
الحرم الجامعي كمختبر للصراع والهوية: دراسة تجربة جامعة حلب بعد دمج جامعة “الثورة” بها (1)
من منظور علم الاجتماع السياسي تُمثّل الجامعة فضاءً لإعادة إنتاج السلطة وتشكيل الهوية، فهي ليست مؤسسة تعليمية فحسب، وإنما انعكاس حي لتفاعلات المجتمع السياسية والاجتماعية كذلك.
في الحالة السورية، ظهر حرم جامعة حلب كساحة صراع هوياتي بعد اندماج “جامعة حلب في المناطق المحررة” مع الجامعة الرسمية التي كانت خاضعة لنظام الأسد، ففي الوقت الذي كانت فيه الجامعة “الرسمية” أداة للضبط الأيديولوجي والتحكم وفق سياسات النظام البائد كانت الجامعة المنبثقة عن الثورة حاملة لذاكرة ثورية مستقلة، تتناقض تماماً مع مفهوم السيطرة والتحكم الذي كرَّسه النظام البائد في مختلف مؤسساته، بما فيها المؤسسات التعليمية والجامعية.
في سياق المرحلة الراهنة، وما يُدار حولها من نقاش حول صراع السرديات خصوصاً على المستوى المجتمعي، يطرح تساؤل مهم حول الأدوات التي يمكن من خلالها أن تتحوّل الجامعات في سياقات النزاع والتحولات السياسية من أدوات لإعادة إنتاج السلطة إلى مختبرات حية للصراع وإعادة التفاوض على الهوية، وكذلك الآليات الممكنة لإدارة هذه الصراعات الطلابية وتحويل الانقسامات إلى فرص للتعاون وبناء هوية جامعية مشتركة تعكس التعددية والانتماء المشترك.
يهدف هذا المقال إلى تحليل تجربة جامعة حلب في المناطق المحررة التي دُمِجت مع الجامعة الرسمية، مع التركيز على ديناميات القوة والهوية والذاكرة، واستكشاف الآليات الممكنة لإدارة الصراعات الطلابية وتحويل الانقسامات إلى فرص للتعاون وبناء هوية جامعية مشتركة، بما يعزز التعددية والاندماج ويحوّل الحرم الجامعي إلى فضاء لإعادة إنتاج السلام الاجتماعي والمعرفي إلى جانب المعرفة الأكاديمية.
طلاب جامعة حلب كمجتمع له هوية جمعية:
تمثل الجامعة فضاء بنيوياً لإعادة إنتاج السلطة وتشكيل الهوية ولا يقتصر دورها على تقديم المعرفة فقط، وإنما مجال يعكس ديناميات المجتمع السياسية والاجتماعية في لحظات الاستقرار والاضطراب على حد سواء. في الحالة السورية، وفي مرحلة حكم الأسد والبعث البائدين، شكّلت الجامعات لا سيما جامعة حلب على وجه الخصوص أداة بيد نظام الأسد الأب والابن للضبط الأيديولوجي والتعبئة السياسية في إطار هيمنة حزب البعث.
وفي مطلع عام 2011م تحولت الجامعة إلى مسرح للحراك الطلابي المعارض وأحد أبرز معاقل الثورة في مدينة حلب، وقد أتاح هذا الفضاء الجامعي للطلاب اختبار تجربة مباشرة مع الانتفاضة الشعبية، ما أسهم في بلورة وعي سياسي وهوياتي جمعي، وجعل من الجامعة ساحة لتقاطع الصراعات السياسية، وكذلك مختبراً حيوياً لفهم العلاقة المتوترة بين السلطة والمجتمع.
ومع تصاعد العنف من طرف نظام الأسد البائد، ودخول الثورة في مرحلة التسليح، برزت المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بوصفها حيزاً جغرافياً جديداً لقوى الثورة والمعارضة، ما أعاد طرح سؤال التعليم والجامعة كشرط من شروط إعادة إنتاج المجتمع.
في هذا السياق تأسست “جامعة حلب في المناطق المحررة” مطلع عام 2015، كاستجابة رمزية ومؤسسية لاحتياجات آلاف الطلبة الذين انقطعوا عن دراستهم نتيجة معارضتهم لنظام الأسد البائد، وقد حملت هذه الجامعة دلالات تتجاوز البعد التعليمي البحت، إذ شكلت رمزاً للتحرر والاستقلال الأكاديمي، ومركزاً بديلاً للمعرفة والخبرة الطلابية رغم هشاشة السياق الأمني والعسكري ومحدودية الموارد وغياب الاعتراف الرسمي، فقد شكلت تجربة الجامعة في المناطق المحررة نموذجاً بديلاً ذا هوية مستقلة عكس طموح المجتمع إلى بناء مؤسسات منفصلة عن منظومة البعث، إلا أن هذا النموذج لم يكن بمنأى عن التحديات الاجتماعية والنفسية.
لقد كان لطلاب المناطق المحررة تجربة إضافية في الحقل الجامعي، إذ كانت حفلات التخرج والفعاليات التي تقام في جامعة “المحرر” محل استهزاء كبير من قبل بعض طلاب الجامعة الرسمية، وتعرضوا للشتائم والاستهزاء من قبل زملائهم. علمياً، يمكن قراءة هذه الظاهرة كجزء من إعادة إنتاج التفاوت الرمزي والسلطة الرمزية وفقاً لبورديو، حيث يتحول الحقل الجامعي إلى مساحة لصراع على الشرعية الثقافية والاجتماعية، وهو ما يُعزّز الانقسامات في الهويات الجماعية، ويجعل من الجامعة فضاءً للتوتر بين الواقع الاجتماعي والسياسي للطلاب.
صراع الهوية والسردية بين مجتمع الجامعة ومظاهره:
مع تأسيس الحكومة السورية الجديدة عقب التحرير، اتجهت السياسات التعليمية نحو توحيد الجامعات، فصدر قرار دمج فروع “جامعة حلب في المناطق المحررة” مع الجامعة الأم، مما فتح الحرم الجامعي على ذاكرتين جمعيتين متعارضتين: ذاكرة مؤسسية رسخها البعث، وأخرى ثورية ولدت من سياق الحرية والكرامة. هذا التداخل جعل الجامعة مختبراً اجتماعياً تتقاطع فيه سرديات الشرعية والهوية، وحوّل الجامعة الموحدة إلى مختبر اجتماعي حي، حيث تتواجه سرديات الشرعية والأحقية والهوية الوطنية في فضاء يومي واحد، بوصفها تعبيراً مكثفاً عن علاقة السلطة بالمعرفة والهوية، وبالاستناد لمفهوم فوكو للسلطة/المعرفة، حيث يشكل الحرم الجامعي موقعاً لإعادة إنتاج الشرعية من خلال السيطرة على المعرفة. وفي حالة جامعة حلب، يتجلى هذا من خلال المناهج والخطابات الرسمية التي تهدف إلى ترسيخ القيم والسياسات التي أرساها النظام البائد، بينما يقوم الطلاب المنتمون للجامعة المنبثقة عن الثورة بإعادة صياغة هذه السلطة من خلال ممارساتهم الأكاديمية والتفاعلات اليومية، أما من منظور بيير بورديو حول الحقول وإعادة الإنتاج الاجتماعي، فإن الجامعة تُفهم بوصفها حقلاً مستقلاً نسبياً تتقاطع داخله القوى الرمزية والاجتماعية المتصارعة، وفي حالة جامعة حلب يتجلّى هذا الحقل في اندماج “جامعة حلب في المناطق المحررة” مع الجامعة الأم، حيث تتقاطع فيه قوى رمزية متعددة؛ فمن جهة طلاب الجامعة “الرسمية” الذين يمثل بعضهم منطق نظام البعث ويعكسون القيم والسياسات التي أرساها النظام البائد، ومن جهة أخرى، طلاب الجامعة المنبثقة عن الثورة الذين يمثلون في غالبيتهم منطق الحركات الاجتماعية والثورية ويطالبون بفضاء معرفي وهوياتي جديد. وعلاوة على ذلك، تتحول هذه الديناميات إلى صراع يومي على تعريف الشرعية الثقافية والمعرفية، حيث يسعى كل طرف إلى إعادة إنتاج هويته الخاصة عبر التفاعلات الرمزية داخل الحرم الجامعي، مما يجعل الجامعة مختبراً حياً لفهم الصراع بين السلطة والمعرفة والهويات المتعددة في سياق ما بعد النزاع السوري.
وعلى مستوى أكثر عمقاً، تُفسّر حدة التباينات الطلابية من خلال نظرية الهوية الاجتماعية التي تفترض ميل الأفراد إلى تعزيز انتماءاتهم الجماعية عبر التمييز بين (الداخل والخارج)، فقد تموضع طلاب الجامعة الرسمية كحَمَلة لذاكرة مؤسسات البعث وشرعية النظام الأكاديمي القديم، في حين قدّم طلاب الجامعة المنبثقة عن الثورة أنفسهم كحَمَلة لذاكرة مقاومة ورمزية تحرّرية. فعلى سبيل المثال تجلّت مظاهر التوتر بين طلاب “جامعة المحرر” وطلاب الجامعة الرسمية من خلال الخطابات المتبادلة التي حملت في طياتها تمييزاً رمزياً واضحاً، حيث اعتبر طلاب الجامعة الرسمية أنفسهم “الأكثر كفاءة وصموداً”، مؤكدين أنهم تحمّلوا بطش النظام وبقوا في أرضهم، في حين رفضوا أي محاولة للمزاودة عليهم بالثورية والنزوح. ومن ناحية أخرى، رأى طلاب “جامعة الثورة” أنهم ضحايا التهجير والقمع، وأن زملاءهم في الجامعة الرسمية كانوا بحسب تعبيرهم “مؤيدين ضمنيين لنظام البراميل”. وقد ساهم هذا التبادل الخطابي، الذي تجاوز حدود الجدل الطلابي التقليدي، في تشكيل فضاء جديد لإعادة بناء الهوية الوطنية والمعنى الجمعي للجامعة السورية، مما يعكس بوضوح ديناميات الصراع على الشرعية والذاكرة في مرحلة ما بعد عام 2011.
عموماً يبقى السؤال الأهم الذي يحتاج إلى إجابة في هذا السياق، هو: ما آليات إدارة الصراع الهوياتي داخل الجامعة؟ وما أدوار الفاعلين في تحويله إلى فرصه لإنتاج سلام جامعي ومجتمعي، هذا ما سنجيب عنه في المقال الثاني.



