الإصداراتالتقارير الموضوعيةوحدة تحليل السياسات

حدود الدور الروسي في مناطق سيطرة “قسد” شمال شرقي سوريا

تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري

ملخص:

  • أعادت موسكو تثبيت وجودها بشكل محدود في مطار القامشلي مع استئناف الدوريات في شمال شرق سوريا بهدف البقاء طرفاً فاعلاً في موازين ما بعد مرحلة النظام البائد دون وجود ملامح لتوسيع هذا الوجود، حيث سيكون هذا مرتبطاً بشكل العلاقة بين موسكو ودمشق، وبالانسحاب الأمريكي من شرق الفرات.
  • تبدو العلاقة بين روسيا و”قسد” أقرب إلى مصلحة تكتيكية مؤقتة لا استراتيجية موثوقة، حيث تبقي موسكو قنوات الاتصال مفتوحة لكنها تستبعد “قسد” من الدوريات والأنشطة العسكرية، كما إن التجارب السابقة وخاصة خلال العمليات التركية ضد “قسد” لم تشر إلى أن موسكو تعاملت مع “قسد” كشريك استراتيجي.
  • تحتفظ روسيا بروابط مع شبكات النظام البائد في شمال شرق سوريا والساحل، غير أن دور هذه الفلول وهذه العلاقة يُحيط به الغموض، فحتى مع ضعف فرص الاعتماد على الفلول كقوةٍ بديلةٍ يظل الحديث عن علاقتهم مع موسكو أمراً يستحق المراقبة، خصوصاً إذا انخفض الضغط العسكري على روسيا في الحرب الأوكرانية بعد قمة ألاسكا الأخيرة، ما قد يتيح لروسيا التفكير بأدوار جديدة في سوريا.
  • يبقى الاستثمار الروسي في ورقة الأقليات احتمالاً وارداً، لاسيما أن تاريخ موسكو يُظهر ميلاً لتوظيف البُنى الأقلوية كورقة نفوذ، خصوصاً في مناطق مثل “قسد” والساحل، على عكس مكونات أخرى كالمسيحيين أو الإسماعيليين أو الدروز.
  • سياسة “الحضور المرن” في شمال شرقي سوريا تبدو السيناريو الأكثر ترجيحاً، خاصة أنها تضمن بقاء روسيا لاعباً مؤثراً بتكاليف منخفضة، مع ترك الباب مفتوحاً أمام توسع تدريجي أو انسحاب جزئي قياساً مع التطورات الميدانية والظروف الإقليمية ومستوى الوجود الأمريكي.

مقدمة:

منذ سقوط نظام الأسد في سوريا، رُصِدت أرتال عسكرية روسية انسحبت من شمال شرقي البلاد باتجاه قواعدها في الساحل السوري[1]، ما فُسّر حينها كمؤشر على نية موسكو الانسحاب أو تقليص وجودها في تلك المنطقة.

إلا أن هذه المؤشرات لم تلبث أن تراجعت مع عودة النشاط الروسي إلى شمال شرقي سوريا مؤخراً، وقد برز ذلك في تكثيف حركة القوات الروسية في مطار القامشلي الدولي[2]، وتسيير دوريات عسكرية روسية في شمال شرقي سوريا.

يتزامن ذلك مع ما يُتداول محلياً عن قيام “قسد” باحتضان مجموعات وشخصيات محسوبة على النظام البائد[3]، ما يفتح الباب أمام فرضيات وتساؤلات بشأن وجود تنسيق غير معلن قد تكون موسكو طرفاً فيه لإدارة مرحلة جديدة في المشهد السوري.

تأتي أهمية الوقوف على حيثيات الدور الروسي في شمال شرقي سوريا في مرحلة ما بعد سقوط النظام البائد من أن “قسد” لطالما نظرت إلى موسكو خلال السنوات الماضية بوصفها البديل المحتمل للولايات المتحدة في حال قررت الأخيرة الانسحاب من سوريا، وهو التصور الذي مكّن روسيا من تثبيت موطئ قدم في عدة مناطق خاضعة لسيطرة “قسد” قبل سقوط النظام البائد تحت ذرائع أبرزها ضبط الحدود ومنع التصعيد مع تركيا.

كما يكتسب الوقوف على الدور الروسي بُعداً إضافياً مع استمرار مفاوضات الدمج بين “قسد” والحكومة السورية الجديدة، في ظل ما يبدو تصلُّباً في موقف “قسد”، وتأخيراً في تنفيذ بنود “اتفاق آذار” الموقع بين الرئيس أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي[4]، رغم ما يظهر من ضغوط يمارسها المبعوث الأمريكي الخاص توماس باراك لتنفيذ عملية الاندماج وتصريحه لـ”قسد” أن “لا طريق في سوريا سوى الطريق إلى دمشق”[5]، ما يطرح علامات استفهام حول طبيعة التوازنات التي تريد “قسد” الوصول لها، ودور روسيا في تأمين غطاء سياسي لهذا الموقف.

وعليه، يحاول هذا التقرير استكشاف حدود الدور الروسي في مناطق “قسد”، مستعرضاً أبرز الرسائل الكامنة وراء الحراك العسكري الأخير لموسكو في شمال شرقي سوريا، وتحليل طبيعة ارتباطها بفلول النظام البائد هناك، وموقف “قسد” من الدور الروسي في مناطقها، ويُختتم التقرير باستشراف السيناريوهات المستقبلية لتموضع موسكو في الشرق السوري مع إبراز العوامل التي قد تفتح المجال أمام توسُّع نفوذها أو تحدّ من قدرتها على ترسيخ حضور قوي ومستدام.

خلفية موجزة لتطور الدور الروسي في مناطق “قسد”:

برز الدور الروسي في مناطق “قسد” بشكل خاص في العام 2019 حينما أطلقت القوات التركية عملية “نبع السلام” للسيطرة على منطقتي تل أبيض ورأس العين، حيث سبقها انسحاب أمريكي استثمرته روسيا لملء الفراغ بعد دعوة من “قسد” لدخول القوات الروسية وقوات النظام البائد حينها لوقف التمدد التركي[6].

وقد أثمر هذا التدخل الروسي في اتفاقية مع أنقرة تم بموجبها تسيير دوريات مشتركة بين قوات البلدين بشكل خفّف من جهة من مخاوف أنقرة نسبياً لكونه ضبط أنشطة “قسد”[7]، وفي ذات الوقت خفّف مخاوف “قسد” من وقوع عمليات برية تركية جديدة، لكن بذات الوقت برزت روسيا الكاسب الأكبر في هذه المعادلة نظراً لحصولها على موطئ قدم أسهمت من خلاله بتأسيس قواعد ونقاط عسكرية روسية ضمن مناطق النفوذ الأمريكي.

لكن هذا الوجود تعرَّض للانحسار بعد إسقاط النظام البائد في نهاية العام 2024، حيث رصدت أرتال عسكرية روسية تغادر شمال شرقي سوريا نحو الساحل السوري[8]، لكن اللافت في الأسابيع الماضية هو تبدُّل هذا المشهد بعد رصد عدة معطيات تتلخّص في مؤشرين اثنين:

  • تعزيز الوجود العسكري في القامشلي: وجاء ذلك عبر عدة مراحل شملت عمليات تأهيل لموقع تمركز طائرات روسيا في مطار القامشلي وتوسيع موقع إقامة جنودها وضباطها، وتحصين القوات الروسية محيط تمركز طائراتها ورادارها داخل المطار[9]، كما إن طائرات الشحن الروسية تُحلّق بشكل منتظم بين مطار القامشلي وقاعدة حميميم لنقل جنود ومعدات لوجستية وعسكرية إلى مطار القامشلي[10]، مع حديث عن ارتفاع عدد الجنود الروس إلى نحو 200 عسكري روسي في مطار القامشلي.
  • تسيير دوريات عسكرية: غاب مشهد الدوريات العسكرية الروسية منذ سقوط النظام البائد، لكن الأسابيع الماضية شهدت تحركات لدوريات روسية في مناطق شرق مدينة القامشلي رفقة مروحيات روسية، ومما يُلاحظ في هذه الدوريات -بحسب المصادر المتداولة- هو استبعاد “قسد” عن مرافقة هذه الدوريات، ما يوحي بوجود تنسيق روسي مع حكومة دمشق[11]، خصوصاً أن مثل هذه الدوريات جاءت بعد زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو.

ماذا وراء الحراك الروسي؟

تثير العودة الروسية إلى شمال شرقي سوريا أسئلة تتجاوز البُعد الميداني المباشر، إذ تبدو هذه التحركات محاولة لإعادة تثبيت موطئ قدم وتعزيز نفوذ لا يخلو أيضاً من المكاسب السياسية، ويمكن فهم هذا الحراك عبر ثلاث زوايا أساسية:

الزاوية العسكرية:

يُوفّر الحضور العسكري من جديد لروسيا في مطار القامشلي واستئناف دورياتها العسكرية فرصة لتثبيت حضورها مجدداً كفاعل ميداني داخل مناطق النفوذ الأمريكي، ورغم أن هذا التمركز قد لا يمنحها القدرة على منافسة واشنطن مباشرة، إلا أنه يحول دون تهميشها من ترتيبات ما بعد سقوط النظام البائد، فوجودها الميداني يُتيح لها التأثير في مواقف أطراف مختلفة، ولا سيما تركيا، عبر الإيحاء بقدرتها على مراقبة تحركات “قسد”، والمساهمة في الحد من التوترات المستقبلية خصوصاً في ظل تعثُّر مفاوضات الدمج مع الحكومة السورية، كما يُشكّل هذا الحضور رسالة غير مباشرة إلى “قسد” التي طالما رأت في موسكو خياراً بديلاً حال قررت الولايات المتحدة الانسحاب، بما يوحي لها بأن روسيا ما تزال قادرة على لعب دور ضابط إيقاع في المنطقة إذا ما تبدّلت المعادلات أو قرّرت الولايات المتحدة الانسحاب من شمال شرق سوريا.

الزاوية السياسية:

قد تحاول موسكو توظيف حضورها في شمال شرقي سوريا لتعزيز مكانتها كطرف قادر على الموازنة بين الأطراف المتباينة، فهي تُدرك أن حالة الشك المتبادلة بين “قسد” ودمشق، والقلق التركي من مستقبل المنطقة خصوصاً مع تنامي دور “إسرائيل” بعد أحداث السويداء، تمنحها مجالاً للتأثير السياسي يتجاوز حجمها العسكري المحدود، ومن هذا المنطلق قد تعمل روسيا على تقديم نفسها كقناة اتصال غير مباشرة بين “قسد” والحكومة السورية الجديدة، وفي بعض الأحيان بين “قسد” وأنقرة، بما يُتيح لها إعادة إدخال نفسها في ترتيبات المنطقة خاصة مع ما يظهر من تطابق في الرؤى مع دمشق وأنقرة فيما يتعلق بضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ورفض أي شكل من أي أشكال الانفصال، وهو الخطاب العام التقليدي لموسكو تجاه سوريا.

الزاوية الاستراتيجية:

يثير الحراك الروسي في شمال شرقي سوريا تساؤلات حول مدى قدرة موسكو على تحمُّل كلفة وجود طويل الأمد في المنطقة، خصوصاً في ظل استنزافها المستمر في حرب أوكرانيا، والعقوبات الغربية، ومن هذا المنطلق تبدو الاستراتيجية الروسية مُركّزة على الحفاظ على حضور رمزي وفعّال في الوقت نفسه، بحيث يضمن لها البقاء كطرف مؤثر في التوازنات المستقبلية دون الالتزام بتوسّع ميداني واسع قد يزيد الأعباء المالية واللوجستية عليها، ولعل هذا ما يُفسِّر محدودية انتشار القوات الروسية حالياً في مناطق جديدة خارج مطار القامشلي، إذ لم تُرصد عودة لمناطق أخرى تمركزت فيها روسيا مثل عين العرب في حلب أو عين عيسى بالرقة وغيرها، لكن في الوقت نفسه فإن هذا التمركز المحدود يترك مساحة للتمدُّد مستقبلاً في حال تغيّرت الظروف الميدانية أو ظهرت فرص لتعزيز النفوذ السياسي والعسكري بما يجعل الحضور الروسي مرناً وقادراً على التكيّف مع أي تحوّلات قد تشهدها المنطقة.

لكن اختيار موسكو لمناطق “قسد” لبناء النفوذ من جديد يفتح بشكل عام الباب أمام أسئلة إضافية تتجاوز الحسابات المباشرة، ولعل من أبرزها: هل ترى روسيا في التمركز في مناطق يغلب عليها الطابع الأقلوي وسيلةً لإحياء بعض شبكات النفوذ القديمة المرتبطة بفلول النظام الذين فرّوا لمناطق “قسد” أو إلى العراق؟، أم إن الوجود في مناطق “قسد” يندرج أساساً في سياق المناكفة مع الولايات المتحدة عبر التمركز في فضاء النفوذ الأمريكي شرق الفرات؟ أم أن المسألة تتعلق باستخدام ورقة الأقليات كأداة ضغط إضافية على الحكومة السورية مستقبلاً؟

كل هذه الاحتمالات تبقى غير مستبعدة إذا ما أخذنا بالاعتبار أن روسيا لطالما اعتمدت على تحالفاتها مع أقليات متحيزة جغرافياً (الساحل، “قسد”) بخلاف الأقليات الأخرى المبعثرة في الجغرافيا السورية مثل المسيحيين والإسماعيليين وغيرهم، لذلك فإن استثمار موسكو في البُعد الأقلوي ضمن معادلة ما بعد النظام البائد يبقى احتمالاً قائماً، حتى وإن لم تتضح بعد مؤشرات قاطعة تؤكده.

وعليه، فإن فهم الزاوية الاستراتيجية للحضور الروسي في شمال شرقي سوريا لا يقتصر على قياس حجم الانتشار العسكري أو تكاليفه المباشرة، بل يتطلب أيضاً قراءة في شبكة الرموز والأوراق التي تُوظّفها موسكو، وعلى رأسها ورقة الأقليات التي طالما كانت جزءاً من إرثها في سوريا، خاصة أنه سبق وأن وردت تصريحات روسية رسمية تشير لسعي روسي لمنع تسليم السنة الحكم في سوريا[12].

ما حقيقة وجود علاقة بين روسيا وفلول النظام البائد في شمال شرقي سوريا:

بالتزامن مع تعزيز روسيا لوجودها في القامشلي، أُثير في المصادر المفتوحة معلومات متكررة حول إيواء موسكو لضباط من فلول النظام البائد في قواعدها الجوية بالساحل وفي القامشلي بالتوازي مع تقارير عن قيام “قسد” بتجنيد مجموعات من عناصر وضباط النظام الفارّين إلى شمال شرقي سوريا خلال معركة “ردع العدوان” وما تلاها[13].

ويُستحضر في خلفية هذا المشهد ما يُثار عن دعم روسيا لهجمات فلول النظام في الساحل السوري بآذار الماضي[14]، أو على الأقل علمها بالعملية، خاصة أن قائد تلك الهجمات -وهو قائد ميليشيا “صقور الصحراء” سابقاً- يقيم في موسكو حينها وأعلن مسؤوليته عن العملية[15]، فضلاً عن إيوائها لمجموعات هربت من الساحل خلال الأحداث الأخيرة بحجة حمايتهم، ما يجعل أي حديث عن علاقة روسية جديدة بالفلول مثار ريبة ومحل تساؤلات حول حدودها وإمكان توسعها.

ومع محدودية المعلومات وغياب معطيات موثوقة وحاسمة حول حقيقة هذه العلاقة يظل المجال مفتوحاً أمام مقاربات متعددة يمكن تناولها من زوايا مختلفة، من أبرزها:

المصالح المحتملة لروسيا: قد يُنظر إلى إبقاء موسكو قنوات تواصل مفتوحة مع فلول النظام وإيواء بعضهم كأداة تمنحها ورقة ضغط في أي مفاوضات مقبلة مع دمشق حول إعادة ترسيم حضورها العسكري في سوريا، كما يمكن توظيف هذه المجموعات في أدوار أمنية محدودة مقابل تأمين الحماية لهم، مثل الانتشار في محيط القواعد الروسية أو القيام بمهام لوجستية مساندة، بما يُخفّف الأعباء عن القوات الروسية المباشرة، ويتيح لها تعزيز حضورها من دون تكاليف بشرية كبيرة.

المخاطر المحيطة: إن أي انخراط علني أو واضح مع فلول النظام قد يُهدد بتقويض الخطاب الرسمي الروسي القائم على وحدة الأراضي السورية ورفض الانقسامات، كما يُضر بالعلاقات مع دمشق التي تبدو روسيا ساعية للحفاظ عليها بعد سقوط النظام البائد وسط حديث عن دور روسي محتمل في الجنوب السوري[16]، كما قد يثير في الوقت نفسه حساسية تركية كون أنقرة ترفض أي تشكيلات عسكرية قد تُغذّي النزعات الانفصالية أو تُعطل مسار التهدئة وعودة الاستقرار.

البدائل المتاحة لموسكو: بالنظر إلى طبيعة حضورها، لا تبدو روسيا بحاجة فعلياً إلى ورقة الفلول لتعزيز نفوذها، فهي تملك أوراقاً أثقل تتمثل في تموضعها العسكري على المتوسط (طرطوس وحميميم)، وعلاقاتها مع تركيا، وما يظهر من رغبتها عن تعزيز العلاقات التجارية مع سوريا مثل تصدير القمح وطباعة الأوراق النقدية[17]، والمحافظة على استثماراتها السابقة[18]، فضلاً عن قدرتها على التأثير في “قسد” خصوصاً في حال الانسحاب الأمريكي، ولهذا تظل حاجتها لفلول النظام محدودة.

بشكل عام، يمكن القول إن علاقة روسيا بفلول النظام البائد في شمال شرق سوريا وحتى في الساحل ملف غامض التفاصيل، فحتى مع ضعف فرص الاعتماد على الفلول كقوةٍ بديلةٍ يظل الحديث عن علاقتهم مع موسكو أمراً يستحق المراقبة، خصوصاً إذا انخفض الضغط العسكري على روسيا في الحرب الأوكرانية بعد قمة ألاسكا الأخيرة، ما قد يتيح لروسيا التفكير بأدوار جديدة في سوريا[19].  

موقف “قسد” من الدور الروسي: 

رغم أن “قسد” قد تنظر إلى الوجود الروسي في شمال شرقي سوريا كخيارٍ بديلٍ محتملٍ في حال انسحبت الولايات المتحدة من شمال شرقي سوريا إلا أنها في الوقت نفسه تدرك حدود الدور الروسي والتجارب السابقة التي لم تكن مُشجِّعة، ففي أكثر من محطة انسحبت القوات الروسية أو تغاضت عن عمليات القوات التركية في شمال سوريا، وخاصة في عملية “غصن الزيتون” التي أدّت لطرد “قسد” من عفرين عام 2018[20]، لذلك تدرك “قسد” أن التعهدات الروسية لا تصمد طويلاً أمام الضغوط التركية وأولويات الأمن القومي التركي، ما يجعل “قسد” تتعامل مع أي تقارب مع الروس بقدر من الحذر، حيث تعتبر أن موسكو قد تنظر إليها كورقةٍ تفاوضيةٍ أكثر من كونها شريكاً استراتيجياً[21].

لكن مع ذلك وبحكم قلة الخيارات الاستراتيجية لدى قيادة “قسد” وضعف التعويل على ما جرى مؤخراً في مؤتمر الحسكة من محاولة لحشد “تحالف أقليات” أو الاستعانة بـ”إسرائيل”[22]؛ قد ترى “قسد” أن مجرد بقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع روسيا يوفّر لها هامشاً للمناورة في لحظات الضغط، فموسكو بالنسبة لها لا يمكن أن تكون بديلاً كاملاً عن واشنطن والتحالف الدولي عموماً، لكنها قوة يمكن الاعتماد عليها لشراء الوقت أو لتخفيف حدة الهجمات التركية عبر ترتيبات التهدئة، ولعل هذا ما يُفسّر استعدادها للتعاون مع الروس ضمن حدود معيَّنة، وكذلك عدم وضعها أي عراقيل أمام التحركات الروسية ضمن مناطق سيطرتها.

المؤشر الآخر في هذا السياق يتمثل في استبعاد روسيا لقوات “قسد” من الدوريات العسكرية التي تُسيّرها في محيط القامشلي، وهو ما يمكن قراءته كخطوة تحمل رسالتين؛ الأولى: سعي موسكو إلى تحييد “قسد” عن أي دور قد يُظهرها في موقع الشريك أو الراعي المباشر لتبقى العلاقة في حدود التنسيق التكتيكي لا أكثر، والثانية: رسالة تطمين موجَّهة إلى الحكومة السورية الجديدة، مفادها أن تعزيز الوجود الروسي في الشمال الشرقي لا يعني بالضرورة تعزيز موقع “قسد” أو توثيق العلاقة معها.

السيناريوهات المستقبلية للدور الروسي في شمال شرقي سوريا:

في ضوء ما سبق، لا يبدو أن الحراك الروسي في شمال شرقي سوريا استقر على مسار واضح، لذلك تبرز عدة سيناريوهات محتملة يمكن أن يتخذها الدور الروسي خلال المرحلة المقبلة وأبرزها:

  • تثبيت حضور محدود ومرن:

يتضمن هذا السيناريو بقاء تمركز روسي صغير وفعّال في مطار القامشلي مع دوريات عسكرية تجوب المنطقة بشكل دوري وتنسيق ميداني سياسي مع دمشق وأنقرة مع استمرار استبعاد “قسد” من الأنشطة العسكرية الروسية مثل الدوريات، وإبقاء قنوات الاتصال معها مفتوحة.

ويبدو هذا السيناريو مرجحاً لكونه يتسق مع خطاب روسيا عن وحدة سوريا ورفض النزعات الانفصالية والتقسيم، وفي ذات الوقت يمنحها نفوذاً بالمنطقة دون كلفة تمدُّد.

  • توسّع تدريجي:

يتضمن هذا السيناريو توسيع الدور عبر إنشاء نقاط مراقبة جديدة واستكشاف إمكانية العودة لمناطق انسحبت منها القوات الروسية سابقاً، لكن تفعيل هذا السيناريو سيكون مرتبطاً بشكل رئيسي بعدة عوامل وهي: تقليص الحضور الأمريكي، التفاهم مع أنقرة ودمشق على شكل الدور الجديد وحدوده فيما لو كانت روسيا فعلاً تُطبّق ما تقوله حول رغبتها بإقامة علاقات ودية مع الحكومة السورية الجديدة، وهنا قد تقرأ “قسد” أن الترتيب الجديد سيكون على حسابها، ما يجعلها تتوجس من توسع الدور الروسي.

ويرتبط تفعيل هذا السيناريو بشكل رئيسي أيضاً في حال ارتفاع منسوب التوتر الحدودي بين تركيا و”قسد”، ما يستدعي تدخل روسيا وانتشار قواتها او قوات مدعومة من قبلها على الحدود، كما يرتبط بما سيؤول إليه الصراع في أوكرانيا وقدرة واشنطن على التفاهم مع موسكو.

  • الانسحاب الكامل من شمال شرقي سوريا:

قد يكون هذا أحد خيارات روسيا، خصوصاً فيما لو تم تفعيل الاندماج الكامل بين الحكومة السورية الجديدة و”قسد”، وقد حرصت روسيا منذ سقوط النظام البائد على الانسحاب من كافة القواعد التي كانت فيها ضمن مناطق النظام البائد مثل قواعد في تدمر والمنطقة الجنوبية وغيرها باستثناء قاعدتي حميميم وطرطوس، لذلك قد تقوم بالأمر نفسه بحيث تكتفي بالإطلالة على المتوسط وتحويل مركز الثقل غرباً، مع تجميد مساعي النفوذ شرق الفرات.

وسيترجح هذا السيناريو بشكل أكبر فيما لو واجهت روسيا مصاعب في تثبيت النفوذ أو باتت كلفة البقاء دون عائد سياسي واضح، لكن هذا السيناريو يظل مستبعداً في ظل سياسة روسيا التي لا يبدو أنها راغبة في خسارة ورقة تفاوضية هامة، وإمكانية توسيع النفوذ في ظل هشاشة الأوضاع وعدم سيطرة الحكومة السورية على شمال شرق سوريا.

  • إعادة توزيع نفوذ محدود بين حميميم والقامشلي:

في هذا السيناريو تقوم القوات الروسية بالعمل على إعادة ترتيب النفوذ بشكل لا يتضمن الانسحاب الكامل من الساحل أو من القامشلي، إنما العودة للوجود التقليدي الروسي في سوريا في ما قبل سقوط الاتحاد السوفييتي ضمن قاعدة طرطوس الجوية[23].

وسيكون من أبرز المؤشرات المبكرة على هذا السيناريو استمرار روسيا بتنامي وجودها العسكري واللوجستي في القامشلي بحيث تصبح قاعدة دائمة لها في الشرق السوري.

جدول مقارن لسيناريوهات الوجود الروسي في شمال شرق سوريا

خاتمة:

يمكن القول إن الدور الروسي في شمال شرقي سوريا بعد سقوط النظام البائد ما يزال يتسم بالهشاشة وعدم الاستقرار، إذ إن تحوُّلَ موسكو إلى فاعل مركزي يبقى مرهوناً بعوامل أساسية؛ أهمها الانسحاب الأمريكي أو التوصل إلى تفاهمات أوسع مع أنقرة ودمشق، فالعلاقة بين روسيا و”قسد” لا ترقى إلى مستوى التحالف الاستراتيجي بقدر ما تعكس مصالح مؤقتة ومناورات تكتيكية.

وتدرك موسكو أن أي انخراط مباشر في دعم نزعات انفصالية سيضرُّ بمصالحها الأوسع مع تركيا والحكومة السورية الجديدة، وربما يؤثر كذلك على موقعها الاستراتيجي في الساحل السوري، حيث شكّلت قاعدة طرطوس منذ عقود عقدة وصل حيوية بين نفوذها في شرق المتوسط وامتداد حضورها في شمال إفريقيا.

وعليه، فإن مستقبل الدور الروسي في شمال شرقي سوريا سيبقى أقرب إلى سياسة “الحضور المرن” الذي يتيح لموسكو الاحتفاظ بمكاسبها دون تكاليف كبيرة، مع ترك الباب مفتوحاً أمام توسع محتمل إذا تبدلت المعادلات الميدانية أو تراجعت مكانة الولايات المتحدة في المنطقة.

ومهما كان المسار المقبل، فإن الدور الروسي في شمال شرقي سوريا لا يمكن فصله عن الإرث الذي راكمته موسكو في السنوات الماضية، فقد أثبتت التجربة السورية أن روسيا تحتفظ بعلاقات متناقضة أحياناً لتستخدمها في الوقت المناسب، ولذلك فإن أي ملامح تقارب استراتيجي مع “قسد” أو إيواء لفلول النظام البائد لا ينبغي التعامل معها على أنها خطوات بلا أثر، بل يجب قراءتها كمؤشرات مبكرة على احتمالية تبدّل أدوار موسكو في المنطقة.

وبناءً على ذلك، تبقى الضرورة قائمة لمراقبة مسار الدور الروسي عن قرب، لأن خبرة موسكو السابقة تظهر أنها قادرة على الانتقال من موقع الشريك إلى موقع الخصم إذا وجدت في ذلك مصلحة استراتيجية كبرى أو ورقة تفاوضية مع القوى الإقليمية والدولية، وعليه فإن الركون إلى استقرار الدور الروسي سيكون خطأً استراتيجياً يفتقد للحذر المطلوب في التعامل مع موسكو.


[1] الجزيرة ترصد انسحاب قوات روسية من مناطق متعددة في سوريا، الجزيرة نت، 13 / 12 / 2025، شوهد في: 21 / 8 / 2025
[4] في هذا السياق، أصدر مركز الحوار السوري ورقة خاصة سعت إلى تقديم قراءة محدَّثة لمجريات اتفاق “قسد” مع الحكومة السورية وتحليل العوامل التي تُبطئ تنفيذه، ومدى تأثير الموقف الأمريكي، فضلاً عن إرث الانتهاكات السابقة والمتجددة في سِجلّ “قسد”، كما يتحدث التقرير عن أثر إعلان حزب العمال الكردستاني حلّ نفسه وانعكاساته المحتملة على مستقبل “قسد” وهويتها، ثم ينتقل في الختام إلى استشراف مآلات الاتفاق والسيناريوهات المحتملة، يُنظر:
عامر المثقال، “قسد” في منتصف الطريق.. بين استحقاقات الاندماج وأحلام الحكم الذاتي، مركز الحوار السوري، 12 / 7 / 2025
[7] تسيير أول دورية تركية روسية في شرق الفرات، العربي الجديد، 1 / 11 / 2025، شوهد في: 21 / 8 / 2025
[8] مشاهد حصرية تُظهر انسحاب القوات الروسية من القامشلي، تلفزيون سوريا، 14 / 12 / 2024، شوهد في: 21 / 8 / 2025
[10] “إيكاد” ترصد 18 رحلة روسية نحو القامشلي.. إعادة انتشار أم تحضير لمرحلة جديدة؟، مرجع سابق
[12] لافروف: لن يقوم نظام سنِّي في سوريا !، إيلاف، 27 / 3 / 2012، شوهد في: 24 / 8 / 2025
[13]  “إيكاد” ترصد 18 رحلة روسية نحو القامشلي.. إعادة انتشار أم تحضير لمرحلة جديدة؟، مرجع سابق
[16] في هذا الصدد، قالت صحيفة “كوميرسانت” الروسية نقلاً عن مصدر شارك في لقاء وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في موسكو إن الحكومة السورية مهتمة بعودة دوريات الشرطة العسكرية الروسية إلى المحافظات الجنوبية من البلاد، ينظر:
[17] في هذا السياق، نقلت وكالة رويترز عن مصرفيينِ ومصدر سوري إن سوريا اتفقت مع شركة جوزناك الروسية الحكومية لطباعة النقود على إصدار الأوراق النقدية الجديدة، يُنظر:
سوريا تعتزم التخلص من عملة الأسد وحذف صفرين، الجزيرة نت، 22 / 8 / 2025، شوهد في: 23 / 8 / 2025
[18] على سبيل المثال، أشارت ورقة سابقة لمركز الحوار السوري إلى أن سوريا تعد سوقاً رئيسية للسلاح الروسي، ومن أهم الشركاء التجاريين لروسيا بين البلدان العربية، وفيها استثمارات كبيرة للشركات الروسية توسَّع نطاقها في السنوات القليلة الماضية، خاصة في مجال الطاقة.
كما أشارت الورقة التي صدرت في أيار 2024 إلى أنه خلافاً لما هو شائع لم يكن دائماً بقاء نظام الأسد على المدى الطويل خطاً أحمر بالنسبة إلى روسيا، بل ظهر في كثير من الأحيان ورقة مساومة محتملة مع الولايات المتحدة والغرب، يُنظر:
[19] مثل توسيع النفوذ ليصل الرقة، أو الاستيلاء على موارد نفطية، أو تأسيس مليشيا من الفلول ليكونوا ذراعاً لموسكو في شمال شرق وهذا أضعف الاحتمالات. 
[20] نيويورك تايمز: تنسيق روسي تركي سبق عملية “غصن الزيتون“، الخليج أون لاين، 21 / 1 / 2018، شوهد في: 21 / 8 / 2025
[21] يُشار في هذا السياق إلى أن روسيا لم تَحمِ “قسد” بعد دخولها إلى مناطق سيطرتها شمال شرق سوريا من الهجمات التركية، بل عملت على إدارة الملف والسعي للحد من التوترات، فعلى سبيل المثال: بين عامي 2020 إلى 2024 كثَّف الطيران التركي من هجماته على مواقع عسكرية ومنشآت طاقة تابعة لـ “قسد”، وأحيانا بعض الهجمات استمرت لأيام متتالية، ينظر مثلاً:
تركيا توسع استهدافها لـ “قسد” ومنشآت نفطية شمال شرقي سوريا، تلفزيون سوريا، 25 / 10 / 2024، شوهد في: 24 / 8 / 2025
[22] عامر المثقال، مؤتمر “قسد” في الحسكة.. الرسائل والأبعاد والسيناريوهات، مركز الحوار السوري، 12 / 8 / 2025
[23] طرطوس وحميميم قاعدتان استراتيجيتان لروسيا في سوريا، الشرق الأوسط، 10 / 12 / 2024، شوهد في: 22 / 8 / 2025

باحث مساعد في مركز الحوار السوري، يعمل ضمن وحدة تحليل السياسات، كتب وشارك في العديد من الأوراق المتعلقة بتحليل سياسات الفاعلين في سوريا، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى