الإصداراتالتقارير الموضوعيةوحدة تحليل السياسات

قراءة في خريطة الطريق الجديدة للحل في السويداء وسبل مواجهة مطالب الانفصال

تمهيد:

في 16 أيلول الجاري، أعلنت الخارجية السورية التوصل إلى اتفاق جديد بخصوص السويداء برعاية أردنية أمريكية يتضمن خريطة طريق للحل بهدف إطلاق مسار لـ “تحقيق المصالحة الوطنية واستعادة الاستقرار” في المنطقة[1].

وقد جاء الاتفاق في توقيت حساس تعيشه المحافظة، فمنذ أواخر تموز الماضي وبعد الاشتباكات العنيفة التي شهدتها محافظة السويداء، برزت أصوات ترفع مطلب الانفصال عن الدولة السورية، وفي مقدمتها حكمت الهجري أحد شيوخ عقل الطائفة الدرزية، الذي لم يكتفِ بانتقاد الحكومة السورية والسعي لشيطنتها؛ بل وجّه الشكر لـ”إسرائيل” في أكثر من مناسبة[2].

جاءت هذه التطورات تتويجاً لأشهر من استعصاء الحلول بين الطرفين، حيث تعثّرت جميع مبادرات الحكومة السورية لاحتواء الموقف[3]، خاصة في ظل الخطاب الهجومي المتصاعد من قبل الهجري ضد الحكومة السورية منذ تشكيلها وزيادته مستوى التصعيد بعد أحداث تموز الأخيرة، وحشد أنصاره إلى الخروج بتظاهرات دورية يتم فيها رفع العلم “الإسرائيلي”[4]، وإشرافه على تشكيل ما سُمّي بـ “الحرس الوطني” في السويداء الذي يضمّ ضباطاً من فلول النظام البائد[5]، وعصابات تنشط في أشكال متعددة من الجريمة[6].

أمام هذا المشهد، تجد الحكومة السورية الجديدة نفسها أمام تحدّيات جديدة تتعلق بالحفاظ على وحدة البلاد، والتعامل مع الضغوط والاعتداءات “الإسرائيلية” في آنٍ واحد، فالمسألة لم تعد محصورة في إدارة الخلاف مع أطراف داخل السويداء، بل تحوّلت إلى ملف سياسي له امتدادات إقليمية خطيرة تُهدّد بتفكيك الجغرافيا السورية، خصوصاً مع ما يُثار باستمرار عن ما يُعرَف بـ “مـشروع داوود” الاستراتيجي الذي تطمح “إسرائيل” لتطبيقه في سوريا[7]، والذي يمنحها وصولاً برياً إلى شرق الفرات، فضلاً عن أن السلوك “الإسرائيلي” نفسه بشكل عام كان عدوانياً ضد سوريا الجديدة ويقف عائقاً اليوم أمام استقرار المنطقة الجنوبية.

وانطلاقاً من هذه المعطيات، تأتي أهمية البحث في خيارات الحكومة السورية الجديدة لمواجهة هذه التحديات، عبر مقاربة متعددة الأبعاد توازن بين متطلبات الحفاظ على وحدة البلاد وضرورة استيعاب الهواجس المحلية خصوصاً بعد أحداث تموز الأخيرة في السويداء، وبين التصدّي للمشاريع الخارجية الساعية لتفكيك الوحدة السورية وزرع الانقسامات بذرائع حماية الأقليات.

لذلك، يحاول هذا التقرير تقديم قراءة في بنود خارطة الطريق الجديدة للحل في السويداء ورد الهجري عليها، ثم يتطرق إلى البدائل الممكنة أمام الحكومة السورية لإجهاض مشروع الانفصال في السويداء وإحباط مطامع بعض القوى الخارجية التي تراهن على استغلال ملف السويداء لفرض وقائع جديدة على الأرض.

أولاً: قراءة في بنود خارطة الطريق الجديدة بالسويداء ورد الهجري عليها:

جاءت خارطة الطريق الجديدة في السويداء بعد اجتماع هو الثالث بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ونظيره الأردني أيمن الصفدي والمبعوث الأمريكي لسوريا توماس باراك منذ أحداث تموز الماضي، وتنص على 7 بنود رئيسة:

  1. محاسبة كل من اعتدى على المدنيين وممتلكاتهم وبالتنسيق الكامل مع المنظومة الأممية للتحقيق والتقصي.
  2. ضمان استمرار تدفُّق المساعدات الإنسانية والطبية دون انقطاع.
  3. تعويض المتضررين وترميم القرى والبلدات وتسهيل عودة النازحين.
  4. إعادة الخدمات الأساسية وتهيئة الظروف لعودة الحياة الطبيعية.
  5. نشر قوات محلية من وزارة الداخلية لحماية الطرق وتأمين حركة الناس والتجارة.
  6. العمل على كشف مصير المفقودين وإعادة المحتجزين والمخطوفين إلى عائلاتهم من جميع الأطراف.
  7. إطلاق مسار للمصالحة الداخلية يشارك فيه أبناء السويداء بجميع مكوناتهم.

يُلاحَظ من خلال هذه البنود أن بعضها يتقاطع أساساً مع الخطوات التي تم اتخاذها على أرض الواقع في الشهرين الماضيين -وفق ما سيأتي في الفقرة التالية- فيما يتعلق باستمرار وصول المساعدات وإعادة الخدمات وتسهيل عودة النازحين وكشف مصير المفقودين، لكن الإشكاليات في بعض هذه البنود هو صعوبة التطبيق، مثل محاسبة مرتكبي الانتهاكات. فعلى سبيل المثال: إنْ كانت الحكومة السورية قادرة على ملاحقة مرتكبي الانتهاكات من طرف البدو والقوى الأمنية، فكيف ستتم محاسبة مليشيات الهجري المسؤولة كذلك عن جرائم قتل وتهجير واستدعاء التدخل “الإسرائيلي”؟، ما يثير مخاوف من أن تقتصر المحاسبة على طرف واحد، فضلاً عن ذلك لم تُوضّح خريطة الطريق آلية واضحة لتفعيل مسار المصالحة الداخلية الذي ورد ضمن البنود خاصة مع المواقف المتصلّبة من قبل الهجري.

كذلك فإن رد الهجري -وفق ما كان متوقّعاً- جاء برفض هذه المبادرة، حيث أصدرت ما تُسمّى “اللجنة القانونية العليا في السويداء” التابعة للهجري بياناً أعلنت فيه رفضها لخارطة الطريق واعتبرتها “محاولة لفرض وصاية جديدة على المحافظة” وتجاهلًا لما سمّتها “جرائم موثقة ارتكبتها القوات الحكومية بحق المدنيين”[8].

وقد أظهر بيان اللجنة التمسُّك بسردية الهجري حول استدعاء الخارج من خلال الدعوة إلى “تحقيق دولي” واعتبار المحاسبة وفق القانون السوري “إفراغاً للتحقيق الدولي من مضمونه، لأن المتهم لا يمكن أن يكون القاضي”.

وختم البيان برفع سقف المطالب من خلال التأكيد على مطلب “الحق القانوني والأخلاقي في تقرير المصير” سواء عبر الإدارة الذاتية، أو حتى الانفصال.

بالمجمل، يمكن القول إن بيان اللجنة العليا القانونية التابعة للهجري يُظهر أن الموقف لم يعد محصوراً برفض بعض التفاصيل الإجرائية في خارطة الطريق، بل بات أقرب إلى مقاربة نقيضة بالكامل لما تأسّست عليه المبادرة، فالبيان لم يتوقف عند انتقاد آليات المحاسبة أو التشكيك في حيادية السلطة، بل تجاوز ذلك إلى الطعن بمبدأ الشرعية الوطنية وحتى الوساطة الأردنية الأمريكية عبر المطالبة بتحقيق دولي يُقصي أي دور لمؤسسات الدولة؛ في إعادة إنتاج واضحة لخطاب استدعاء الخارج الذي يتبعه الهجري، وبذلك يعكس البيان محاولة للهروب من أي مسار تسوية داخلية، وربط مستقبل السويداء حصراً بأجندات خارجية.

كما أن رفع سقف المطالب بالحديث عن “حق تقرير المصير” يُظهِر أن اللجنة القانونية تسعى لتحويل ملف السويداء إلى قضية سياسية مفتوحة على خيارات الانفصال أو الإدارة الذاتية، وهو ما يُكرّس دور الهجري كسلطة أمر واقع بديلة عن الدولة. وعليه، فإن ردّ اللجنة جاء بمثابة إعلان سياسي يهدف إلى إبقاء الأزمة قائمة ويمنع أي أرضية مشتركة للحل، بما يُعزّز النفوذ الخارجي ويطيل أمد التوتر في الجنوب السوري، وهو ما يصب كذلك بشكل مباشر في مصلحة “إسرائيل” التي أظهر سلوكها منذ مرحلة ما بعد سقوط النظام البائد أنها راغبة في تعزيز الانقسامات بين المكوّنات السورية وإضعاف الدولة السورية.

إلى جانب ذلك، فإن بيان “اللجنة القانونية العليا” في السويداء يثير جملة من التساؤلات المهمة من أبرزها: ما الذي يدفعها إلى التصعيد ورفض خارطة الطريق رغم أنها تضم بنوداً لا تُحمّل طرفاً واحداً مسؤولية ما جرى؟ هل يرتبط هذا الموقف بحسابات محلية محضة أم بوعود “إسرائيلية” تتجاوز قدرة السويداء على تحمّلها منفردة؟ ثم لماذا تَظهر الولايات المتحدة بدور الوسيط وفي نفس الوقت تتيح لـ “إسرائيل” مساحة أوسع للتدخل ودعم المليشيات المسلحة في السويداء؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة قد تُسهم في توضيح المشهد بشكل أكبر خاصة إذا أخذنا بالاعتبار موقع السويداء الجغرافي المغلق وإمكاناتها الاقتصادية والديمغرافية المحدودة، والتي تجعل من الصعب استمرارها في التصعيد المفتوح ضد الدولة السورية دون سند خارجي فعّال.

ثانياً: سلوك الحكومة السورية في التعامل مع السويداء بعد رفع مطلب الانفصال:

أظهرت الحكومة السورية بعد طرح بعض الأطراف في السويداء مطالب الانفصال سلوكاً يحاول أن يجمع بين الأبعاد الخدمية والإدارية والأمنية، والحد من التدخُّلات الخارجية وتسييس ملف المساعدات[9].

فعلى المستوى الخدمي، تدفّقت المئات من شاحنات المساعدات الغذائية والطبية واللوجستيات وصهاريج المحروقات عبر ممرات بريف درعا[10]، ثم لاحقاً تم فتح الطريق الدولي بين دمشق والسويداء[11]، في خطوة رمزية وعملية هدفت إلى إعادة ربط المحافظة بالعاصمة بشكل تدريجي وسدّ الذرائع حول مزاعم وجود حصار والحاجة لـ “ممرات إنسانية” خارجية، وبالتزامن مع ذلك تُعلن المحافظة بشكل دوري عن إصلاح خطوط الكهرباء المتضررة أو التي تتعرض للأعطال[12].

بالتوازي مع ذلك، أعلنت الحكومة السورية أنها منحت المنظمات الأممية التسهيلات اللازمة للقيام بمهامها الإنسانية، وقد برز هذا بشكل عملي على أرض الواقع مع دخول قوافل مساعدات عربية إلى السويداء بإشراف الحكومة السورية[13].

وبشأن ما أُثير حول فتح “ممرات إنسانية” عبر الحدود، وخاصة الممر الذي تحدثت عنه أوساط “إسرائيلية” من الجولان إلى السويداء فقد رفضت دمشق بشكل قاطع فتح أي ممراتٍ من هذا النوع[14]، مؤكدة أن إدخال المساعدات إلى السويداء وغيرها يتم حصراً عبر مؤسسات الدولة في العاصمة.

وفي المجال الإداري، لجأت محافظة السويداء إلى تبرير تأخُّر صرف الرواتب في بعض الدوائر بوجود تقصير إداري من المديريات التي لم تقم بواجباتها، إضافة إلى التدخُّلات التي مارستها بعض الفصائل المسلحة داخل المدينة[15]، مؤكدة أن هذا العرقلة انعكست سلباً على حياة الموظفين. مع ذلك تم الإعلان عن صرف الرواتب لفئات أخرى، حيث أكد المحافظ أن الاستجابة جاءت للجهات التي استكملت الإجراءات الأصولية في رسالة ضمنيةٍ تربط الانتظام الإداري بالحصول على المستحقات[16]، كما أولت الحكومة عناية خاصة للعاملين في قطاع التربية وصرفت رواتب المعلمين والمتقاعدين في هذا القطاع[17]، كما أكدت المحافظة استعدادها لتأمين الظروف المناسبة لإجراء الامتحانات وضمان استمرار العملية التعليمية دون انقطاع.

وفي خطوة جديدة من نوعها، عيّنت وزارة الداخلية السورية القيادي الدرزي سليمان عبد الباقي مديراً لمديرية الأمن في مدينة السويداء[18]، وذلك ضمن خطة شاملة لإعادة هيكلة المنظومة الأمنية والشرطية في محافظة السويداء[19]، إلا أن اللافت في هذه التعيينات أنها شملت مناطق لا تسيطر عليها الحكومة السورية ولا تزال تحت سيطرة المليشيات الخارجة عن القانون، مثل مدينة السويداء، ما يجعل بعض التعيينات رمزية أكثر منها عملية.

أما على مستوى التمثيل في مجلس الشعب، فقد أجّلت اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب الانتخابات في السويداء[20] نظراً للظروف الأمنية فيها في قرار شمل أيضاً الحسكة والرقة، وقد جاء إرجاء الانتخابات في السويداء رغم أن اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب وجّهت كتاباً إلى محافظ السويداء تُبدي فيه رغبتها في إجراء زيارة ميدانية إلى المحافظة لعقد لقاءات مع الرموز والفعاليات المجتمعية حرصاً على إتاحة الفرصة لمشاركة جميع مكونات الشعب السوري[21]، إلا أن الأوضاع الأمنية المتوترة وسيطرة فصائل خارجة عن القانون على المحافظة حالت فيما يبدو عن القيام بمثل هذه الزيارة.

على المستوى الأمني، أولت الحكومة السورية قضية المختطفين اهتماما واضحاً، حيث أعلنت أكثر من مرة عن تحرير مختطفين من السويداء في بعض المناطق وإعادتهم إلى ذويهم[22]، مع التأكيد على الالتزام بمعالجة ملف المعتقلين والمفقودين، ولكن مع ذلك يبقى هذا الملف مُحاطاً بعدم الوضوح، خصوصاً مع غياب قواعد بيانات موثوقة حول الأرقام الحقيقية للمفقودين خلال الأحداث الأخيرة، فضلاً عن عدم تعاون الجهات المسيطرة على الأرض في السويداء وممارسة الهجري دور الضحية بشكل دائم، رغم توثيق الكثير من الجرائم التي قامت بها ميليشياته وتغييب مدنيين وناشطين إنسانيين[23].

بالتزامن مع ذلك، أعلنت وزارة الطوارئ بالتنسيق مع المحافظة عن خطة لإعادة النازحين إلى قراهم وتأمين احتياجاتهم الأساسية عبر الهلال الأحمر والمنظمات الإنسانية وتوجيه المنظمات الإنسانية لتأمين إغاثة عاجلة تضمن تلبية احتياجات المهجّرين الأساسية في هذه المرحلة[24].

على صعيد آخر وفيما يتعلق بالتحقيق بالانتهاكات -وهي القضية الأكثر حساسية نظراً لكونها تسبّبت بزيادة الشرخ- فقد أعلنت اللجنة الوطنية للتحقيق بأحداث السويداء أنها تواصل عملها الميداني وتقوم بزيارة إلى عدد من القرى في محافظة السويداء ومنطقة السيدة زينب في ريف دمشق، بينما أشار الرئيس أحمد الشرع في آخر مقابلة له إلى أن جميع الأطراف بما فيها الدولة ارتكبت “أخطاء” خلال أحداث السويداء وأنه يتم التحقيق فيها[25]، في إشارة واضحة على عدم تحميل طرف واحد مسؤولية ما جرى.

يتزامن ذلك مع إطلاق مبادرة وطنية حكومية تهدف إلى بناء الثقة وسط تأكيدات من القائمين عليها أن هناك الكثير من الفعاليات في السويداء وافقت على المبادرة، وأن خطة العمل فيها تقتضي الوقوف مع الدولة للوصول إلى سوريا واحدة لكل أبنائها ورفض التدخّل الخارجي ورأب الصدع[26]، رغم أن هناك بعض التخوّفات لدى الأشخاص الذين يُعوَّل عليهم المساهمة بالمبادرة من الأهالي في السويداء، ولكن مع ذلك أعلنت المبادرة التمسك بالتواصل الإيجابي مع الأهالي في السويداء رغم صعوبة الظروف.

ثالثاً: خطوات بناء الثقة وسط تحديات ثقيلة؛ قراءة في سلوك الحكومة السورية تجاه السويداء:

من خلال تتبّع سلوك الحكومة السورية في التعامل مع ملف السويداء يتضح أنها لم تتخلّ عن مسؤولياتها تجاه المحافظة أو تتعامل مع مطالب الانفصال بالقطيعة أو التصعيد أو المواجهة، رغم محاولات بعض الأطراف المحلية الفاعلة مثل الهجري استبعادها أو تصوير نفسها بديلاً عنها، فالمساعدات التي تدخل بشكل دوري للمحافظة وفتح الطريق الدولي مع دمشق تحمل رسالة واضحة بأن الدولة ماضية في توفير متطلبات الحياة الأساسية وربط المحافظة جغرافياً وإدارياً بالعاصمة، وهذا المسار يترافق مع إعلان متواصل عن إصلاح البنية التحتية، ولا سيما الكهرباء، بما يعكس التزاماً حكومياً بعدم ترك الأهالي عرضة للفراغ أو لابتزاز الفصائل الخارجة عن القانون.

في المجال الإداري، ورغم ما شاب صرف الرواتب من تأخير، فقد كان لافتاً أن الحكومة أكدت الالتزام باستمرار دفع الرواتب للقطاعات الحيوية كالتربية والمتقاعدين، مع توفير الظروف اللازمة لاستمرار العملية التعليمية، ما يشير إلى أن الحكومة السورية حرصت على إيصال رسالة لأهالي محافظة السويداء بأنها تضمن حقوق الموظفين والطلاب، وأن المشكلة في عدم استمرارية الخدمات هو الواقع الحالي فيها.

على الصعيد الأمني والاجتماعي، برز اهتمام الحكومة بملف المختطفين وإطلاق مبادرات لإعادتهم إلى ذويهم، إلى جانب وضع خطة لعودة النازحين وتأمين احتياجاتهم الأساسية عبر الهلال الأحمر والمنظمات الإنسانية، ما يمثل -لو تم إنجازه ولو بشكل تدريجي- ركيزة في عملية بناء الثقة مع المجتمع المحلي، خصوصاً أنها جاءت مترافقة مع مبادرة وطنية حكومية تهدف لرأب الصدع وإيجاد أرضية مشتركة ترفض التدخل الخارجي وتعيد دمج السويداء في الإطار الوطني العام، لكن مع ذلك فإن الإشكالات ستبقى قائمة في التنفيذ، خصوصاً مع استمرار حكمت الهجري برفض أي مبادرات سورية وطنية والانفتاح أكثر على الدعم “الإسرائيلي” وما يُسمّيه “حق تقرير المصير”.

أما سياسياً، فقد جاء قرار تأجيل الانتخابات في السويداء ليظهر أن الحكومة السورية لا تزال متمسكة بخيار إتاحة المشاركة السياسية لأهالي السويداء، رغم أن الإعلان الدستوري يمنح الرئيس أحمد الشرع حق تعيين ثلث أعضاء المجلس بشكل مباشر، وبذلك بدت الحكومة السورية وكأنها تربط ممارسة هذا الحق بإيجاد بيئة آمنة ومستقرة تتيح للأهالي اختيار ممثليهم وعدم فرض ممثلين عليها من خارج إرادتها.

في البعد الإقليمي، جاء رفض الحكومة بشكل قاطع لأي ممرات إنسانية عبر الجولان مندرجاً ضمن مواقفها المعلنة التي تتمسك بها حول عدم السماح بتحويل الملف الإنساني إلى منصة للتدخل “الإسرائيلي”. ومع ذلك فإن التسهيلات التي مُنحت للمنظمات الأممية والعربية لإدخال المساعدات أظهرت أن دمشق حريصة على التمييز بين المساعدات التي تعزز الاستقرار وتأتي عبر القنوات الشرعية، وتلك التي تحمل أجندات سياسية مثل المساعدات “الإسرائيلية”.

خلاصة القول إن سلوك الحكومة السورية اتجه إلى محاولة إعادة بناء جسور الثقة مع المجتمع في السويداء عبر توفير الممكن من الخدمات، وصرف الرواتب، وضمان حقوق الطلاب والموظفين عند توفر الظروف الملائمة، والتعاطي مع الملفات الإنسانية الأكثر حساسية، وذلك بِغضّ النظر عن تصرف الطرف الآخر المسيطر على الأرض في السويداء والمتمثل بحكمت الهجري والفصائل المنضوية تحت جناحه، بالتوازي مع خطاب سياسي يرفض الانفصال والتدخل الخارجي دون الانزلاق إلى المواجهة المباشرة.

جدول يُلخّص أبرز ملامح السلوك الحكومي تجاه السويداء بعد أحداث 16 تموز

رابعاً: الخيارات المتاحة في مواجهة مطالب انفصال السويداء:

في ضوء رفض الهجري لخارطة الطريق الجديدة للحل في السويداء واستمراره برفع مطالب الانفصال ومحاولة حشد المجتمع المحلي إلى جانبه وتزايد محاولات بعض الأطراف المحلية والخارجية لاستغلال الوضع[27]، تواجه الحكومة السورية تحدياً يتعلق بالحفاظ على وحدة البلاد وضمان استقرار المحافظة على المدى البعيد.

وفي هذا السياق، تتطلب مواجهة المطالب الانفصالية جملة من السياسات التي يمكن العمل عليها بشكل تدريجي، ومن أبرزها:

  • تجنُّب الحلول الأمنية والعسكرية: بالرغم من وجود أطراف تمارس أعمال السلب للمساعدات في السويداء وتستقوي على المواطنين بقوة السلاح، وأخرى تعمل على الانفصال والاستقواء بالخارج، فإن خيار المواجهة العسكرية قد تكون نتائجه السلبية أكثر من الإيجابية في المرحلة الحالية، خاصة أن “إسرائيل” قد تستخدم أي تحرك عسكري ذريعة لزيادة مستوى عدوانها في الأراضي السورية.

وقد أظهرت الحكومة السورية فعلاً أنها غير راغبة بالانجرار إلى الحل العسكري، لكن في ضوء المجريات الحالية وتشكيل ما سُمّي بـ”الحرس الوطني” في السويداء من غير المستبعد أن تحصل عمليات استفزاز مرة أخرى للقوات الحكومية بحيث يتم جرها إلى المواجهة من جديد، ما يُتيح لـ”إسرائيل” هامشاً إضافياً من التحرك.

  • تعزيز التواصل مع الفاعلين المحليين الرافضين لمطالب الانفصال: ويبرز هنا بشكل خاص الجهات القريبة من شيخَي العقل حمود الحناوي ويوسف جربوع اللذَينِ سبق وأبديا مواقف داعمة للحكومة ورفض الانفصال، بما يخلق توازناً داخلياً ويُضعِف خطاب الهجري الانفصالي داخل السويداء، علماً أن الحناوي وجربوع ظهر كلٌّ منهما بمقطع مصوَّر قبل أسابيع يهاجم الحكومة السورية، لكن ناشطين محليين يشيرون إلى ان الشيخين يبدوان وكأنهما في إقامة جبرية واُضطرا لقراءة مثل تلك البيانات المكتوبة أمامهما[28]، خصوصاً مع زيادة نفوذ الهجري والتشكيلات المسلحة التي يدعمها.
  • السعي لإيجاد آلية توزيع المساعدات بشكل عادل وشفّاف: ويمكن ذلك من خلال إشراك جهات أممية تشرف على مراقبة عمليات التوزيع داخل السويداء لتفادي استغلالها والسيطرة عليها من قبل فصائل الهجري[29].
  • الاستمرار بالتنسيق مع المنظمات الإنسانية الدولية: وذلك بهدف ضمان دخول المساعدات عبر القنوات الرسمية فقط، مع فصل الجانب الإنساني عن أي أجندة سياسية، ورفض أي محاولات لتحويل الملف الإنساني في السويداء إلى أداة ضغط أو تدخُّل خارجي كما تحاول أن تفعل “إسرائيل” بما يُسمّى “الممر الإنساني” من الجولان إلى السويداء.
  • توسيع شبكة الثقة خارج السويداء: ويأتي ذلك من خلال تعزيز العلاقات مع الدروز السوريين في مناطق أخرى مثل جبل السماق بإدلب وجرمانا وصحنايا بريف دمشق، بما يُضعف من سردية الهجري حول رغبة الدروز بالانفصال، خاصة أن شيخ الدروز في “إسرائيل” موفق طريف -ورغم مواقفه السلبية تجاه سوريا- إلا أنه دعا أيضاً إلى إعادة بناء الثقة بين دمشق والدروز في السويداء ولم يُؤيّد دعوة الهجري للانفصال[30]، بالتزامن مع مواقف وليد جنبلاط في لبنان الذي أعلن كذلك عن رفضه لدعوات الهجري[31].
  • إضعاف مشروع الهجري من الداخل: ويأتي ذلك من خلال تفعيل دور الإعلام في تسليط الضوء على الواقع الذي تعيشه السويداء وإبراز معاناة السكان جرّاء سلب المساعدات والمتاجرة بها، وانتشار السلاح والفوضى، وما يترتب على ذلك من تدهور أمني وخدمي، حيث يمكن أن يُسهم هذا التوجُّه في تعرية الخطاب الذي يتبنّاه الهجري أمام الرأي العام المحلي ويقلل من التفاف الشارع في السويداء حول مطالبه، كما يُقلّص شرعيته تدريجياً عبر إظهار التناقض بين شعاراته وممارسات القوى المسلحة المنضوية تحت جناحه.
  • الاستمرار بتقديم الخدمات الأساسية بشكل متكافئ: ويشمل ذلك توفير الخدمات المتاحة في باقي المحافظات بنفس المستوى، بهدف تعزيز شعور أهالي السويداء بالمساواة مع بقية السوريين، مع توضيح أن أي قصور أو تأخُّر في بعض الجوانب الخدمية يعود إلى قيود فرضتها المليشيات المسلحة وغياب السيطرة الكاملة للحكومة على بعض المناطق، وليس نتيجة إهمال الدولة أو تمييزها.
  • المساءلة ومحاسبة مرتكبي الجرائم: وتعد هذه نقطة جوهرية خاصة أنها تُمهّد لبناء الثقة من جديد وتُبعد سيناريو تكرار ما حصل في أحداث تموز الماضي، بما يعكس التزام الحكومة بالعدالة ويحدّ من خطاب الانفصال الذي يستند إلى مظالم بعضها قد يكون حقيقياً وبعضها الآخر مفبركاً، إلا أن الدخول بهذا المسار بشكل عام يُعزّز من إمكانية الوصول إلى صلح مع المتضررين وإعادة بناء الثقة من جديد.

خاتمة:

يمكن القول إن تعامل الحكومة السورية مع ملف السويداء بعد رفع مطلب الانفصال حمل في طيّاته رسائل عديدة سعت إلى تأكيد حضور الدولة في مختلف المجالات رغم كل العوائق التي يضعها الهجري، فقد برزت في الإجراءات الحكومية محاولات لتأمين الخدمات الأساسية -وفق ما هو ممكن ومتاح-، بالتوازي مع إدارة الملف الإنساني ورفض تسييسه مع التمسُّك بوحدة البلاد ورفض التدخُّل الخارجي دون الانجرار إلى مواجهة مباشرة قد تُستخدم ذريعة لتصعيد “إسرائيلي” جديد.

ومع الموقف الصادر عن “اللجنة القانونية في السويداء” ورفضها خريطة الطريق المطروحة ومطالبتها بالانفصال والحكم الذاتي؛ لا يبدو أن “إسرائيل” ستتعامل مع الحكومة السورية وفق الرؤية والاستراتيجية التي ترغب بها، خاصة أن “إسرائيل” باتت تُصدِّر نفسها عملياً كطرف مفاوِض عن السويداء، خصوصاً بعد اجتماع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مع وفد “إسرائيلي” في باريس للتباحث حول ملف وقف إطلاق النار في السويداء[32]، ما يجعل المنطقة مفتوحة على كل الاحتمالات في ظل التصعيد “الإسرائيلي” العنيف بالمنطقة ككل.

بالمجمل، يبقى المشهد في السويداء مُحاطاً بالغموض خاصةً مع عدم وضوح معالم سبل تطبيق خارطة الطريق الجديدة التي تم الإعلان عنها للحل في السويداء، بالتزامن مع قيام المليشيات والفصائل الخارجة عن القانون بإعادة إنتاج نفسها تحت مُسمّيات مختلفة مثل “الحرس الوطني”، وهو ما يُضعف جهود إعادة بناء الثقة ويجعل قرار السويداء مرتهناً بشخصيات نافذة مثل الهجري، ولذلك فإن معيار النجاح الإستراتيجي للحكومة السورية بإدارة ملف السويداء لا يمكن أن يُقاس بالتمكن من خفض التصعيد المرحلي أو إدخال المساعدات وتأمين الخدمات فحسب، بل بقدرتها على تحويل هذه الإجراءات إلى خطوات تراكمية تُضعف مشروع الهجري من الداخل، وتعيد وصل العلاقة مع المكون الدرزي في السويداء، وتفتح المجال أمام توافقات داخلية تضمن بقاء المحافظة ضمن إطار الدولة السورية الواحدة.


[3] أولى مركز الحوار السوري اهتماماً بمتابعة التطورات في السويداء في ضوء المجريات والمستجدات الحاصلة فيها، ينظر مثلاً:
عامر المثقال، قراءة في التطورات الأخيرة بالسويداء وتداعياتها والسيناريوهات المتوقعة، 22 / 7 / 2025
[5] مثل النقيب طلال عامر الذي أصبح المتحدث الرسمي باسم ما يسمى “الحرس الوطني”، وهو أحد ضباط “الفرقة الرابعة” سابقاً وأحد المتهمين بتجارة المخدرات في الجنوب، يُنظر: رابط فيس بوك، تلفزيون سوريا، شوهد في: 15 / 9 / 2025
[6] ما “الحرس الوطني” الذي شكله الهجري في السويداء، عنب بلدي، 24 / 8 / 2025، شوهد في: 14 / 9 / 2025
[7] أصدر مركز الحوار السوري مؤخراً تقريراً تطرق إلى تفاصيل المشروع الإسرائيلي، مستعرضاَ مخاطره وكذلك العوامل التي تحول دون تطبيقه، ينظر:
محمد سالم، “ممر داوود”: أحلام “تل أبيب” الجيوسياسية في مواجهة إرادة أصحاب الأرض، مركز الحوار السوري، 29 / 7 / 2025
[9] يجدر بالذكر هنا أن هذا التقرير أُُعدَ بداية في محاولة لرصد سلوك الحكومة السورية في التعاطي مع السويداء بعد أحداث تموز الماضي، لكن تم تحديثه في مرحلة ما قبل النشر ليواكب خريطة الاتفاق الجديدة التي أعلنت برعاية أردنية أمريكية.
[10] ينظر مثلاً: 84 شاحنة مساعدات إنسانية وتجارية تدخل محافظة السويداء، العربي الجديد، 10 / 9 / 2025، شوهد في: 13 / 9 / 2025
[13] مساعدات غذائية أردنية- قطرية إلى الجنوب السوري، عنب بلدي، 11 9 / 2025، شوهد في: 15 / 9 / 2025
[15] الحكومة السورية تكشف أسباب عدم صرف بعض الرواتب في السويداء، سكاي نيوز عربية، 5 / 9 / 2025، شوهد في: 13 / 9 / 2025
[16] ينظر منشور لمحافظة السويداء على فيس بوك: الرابط، شوهد في: 13 / 9 / 2025
[18] يُعرف سليمان عبد الباقي بمواقفه الرافضة لخطاب حكمت الهجري ودعواته نحو الانفصال، وقد عمل مع الحكومة السورية على محاولات رأب الصدع وتقريب وجهات النظر طوال الأشهر الماضية.
وكان من اللافت أيضاً حضور قياديين دروز آخرين في اجتماع وزير الداخلية مع مديري الأمن والشرطة في السويداء من أبرزهم الشيخ ليث البلعوس القيادي في مضافة الكرامة، والمعروف كذلك بموقفه المتمسك بالتواصل مع الحكومة السورية ورفض مساعي الهجري للانفصال.
[20] تأجيل الانتخابات البرلمانية في 3 محافظات سورية، الجزيرة نت، 23 / 8 / 2025، شوهد في: 13 / 9 / 2025
[22] جاء ذلك وفق عدة بيانات نشرتها محافظة السويداء والجهات الحكومية، ينظر مثلاً: رابط يوتيوب، شوهد في: 13 / 9 / 2025
[23] من بين هؤلاء المختطفين رئيس مركز الدفاع المدني السوري في إزرع بريف درعا، والذي اختطف خلال تأدية مهمة إنسانية في أحداث السويداء، وقد أصدر الدفاع المدني أكثر من مرة بيانات تطالب بالإفراج عنه دون أي استجابة تُذكر، يُنظر:
[24] محافظ السويداء: نعمل على خطة شاملة لإعادة مهجري السويداء إلى قراهم، الإخبارية السورية، 10 / 9 / 2025، شوهد في: 13 / 9 / 2025
[25] ينظر جزء من مقابلة الرئيس الشرع على الإخبارية السورية، رابط فيس بوك، شوهد في: 15 / 9 / 2025
[27] في هذا السياق يجدر بالذكر التنويه إلى المؤتمر الذي حشدته “قسد” في الحسكة في آب الماضي وكان أقرب إلى ما يشبه “تحالف أقليات” نظراً لمساعي “قسد” فيه إبراز مطالب خاصة بكل أقلية مثل الفيدرالية أو اللا مركزية السياسية الموسعة، لذلك من المهم عدم النظر لما يجري في السويداء وكأنه حالة منفصلة عن بقية تلك المطالب الفئوية، خصوصاً مع ما يظهر من تواصلات معلنة بين “قسد” والهجري، أو بين الهجري وما يسمى “المجلس الإسلامي السوري العلوي” الذي يصدر نفسه كممثل عن العلويين، ينظر:
 مؤتمر “قسد” في الحسكة.. الرسائل والأبعاد والسيناريوهات، مركز الحوار السوري، 12 / 8 / 2025، شوهد في: 15 / 9 / 2025
[29] وثقت العديد من المصادر عمليات سرقة المساعدات التي تدخل إلى السويداء، ينظر مثلاً: رابط فيس بوك، شوهد في: 15 / 9 / 2025

باحث مساعد في مركز الحوار السوري، يعمل ضمن وحدة تحليل السياسات، كتب وشارك في العديد من الأوراق المتعلقة بتحليل سياسات الفاعلين في سوريا، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى