الاجتماعات بين سوريا و”إسرائيل” في المستقبل[34]، وقد ينظر البعض الى ذلك بشكل إيجابي لتجنيب سوريا مزيداً من العدوان “الإسرائيلي”، إلا أن مدى تقدم هذه العلاقات يبقى محاطاً بالشبهات، خصوصاً في ظل حكومة نتنياهو التي تتبع سياسة عنيفة تهدف لإخضاع جميع دول المنطقة ويرفض أي تقييد لما يسميه “حرية إسرائيل في التحرك في المنطقة”[35].
كما أن حكومة نتنياهو ما تزال تستثمر صدمة 7 أكتوبر التي تلقّتها من غزة بعد أن استوعبتها، وتتحرك في سياستها العسكرية والدبلوماسية بهدف منع أي احتمال لتكرار هذه الصدمة مرة أخرى، عبر فرض السيطرة “الإسرائيلية” المطلقة على المنطقة وإزالة جميع التهديدات المحتملة، وقد صرح الكثير من المسؤولين “الإسرائيليين” بعد تولي الرئيس أحمد الشرع رئاسة سوريا بأنه “يخادع “إسرائيل” عبر إظهار الوجه المعتدل، بينما يضمر في نفسه عداوة لـ “إسرائيل” تجعل سياسته وتوجهاته مشابهة لتوجهات حركة حماس”[36].
يبدو في الظاهر وجود خلاف في وجهات النظر بين أمريكا و”إسرائيل” تجاه سوريا وبعض الملفات في المنطقة، إذ تشير تصريحات المسؤولين الأمريكيين، وخصوصاً المبعوث الأمريكي لسوريا، توم باراك، إلى أن أمريكا تهدف إلى دعم وحدة سوريا واستقرارها مقابل أن تصير حليفاً لها[37]، بينما تسعى “إسرائيل” إلى تفتيت سوريا إلى دويلات طائفية وعرقية عبر دعم الأقليات، بالإضافة إلى إعاقة أي تحالفات استراتيجية لسوريا مع دول الجوار مثل تركيا والسعودية بهدف منع تشكيل تحالف جديد يملأ فراغ الحلف الإيراني ويهدد مصالح “إسرائيل” في المنطقة.
لكن رغم هذا الخلاف الظاهر، والذي وصل إلى درجة وصف ترامب لنتنياهو بـ”المجنون” بعد قصف مبنى الأركان والقصر الرئاسي في دمشق مؤخراً[38]، ورغم الخلاف الظاهري بينهما في ملفات أخرى مثل الحرب في غزة والحرب “الإسرائيلية” على إيران، لا يُلاحظ قيام أمريكا باتخاذ خطوات فعلية لإعاقة “إسرائيل” عن تنفيذ ما تريده، ما يشير إلى احتمالَين؛ أحدهما هو أن الخلاف بينهما لم يصل بعد لدرجة عرقلة خطط ومصالح بعضهما البعض، وإنما مجرد خلاف يمكن تجاهله والتغاضي عن التصرفات التي لا تروق للطرف الآخر، أو أن الولايات المتحدة ليست في وارد الضغط الشديد على “إسرائيل” للحد من تصرفاتها؛ إنما تترك لها هامش المناورة العسكرية لرسم سياساتها تحت النار وإجبار دمشق على تحقيق ما أمكن من التنازلات عند وقوع أي مفاوضات خاصة ما يتعلق بنزع السلاح من جنوب سوريا. كذلك: هناك من يرى أن أمريكا و”إسرائيل” يؤديان دورَيهما عن اتفاق، بحيث تستدرج أمريكا الطرف المعادي لـ”إسرائيل” بوعود جذابة، فيما تباغت “إسرائيل” هذا الطرف بهجوم كبير مثلما حدث في الحرب على إيران، حيث هاجمت “إسرائيل” بشكل مباغت في الوقت الذي كانت إيران تستعد فيه لجولة جديدة من المفاوضات مع أمريكا حول البرنامج النووي.
ومما يشير إلى وجود احتمال لتصعيد “إسرائيلي” عسكري وشيك ضد سوريا كثافة الأخبار التحريضية التي تستهدف سوريا وحكومتها الجديدة في وسائل الإعلام “الإسرائيلية”، الأمر الذي قد يكون تهيئة للرأي العام “الإسرائيلي” لهذا الهجوم المحتمل، كما يمكن أن تكون تهدئة الدروز “الإسرائيليين” وضمان ولائهم للدولة سبباً إضافياَ لكثافة نشر هذه الأخبار بعد أحداث السويداء الأخيرة.
تشير التجارب إلى أهمية عدم الثقة الكاملة في تصريحات المسؤولين الأمريكيين[39]، وعدم الاعتماد الكامل على الاتفاقيات التي تُوقَّع مع “إسرائيل”[40]، إذ يشير التاريخ خصوصاً في النماذج القريبة التي وقعت مؤخراً إلى أن التصريحات الأمريكية قد تكون استدراجاً إلى فخ محتمل يتمثل في إلهاء الحكومة السورية بتصريحات جذابة دون تقديم دعم فعلي ملموس لحين تنفيذ الخطة “الإسرائيلية” المتمثلة في دعم الكيانات الانفصالية داخل سوريا أو شن حرب على سوريا، وإلى أن “إسرائيل” لا تلتزم بالاتفاقيات، مثلما خرقت الاتفاق الذي وقّعته مع “حزب الله” منذ أشهر مئات المرات دون أن يتمكن الطرف الآخر من إيقافها عن هذه الخروقات.
واليوم في ظل المشاورات السورية مع “إسرائيل” حول توقيع اتفاق أمني يُجدّد اتفاقية 1974 لم يتوقف جيش الاحتلال “الإسرائيلي” عن توغلاته البرية في محافظة القنيطرة، ولم يتوقف عن إيصال الدعم للعصابات الخارجة عن القانون في السويداء، وما زال وزراء في حكومة “إسرائيل” يُهدّدون علناً باغتيال الرئيس أحمد الشرع وإسقاط نظامه[41].
وفي هذا الصدد يمكن تقديم مجموعة من التوصيات حول هذا المسار واحتمالات تطوّره أو تعثره:
- أهمية الحفاظ على وحدة الشعب السوري بجميع طوائفه ومكوناته من أجل إفساد المخططات “الإسرائيلية” التي تهدف لتقسيم البلاد وترسيخ الشروخ الطائفية بين أفراد الشعب الواحد، إذ إن النجاح في الحفاظ على وحدة البلاد يعد أبرز انتصار بوجه “إسرائيل” في المرحلة الحالية.
- تكثيف حدة خطاب الدبلوماسية السورية والإعلام السوري الرسمي وشبه الرسمي تجاه “إسرائيل” والتشهير باعتداءاتها شبه اليومية التي تحدث في محافظة القنيطرة، وإثارة هذه القضية في المحافل الدولية.
- تقديم الدعم الإغاثي والتنموي لسكان القنيطرة لدعم صمودهم بوجه عدوان جيش الاحتلال “الإسرائيلي” الذي يستهدف سبل عيشهم عبر إفساد محاصيلهم وقتل مواشيهم.
- زيادة عدد وحجم المظاهرات الشعبية المنددة بالعدوان “الإسرائيلي”، وجعلها شبه دورية (في كل يوم جمعة مثلاً) في ساحات المدن الرئيسية، بحيث يكون لدى الوفد السوري الذي يفاوض “إسرائيل” دعماً شعبياً قوياً يقوي من موقفه في طاولة المفاوضات، ويمنعه من تقديم تنازلات قد يضغط الجانب “الإسرائيلي” لتحقيقها، مثل مسألة التخلي عن الجولان السوري المحتل، أو نزع سلاح الجنوب السوري بالكامل.
- إعادة هيكلة الجيش والأمن ورفع كفاءة منسوبي القوات المسلحة والتحقق بشكل دوري من مدى جاهزيتهم وانضباطهم وامتثالهم للأوامر والتعليمات الصادرة عن القيادة وإيقاف التصرفات الفوضوية، والذي قد يؤدي لخروقات استخباراتية لمصلحة أطراف معادية.
- دراسة أساليب الحرب التي يتبعها الجيش “الإسرائيلي” ومعرفة نقاط قوتها وضعفها، وتحليل السلوك السياسي للحكومات “الإسرائيلية” في حروبها السابقة.
- السعي للحصول على تسليح فاعل، سواء عن طريق الدول الصديقة مثل تركيا أو بطرق أخرى، بشكل سريع وتوقيع اتفاقيات دفاع مشترك، وذلك تحسباً لأي طارئ قد يحدث في ظل التصعيد الإعلامي “الإسرائيلي” ضد سوريا والذي ينذر باحتمال تصعيد عسكري في المستقبل القريب.
- الحذر من أي اختراق استخباراتي “إسرائيلي” في عمليات شراء وتخزين الأسلحة والذخيرة قد يتسبب بهجمات مشابهة لتفجيرات “البيجر” التي استهدفت “حزب الله”، إذ إن الجيش “الإسرائيلي” يباغت في قرار الحرب ويعمل على تحقيق ضربة قوية استباقية تضعف خصمه نفسياً وتدخله في حالة ارتباك.
- العمل على تجهيز الشعب لحالات الطوارئ، عبر تكثيف الدورات التعليمية في مجالات الإسعاف الأولي والإنقاذ وتقديم الخدمات اللوجستية، ويمكن أن يتم ذلك بدعم من منظمات المجتمع المدني.
صحيح أن الوضع في سوريا يحتاج اليوم إلى تضافر الجهود من أجل إعادة الإعمار وتنمية البلاد اقتصادياً كهدف أساسي في هذه المرحلة، لكن لا يجب إغفال وجود عدو شرس يتربص في الجوار ويحيك المؤامرات ويتحيّن الفرصة للانقضاض على البلاد، ويجب تنبيه وتذكير الرأي العام الشعبي بهذا الخطر، والاستعداد لكافة الاحتمالات، وعدم الثقة المطلقة بالوعود الأمريكية والوساطات الإقليمية التي لن تغني شيئاً في حال قررت “إسرائيل” شن حرب ضد سوريا.
بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري