
هجوم تدمر: اختبار أمني وسياسي للعلاقات السورية الأمريكية
مقدمة:
في 13 ديسمبر الجاري، شهدت مدينة تدمر شرقي محافظة حمص هجوماً مسلحاً أسفر عن مقتل جنديين أمريكيين ومترجم مدني، إضافة إلى إصابة عدد من عناصر القوى الأمنية السورية[1].
وقد جاء هذا الهجوم تزامناً مع تحسُّن ملحوظ في مستوى العلاقات السورية–الأمريكية، خاصة بعد زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى واشنطن في نوفمبر الماضي، وإعلان انضمام سوريا رسمياً إلى التحالف الدولي ضد تنظيم داعش[2].
يطرح الحادث جملة من التساؤلات حول الجهة المنفذة والمستفيدة منه، وما إذا كان سيؤدي إلى تحسُّن أو تراجع في مستوى العلاقات بين دمشق وواشنطن، وحجم الدعم الأمريكي المقدَّم للإدارة السورية الجديدة.
بناء على ذلك، يسعى هذا التقرير إلى تقديم قراءة موجزة في ملابسات الهجوم والجهة المنفّذة، ثم ينتقل إلى استعراض دلالاته وسياقه العام، وختاماً يتطرق إلى أبرز التداعيات والسيناريوهات المحتملة.
أولاً: ملابسات الهجوم والجهة المنفذة
تعددت الروايات الرسمية بشأن طبيعة الهجوم بين جهاتٍ تُشير إلى أنه وقع خلال دورية مشتركة، وأخرى تقول إنه أثناء اجتماع، وثالثة تقول إنه وقع عند مدخل “مقر مُحصّن”.
أشارت وزارة الداخلية السورية في بيانها الرسمي بعد يوم من الحادثة إلى أن الهجوم وقع أثناء اجتماع ضم مسؤولين من قيادة الأمن في البادية مع وفدٍ من قوات التحالف الدولي لبحث آليات مكافحة تنظيم داعش[3]، وذلك بعد “تسلُّل” شخص تابع لتنظيم داعش إلى موقع الاجتماع، وإطلاقه النار على القوات المشتركة السورية الأمريكية.
أما المتحدث باسم الداخلية السورية نور الدين البابا فقد أشار ضمنياً إلى أن مُنفّذ الهجوم يتبع للقوى الأمنية، عندما قال في تصريحه بعد الحادثة إن منفّذ الهجوم ليس له أي توصيف قيادي داخل الأمن الداخلي ولا يُصنَّف على أنه مرافق لقائد الأمن الداخلي، وأضاف أن تقييماً صدر في العاشر من الشهر الجاري بحق المنفذ أشار إلى أنه “قد يكون يملك أفكاراً تكفيرية أو متطرفة”، وأن قراراً كان سيصدر بحقه يوم الأحد 14 ديسمبر[4].
وحول مكان الهجوم، قال نور الدين البابا إنه وقع عند مدخل “مقر مُحصَّن” تابع لقيادة الأمن الداخلي في البادية بعد انتهاء جولة مشتركة بين الجانبين، مشيراً كذلك إلى أن “قيادة الأمن الداخلي وجّهت تحذيرات مسبقة للقوات الشريكة في التحالف الدولي حول معلومات أولية تُشير إلى احتمال وقوع خرق أو هجمات من قبل تنظيم داعش، غير أن هذه التحذيرات لم تؤخَذ في الحسبان”.
أما الجانب الأمريكي، فقد أعلنت وزارة الحرب الأمريكية أن الحادثة وقعت أثناء جولة ميدانية مشتركة وأن المسلح قُتل خلال الاشتباك[5]، بينما قال المتحدث باسم وزارة الحرب الأميركية شون بارنيل، إن الهجوم وقع أثناء قيام الجنود بلقاء مع قائد عسكري مهم، وكانت مهمتهم دعم العمليات الجارية لمكافحة تنظيم داعش ومكافحة الإرهاب في المنطقة[6]، في حين أشار مسؤولون أمريكيون آخرون إلى أن الهجوم وقع أثناء اجتماعٍ جمع مسؤولاً عسكرياً أميركياً مع مسؤول من وزارة الداخلية السورية، لبحث سبل مكافحة تنظيم داعش[7].
ومع غياب الإفصاح الرسمي؛ سواء من الجانب السوري أو الأمريكي عن الهوية الكاملة لمنفذ الهجوم، يمكن ملاحظة أن مختلف الروايات تلاقت عند نقطة أساسية مفادها انتماء المنفذ إلى تنظيم داعش، غير أن الأكثر إثارة للانتباه يتمثل في التباين بين رواية وزارة الداخلية وطرح المتحدث الرسمي باسمها؛ إذ خلا البيان الرسمي السوري من أي إشارة إلى احتمال انتماء المنفذ للقوى الأمنية، في حين أوحى تصريح المتحدث بذلك عبر حديثه عن توصيفه الوظيفي وتقييمه الأمني السابق وقرار كان يُنتظر صدوره بحقه.
هذا التناقض يُدلل إما على نقصٍ في التنسيق الإعلامي بين الجهات المعنيّة وضعف الخبرة في التعامل مع مثل هذه الأزمات، أو قد يشير إلى تسرُّع في التصريحات دون استكمال الصورة الكاملة عن الحادثة، وهو ما فتح الباب أمام تأويلات متعدّدة حول حصول اختراق أمني كبير، ومنح أطرافا معادية لسوريا الجديدة هامشاً إضافياً للاستثمار السياسي والإعلامي في مثل هذه الحوادث[8].
ثانياً: دلالات التوقيت والسياق العام
لا يمكن فصل هجوم تدمر عن سياقه السياسي والأمني الأوسع، إذ وقع بعد نحو شهرٍ من انضمام سوريا رسمياً إلى التحالف الدولي ضد تنظيم داعش واقتراب إلغاء عقوبات قيصر كلياً، وفي مرحلة تشهد تكثيفاً ملحوظاً لعمليات قوى الأمن الداخلي السوري ضد خلايا التنظيم في عدة محافظات، وسط نشاط ملحوظ لهذه الخلايا ببعض المناطق[9].
في ذات الوقت، فإن مدينة تدمر تقع ضمن نطاق جغرافي معروف بكثرة نشاطات داعش فيه خلال السنوات الماضية بحكم قربه من البادية السورية، حيث ينشط داعش منذ سنوات عبر خلايا متنقلة وغير مركزية، ما يجعل المنطقة بيئة رخوة أمنياً.
في هذا الإطار، فإن إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن أن الولايات المتحدة سترد على الهجوم لا يُفهَم بوصفه تمهيداً لعمليات عسكرية واسعة[10]، في ظل غياب معاقل ثابتة للتنظيم يمكن استهدافها، بقدر ما يعكس توجُّهاً نحو تعزيز العمل الاستخباراتي وتكثيف المراقبة وتوسيع التنسيق الميداني مع قوى الأمن الداخلي السوري لاعتقال الخلايا النّشطة وملاحقة شبكات الدعم والتمويل، وهذا ما حصل بالفعل شيء منه في الساعات التي أعقبت الهجوم بعد شنّ حملات دهم أسفرت عن اعتقال ما قيل إنها خلايا تتبع للتنظيم في البادية السورية[11].
وتحمل ردة الفعل الأمريكية دلالة سياسية لا تقل أهمية عن البُعد الأمني وفق تحليل أبرز النقاط التي وردت في خطاب ترامب بعد الهجوم، إذ جاءت كلماته أقرب إلى التضامن مع دمشق منها إلى تحميلها المسؤولية أو ممارسة الضغط عليها، فقد شدّد ترامب في تصريحاته على أن الهجوم “استهدف الولايات المتحدة وسوريا معاً”، ووصفه بأنه كمينٌ نفذه تنظيم داعش في منطقة “شديدة الخطورة لا تسيطر عليها الحكومة السورية بشكل كامل”، كما أطّر الحادث ضمن “معركة مشتركة ضد عدوٍ واحد”، وأشار إلى “غضب” الرئيس السوري أحمد الشرع و”استيائه الشديد” من الهجوم.
يُعزّز هذا المنحى أيضاً ما صدر عن المبعوث الأميركي إلى سوريا توم براك، الذي أكد أن “أي اعتداء على الأميركيين سيُقابل بعقابٍ حاسم”[12]، لكنه قرن ذلك بتأكيد واضح على الشراكة مع الحكومة السورية، والترحيب بالتزام الرئيس الشرع بالتعاون الكامل لتحديد هوية المنفّذين ومحاسبتهم.
كما شددت التصريحات الأمريكية اللاحقة على أن الاستراتيجية المعتمدة تقوم على تمكين شركاء سوريين قادرين بدعمٍ أمريكي محدود من ملاحقة شبكات داعش ومنع عودته[13]، بما يُبقي المواجهة محليّة.
وعليه، يمكن القول إن الهجوم على الرغم من خطورته وحساسيته السياسية خاصة في بيئة مثل الولايات المتحدة، لم يُفضِ إلى نتائج عكسية على مستوى العلاقات الثنائية، بل قد يعتبر عامل دفعٍ إضافياً نحو توطيد التعاون الأمني والسياسي بين دمشق وواشنطن، وتعزيز منسوب الثقة المتبادلة في مواجهة تهديد مشتركٍ يتمثل بتنظيم داعش.
غير أن هذا المسار يظل مشروطاً بقدرة المؤسسات الأمنية السورية على احتواء تداعيات الحادثة ومنع تكرار خروقات مماثلة مستقبلاً، إذ إن تكرار مثل هذه الحوادث قد يفرض ضغوطاً سياسية وأمنية متزايدة، ويعيد فتح النقاش داخل واشنطن حول جدوى الانخراط الحالي وحدوده وحتى ضرورة البقاء في سوريا ضمن إطار دعم “قسد” لمواجهة داعش، خاصة أن “إسرائيل” عملت عبر لوبيّاتها في الفترة الماضية على الضغط لإبقاء مزيد من القوات الأميركية في شمال شرق سوريا لمواجهة تركيا[14].
السيناريوهات والتداعيات المحتملة لهجوم تدمر:
يفتح هجوم تدمر الباب أمام جملة من التداعيات والسيناريوهات المحتملة، تتراوح بين تعزيز التعاون القائم، ومحاولات أطراف أخرى إعادة خلط الأوراق واستثمار الحادثة لمصالح متباينة. ومن أبرز التداعيات والسيناريوهات المحتملة:
تعزيز التعاون السوري الأمريكي:
من المرجَّح أن يُشكّل الهجوم دافعاً إضافياً لرفع مستوى التنسيق الأمني وتبادل المعلومات الاستخباراتية بين دمشق وواشنطن، خاصة أن الطرفين اعتبرا نفسيهما مستهدفين مباشرة من تنظيم داعش، وقد يتحول الحادث إلى نقطة ارتكاز لتوسيع العمل المشترك ضد خلايا التنظيم في البادية والمناطق الهشة أمنياً.
وقد لوحظ أن نطاق تحرُّك القوات الأمريكية في مناطق الحكومة السورية -بعد انضمام سوريا رسمياً إلى التحالف الدولي- بات أكثر اتساعاً ويشمل مناطق برية، وليس الاكتفاء بطلعات جوية وملاحقة خلايا[15]، ولعل هذا ما يظهر بالجولة الاستكشافية للتحالف في تدمر، الأمر الذي يُرجّح تكثيف عمليات الدهم والملاحقة البرية، باعتبارها الأداة الأكثر فاعلية ضد تنظيم لا يمتلك مراكز ثقل واضحة، كما لا يُستبعد أن تُفكّر القوات الأمريكية بإقامة قواعد عسكرية جديدة في المنطقة.
كما يعكس تعامل الإدارة الأمريكية مع الحادث، فيما يبدو، أهمية الاستقرار داخل سوريا بالنسبة لواشنطن، وارتباطه المباشر بنجاح مقاربة ترامب في هذا الملف، ما يجعل سوريا حاضرة بقوة في الحسابات الأمنية والسياسية الأمريكية، إذ من غير المرجح أن يؤدي هذا الحادث إلى ثني ترامب عن الاستمرار بسياساته القائمة على دعم سوريا الجديدة، خاصة أن هذا الدعم مرتبطٌ بملفات أخرى لا تتعلق فقط بالحرب على داعش، لاسيما ما يتعلق بالملف “الإسرائيلي”.
تحفيز مراجعة داخلية للأجهزة الأمنية السورية:
يفرض الهجوم تحدياً مباشراً على المؤسسات الأمنية السورية، خصوصاً فيما يتعلق بفرز العناصر وضبط حالات التطرُّف داخلها، ومن المتوقع أن يدفع الحادث نحو تشديد إجراءات التدقيق الأيديولوجي والأمني، لضمان عدم تكرار خروقات مماثلة في مرحلة إعادة بناء الجهاز الأمني، خاصة فيما لو كانت هناك ارتباطات لمنفذ الهجوم بمجموعات أخرى داخل قوى الأمن والجيش في سوريا، ويمكن في هذه الحالة أن تتعاون الحكومة السورية مع بعض الدول كتركيا لتقوية الاستخبارات وضمان انضباط العناصر.
محاولة تنظيم داعش إعادة التعبئة والحشد:
قد يسعى التنظيم إلى استثمار الهجوم معنوياً من أجل رفع معنويات عناصره، وإعادة التعبئة داخل البادية السورية وداخل بعض القرى والبلدات الريفية، مُستفيداً من الطبيعة الجغرافية الواسعة والهشة لها، ما يشير لأهمية تعزيز الرقابة عبر وسائل متقدمة مثل الطيران المسيّر بما يُخفّف من الخسائر في صفوف القوى الأمنية، لاسيما أن التنظيم هدّد الحكومة السورية في الآونة الأخيرة ونفّذ عمليات بعدد من المناطق من أبرزها التفجير الانتحاري في كنيسة مار إلياس بدمشق، كما خطط لتنفيذ عملية مماثلة في ما يُعرف بمقام السيدة زينب بدمشق[16]، في أسلوب واضح يعتمد من خلاله إلى استهداف الدور الدينية التابعة للأقليات لإحراج الحكومة السورية وإظهار ضعفها في حماية الأقليات، لاسيما مع حساسية هذا الملف بالنسبة للقوى الغربية.
استثمار سياسي من قبل “قسد”:
سعت “قسد” إلى استثمار الهجوم سياسياً، فقد أصدرت بعد وقت قصير من الهجوم بياناً تشير فيه إلى أنها هي الجهة الشريكة الرئيسية في الحرب على داعش وتُذكّر بـ”إنجازاتها” وتؤكد استعدادها للحرب ضد التنظيم في أي مكان بالجغرافيا السورية[17]، وقد خلا بيان “قسد” من التضامن مع القوى الأمنية السورية التي تعرضت للإصابة، واكتفى بالتضامن مع القتلى الأمريكيين.
ولا يمكن فصل هذا الخطاب عن سعي “قسد” الدائم إلى ترسيخ سردية مفادها أن الحكومة السورية لا تزال عاجزة عن ضبط الأمن أو إدارة ملف مكافحة داعش بشكل مستقل، وهي سردية تجد في أي خرق أمني فرصة لإعادة إحيائها وتضخيمها.
وفي هذا الإطار، يمكن قراءة بيان “قسد” كجزء من منافسة سياسية أمنية على الشرعية الدولية في محاربة داعش والدور الوظيفي في مرحلة ما بعد انضمام سوريا إلى التحالف الدولي، ومحاولة استباق أي تحوّلٍ محتملٍ قد يُهمّش دورها أو يعيد تعريفه، وذلك عبر الاستثمار في الهواجس الأميركية المرتبطة بعودة داعش، وتقديم نفسها كخيار جاهز في حال اهتزّت الثقة بالقدرات الأمنية للحكومة السورية، لاسيما مع اقتراب انتهاء اتفاق آذار الخاص بالاندماج بين الحكومة السورية و”قسد” في ظل تعنُّت الأخيرة وعدم تقديمها أي تنازلات وتصعيدها الميداني ببعض المناطق[18].
خاتمة:
يكشف هجوم تدمر حجم التحديات الأمنية المتشابكة التي تواجهها الدولة السورية الجديدة في سياق إعادة بناء مؤسساتها العسكرية والأمنية والإعلامية، ولا سيما ما يتصل بمخاطر الاختراق الأمني عبر الانتساب إلى صفوف قوى الأمن والجيش في مرحلة انتقالية تتسم باتساع الحاجة البشرية وضيق هامش التدقيق، وهو ما يفرض على الحكومة السورية أهمية إحكام آليات الفرز الأمني وضبط مسارات الانتساب.
ولا تقتصر مخاطر الاختراق المحتملة على تنظيم داعش وحده، بل تشير هذه الحادثة إلى ضرورة التعامل مع احتمال تسلُّل جهات أخرى تمتلك مصلحة مباشرة في زعزعة الاستقرار، بما في ذلك فلول النظام البائد وجهات مرتبطة بـ”قسد” و”إسرائيل” وغيرها، ما يكشف عمق التحديات وضرورة الحذر من وقوع اختراقات لا تقتصر على قطاع قوى الأمن والجيش فحسب.
باحث مساعد في مركز الحوار السوري، يعمل ضمن وحدة تحليل السياسات، كتب وشارك في العديد من الأوراق المتعلقة بتحليل سياسات الفاعلين في سوريا، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية.




