
الملخص التنفيذي:
يتناول التقرير مسألة الاقتصاد الأسود في سوريا، بصفته أحد أبرز التحديات التي تعمقت خلال عهد نظام الأسد البائد؛ ويوضح التقرير أن الاقتصاد الأسود يشمل الأنشطة غير القانونية أو غير المسجّلة ضمن الإطار الرسمي، مثل تجارة المخدرات والسلاح، تهريب السلع والآثار، الاستخراج غير المشروع للنفط والمعادن، إضافة إلى التهرب الضريبي والعمل غير المنظم والتلاعب بسعر الصرف؛ ويرى أن النزاعات والحروب تخلق بيئة خصبة لانتشار هذه الممارسات بسبب ضعف مؤسسات الدولة وتراجع الرقابة وتفشي الفساد.
في الحالة السورية، أدى الانهيار الجزئي لمؤسسات الدولة والفراغ الأمني بعد عام 2011 إلى توسع كبير للاقتصاد غير المشروع، فقد تحولت تجارة المخدرات إلى نشاط واسع النطاق تديره أطراف مختلفة، معظمها مرتبط بنظام الأسد أو بالميليشيات الإيرانية، كما انتشرت عمليات تهريب السلاح عبر الحدود والمناطق الخارجة عن السيطرة، فيما استُنزفت الثروات الطبيعية من نفط ومعادن على يد فواعل غير رسمية كتنظيم داعش أو قوات الأمر الواقع الأخرى، كذلك تعرّضت المواقع الأثرية لعمليات نهب وتهريب منظم، بينما وفرت السوق السوداء للعملات مجالًا واسعًا للتلاعب والاستغلال. أضعفت هذه الظواهر مجتمعة قدرة الدولة على تحصيل الإيرادات، وأضرت بالاقتصاد الرسمي، وأتاحت للمجموعات المسلحة تمويل نفسها على حساب الاستقرار العام.
ويستعرض التقرير تجارب عدد من الدول التي واجهت تحديات مشابهة. ففي رواندا مثلًا، ساهمت الإصلاحات الضريبية والرقمنة ومكافحة الفساد في تضييق مساحة الاقتصاد غير الرسمي. وفي أفغانستان اتخذت حكومة طالبان إجراءات صارمة ضد المخدرات، بينما اعتمدت السلفادور مقاربة أمنية قوية تجاه العصابات المنظمة، رغم الانتقادات الحقوقية التي طالتها. وتبرز أيضًا تجارب فيتنام ونيجيريا في مكافحة تزوير العملة عبر طباعة الأوراق النقدية بورق من مادة البوليمر، وتجربة أوروغواي في تسهيل إدماج العمال غير النظاميين في الاقتصاد الرسمي، وكذلك تجربة أستراليا في ضبط انتشار الأسلحة عبر تشريعات مشددة وحملات واسعة.
بناء على هذه الأمثلة، يقدّم التقرير توصيات لسوريا، تنقسم إلى إجراءات عاجلة وأخرى متوسطة وطويلة المدى. من بين هذه التوصيات، ضرورة مواجهة تجارة المخدرات عبر تعزيز الجهود الأمنية وتوفير بدائل اقتصادية للمدنيين المتورطين بإنتاج المخدرات، واستعادة السيطرة على الموارد الطبيعية كالنفط والمعادن، وتشديد العقوبات على من يشارك في نهب الآثار وتهريبها، إضافة إلى تقوية الرقابة على الحدود باستخدام التكنولوجيا الحديثة ومعالجة الظروف المعيشية في المناطق الحدودية التي تدفع السكان نحو التهريب. كما يدعو التقرير إلى إصلاح النظام الضريبي من خلال الرقمنة وتبسيط الإجراءات وتحقيق شفافية في استخدام العائدات، إلى جانب منح حوافز للأنشطة التي تعمل ضمن الإطار الرسمي.
ويخلص التقرير إلى أن القضاء التام على الاقتصاد الأسود أمر غير ممكن، لكنه من الضروري تقليصه إلى حدود تمكّن الدولة من استعادة وظائفها الأساسية وتحقيق قدر من الاستقرار الاقتصادي والسياسي. ويرى أن مواجهة هذه الظاهرة تحتاج إلى مقاربة شاملة تشمل الأبعاد الأمنية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية، مع تعاون مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، والاستفادة من الدعم والخبرات الدولية. كما يشدد على أن الأولويات يجب أن تُحدّد وفق خصوصية كل منطقة سورية، نظرًا لاختلاف طبيعة التحديات الاقتصادية والأمنية بين منطقة وأخرى.
تمهيد:
تعاني دول العالم من انتشار الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة، أو ما يُسمّى “الاقتصاد الأسود”، وهو تعريف يُقصَد فيه أي عملية اقتصادية تتم خارج الإطار القانوني والضريبي الرسمي، وتشمل الكثير من الأنشطة؛ أبسطها بيع البضائع غير المسجّلة في الأنظمة الضريبية، وتهريب البضائع عبر الحدود، وتمتد -بحسب بعض التعريفات- لتصل إلى أنشطة إجرامية كبيرة، مثل بيع المخدرات وغسيل الأموال وتهريب الآثار أو المعادن الثمينة أو الاتجار بالبشر[1]، وفي هذا التقرير سيكون المقصود بالاقتصاد الأسود هو جميع المعاملات الاقتصادية غير القانونية، بما يشمل المعاملات الإجرامية مثل الاتجار بالمخدرات والسلاح والبشر وغيرها.
صحيح أن جميع دول العالم تعاني بشكل أو بآخر من أشكال الاقتصاد الأسود، إلا أن هذه المشكلة تتفاقم في الدول التي تعاني من حروب ونزاعات، إذ تؤدي الحروب والنزاعات إلى زعزعة مؤسسات الدولة أو تدميرها وإلى إفساد سبل العيش، وهذا ما يفتح الباب على مصراعيه أمام الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة، ويدفع العديد من الناس إلى ممارسات غير قانونية تؤدي إلى مزيد من زعزعة الاستقرار واشتعال النزاعات، بينما يمنح الاستقرار فرصة للقضاء على الممارسات غير القانونية، وإعادة فتح مجالات سبل العيش بشكل طبيعي بعيداً عن الممارسات غير القانونية والتصرفات الإجرامية.
وبالنظر إلى وضع سوريا، فقد خرجت منذ أشهر قليلة من حرب طاحنة شنها نظام الأسد المخلوع وحلفاؤه طيلة 14 سنة، عانت البلاد خلالها من تدمير ممنهج طال جميع المدن السورية وأثّر على جميع مواطنيها، وشجّع نظام الأسد المخلوع، حتى في مرحلة ما قبل الثورة، على ترسيخ الفساد المالي والإداري ودفع المواطنين لأشكال الاقتصاد الأسود، وزادت هذه الأفعال في سنوات الثورة في ظل الفوضى ودخول العديد من الفواعل الذين يعتمدون على التهريب وتجارة المخدرات والاتجار بالبشر، مثل نظام الأسد نفسه الذي اعتمد على تجارة المخدرات، بالإضافة إلى الميليشيات الإيرانية وغيرها من التنظيمات والعصابات.
يهدف هذا التقرير إلى تقديم صورة شاملة عن الاقتصاد الأسود في سوريا في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، والإشارة إلى نماذج من مكافحة الاقتصاد الأسود من دول مرت بظروف مشابهة لما مرت به سوريا، وتقديم اقتراحات وتوصيات لمكافحة أشكال الاقتصاد الأسود، ويعتمد التقرير على المنهج الوصفي التحليلي في رصد المصادر المفتوحة التي تناولت هذه المسألة.
الاقتصاد الأسود.. أشكاله ومخاطره:
توجد العديد من الأسماء المترادفة التي تعطي المعنى المراد بـ”الاقتصاد الأسود”؛ مثل: “اقتصاد الظل”، “الاقتصاد المخفي”، “الاقتصاد الرمادي”، “الاقتصاد غير الرسمي”، وغيرها من الأسماء المشابهة، كما تختلف التعريفات لهذا المصطلح، إذ ترى بعض الجهات أن الاقتصاد الأسود هو جميع المعاملات الاقتصادية الخارجة عن الإطار الضريبي الرسمي للدولة، وتشمل معاملات البيع والشراء للمنتجات العادية لكن بشكل خارج الإطار الضريبي والنظامي، والمعاملات الإجرامية مثل تجارة المخدرات والسلاح وغيرها[2]، ولكن تُفضّل بعض الجهات تعريف الاقتصاد الأسود بأنه المعاملات غير الرسمية في بيع وشراء المنتجات العادية، ويستبعدون منه المعاملات الإجرامية[3].
تتنوّع أشكال الاقتصاد الأسود، إذ تنقسم بالأساس إلى قسمين هما: معاملات المنتجات القانونية، ومعاملات المنتجات غير القانونية، وتشمل الأولى عمليات مثل التهرُّب الضريبي عبر إجراء المعاملات التجارية بعيداً عن أعين الحكومة وبعيداً عن تسجيلها في السجل الضريبي، أو تشغيل العمالة غير المُسجَّلة، أما القسم الثاني فيشمل إنتاج وتجارة وتهريب المخدرات، والأسلحة، وأنشطة الاتجار بالبشر مثل تهريب المهاجرين غير الشرعيين والدعارة، والقمار وتجارة المسروقات، وغسيل الأموال والرشوة، وغيرها[4].
لا ينحصر الاقتصاد الأسود في البلدان التي تشهد نزاعات وحسب، بل يمكن القول إنه منتشر في جميع دول العالم بلا استثناء بنسب متفاوتة، لكنه ينتشر بشكل أكبر في الدول التي تشهد نزاعات وفوضى وتضعف فيها المؤسسات الحكومية وتسوء فيها الأوضاع الاقتصادية أو تزداد فيها نسبة الضرائب بشكل كبير، الأمر الذي يدفع الناس للتحايل على القانون لتوفير مصاريف الضرائب وتحقيق مكاسب يمنعها القانون دون أن تكون هناك مؤسسات رقابية قوية تمنع هذه الممارسات[5].
تتنوع أضرار الاقتصاد الأسود إلى أشكال عديدة، إذ يتسبب في خسائر للدول من واردات الضرائب، ويقلل من الإنتاجية العامة بسبب الفوضى التي يُسبّبها في الأسواق نتيجة الأعمال غير المسجّلة، ويحرم العمال من الحماية القانونية التي تحفظ لهم حقوقهم، ويتسبّب بمنافسة غير عادلة في السوق بين التجار والصناع الملتزمين بالقوانين والآخرين الذين لا يلتزمون بها، ويؤدي إلى خلخلة في المؤشرات الاقتصادية للبلاد، ما يُسبّب خللاً في التخطيط الاقتصادي للمستقبل، ويعكس صورة عن ضعف المؤسسات الحكومية والدستورية، ويعطي مجالاً لانتشار الجريمة والممارسات التي تُهدّد الأمن القومي مثل تجارة المخدرات والسلاح[6].
تتسبّب الصراعات والحروب في إضعاف الدول والمؤسسات، في مقابل صعود نفوذ الجماعات المسلحة، وبالتالي يتوسَّع مجال الاقتصاد الأسود في مقابل ضعف الاقتصاد الرسمي، وتنتشر المعاملات الاقتصادية غير القانونية، مثل الرشوة والتهرُّب الضريبي وتشغيل العمال بشكل غير نظامي وغير ذلك، دون وجود قدرة على محاربة هذه الظواهر والممارسات بشكل فاعل، وبشكل يدفع المواطنين أنفسهم للجوء للعمل في إطار الاقتصاد الأسود بسبب عدم وجود فرص مناسبة في الاقتصاد الرسمي[7].
تنشر عدة جهات دولية تقارير دورية حول حجم وانتشار الاقتصاد الأسود، أبرزها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذان يُقدّمان تحليلات رقمية عن الاقتصاد غير الرسمي وتأثيره على النمو[8]، في حين تُركّز منظمة العمل الدولية (ILO) على جانب العمالة غير المنظمة[9]، وتصدر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) تقارير تربط الاقتصاد الأسود بضعف المؤسسات والضرائب[10]، ويُغطّي مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) الجانب المرتبط بالجريمة المنظمة[11].
إن العلاقة الطردية بين الاقتصاد الأسود وانعدام الاستقرار الأمني والاقتصادي والسياسي تجعل من مكافحته أمراً بالغ الأهمية، إذ يؤدّي تفشّي الممارسات الاقتصادية غير القانونية إلى ضعف سلطة المؤسسات الحكومية وتفكّك الصلة بين الدولة والشعب وانتشار الفواعل ما دون الدولة، مثل الميليشيات والعصابات الإجرامية وشبكات التهريب والرشاوى وغيرها، وهذا بالتالي قد يؤدي إلى انهيار شامل تتجدّد فيه النزاعات أو يتسبب بانهيار اقتصادي.
ومما يؤكد هذه العلاقة هو سعي الميليشيات والمجموعات المسلحة الخارجة عن القانون إلى الحفاظ على حالة الفوضى وعدم الاستقرار من أجل استمرار مكاسبهم من الاقتصاد الأسود، إذ تعتاش هذه المجموعات على تهريب السلاح والمخدرات والأنشطة غير القانونية، وتستغل شعور الناس بضعف الدولة وانهيارها إلى كسب حاضنة شعبية تتورّط في هذه الأنشطة غير القانونية لتكون مصدر عيش لها وسط حالة الفوضى والانهيار الاقتصادي، لهذا تكون هذه المجموعات من أكبر المعيقين لعملية إعادة الاستقرار والنهضة الاقتصادية.
وبما أن سوريا اليوم دولة خرجت حديثاً من حرب طويلة، ستعاني بلا شك لفترة من الزمن من آثار الانهيار الاقتصادي والمجتمعي الذي تسبّبت به الحرب، وستُعاني كذلك من انتشار لظواهر الاقتصاد الأسود على نطاق واسع، وهنا تبرز أهمية دراسة التجارب الدولية في مكافحة الاقتصاد الأسود، من أجل الاستفادة من النماذج الناجحة وتجنُّب النماذج الفاشلة عند العمل على مكافحة الاقتصاد الأسود في سوريا.
نماذج دولية في مكافحة الاقتصاد الأسود:
تسعى جميع دول العالم إلى مكافحة مظاهر الاقتصاد الأسود وإنهاء آثارها السلبية التي تؤثر على اقتصاد البلدان وأمنها واستقرارها، وتتنوّع التجارب والتحدّيات في هذا المجال من دولة لأخرى بحسب الظروف المحلية والإقليمية والدولية، كما تختلف مظاهر الاقتصاد الأسود المنتشرة من بلد لأخرى بحسب ظروف الواقع الأمني وقوة المؤسسات وتنوع الفاعلين.
بالنظر إلى أساليب الدول التي عاشت ظروفاً مشابهة لسوريا، من حيث الحرب وانعدام الاستقرار وغياب الدولة، في مكافحة الاقتصاد الأسود، تبرز أمثلة مثل أفغانستان في آسيا، ورواندا وليبريا وسيراليون في إفريقيا، والسلفادور وكولومبيا في أمريكا اللاتينية، وقد نجحت هذه الدول في جزئيات مُعيّنة في محاربة الاقتصاد الأسود، فيما تعثّرت أو فشلت في جزئيات أخرى.
بالنظر إلى النجاحات المحققة، فقد حققت رواندا تقدماً ملحوظاً في مجال مكافحة التهرب الضريبي، إذ بدأت بإجراء إصلاحات هيكلية في النظام الضريبي وتسهيل المعاملات وتسريعها، بالإضافة إلى رقمنة الأنظمة وربط المعاملات بقواعد بيانات حاسوبية تُسرّع من العمل وتُقلّل من الأخطاء[12]، وهذا أدى إلى رفع إيرادات الدولة من الضرائب بشكل ملحوظ، إذ ارتفع دخل الدولة من الضرائب من 24.6 مليار فرنك (183.5 مليون دولار) عام 1992، إلى 2.25 ترليون فرنك (1.875 مليار دولار) عام 2023، وارتفعت نسبة دخل الدولة من الضرائب مقارنة بالدخل القومي العام من 9% عام 1992 إلى 13.5% عام 2023[13].
وعملت رواندا على مكافحة الرشوة والفساد الإداري بشكل جذري، حيث تبنّت الحكومة خطة متكاملة شملت الأبعاد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية، بهدف إخراج الفساد من دائرة السلوكيات المقبولة اجتماعياً، وقد عملت هذه الخطة على رفع وعي المواطنين بخطورة الظاهرة، وتشديد العقوبات على المتورطين فيها، حيث شملت تسريح المئات من عناصر الشرطة وموظفي الدولة المرتشين، إلى جانب إعادة هيكلة مؤسسات الدولة بما يحدّ من قدرة الفاسدين على الإفلات من المحاسبة، وأسهمت هذه السياسات في تحقيق تراجع ملحوظ جداً في معدّلات الفساد والرشوة، مقارنةً بدول واجهت ظروفاً مشابهة[14].
كما حقّقت رواندا نجاحاً ملحوظاً في جانب آخر من جوانب مكافحة الاقتصاد الأسود، وهي مكافحة التعدين بطرق غير مشروعة، إذ شدّدت العقوبات على مرتكبي هذه الجريمة ورفعت من أحكام السجن والغرامات المالية التي يمكن للقضاء فرضها على المتهمين، كما بدأت باستخدام الوسائل التقنية الحديثة في عملية الرقابة على المناجم ومواقع التعدين، عبر استخدام الطائرات المسيّرة في رصد الجبال والغابات الوعرة التي يصعب على فرق التفتيش دخولها والبحث عن المناجم غير القانونية فيها[15]، وارتفعت بفضل هذه الإجراءات مدخولات الحكومة الرواندية من قطاع التعدين من 772 مليون دولار عام 2022 إلى 1.1 مليار دولار عام 2023[16].
وانتقالاً إلى موضوع مكافحة المخدرات، فقد نجحت حكومة طالبان في أفغانستان في القضاء على 95% من إنتاج المخدرات في البلاد بعد 3 سنوات فقط من تولّيها الحكم عام 2021، وذلك عبر اتخاذ قرارات صارمة مثل اعتقال متعاطي المخدرات ووضعهم في السجون أو مراكز إعادة التأهيل، ونشر تحذيرات لمزارعي الأفيون والمخدرات ومن ثم نشر القوة العسكرية في الأرياف لمواجهة المزارعين المخالفين لهذا الحظر وتدمير محاصيلهم، إلا أن هذا الإنجاز كانت فيه بعض الشوائب، إذ تعاني أفغانستان من أزمة اقتصادية حادة، وسط استمرار العقوبات على الدولة الأفغانية التي تُكبّل حركتها، وبالتالي فقد الكثير من المواطنين الفقراء في الأرياف مصادر دخلهم بعد منع زراعة وتجارة المخدرات دون توفير بدائل لهم، وهو ما يؤكد أن مثل هذه الإجراءات تحتاج إلى أن تترافق مع حلول مساندة وإلى وضع مدى زمني واضح، وإلى المزيد من التعاون بين الدولة والدول المجاورة في حل هذه الأزمة[17].
وبالنظر إلى مكافحة الجريمة المنظمة والانفلات الأمني، برزت السلفادور نموذجاً فريداً من نوعه، إذ وضعت حكومة الرئيس نجيب بوكيلة منذ بداية توليه الرئاسة عام 2019 هدفاً بإنهاء العصابات الإجرامية التي زعزعت أمن البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1992، والتي تنشط في أعمال الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات والخطف والسرقة، وارتكزت خطة حكومة السلفادور على تشديد القبضة الأمنية واستخدام العنف -المبالغ فيه أحياناً- في مواجهة العصابات الإجرامية، وزيادة سعة السجون لاستيعاب أعداد المعتقلين (الذين تجاوز عددهم بحلول عام 2023 حاجز 75 ألفاً)، وإجراء تعديلات في النظام القضائي تسمح بالمحاكمات الجماعية السريعة وتشديد العقوبات على أفراد العصابات، وقد نجحت السلفادور بشكل ملحوظ في فرض الأمن والقضاء على العصابات الإجرامية، ونالت تأييداً شعبياً كبيراً، كما بدأت دول مجاورة مثل الهندوراس وغواتيمالا بالسعي لاستنساخ التجربة السلفادورية في مكافحة الجريمة المنظمة[18]، لكن في الوقت نفسه كانت محط انتقادات الجمعيات الحقوقية والمنظمات الأممية بسبب الممارسات التعسفية التي طالت الكثير خلال حالة الطوارئ، وبسبب المبالغة في استخدام العنف، وتسييس القضاء لصالح الحكومة، وتقليل مساحات الحريات على حساب تطبيق السياسات الأمنية[19].
أما في مجال مكافحة تزوير العملة، فقد نجحت دول مثل نيجيريا وفيتنام في تقليل نسبة التزوير بشكل كبير خلال السنوات الماضية، إذ اعتمدت الدولتان على تجديد الأوراق النقدية واستخدام مادة البوليمر في الورق، وهي مادة تُصعّب من التزوير[20]، بالإضافة إلى تكثيف الحملات الأمنية التي تستهدف شبكات التزوير، وتغليظ العقوبات على المتورطين[21].
تبرز نماذج أخرى للنجاح في مكافحة الاقتصاد الأسود في الدول التي كانت مستقرة -نسبياً- والتي واجهت أشكالاً أخرى من الاقتصاد الأسود، مثل تشغيل العمال بشكل غير نظامي بحيث يؤدي إلى خسائر ضريبية وإلى اختلال في ميزان الأجور وإلى مشكلات مجتمعية مثل تفاوت الفجوات بين الطبقات الاقتصادية في المجتمع، وكانت دولة الأوروغواي نموذجاً ناجحاً في مكافحة هذه الظاهرة، إذ اتخذت الحكومة مجموعة من الخطوات في سبيل تقليل نسبة العمل غير الرسمي وضمان تسجيل العمال في أنظمة الضمان الاجتماعي والحفاظ على حقوقهم، وبدأ ذلك عبر إعادة صياغة القوانين الناظمة للعمل وتسهيل معاملات التسجيل وزيادة الميزات الممنوحة للشركات وللعمال في حال تسجيلهم داخل أنظمة الدولة، وتخفيف الأعباء الضريبية على المستثمرين بشكل شجّع على فتح الشركات وجلب الاستثمارات الخارجية وبالتالي زيادة فرص العمل، وإصلاح النظام الصحي الحكومي وتحسين إمكانيات مؤسسات الضمان الاجتماعي، وإضافة الأعمال الريفية والمنزلية -التي تعد من أكبر مصادر العمل غير الرسمي- إلى الوظائف المعترف بها رسمياً وتسجيلها في أنظمة الدولة[22]، وقد أدت هذه الإصلاحات إلى تخفيف نسبة العمل غير الرسمي بشكل ملحوظ -حتى خلال فترة جائحة كورونا- لتنخفض من 25% في عام 2019 إلى 21% في 2022[23].
وفي مجال مكافحة التسلُّح غير المشروع والاتجار بالسلاح، برزت أستراليا واحدةً من أنجح الدول في هذا المجال، إذ وضعت خططاً صارمة لضبط السلاح بعد وقوع جريمة إطلاق نار عشوائي في بورت آرثر عام 1996، والتي راح ضحيتها العشرات، ونصّت الخطة على منع بيع الأسلحة شبه الآلية والآلية، وسحب الأسلحة الموجودة بين المواطنين مقابل منح مكافآت مالية، وتشديد الرقابة على الحدود وتغليظ العقوبات على مُهرّبي السلاح من أجل مكافحة الاتجار بالسلاح بطرق غير مشروعة، وأثمر تطبيق الخطة بجمع أكثر من 650 ألف قطعة سلاح في عام واحد، وعدم وقوع حوادث إطلاق نار جماعية لسنوات، وانخفاض حوادث القتل والانتحار بالأسلحة من 24% في عام 1990 إلى 12% في عام 2010[24].
ولم تكن هذه الجهود في مكافحة الاقتصاد الأسود مسؤولية الحكومات وحسب، بل كان لمنظمات المجتمع المدني دوراً فاعلاً في هذه الأنشطة، ومن أبرز الأمثلة الناجحة لمنظمات المجتمع المدني العاملة في هذا المجال كانت منظمة “براجوالا” في الهند، والتي نشطت في مكافحة الاتجار بالبشر والدعارة، وذلك عبر توفير بيئة آمنة لضحايا الاتجار بالبشر والدعارة، بحيث يتم إيواؤهم بعيداً عن المتاجرين بهم، وإبلاغ السلطات بما تعرضوا له، وتوفير رعاية صحية ونفسية لمعالجتهم من الصدمات التي تعرضوا لها، وإعادة دمجهم بالمجتمع عبر أنشطة تعليمية وعملية تساعدهم على تدبر أمور حياتهم بعيداً عن أعمالهم غير القانونية السابقة، وقد نجحت المنظمة بإنقاذ ما يقارب 30 ألفاً من ضحايا الاتجار بالبشر، وإنقاذ قرابة 20 ألفاً من الأطفال قبل سقوطهم بيد شبكات الدعارة، والقبض على قرابة 200 من قادة شبكات الاتجار بالبشر في الهند[25].
الدولة | مجال الاقتصاد الأسود الذي نجحت بمكافحته | الخطوات التي اتخذتها |
رواندا | التهرب الضريبي | – إعادة هيكلة النظام الضريبي – تسهيل المعاملات وتسريعها – رقمنة الأنظمة وربط المعاملات بقواعد بيانات حاسوبية |
رواندا | الرشوة والفساد الإداري | – رفع الوعي المجتمعي بخطورة الفساد على اقتصاد الدولة – تشديد العقوبات على المتورطين، بما يشمل الفصل النهائي من العمل – إعادة هيكلة مؤسسات الدولة وتعزيز دور الأجهزة الرقابية |
رواندا | التعدين غير المشروع | – رفع عقوبات السجن والغرامات على المتورطين – استخدام الطائرات المسيرة والوسائل التكنولوجية الحديثة في الرقابة على المواقع الوعرة |
أفغانستان | إنتاج وتهريب المخدرات | – استخدام القوة العسكرية في اعتقال شبكات المنتجين والمهربين وفرض أحكام قاسية عليهم – نشر القوات المسلحة في الأرياف لتدمير المحاصيل ومعامل الإنتاج – وضع المتعاطين في مراكز إعادة تأهيل |
السلفادور | عصابات الجريمة المنظمة | – استخدام القوة المفرطة في مواجهة العصابات – تعديل النظام القضائي ليسمح بإجراء محاكمات سريعة جماعية لأفراد العصابات – زيادة الطاقة الاستيعابية للسجون ورفع مستوى العقوبات على المتورطين |
نيجيريا وفيتنام | تزوير العملة | – إعادة طباعة الأوراق النقدية باستخدام مادة البوليمر التي تصعب عملية التزوير – تكثيف الحملات الأمنية التي تستهدف شبكات التزوير |
الأوروغواي | تشغيل العمالة بشكل غير نظامي | – تسهيل معاملات تسجيل العمال – زيادة الحوافز الممنوحة للشركات والعمال في حال تسجيلهم داخل أنظمة الدولة – تخفيف الأعباء الضريبية على المستثمرين – إصلاح النظام الصحي ونظام الضمان الاجتماعي – إدخال المهن المنزلية والريفية لنظام العمل |
أستراليا | الاتجار بالسلاح | – منع بيع الأسلحة الآلية وشبه الآلية – تحفيز المواطنين على تسليم أسلحتهم مقابل مكافآت مالية – تشديد الرقابة الأمنية على الحدود لضبط شبكات تهريب السلاح – تغليظ العقوبات على المتورطين بتجارة السلاح بشكل غير مشروع |
الهند (منظمة براجوالا) | الاتجار بالبشر والدعارة | – تأمين الضحايا وتوفير مأوى لهم – إبلاغ السلطات الأمنية بما تعرض له الضحايا وبمعلومات العصابات المتورطة بهذه الجرائم – توفير رعاية صحية ونفسية للضحايا – إعادة دمج الضحايا بالمجتمع عبر تعليمهم مهناً جديدة بعيدة عن المهن غير المشروعة التي تورطوا بها |
جدول 1: الدروس المستفادة من النماذج الدولية في مكافحة الاقتصاد الأسود
يصعب حل جميع مشكلات الاقتصاد الأسود بضربة واحدة وبفترة قصيرة، فالتجارب الدولية تقول إن العملية معقدة وطويلة وتحتاج للاستعداد والتخطيط والتدقيق في عملية التنفيذ، ويمكن القول إن وضع أولويات للعمل عليها في إطار مكافحة الاقتصاد الأسود هو خطوة مبدئية لتخفيف آثاره السلبية، إذ تختلف الظروف وتختلف أشكال الاقتصاد الأسود من دولة لأخرى، وهذا ما يجعل كل دولة ترتب المشكلات التي يجب حلها وفق ضررها وأثرها السلبي على اقتصادها.
من المهم خلال وضع الأولويات أيضاً دراسة كافة جوانب المشكلة ومعرفة أسبابها وجذورها، إذ لا تكفي أحياناً الحلول الأمنية والتشديد الصارم في القضاء على المشكلة، بل يمكن أن يتسبب بعودتها بأشكال أخرى تُعقّد الأمور أكثر مما كانت عليه، لذا من المهم دراسة الجوانب الاجتماعية والجغرافية واللوجستية والقانونية والسياسية التي تحيط بهذه الظواهر، والعمل على معالجة المشكلات بأسلوب تكاملي لا يعتمد فقط على العقلية الأمنية وحسب.
الاقتصاد الأسود في سوريا:
تملك سوريا تاريخاً طويلاً من المعاناة مع أشكال الاقتصاد الأسود منذ عقود، إذ انتشرت ممارسات الرشوة والفساد الإداري داخل القطاع الحكومي وكذلك التهرُّب الضريبي بشكل كبير حتى ما قبل 2011، وبعد اندلاع الثورة وتزعزع قوة نظام الأسد ومؤسساته واقتصاده، بدأ النظام باستخدام أساليب غير قانونية لتحقيق الدخل، من أبرزها إنتاج وتصدير المخدرات، كما تسبَّب غياب مؤسسات الدولة بانتشار عمليات استخراج الموارد وبيعها بطرق غير قانونية وبدائية، وتهريب السلاح والآثار والبضائع بشكل غير قانوني.
تزامن هذا التضخم في حجم الاقتصاد الأسود مع انهيار اقتصادي كبير حدث بعد توسُّع نطاق الاشتباكات والحرب في أواخر عام 2011، إذ ارتفع التضخم من 6.3% عام 2011 إلى أكثر من 140% في عام 2021، وانخفضت قيمة سعر صرف الليرة السورية في الأسواق الرسمية 26 ضعفاً لتصل إلى 1250 ليرة للدولار الواحد، وفي السوق السوداء 82 ضعفاً لتصل إلى 4270 ليرة للدولار الواحد بحسب إحصائيات عام 2021[26]، كما انكمش الاقتصاد السوري بنسبة 45% خلال هذه السنوات العشر، وتسبّبت العقوبات الغربية على سوريا بزيادة تأزُّم الوضع الاقتصادي من جهة، وزيادة حجم الاقتصاد الأسود من جهة أخرى[27].
تجارة المخدرات:
كانت سوريا قبل عام 2011 معبراً في طريق تجارة المخدرات القادمة من أفغانستان وإيران المتجهة للخليج العربي وأوروبا، ولم يكن نظام الأسد متورطاً بإنتاج المخدرات على نطاق واسع في تلك المرحلة، لكن بعد اندلاع الثورة بدأت مجموعات داخل نظام الأسد بتوسيع إنتاجها للمخدرات، وذلك بالتعاون مع شبكات خارجية متورّطة في شبكات تجارة المخدرات، مثل “حزب الله” اللبناني والميليشيات الإيرانية، وبعد تزايد عزلة نظام الأسد دولياً وزيادة أزمته الاقتصادية بعد عام 2018 بدأ بتوسيع عمليات إنتاج المخدرات وتهريبها لدول الخليج العربي وأوروبا، وذلك تحت إشراف الفرقة الرابعة في الجيش التي كان يقودها ماهر الأسد، والتي سخّرت إمكانيات كبيرة لتصنيع المخدرات بكميات كبيرة[28].
بلغ حجم اقتصاد المخدرات الذي اعتمد عليها نظام الأسد ما يقارب 16 مليار دولار أمريكي، وهو ما عادل 3 أضعاف ميزانية الحكومة في عام 2022، وأدى هذا التضخم الكبير في تجارة المخدرات في سوريا إلى صعود نفوذ شخصيات مقرّبة من نظام الأسد و”حزب الله” سياسياً واقتصادياً على حساب إفقار عموم الشعب، كما استخدم نظام الأسد المخدرات في تطويع الشعب وإخضاعه لسيطرته، وفي تجنيد الشباب في صفوف جيشه وميليشياته[29].
وفي هذا السياق، زاد انتشار بيع المخدرات واستخدامها في الداخل السوري بشكل كبير بعد عام 2011، حيث اعتمد نظام الأسد والميليشيات الإيرانية على ترويج هذه المخدرات في الداخل السوري لاختراق الحواضن الشعبية الثائرة، واستغلال إدمان الشباب لزيادة حجم شبكات الترويج والبيع، وكان من الملاحظ استخدام مواد مخدرة ذات تكلفة رخيصة وجودة رديئة من أجل نشرها على أوسع نطاق بين جميع فئات الشعب[30].
وبعد سقوط نظام الأسد، ضبطت الحكومة الجديدة مصانع ومستودعات ضخمة استخدمها النظام البائد وميليشيات “حزب الله” لإنتاج المخدرات وتخزينها، وزادت عمليات ضبط المهربين وإيقاف الشحنات بالتعاون مع دول الجوار مثل الأردن ودول الخليج العربي، لكن ما تزال هناك بؤر تنشط فيها عصابات المخدرات، مثل محافظة السويداء جنوب سوريا التي تقع خارج سيطرة الدولة وتسيطر عليها مجموعات مسلحة درزية مدعومة من “إسرائيل” وتضمُّ في صفوفها ضباطاً من نظام الأسد، وهذا ما يجعل إنهاء ملف المخدرات بشكل كامل مؤجَّلاً لحين حل ملف السويداء[31].
تجارة السلاح:
نشط نظام الأسد منذ سنوات طويلة -حتى قبل 2011- في تهريب السلاح إلى الدول المجاورة، وبالأخص في تهريب السلاح والذخائر إلى ميليشيا “حزب الله” اللبناني، وخلال سنوات الثورة زادت فوضى السلاح في البلاد وانتشرت المجموعات المسلحة في جميع أنحاء البلاد، والتي حصلت على أسلحتها عبر اغتنامها من مواقع نظام الأسد، أو عبر شرائها من السوق السوداء، وانتشرت شبكات تهريب السلاح باختلاف مواقع النفوذ خلال سنوات الثورة السورية.
أدّى سقوط نظام الأسد السريع خلال أيام قليلة إلى حدوث فجوة أمنية كبيرة في مناطق مختلفة في البلاد، وترك جنود النظام وعناصره عشرات المواقع العسكرية في جميع أنحاء البلاد دون حراسة تُذكر، ما أتاح الفرصة أمام مجموعات مسلحة وعصابات إجرامية وحتى الأفراد المدنيين العاديين إلى نهب كميات كبيرة من الأسلحة بجميع أنواعها -بما فيها الأسلحة الثقيلة- والذخائر والمعدات العسكرية، وذلك خلال الأيام الأولى التي تلت سقوط نظام الأسد، والتي لم تكن الإدارة السورية الجديدة قد بسطت سيطرتها على كامل المناطق بعد[32].
وبعد فرض الاستقرار النسبي في الأراضي السورية، بدأت الحكومة الجديدة بإجراء عمليات تسوية لعناصر النظام السابق مقابل تسليم أسلحتهم[33]، وكثّفت من حملات التفتيش للبحث عن مخازن السلاح[34]، كما زادت من عمليات الرقابة على الحدود، خصوصاً مع الحدود اللبنانية، لضبط عمليات تهريب السلاح المتجهة إلى “حزب الله” اللبناني[35].
لكن رغم هذه الجهود ما تزال فوضى السلاح منتشرة في البلاد، في ظل وجود مناطق خارج سيطرة الحكومة، مثل السويداء التي صارت مرتعاً للعصابات الخارجة عن القانون التي استولت على كميات كبيرة من السلاح والذخيرة الموجودة في مقرات النظام البائد، وتنشط في تهريب وتجارة السلاح داخل البلاد، كما ما تزال شبكات التهريب تحاول إيجاد طرق بديلة للتأقلم مع الظروف الجديدة[36].
تهريب السلع بطرق غير مشروعة:
فتح نظام الأسد منذ عقود الباب على تهريب البضائع ضمن شبكات يديرها مقرَّبون له، إلى درجة بلوغ نسبة اقتصاد الظل في سوريا 45% من حجم الاقتصاد الكلي للبلاد، وهي من أعلى النسب في العالم، في إشارة إلى تساهل الدولة مع التهريب والعمل غير النظامي، بل وتشجيعها عليه ضمن شبكات تابعة لها[37].
كانت لبنان هي الدولة الأكثر تعرُّضاً لعمليات التهريب نظراً لوجود الجيش السوري فيها الذي استمر حتى عام 2005، وأدى لزعزعة أمن الحدود وتوفير طرق للتهريب تحت إشراف الجيش السوري، بالإضافة إلى عدم ترسيم الحدود بشكل واضح وتداخل المناطق الحدودية بين البلدين من ناحية التضاريس والديموغرافيا، ما فتح الباب أمام تهريب البضائع بشتى أنواعها، وزاد الأمر بعد عام 2011 حيث تدخّلت ميليشيا “حزب الله” في سوريا وبدأت بتأسيس نفوذ سمح لها بزيادة حركة التهريب من وإلى سوريا[38].
أما بالنظر للعراق، فقد ازدهرت حركة التهريب معه بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، وذلك بعد زيادة حركة العابرين بين البلدين، وبلغ الأمر ذروته بعد تمدُّد تنظيم “داعش” الذي أزال على الأرض الحدود بين البلدين وباتت المنطقة الحدودية مفتوحة بالكامل أمام حركة الأفراد والبضائع بشكل غير مسبوق، وبعد هزيمة التنظيم لم تتوقف حركة التهريب، بل صارت مُنظَّمة أكثر وتُديرها شبكات احترافية تتبع لإيران وميليشياتها، والتي هدفت لاستغلال هذه المعابر الرسمية وغير الرسمية في تهريب البضائع مثل المحروقات لمناطق نظام الأسد الذي كان يعاني من العقوبات الدولية، وتهريب السلاح والذخيرة لتصل إلى “حزب الله” اللبناني[39].
أما بالنظر إلى تركيا، فقد كانت هناك حركة تهريب مستمرة قبل 2011 قائمة على تهريب البضائع من وإلى البلدين، وبلغت ذروتها في 2011-2015 مع فتح تركيا حدودها بشكل كبير لاستقبال اللاجئين السوريين دون تدقيق كبير على الحدود، ثم انضبط الوضع نسبياً بعد ذلك مع تشديد تركيا إجراءات الحراسة على الحدود، لكن لم تتوقف الحركة بشكل كامل[40].
وبالنظر إلى الأردن، فقد كانت الحدود منضبطة بشكل كبير مقارنة بالحدود مع الدول الأخرى، وذلك نظراً لإغلاق الأردن المعابر الرسمية لفترات طويلة بعد 2011، وتشديدها الإجراءات الأمنية بشكل كبير بعد اكتشاف شحنات مخدرات كانت متجهة لدول الخليج العربي، بالإضافة إلى عامل وجود “إسرائيل” القريب الذي يُحتّم على الفاعلين في هذه المنطقة ضبط أمنها بشكل كبير لمنع أي انفلات أمني قد يضر “إسرائيل”[41].
وبعد سقوط نظام الأسد لم تتوقف حركة التهريب، خصوصاً مع لبنان التي ما تزال سوريا تواجه مشكلة معها في ترسيم الحدود، بالإضافة إلى وجود ميليشيا “حزب الله” التي تحاول بشتى الطرق إيجاد طرق تهريب جديدة لإمداده بالسلاح والذخيرة بالإضافة إلى استمرار تجارته غير الشرعية بالسلع العادية أو بالمخدرات، والتي تعد العمود الاقتصادي الذي يستند عليه الحزب لتوفير نفقاته[42].
تهريب الآثار:
عمل نظام الأسد حتى قبل عام 2011 على سرقة الآثار السورية وتهريبها للخارج عن طريق شبكات تابعة له، ويستفيد منها أشخاص متنفّذون داخل النظام يحصلون على مبالغ طائلة من هذه التجارة، وزادت وتيرة سرقة الآثار وتهريبها على يد نظام الأسد بعد عام 2011 مستغلاً حجة الانفلات الأمني، وترافق ذلك أيضاً مع قيام أفراد أو مجموعات مسلحة بالتنقيب عن الآثار وتهريبها للخارج[43].
ومع ظهور تنظيم “داعش”، تلقّى قطاع الآثار في سوريا ضربة قاصمة، إذ سيطر التنظيم على مناطق أثرية كبرى، مثل مدينة تدمر، ومناطق أخرى في محافظة الرقة، ودمّر عدداً من الآثار التي تعود إلى آلاف السنين، فيما سرق عدداً آخر منها وباعها للخارج لتأمين مصاريف التنظيم، كما شجَّع المواطنين على التنقيب عن الآثار وتهريبها عن طريقهم مقابل حصة من الأرباح، بشكل أدى إلى خسائر فادحة في قطاع الآثار في سوريا[44].
تعرضت معظم المواقع الأثرية في سوريا خلال سنوات الثورة -على اختلاف القوى المسيطرة- إلى سرقة ممنهجة، إما عن طريق القوى المسيطرة نفسها أو عن طريق الأفراد الراغبين بكسب المال الوفير، الأمر الذي أدى إلى تدمير مواقع أثرية ضخمة، وضياع عدد لا يحصى من القطع الأثرية التي جرى تهريبها للخارج ولا يُعرف أثرها حتى الآن، ومع سقوط نظام الأسد استمرت حالات السرقة الفردية للمواقع الأثرية بشكل كبير في ظل ضعف الرقابة الأمنية[45]، في حين تواجه الحكومة الجديدة تحديات كبيرة تتمثل في حماية المواقع الأثرية التي ما تزال تتعرض لمحاولات السرقة والتنقيب غير الشرعي لحد الآن، ووضع قاعدة بيانات بالقطع الأثرية المنهوبة والعمل على تتبع مواقعها ومطالبة الدول الأخرى بإعادتها إلى سوريا وفق ما تنص عليه القوانين الدولية[46].
استخراج وبيع النفط بطرق غير مشروعة:
كانت الصناعة النفطية في سوريا قبل عام 2011 تقع تحت سلطة نظام الأسد بشكل كامل، والذي كان يديرها بشكل قانوني على الورق ويُتاجر بها بشكل نظامي مع العالم، لكن بعد عام 2011 واندلاع الاشتباكات المسلحة تغيّرت موازين القوى، وظهرت فواعل جديدة ما دون الدولة على الساحة، كان من أبرزها تنظيم “داعش” الذي سيطر على معظم حقول النفط السورية في شرق البلاد، وبدأ باستخراج النفط بأساليب بدائية وبيعه عبر شبكات التهريب إما للمواطنين في مناطق سيطرته، أو لمناطق نظام الأسد، أو لمناطق “قسد”، وقد استمر هذا الحال لمدة تقارب 3 سنوات حتى أواخر عام 2017[47].
بعد هذه المدة سيطرت “قسد” على معظم الحقول النفطية التي كانت تحت سيطرة “داعش”، واستلمت عملية الإنتاج والبيع بطريقة مشابهة لما كان عليه في زمن “داعش”، من حيث بدائية طرق الاستخراج، واستخدام شبكات التهريب لبيع النفط لمناطق نظام الأسد ولكردستان العراق ولمناطق المعارضة السورية، وأدى هذا إلى مشكلات عديدة، من أبرزها إضعاف إنتاجية الآبار، وتلويث البيئة بشكل يزيد من انتشار أمراض السرطان وأمراض الجهاز التنفسي بين السكان المحليين، وخسائر مادية بسبب جريان هذه التجارة في إطار غير قانوني يستفيد منه المهربون والقائمون على هذه الآبار بالمقام الأول في مقابل ارتفاع الأسعار على المواطنين[48].
وبعد سقوط نظام الأسد وقّعت الحكومة السورية الجديدة مع “قسد” اتفاقية 10 مارس/آذار، والتي كان من بينها تسليم مؤسسات الدولة ومواردها الطبيعية، بما في ذلك حقول النفط والغاز في شرقي سوريا، إلى الحكومة الجديدة لتديرها[49]، إلا أن تنفيذ هذه البنود ما زال معلّقاً لحد اللحظة، وسط جمود في العلاقة بين الطرفين وتباطؤ من طرف “قسد” في تنفيذ الاتفاق[50].
التلاعب بسعر الصرف في السوق السوداء:
عمد نظام الأسد في سنواته الأخيرة مع انهيار قيمة الليرة السورية إلى نشر الضبابية حول سعر صرفها مقابل العملات الأجنبية، وذلك عبر نشر أسعار مختلفة من جهات رسمية، واستغلت مكاتب الصرافة في السوق السوداء هذه الضبابية في وضع سعر صرف مختلف تماماً عن الذي يُحدّده البنك المركزي السوري، وأشار خبراء اقتصاديون إلى أن نظام الأسد كان يستفيد من هذا التلاعب عبر استيراد بضائع معينة بأقل من سعرها الحقيقي، وتحصيل ضريبة غير مباشرة من عمليات التصريف[51].
وبعد سقوط نظام الأسد، استمرت مكاتب الصرافة في السوق السوداء بالتلاعب في سعر الصرف وعدم الالتزام بالأسعار المنشورة في البنك المركزي السوري، وذلك لأسباب عديدة بحسب الخبراء الاقتصاديين، منها: انخفاض الثقة بسياسات البنك المركزي، وضعف سيولة الليرة السورية، واستخدام العملات الأجنبية في عمليات الاستيراد من الخارج، وهو ما يجعل شركات الصرافة تستغل هذه الظروف في التلاعب بسعر صرف الدولار[52].
ومؤخراً أعلن البنك المركزي عزمه طباعة عملة جديدة مع حذف صفرين منها، وهي خطوة تهدف إلى تعزيز الثقة بالليرة السورية، وتسهيل المعاملات المالية، وتحسين الاستقرار النقدي، وهي خطوة من شأنها رفع الرقابة الحكومية على المعاملات المالية والحد من عمليات التلاعب في أسعار الصرف[53].
توصيات لمكافحة الاقتصاد الأسود:
كانت سوريا قبل 2011 واحدة من أكبر دول العالم في حجم الاقتصاد الأسود مقارنة بالاقتصاد الكلي، وزاد حجم هذه المشكلة خلال سنوات الثورة بسبب ممارسات نظام الأسد وسياساته، والآن ورثت الحكومة الجديدة تركة ثقيلة بحاجة إلى خطوات إسعافية عاجلة لإعادة البلاد إلى المسار الصحيح، وبحاجة إلى خطط متوسطة وطويلة الأمد لإصلاح هذه المشكلة من جذورها.
وفي هذا الصدد، يمكن تقديم مجموعة من التوصيات لمعالجة ومكافحة ظواهر الاقتصاد الأسود في سوريا:
في مجال مكافحة المخدرات:
- استمرار التشديد الأمني الحكومي تجاه عصابات تهريب المخدرات، والذي بدأ منذ سقوط نظام الأسد وتم بفضله الكشف عن العديد من المصانع وشبكات التهريب المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، وتكثيف الدوريات الأمنية في المناطق الحدودية التي ما تزال تشهد نشاطاً لخلايا الفلول و”حزب الله”.
- دراسة المناطق التي نشط جزء من سكانها في إنتاج المخدرات وتهريبها، وذلك لمعرفة الأسباب التي دفعتهم للعمل في هذا المجال، إن كانت لأسباب اقتصادية مثل الفقر وعدم توفُّر فرص عمل كريمة، أو بسبب ارتباطات معينة مع شبكات نظام الأسد أو “حزب الله”، وبالتالي إيجاد حلول اقتصادية على المدى الطويل تضمن عدم احتياجهم للعودة لهذا المجال، أو إيجاد حلول أمنيّة تؤدّي بالنهاية إلى تفكيك هذه الخلايا وتجفيفها من منابعها.
في مجال مكافحة استخراج النفط والمعادن بطرق غير مشروعة:
- في حال عودة سيطرة الدولة على حقول النفط، إصلاح البنى التحتية في الآبار واستخدام معدّات حديثة.
- تغليظ العقوبات بحق المتورّطين باستخراج النفط والمعادن بطرق غير مشروعة.
في مجال مكافحة تهريب الآثار:
- وضع حراسة أمنية مُشدّدة على المواقع الأثرية الموجودة تحت سلطة الدولة.
- تغليظ العقوبات على المتورّطين بالتنقيب عن الآثار وتهريبها بشكل غير شرعي.
- توظيف مختصين في مجالات التنقيب والحفاظ على الآثار في وزارة الثقافة لوضع خطط لهذا القطاع وحل مشكلاته المزمنة.
- وضع قواعد بيانات بالقطع الأثرية المفقودة من سوريا، وتتبّع أماكنها في دول العالم وفي الأسواق السوداء، ومطالبة الدول بإعادة الآثار السورية المسروقة الموجودة عندها وفقاً لما تنص عليه القوانين الدولية.
- طلب الدعم من المؤسسات الأممية المعنية بالتراث والآثار والدول الصديقة في تقدير حجم الأضرار في قطاع الآثار في سوريا خلال سنوات الحرب وإعادة ترميم المواقع الأثرية والمتاحف وحمايتها من أعمال التخريب والتنقيب غير الشرعي والتهريب.
في مجال مكافحة تهريب البضائع:
- استمرار الحملات الأمنية التي تستهدف شبكات التهريب الكبيرة، خصوصاً على الحدود اللبنانية التي تنشط فيها شبكات تابعة لميليشيا “حزب الله”.
- العمل على إنهاء ترسيم الحدود مع الجانب اللبناني ليتم بعدها نشر قوات حرس الحدود من البلدين على طرفي الحدود.
- توفير فرص عمل لشباب المناطق الحدودية المشهورة بالعمل في التهريب، ودعم الأعمال الزراعية والتجارية والعمل على جلب استثمارات تحيي الحركة الاقتصادية فيها.
- مراجعة قوانين الاستيراد والتصدير وقوانين الضرائب لإيجاد الثغرات التي تدفع الناس للتهريب أو تسهّل عليهم ذلك.
- استخدام الوسائل التقنية الحديثة، مثل الطائرات المسيرة وكاميرات المراقبة الحديثة في مراقبة الحدود والمناطق الوعرة التي ينتشر فيها التهريب أو الأنشطة غير القانونية.
في مجال مكافحة التهرب الضريبي والعمل غير الرسمي:
- رقمنة الحكومة ونقل أنظمتها وقواعد بياناتها للأنظمة الحاسوبية، بشكل يُوفّر الوقت والجهد والتكاليف المالية في متابعة المعاملات، ويُسرّع من عمليات إنجازها، ويُشجّع المواطنين على الالتزام بالقوانين بسبب الرقابة الشديدة من جهة وبسبب سرعة إنجاز المعاملات وعدم تعقيدها من جهة أخرى.
- إعادة هيكلة النظام الضريبي وتسهيل معاملاته، عبر تخفيف القيود غير الضرورية المفروضة منذ زمن نظام الأسد، والتي كانت تعقّد العمل بشكل نظامي وتُشجّع على مخالفة الأنظمة، وعبر اعتماد الشفافية في ميزانيات الدولة وصرف الضرائب، بحيث يشعر المواطنون أن ضرائبهم لا تتم سرقتها ويتم صرفها وفقاً لاحتياجات الشعب والدولة، وهذا يُخفّف من دوافع التهرب الضريبي وعدم الالتزام بالقوانين الناظمة للاقتصاد.
في النهاية، يجب التأقلم مع حقيقة أنه لا يمكن القضاء على الاقتصاد الأسود بنسبة 100%، إذ ينتشر هذا الاقتصاد غير الرسمي في جميع دول العالم بلا استثناء -بنسب متفاوتة- لكن تسعى الدول والحكومات إلى تحجيم هذا النوع من الاقتصاد وجعله ضمن الحدود المعقولة، وضمان ألا يؤدي هذا النوع من الاقتصاد إلى اختلالات أمنية واقتصادية كبيرة داخل البلاد.
بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري