مقالات الرأي

آليات الرقابة البرلمانية على السلطة التنفيذية في النموذج الرئاسي وسؤال المتاح في الحالة السورية

عادة ما ترتبط الصورة المثالية لأي برلمان في أذهان المواطنين بقدرته الرقابية على عمل السلطة التنفيذية بالإضافة إلى أدواره الأخرى، وذلك يعود لوجود شعور عام بأهمية متابعة السلطة التنفيذية والحد من تغوّلها أو مراجعة الإنفاق والتخطيط له، مع وجود اختلاف بطبيعة الحال في مدى الرقابة وطبيعتها وآلياتها تبعاً للعلاقة مع شكل نظام الحكم (رئاسي – برلماني – مختلط).

في سوريا لطاما ترسخت صورة في أذهان السوريين عن مجلس الشعب في عهد نظام الأسد “البائد” بأنه مجلس “الدمى” نظراً لكونه مجرد تابع شكلي لإرادة أمنية وتغوّل تنفيذي لنظام الرجل الواحد، وهذا ما جعل الاهتمام العام ينصب منذ إصدار الإعلان الدستوري 13 آذار 2025 في سياق العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية على المادة 30 التي اقتصرت في تعدادها الصريح لمهام مجلس الشعب لجهة رقابته بأنه يعقد “جلسات استماع للوزراء” تمسكاً بفكرة “الفصل بين السلطات” اتباعاً لنظام الحكم الرئاسي؛ أي غياب آلية حجب الثقة عن الحكومة،  ليتجدد الجدل حول قصور الدور الرقابي في المرحلة الحالية بعد أن قارب تشكيل المجلس على الانتهاء، إذ تميل الطروحات المتداولة عن عدم وجود هذا الدور أصلاً.

 يثير ما سبق تساؤلات مهمة عن آليات الرقابة البرلمانية على السلطة التنفيذية في ظل نماذج الحكم الرئاسية وجدواها في ظل فصل السلطات، وسبل الرقابة المتاحة في الحالة السورية مع وجود الإعلان الدستوري وأحكامه لاسيما المادة 30 منه، ولعلّ البحث في هذه الجزئية مفيد في ظل ممارسة شكل نظام حكم جديد في سوريا التي كانت من حيث المبدأ وبغض النظر عن التطبيقات تعتمد في الدساتير السابقة على النموذج “شبه الرئاسي” أو المختلط.

بالانطلاق من الممارسات المختلفة في إطار الأنظمة الرئاسية يمكن التأكيد بأنها لا تمثل قالباً واحداً لجهة العلاقة بين السلطات وإن كانت تنطلق من سمات عامة؛ أبرزها أن الرئيس منتخب من الشعب ولا يعزل بحجب الثقة، والسلطة التنفيذية ليست مسؤولة سياسياً أمام البرلمان، إذ توجد أنماط متعددة تختلف قوة الرقابة فيها حسب الدستور والتقاليد السياسية، وهذه التقاليد تأتي من الممارسات ومن مصادر أخرى كأحكام المحكمة الدستورية العليا.

في الولايات المتحدة الأمريكية وهي مهد النظام الرئاسي، والمثال التقليدي البارز الذي يضرب لهذا النظام، لا يستطيع الكونغرس الأمريكي كذلك حجب الثقة عن السلطة التنفيذية، لكنه يمارس أربعة أنماط من الرقابة؛ وهي: الرقابة المالية حيث يقوم بإقرار الموازنات وتخصيص الأموال، وخلال هذه العملية يراقب من حيث المضمون خطط الإنفاق وبرامجها، وهي أداة فعالة في الحالة الأمريكية، كذلك يقوم الكونغريس بإصدار قوانين تحد عملياً أو تفرض قيوداً على سلطات الرئيس وبذلك يصبح التشريع مدخلاً للتوجيه والرقابة كأداة ثانية، ومن أشهر هذه الحالات كان قانون صلاحيات الحرب لعام 1973، كذلك تبرز أداة رقابية ثالثة من خلال نموذج اللجان البرلمانية كلجنة العلاقات الخارجية ولجنة الاستخبارات والتي تقوم بتنفيذ جلسات استماع علنية أو سرية، فضلاً عن نموذج لجان التحقيق البرلمانية والتي نشأت رغم عدم وجود سند لها من النصوص الدستورية فقد اكتسبت كحق للكونغرس استناداً للمحكمة العليا عام 1819 بإقرار نظرية السلطة الضمنية، كذلك تأتي صلاحية المصادقة سواء على المعاهدات أو تعيينات  كبار الموظفين مثل الوزراء وقضاة المحكمة العليا كآلية مهمة، وأخيراً لمجلس النواب (الغرفة الأولى في الكونغرس) الحق في توجيه الاتهام لأعضاء السلطة التنفيذية بمن فيهم رئيس الجمهورية على أن يتولى مجلس الشيوخ (الغرفة الثانية في الكونغرس) محاكمتهم سياسياً في حالة ارتكابهم لجنايات أو جنح مثل الخيانة العظمى.

أما في دول أمريكا اللاتينية كالأرجنتين والتي استلهمت النموذج الرئاسي من الولايات المتحدة ثمت اختلافات بسيطة نظرياً وواسعة لجهة الممارسة، ففي البعد النظري توجد رقابة مالية وجهاز خاص بالمحاسبة العامة لمراقبة إنفاق الحكومة، ويستطيع البرلمان إصدار قوانين تحد من الصلاحيات التنفيذية، لكن الرئيس يستطيع إصدار مراسيم الضرورة “المقيدة بشروط” على أن تراجع من البرلمان، وتوجد آلية اللجان البرلمانية والتي تقوم بالاستماع دون وجود الحق بحجب الثقة، كذلك توجد ذات الآلية لمحاكمة الرئيس سياسياً، أما عملياً فإن القوة الجوهرية تكون عادة في البرلمان ولا تستخدم  آليات الرقابة بفعالية وتتمثل القوة الأكبر بالجمهور والحراك الشعبي.

أما في تجارب أفريقيا التي تعتمد النظام الرئاسي كنيجريا وكينيا فتوجد الآليات السابقة جميعاً مع وجود اختلاف عملي جوهري يرتبط بالقدرة على الممارسة مع انتشار الانقسامات القبلية والفساد السياسي والهيمنة التنفيذية، مع الإشارة إلى وجود محاولات لتنفيذ رقابة حقيقة، مثلاً تشكيل لجان خاصة للتحقيق في قضايا فساد بقطاع النفط والجيش، وإجبار الحكومة على الإفصاح عن معلومات مكتومة في نيجيريا عام 2012، أو الضغط على السلطة التنفيذية لتغيير سياساتها الأمنية عام 2014، أو رفض تعيينات كبرى بعد التفحص في كينيا.

مما سبق يتضح أن نموذج الرقابة البرلمانية في النظم الرئاسية حاضرٌ غير أن المسؤولية السياسية للسلطة التنفيذية أمام البرلمان والتي تؤدي لإمكانية حجب الثقة عنها هي فقط ما تنعدم في النظام الرئاسي، في حين تحضر آليات أخرى وإن كانت بطيئة ومعقّدة عموماً ومختلفة وفقاً لسياق كل نموذج فهي فاعلة في ظل مناخ سياسي غير متحكم به والعكس بالعكس.

في الحالة السورية وقياساً بالرقابة البرلمانية في النظم السياسية الرئاسية نستطيع القول بداية إن التسليم بفكرة عدم وجود آليات رقابية للمجلس على السلطة التنفيذية غير صحيحة بالمطلق وأن تكرارها في المجال العام يخلق مناخاً سلبيا لجهة أدوار المجلس وتبسيطياً مخلاً لأعماله وجدواها.

وعليه من الضرورة أن نُميّز بين ثلاثة أنماط واضحة؛ الأولى هي ما تم النص عليه في الإعلان الدستوري وبالتالي تشكل آليات رقابية لمجلس الشعب دون حاجة للجدال وهي: المصادقة على المعاهدات وهو ما يفتح الباب أمام رقابة قوية حال استخدامها بشكلٍ واعٍ وحقيقي على السياسة الخارجية للدولة، والثانية هي إقرار الموازنة العامة وهذا ما يُجسّد رقابة مالية على الإنفاق الحكومي ويمكن التوسع بآليات إضافية واسعة لتحقيق ذات الغاية وتحقيق هدف الرقابة كمراقبة أوجه الإنفاق وفرض شفافية عالية واستخدام التشريع كأداة حصرية للبرلمان لتعزيز رقابته المالية، وأخيراً جلسات الاستماع للوزراء والتي يمكن أن ترتبط بالسؤال البرلماني وتفعيله وطلب الوثائق والمعلومات وتوجيه سلوك الوزارة وتسليط الضوء على الفجوات وأيضاً استخدام الاعلام كوسيلة دعم إضافية لحشد الراي العام لمساندة موقف البرلمان في ممارسة رقابته، وصولاً لاستلهام قوانين تفرض توجهات عملية على الوزارات من ضوء هذه العملية، وهذا مدخل لبعد مهم وهو البعد الشعبي، وهو ما يُمثّل ضمانة حقيقية في الحالة السورية بوصفه عامل ضغط على السلطة التنفيذية، ويضاف لما سبق أوجه أخرى تضطر فيها السلطة التنفيذية لموافقة مجلس الشعب وهي تمديد إعلان حالة الطوارئ الكلي أو الجزئي بعد الأشهر الثلاثة الأولى.

أما النمط الثاني من آليات الرقابة التشريعية على السلطة التنفيذية فهي التي تحتاج لنص دستوري واضح ومع غيابها في الإعلان الدستوري تعد غير ممكنة في الحالة السورية وتتمثل بجانب المصادقة على تعيين كبار المسؤولين وأعضاء المحكمة الدستورية والتي يسميهم رئيس الجمهورية دون أي إجراء إضافي على عكس الولايات المتحدة مثلا. كذلك الحق في توجيه الاتهام لأعضاء السلطة التنفيذية في ظروف جنائية محددة.

 في حين يرتبط النمط الأخير بما هو مسكوت عنه في الإعلان الدستوري؛ أي ليس موجوداً كنص، وبنفس الوقت لا يوجد نص يشير لحجبه بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا يرتبط بصلاحية البرلمان بتشكيل لجان التحقيق البرلمانية والتوسع في غايات جلسات الاستماع وأثرها باعتبار الأخيرة وسيلة وليست غاية، إذ إن هذه الآليات في الرقابة قابلة للتأسيس له عبر الممارسات التي تسترشد بالقياس على التوجهات في النظم الرئاسية ولاسيما المتقدمة استناداً على قضيتين اثنتين: الأولى أن عدم القدرة على إكراه الوزراء على الاستقالة بسبب الأداء؛ أي المسؤولية السياسية لا يسقط جوهر الدور الرقابي والذي يحقق التعاون أصلاً ويساعد على ترشيد الحكم، والثاني هو الفجوة التاريخية بمعنى عدم وجود ممارسات سابقة في ظل شكل النظام وعلاقة السلطات الثلاث حالياً وأن الإعلان يركّز أكثر على توزيع الأدوار التشريعية والتنفيذية الأساسية، لكن ليس على رقابة تفصيلية ضمنية قوية.

ختاماً وبالاستناد إلى وجود توجُّه واضح للفقه الدستوري يقول إن الرقابة البرلمانية حق أصيل للبرلمانات وليست قاصرة على نظام الحكم البرلماني، فالبرلمان بوصفه يُمثّل الشعب مالك للسيادة، وفلسفة الرقابة البرلمانية بشكل عام لا تعني عرقلة الحكومة أو شل حركتها وليست وسيلة دعائية وإنما وسيلة لتوجيه للحكومة وإيصال الرأي العام لها من سياستها والتحقق من ممارساتها وصولاً للمحاسبة في ظروف محددة، أما في ظروف استثنائية كالحالة السورية بوصفها بيئة هشة تتعافى تدريجياً ولربما ببطء من إرث ثقيل وواقع معقّد، فإن المعطيات الواقعية والظروف الاجتماعية والسياسية تدفع نحو تعزيز فكرة التكامل بين السلطتين لتحقيق المصلحة العامة[1]، وأن كفاءة ونزاهة عضو مجلس الشعب السوري وفاعليته في القيام بأدواره تعد قضية حاسمة ومؤسسة لدور رقابي حقيقي.


[1] للاطلاع على فلسفة التكامل المطلوبة في الحالة السورية بين السلطتين ينظر: العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في المرحلة الانتقالية وسؤال الحالة السورية، مركز الحوار السوري، 20/10/2025.

مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى