
مؤتمر “قسد” في الحسكة.. الرسائل والأبعاد والسيناريوهات
تمهيد:
في 8 آب 2025، عقدت “الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا” -الذراع السياسي والإداري لـ “قسد”- مؤتمراً تحت شعار: “وحدة الموقف لمكونات شمال شرق سوريا”، لكن ما بدا في العنوان كمسعى جامعٍ لـ “مكونات شمال شرق”، تحوّل في المضمون إلى منصة ظهرت وكأنها “تحالف أقليات” أو هكذا تم وصفها من السوريين عموماً، حيث جرى حشد أطراف من خارج شمال شرق سوريا سمتها الرئيسة أنها تشترك في مواقفها المناهضة للحكومة السورية الجديدة، مثل حكمت الهجري أحد شيوخ عقل الطائفة الدرزية في السويداء، وغزال غزال الذي يُصدّر نفسه كمتحدث باسم العلويّين السوريين بمسمى رئيس “المجلس الإسلامي السوري العلوي”.
نظّمت “قسد” المؤتمر في توقيت حساس، حيث جاء بعد أسابيع قليلة من الأحداث الدامية التي شهدتها السويداء[1]، وفي نفس الوقت الذي تستمر فيه مفاوضات الاندماج مع الحكومة السورية الجديدة وفق اتفاق 10 آذار الموقّع بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي، الأمر الذي يفتح الباب أمام مجموعة من التساؤلات لعلّ أهمها؛ طبيعة الرسائل السياسية الكامنة وراء المؤتمر، وأثره المحتمل على المشهد الميداني والسياسي في سوريا قياساً مع الظروف التي مرت بها المنطقة، خاصة مع إعلان الحكومة السورية إلغاء اجتماع باريس الذي كان مُقرّراً مع “قسد” وتأكيدها على أن مؤتمر الحسكة يُعدّ “ضربة” لجهود المفاوضات الجارية، وأن دمشق لن تتفاوض مع أي طرف “يسعى لإعادة النظام البائد تحت أي غطاء أو مسمى”[2].
بناء عليه، يحاول هذا التقرير استعراض طبيعة الأطراف المشاركة، والرسائل السياسية الرئيسية الصادرة عن المؤتمر، ثم المرور بشكل سريع على أبرز المواقف الدولية المؤثرة، ولا سيما تركيا و”إسرائيل” والولايات المتحدة وفرنسا، وختاماً يسعى لاستشراف السيناريوهات المحتملة للمشهد الحالي، ثم يُقدّم توصيات حول سبل التعامل مع ما يمكن وصفه بـ”تحالف القوى المناهضة لسوريا الجديدة”.
أولاً: طبيعة الأطراف المشاركة: تنوّع شكلي واصطاف سياسي ضد سوريا الجديدة
حاولت “قسد” من خلال تنظيم المؤتمر الإيحاء بأنه يضم “فسيفساء” المكونات السورية، حيث عمدت إلى إشراك بعض الرموز الدينية مثل الشيخ الكردي مرشد معشوق الخزنوي أحد شيوخ الطريقة الخزنوية، كما شارك افتراضياً كلٌّ من حكمت الهجري أحد شيوخ العقل في السويداء، ورئيس “المجلس الإسلامي السوري العلوي” غزال غزال، كما ظهر في الصور الواردة من المؤتمر رجل دين مسيحي في الصفوف الأمامية، إضافة لتمثيل واضح للنساء، فيما بدا وكأنه حرص من “قسد” على إظهار تنوع قومي ثقافي ديني، لكن هذه الصورة التي توحي بالتنوع سرعان ما تتبدد عند تتبّع خريطة المشاركين وخلفياتهم، إذ يتضح أن أغلبهم من الشخصيات المناهضة للحكومة السورية الجديدة، وفي مقدمتهم “غزال والهجري”.
ورغم الحضور الكردي الكثيف من حيث العدد أو الرسائل الموجهة، إلا أن المؤتمر لم يتمكن فيما يبدو من استقطاب قوى كردية مؤثرة، مثل المجلس الوطني الكردي، المنافس التقليدي لحزب الاتحاد الديمقراطي؛ النواة الأساسية لـ”قسد” و”الإدارة الذاتية”[3]، ما قد يعكس وجود مؤشرات على استمرار الخلافات داخل البيت الكردي مع الإشارة إلى وجود مؤتمر سابق لوحدة الصف الكردي[4].
بالانتقال إلى المكوّن العربي، وهو الأكبر سكانياً في شمال شرقي سوريا، فكان تمثيله هامشياً، إذ غاب جميع شيوخ العشائر الرسميين الممثلين لعشائرهم وقبائلهم في الحسكة والرقة ودير الزور، واقتصر الحضور على شخصيات بعضها معروفة بولائها لـ”قسد” ولا يمكن اعتبارها ممثلة حقيقية للعشائر[5]، كما أن بعض الحضور من ممثلي المكون العربي انسحبوا بسبب ما اعتبروه تهميشاً مقصوداً[6]، حيث حُجزت أغلب المقاعد الأمامية للأكراد وبعض الشخصيات المسيحية، كما خلت هيئة إدارة المؤتمر، المكوّنة من ستة أشخاص، من أي تمثيل عربي، إذ ضمّت ثلاثة أكراد، ومسيحياً، وتركمانياً، وإيزيدياً[7]، ومما زاد من الاستياء العام آلية إدارة المؤتمر حيث تم منح كل مكوّن دقائق معدودة في مقابل امتداد كلمة الشيخ الكردي مرشد الخزنوي والتي وصلت إلى نحو 13 دقيقة[8].
الملحظ الأهم في خارطة المشاركين أن المؤتمر لم يدع أي جهات على علاقة جيدة مع الحكومة السورية الجديدة، الأمر الذي يشير لحشد حالة من الاصطفاف ضد الحكومة الجديدة، كما كان واضحاً سعي كل طرف من الحضور إلى تقديم نفسه ممثلاً حصرياً لمكوّنه: “قسد” كصوت للأكراد، وغزال للعلويين، والهجري للدروز، خاصة بعد أحداث السويداء الأخيرة.
إضافة لما سبق ذكره وعلى مستوى التنظيم اللوجستي يمكن ملاحظة أن العلم السوري كان حاضراً بشكل خجول وضمن عدة أعلام أخرى؛ منها ما يمثل “قسد” و”الإدارة الذاتية” و”وحدات حماية الشعب” (YPG)، وذلك بالتزامن مع عودة قائد (YPG) وعضو القيادة العامة في “قسد” سيبان حمو إلى الظهور وشنه هجوماً على الحكومة السورية، واصفاً إياها بأنها “امتداد للهيكل الاستبدادي القديم”[9].
ثانياً: مخرجات المؤتمر:
لم تكن مخرجات المؤتمر بعيدة عن السياق المتوقع في شيطنة الحكومة السورية واستدعاء المظلوميات وتكريس حالة الاستقطاب الطائفي والعرقي، وهذا ما يتضح من تحليل أبرز ما جاء في البيان الختامي[10]:
- استذكار “حالة التهميش والإقصاء: والتي تعرضت لها مناطق شمال شرق سوريا من قبل الأنظمة المركزية المتعاقبة خلال عقود طويلة من الزمن، لا سيما في ظل حكم النظام البائد”.
- الثناء على نموذج “الإدارة الذاتية” واعتباره “تجربة تشاركية قابلة للتطوير والارتقاء”، واعتبار “قسد” بمثابة “نواةً ضرورية لبناء جيش وطني سوري جديد”.
- مهاجمة الإعلان الدستوري واعتبار أنه “لا يُلبّي تطلعات الشعب السوري في الحرية والكرامة الإنسانية”، وتبعاً الدعوة إلى “دستور ديمقراطي يكرّس ويعزز التنوع القومي والثقافي والديني، ويؤسّس لدولة لا مركزية تضمن المشاركة الحقيقية لكافة المكونات في العملية السياسية والإدارية”[11].
- المطالبة بإعادة النظر في التقسيمات الإدارية الحالية وذلك “بما ينسجم مع الواقع الديمغرافي والتنموي لسوريا، ويعكس الخصوصيات الجغرافية والتاريخية والثقافية للمجتمعات المحلية”، ومن الجدير ذكره أن هذا المطلب استنسخ من المؤتمر الخاص بوحدة الصف الكردي سابقاً[12].
- الدعوة لعقد مؤتمر وطني سوري جامع وشامل تشارك فيه مختلف القوى الوطنية والديمقراطية، بما يساهم في رسم الهوية الوطنية الحقيقية الجامعة لكل السوريات والسوريين.
- استحضار اتفاق 10 آذار ومخرجات مؤتمر (وحدة الموقف الكردي): حيث تم مناقشة الاتفاقين والتأكيد على الالتزام بها كخطوات بنّاءة نحو توافق وطني شامل، يعيد للسوريين ثقتهم بوطنهم ومستقبلهم المشترك.
يكشف كل ما سبق عن وجود خطاب سياسي يُركّز على تقديم “الإدارة الذاتية” كنموذج ملهم يمكن تطويره وتعميه على سوريا كاملة، ولذلك كان من الطبيعي التركيز على المتطلبات كإنشاء دستور جديد يقوم على اللامركزية ليست الإدارية بل السياسية، وإعادة النظر في التقسيمات الإدارية لحل إشكالية التنوع السكاني في كامل الجغرافية السورية.
ثالثاً: ما وراء البيان الختامي وأبرز الرسائل الداخلية والخارجية من المؤتمر:
عند قراءة البيان الختامي بعيداً عن الشعارات المعتادة التي تُصدّرها “قسد” عن “التنوع” و”المشاركة”، يمكن ملاحظة أنه يُكرّس الخط السياسي الذي تتبنّاه “قسد” منذ سقوط النظام البائد، والمتمثل في الدفع باتجاه نظام لا مركزي لا يقتصر على بُعد اللامركزية الإدارية، بل يمتد إلى اللامركزية السياسية التي تمنح سلطات شبه سيادية للمناطق، على حساب المركز، ويظهر هذا التوجُّه بوضوح في نقطتين أساسيتين:
- الدعوة لاعتبار “تجربة الإدارة الذاتية” نموذجاً قابلاً للتطوير والتعميم، بما يتجاوز إطارها الحالي.
- المطالبة بإعادة النظر في التقسيمات الإدارية استناداً إلى “الواقع الديمغرافي”، وهي صيغة توحي بفتح الباب أمام تغييرات في البنية الجغرافية والسياسية للبلاد.
من جانب آخر، يتضح أن أبرز رسالة داخلية في المؤتمر تتجلّى بالتأكيد في تمسّك “قسد” بـ”النظام اللامركزي” كمشروع سياسي وتقديم نموذج “الإدارة الذاتية” كـ “نموذج ناجح” تمهيداً لتسويقه كخيار مشابه ربما لتجربة كردستان العراق، مع تلاقي ذلك مع طموحات بعض الزعامات الدينية في الساحل والسويداء.
كما يتضح من البيان أن “قسد” لا ترى نفسها طرفاً مُكمّلاً في إطار جيش وطني موحّد، بل تسعى إلى الدخول كـقوة قائمة بذاتها داخل أي هيكل عسكري وطني قادم، مع الحفاظ على بُنيتها وقيادتها الحالية، وهو ما يتعارض مع أي مسعى لإعادة هيكلة قواتها.
اللافت أيضاً أن البيان يتعامل مع أحداث الساحل والسويداء من زاوية نظر أحادية، إذ يُشيطن الحكومة السورية الجديدة ويُحمّلها المسؤولية، دون التوقف عند العوامل التي قادت لتلك الأحداث، أو الإشارة إلى هجمات الفلول في الساحل، أو المليشيات في السويداء والدعم “الإسرائيلي” المباشر لها، وهي حقائق كان من شأن ذكرها أن يمنح الموقف توازناً، لكن تغييبها يبدو مقصوداً في سياق استمالة شخصيات مثل حكمت الهجري وغزال غزال، وتثبيت تحالفات تقوم على قاعدة الحشد ضد الحكومة أكثر من كونها حوارات وطنية جامعة.
فضلاً عما سبق، يمكن الوقوف على مجموعة من الرسائل السياسية الأخرى من المؤتمر في مقدمتها الرسائل الخاصة بالمفاوضات مع دمشق، حيث أظهر المؤتمر أن “قسد” تلوح ببدائل تملكها وتحالفات داخلية يمكن أن تُستخدم كورقة ضغط إذا تعثرت المفاوضات، فضلاً عن السعي لإعادة صياغة اتفاق 10 آذار وفق شروطها، بحيث يضمن بقاء مؤسساتها العسكرية والمدنية معترفاً بها لا مجرد إدماجها تحت سلطة مركزية، ولعل هذا ما يُفسّر مسارعة مسؤولة السياسية الخارجية في “الإدارة الذاتية” إلهام أحمد إلى التأكيد على “التزام قسد باتفاقية 10 آذار مع الدولة السورية[13]، واستكمال مفاوضات باريس ورفض التقسيم”، في خطاب يكشف عن تناقض واضح ويعتمد على سياسة المراوغة لكسب الوقت وإعادة ترتيب الأوراق.
أيضاً لا يمكن إغفال الرسائل الخارجية والموجهة ببعدين إقليمي ودولي؛ وهنا تأتي الرسائل بشكل خاص إلى واشنطن وباريس بأن “قسد” ما زالت شريكاً يمكن التعويل عليه في إدارة شمال وشرق سوريا، وأنها تملك القدرة على تشكيل جبهات سياسية مع أطراف سورية أخرى لمواجهة دمشق.
لكن الرسالة الأبرز تبدو موجّهة إلى “إسرائيل”، خاصة مع استقطاب المؤتمر لحكمت الهجري الذي تحوّل في الأحداث الأخيرة بالسويداء إلى الذراع الميدانية لـ”إسرائيل” في المنطقة وذريعتها في زيادة التدخلات، بحيث توحي “قسد” إلى “إسرائيل” أنها على وفاق مع الهجري وداعمة لمشروعه في تحصيل الحكم الذاتي، وهذا ما يُغازل من حيث النتيجة فكرة “ممر داوود” ويُشجّع عليها[14].
رابعاً: المواقف الدولية والإقليمية من المؤتمر:
غاب عن المؤتمر التمثيل الدولي، فلم يظهر في الصور الواردة مشاركة ممثلين عن التحالف الدولي، إلا أن هذا قد لا يكون مؤشراً كافياً لاستشراف الموقف الدولي وخاصة من قبل القوى الداعمة لـ”قسد”، وعليه يمكن استكشاف أبرز المواقف التي يمكن أن تؤثر على مسار التفاوض مع “قسد” أو تُشكّل ضغطاً عليها من خلال إطلالة على مواقف القوى الخارجية المؤثرة، وذلك على النحو الآتي:
- موقف الولايات المتحدة:
رغم أنها مارست في الأيام الماضية ضغوطاً على “قسد” عبر ممثلها توماس باراك للمضي في الاندماج مع الحكومة السورية الجديدة إلا أنها لم تُدْلِ بأي تصريحات رسمية حول مؤتمر “قسد”، ما يجعل الموقف استمراراً لحالة الغموض في الموقف الأمريكي الرسمي، رغم تصريحات باراك الداعمة للحكومة والتي لم تشكل ضغطاً حقيقياً على “قسد” للمضي في مسار الدمج، ما يُدلل على أن هناك جهات مؤثرة في الحكومة الأمريكية وخاصة البنتاغون لا تزال في صف “قسد” بذريعة الحرب ضد داعش ولا تريد اندماجاً لا يضمن مصالح “قسد”.
وفي هذا السياق، لا يُستبعد أن يُستخدم هذا المؤتمر كورقة أمريكية للضغط على الحكومة الجديدة لتحصيل تنازلات، خصوصاً في ملف تسويق “قسد” وتحصيل مكاسب خاصة بها داخل سوريا الجديدة، أو حتى ربطه بشكل غير مباشر بمسار اتفاقات “إبراهام” لتوسيع دوائر التطبيع رغم ما يظهر من تهرّب “إسرائيلي” من عقد اتفاقات جديدة مع دمشق.
- موقف فرنسا:
لم تُصدر باريس أي تصريحات حول المؤتمر، رغم أنها لعبت مؤخراً دور الراعي الرسمي للمفاوضات بين دمشق و”قسد”، وجاء الصمت الفرنسي متزامناً مع إعلان دمشق إلغاء جولة المفاوضات المقررة في باريس، ما يوحي بأن باريس لا تريد التصعيد العلني ضد “قسد” في هذه المرحلة، ربما حفاظاً على قنوات الاتصال معها ومع الحكومة السورية، أو لأنها في الأصل ليس لديها مشكلة في أجندة المؤتمر رغم استضافته لقوى انفصالية، لكن الخيار الأرجح يبدو أنها تدير تفاهمات بين الطرفين من خلف الكواليس للوصول إلى توافقات جديدة.
بشكل عام، يمكن القول إن الموقف الفرنسي الحالي، بما فيه من صمت رسمي وتواصل محتمل خلف الكواليس قد يشكل ورقة ضغط مزدوجة على الحكومة السورية و”قسد” معاً، بهدف دفعهما نحو تفاهمات تخدم المصالح الفرنسية بحيث يبقى لباريس دور محتمل في أي تسوية قادمة.
- موقف تركيا:
تُعد أنقرة من أكثر الأطراف الإقليمية حساسية تجاه تحركات “قسد”، لا سيما مع ما تراه من مساعٍ لتشكيل “حلف أقليات” قد يُستخدم كأداة ضغط على الحكومة السورية ويُعزّز النزعات الانفصالية في البلاد، وتشير تقارير إلى أن تركيا مارست ضغوطاً مباشرة على دمشق لإلغاء اجتماع باريس مع “قسد”[15]، وفي ظل هذا المشهد يُرجَّح أن تواصل أنقرة البحث عن أوراق ضغط بديلة، سواء عبر تعزيز التنسيق الأمني مع دمشق أو عبر تحريك جبهات ميدانية تشعر “قسد” أن الخيار العسكري لم ينته تماماً.
- موقف “إسرائيل”:
رغم غياب أي ذكر رسمي لها في المؤتمر، إلا أن “تل أبيب” تبقى حاضرة في خلفية المشهد، خصوصاً مع مشاركة شخصيات مثل حكمت الهجري، الذي يُنظر إليه في الأوساط السورية كأحد أبرز أدوات النفوذ “الإسرائيلي” في السويداء، ويأتي ذلك في ظل الحديث المتزايد عن مشروع “ممر داوود” الذي يهدف إلى ربط “الجغرافيا” “الإسرائيلية” بجنوب وشمال شرق سوريا مروراً بالسويداء[16]، ما يجعل من المؤتمر، ولو بشكل غير مباشر، منصة تتقاطع مع أهداف هذا المشروع، سواء من حيث استقطاب شخصيات محسوبة على خط “تل أبيب”، أو من حيث الدفع نحو تفكيك المركزية السورية.
وفي سياق آخر، قد يتحوّل الحراك الجديد الذي تقوده “قسد” لتشكيل ما يشبه “حلف الأقليات” إلى ورقة بيد “إسرائيل” للضغط على دمشق بهدف انتزاع تنازلات سورية رسمية تتعلق بوضع الجولان والواقع الجديد الذي بدأ يتبلور بعد سقوط النظام البائد، خصوصاً في ظل إدراك “تل أبيب” لفرص استثمار حالة التفكك الداخلي لإعادة صياغة خرائط النفوذ في المنطقة.
خامساً: السيناريوهات المتوقعة:
في ظل التطورات التي تشهدها مناطق شمال شرق سوريا والسويداء ووجود حالة من الاستعصاء مع تعنّت “قسد” في تطبيق بنود اتفاق 10 آذار تبرز تساؤلات عديدة حول اتجاه العلاقة بين الحكومة السورية و”قسد” خاصة بعد مؤتمر الحسكة وما رافقه من ملامح تحالفات جديدة تفتح الباب أمام احتمالات متعددة لمسار هذه العلاقة في المرحلة القادمة.
ومن هذا المنطلق، يمكن تصنيف السيناريوهات المحتملة التي قد تشكل ملامح المشهد في الفترة المقبلة على النحو التالي:
1- التصعيد السياسي والميداني بين دمشق و”قسد”: قد تؤدي مخرجات مؤتمر الحسكة إلى تعميق القطيعة بين الحكومة السورية و”قسد” خاصة بعد إلغاء اجتماع باريس، ما قد يدفع “قسد” كذلك إلى تعزيز تحالفاتها مع شخصيات من السويداء والساحل وتكثيف حضورها الإعلامي والدبلوماسي لتصوير نفسها كـ “حامية ومنفتحة” للتعددية، مع السعي لاستجلاب دعم أمريكي أو فرنسي أكبر لتثبيت وضعها، لكن هذا السيناريو يفترض أن القوى الدولية المؤثرة داعمة فعلاً لمشروع “قسد” وليس لديها مشكلة في تعزيز تحالفات “قسد” مع قوى تهاجم الحكومة السورية وتدعو للحكم الذاتي مثل حكمت الهجري وغزال غزال.
2- العودة التدريجية إلى طاولة المفاوضات: رغم التصعيد الأخير، قد تدفع اعتبارات ميدانية وسياسية الطرفين إلى استئناف المفاوضات، خاصة إذا أدركت “قسد” أن التحالفات الداخلية التي شكّلتها لا توفر ضمانات كافية على المدى الطويل، أو إذا واجهت ضغوطاً أمريكية وأوروبية جادة للحفاظ على المسار السياسي، ما يجعل الطرفين يعودان إلى طاولة التفاوض والبناء على ما تم تطبيقه من بنود في اتفاق آذار مثل ملف التعليم وتبييض السجون وإخلاء النازحين السوريين من مخيم الهول، ويبدو هذا أقرب السيناريوهات خصوصاً إذا ما اقترن بخطوات ضغط حقيقية من القوى الداعمة لقسد على اعتبار أن هذه القوى مثل الولايات المتحدة وفرنسا تعلن أنها تؤيد الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وترفض أي نزعات انفصالية وتقول إنها داعمة للحكومة السورية في مساعيها لإعادة الاستقرار.
3- تدخل تركي مباشر لتغيير موازين القوى: إذا استمرت “قسد” في تعزيز تحالف الأقليات وتحركت في مسار يتقاطع مع مشاريع “إسرائيلية” تستهدف إعادة تشكيل الخريطة السورية، فقد يدفع ذلك تركيا بالتعاون مع دمشق إلى شن عمليات ميدانية منسّقة أو منفردة لتقليص نفوذها، لكن هذا السيناريو مرتبط بمدى الحضور الأمريكي في المنطقة، إذ من المستبعد أن تُقدم تركيا على عملية برية دون تنسيق مع الولايات المتحدة على غرار ما حصل في العام 2019 حينما نفّذ ترامب انسحاباً جزئياً لصالح تركيا في عملية “نبع السلام”، لكن المشهد اليوم يبدو ليس في صالح تركيا، خاصة مع تماهي ترامب مع سياسة نتنياهو في المنطقة وعدم إيقافه عن الحروب التي يشنها خاصة في غزة، لكن ذلك قد لا يلغي التفكير بالعمل البري العسكري ضد “قسد” خصوصاً إذا كان من طرف قوات محلية أو إذا كان الهجوم تكتيكياً ليُجبر “قسد” على العودة لطاولة التفاوض.
4- تثبيت الأمر الواقع بدعم دولي: يبدو هذا أخطر السيناريوهات، فقد تنجح “قسد” في استثمار مؤتمر الحسكة لبناء شرعية سياسية أكبر في أوساط بعض القوى الغربية والحصول على دعم أكبر يكرّس نموذج “الإدارة الذاتية” كأمر واقع على غرار “كردستان العراق”، مع تأجيل أي حل سياسي شامل.
في هذا السيناريو يستمر الجمود السياسي بين دمشق و”قسد” بينما تُستخدم ورقة “التحالفات الداخلية” كخط دفاع ضد أي محاولة لتقويض سلطتها، وهنا يعود الحديث عن مُشغّلي “قسد”، ويبرز تساؤل أساسي: إلى أي مدى كان هذا المؤتمر ثمرة قرار ذاتي لـ”قسد”؟، وما هو حجم التنسيق أو الدعم الذي تلقته من مشغليها الرئيسيين، وبالأخص التحالف الدولي؟ هل جاء المؤتمر كجزء من استراتيجية مدروسة تديرها قوى خارجية لتعزيز نفوذها في شمال شرق سوريا؟، أم أنه تعبير عن طموحات محلية تسعى للاستفادة من الفرصة الراهنة خاصة بعد أحداث السويداء والساحل؟
الإجابة على هذه الأسئلة قد تساعد في فهم المشهد بشكل أدق، خاصة مع وجود جهات مؤثرة على “قسد” لا تقتصر فقط على الولايات المتحدة، بل تشمل أيضاً أجنحة من حزب العمال الكردستاني مرتبطة بقنديل وأخرى بإيران قد تؤثر على قرارات “قسد” وتسعى لإفشال المفاوضات مع الحكومة السورية والتشويش على المرحلة الانتقالية، فضلاً عن التأثير “الإسرائيلي” المرتبط بتعزيز النزعات الانفصالية تحت شعار حماية الأقليات.
خاتمة:
مما لا شك فيه أن عقد اجتماعات تجمع مكونات سورية مختلفة حالة صحية؛ بل ومطلوبة ضمن سياق الحوار والتفاهمات بين القوى السورية المحلية، إلا أن مؤتمر الحسكة خرج عن هذه الصبغة ليخدم أهدافاً وأجندات محدّدة مسبقاً، مما يجعل سيل الانتقادات التي وُجهت له على مواقع التواصل أمراً مفهوماً في ظل مخاوف حقيقية تجاه مستقبل البلاد وسط الذرائع التي حاول المؤتمر تسويقها.
قد تتحول مخرجات مؤتمر الحسكة إلى نواة لتحالف أقلوي منظّم، لا يقتصر دوره على كونه مظلة إعلامية أو مبادرة ظرفية، بل قد يتطور إلى إطار سياسي دائم ذي اجتماعات منتظمة وخطاب موحَّد، يرفع مطالب اللامركزية السياسية، ويُسوّق نفسه محلياً ودولياً كـ “حامٍ للتنوع”.
ومع هذا، تظل المخاطر قائمة من محاولات “قسد” لتوسيع هذا التحالف ليشمل شخصيات من الساحل والسويداء وربما من المناطق المسيحية والإسماعيلية وغيرها لاحقاً، في محاولة لتشكيل كتلة ضغط متماسكة ضد الأغلبية السنية العربية وضد الحكومة في دمشق، ما يُهدّد بوقوع انفجارات مجتمعية قد تؤدي إلى تفكّك النسيج الوطني مستقبلاً.
وفي هذا السياق تبرز مجموعة من التوصيات التي يجدر العمل بها لمواجهة أي مشاريع تهدد بهدم الجغرافيا السورية تحت شعارات اللامركزية والحكم الذاتي ومنها:
1- بلورة خطاب إعلامي وطني جامع: بحيث يتم صياغة استراتيجية إعلامية موجَّهة لمختلف المكونات السورية، تركّز على طمأنة المخاوف المشروعة، وإبراز المصالح المشتركة بين الجميع، والاعتراف بالأخطاء التي حصلت والسعي لإصلاحها[17].
2- تمكين المجتمع المدني والمبادرات العابرة للمناطق: بحيث يتم منح هامش واسع للمجتمع المدني المستقل، وتشجيع إطلاق مبادرات ثقافية واجتماعية تربط بين المحافظات والمناطق المختلفة، بهدف تعزيز التماسك الاجتماعي والتصدي لمحاولات شدّ العصب الطائفي أو القومي، مع تبنّي رؤية وطنية واضحة وخطاب جامع يتجاوز ثنائية الأقليات والأكثرية التي دائماً ما تبرز في خطاب بعض الفئات الأقلّوية.
3- تطوير قانون الإدارة المحلية: وهنا يبرز بشكل رئيسي أهمية صياغة قانون للإدارة المحلية يُعزّز اللامركزية الإدارية الفعلية، بما يقطع الطريق على الطروحات التي تخلط بين اللامركزية الإدارية والفدرلة السياسية، رغم اعتبار البعض أن هذه الخطوة مبكرة في ظل عدم السيطرة على كافة الجغرافيا السورية، لكن طرحها كرؤية قادمة قد يسهم في بلورة التوجهات الحكومية عموماً نحو مثل هذه الخطوات المطلوبة.
4- فتح قنوات تواصل دائمة مع المكونات المختلفة: ويكون ذلك من خلال إنشاء آلية مؤسساتية للتواصل الدوري مع المكونات الدينية والقومية والقبلية للاستماع إلى همومها ومخاوفها وتلبية احتياجاتها وفق الإمكانيات المتاحة، بما يمنع القوى الانفصالية من احتكار تمثيل هذه المكونات أو التحدث باسمها، ويكون ذلك وفق ما هو متاح في ظل تمكن بعض القوى المحلية من احتكار المشهد تماماً مستقوية بالدعم الخارجي على غرار حالة حكمت الهجري في السويداء أو “قسد” في شمال شرقي سوريا[18].
5- تعزيز التنسيق مع الحلفاء الإقليميين والدوليين بما يشمل حث الدول المؤثرة، لا سيما تركيا وبعض العواصم الغربية وحتى روسيا التي تملك نفوذاً بمناطق “قسد”، على دعم وحدة الأراضي السورية ورفض أي ترتيبات تؤدي إلى تكريس الكيانات الموازية أو تحالفات الأقليات.
6 – إطلاق مبادرات حكومية لتعزيز فكرة الشراكة والتنمية بين مختلف المناطق السورية بما يُظهر البعد المصلحي في وحدة سوريا، وينبغي أن تتضمن هذه المبادرات مشاريع بنى تحتية، وفرص عمل، وخدمات تعليمية وصحية، إضافة إلى آليات لمشاركة المجتمعات المحلية في تحديد الأولويات بمناطقها.
7- العمل على توسيع مشاركة كافة مكونات الشعب السوري وتعزيز فكرة التمثيل المتوازن بما يقطع الطريق أمام فكرة التقوقع الهوياتي.
سوريا تدرس إلغاء مفاوضات باريس مع “قسد” لـ”غياب الطرح الجدي لتنفيذ اتفاق مارس”، القدس العربي، 9/8/2025، شوهد في: 10/8/2025
باحث مساعد في مركز الحوار السوري، يعمل ضمن وحدة تحليل السياسات، كتب وشارك في العديد من الأوراق المتعلقة بتحليل سياسات الفاعلين في سوريا، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية.