مقالات الرأي

جدليّة حرية التعبير وخطاب الكراهية في سوريا: مقترحات في ظل التعقيد المواضيعي والقانوني

ننشهد في سوريا حالة من الالتباس عند الاحتكاك في القضايا التطبيقية للمبادئ النظريّة، ولعلّ أهمها في الفترة الأخيرة  قضية توقيف الأشخاص على أساس ممارسة الجرائم الإلكترونية ضمن إطار التحريض وبث خطاب الكراهية الذي يُعزّز الانقسام وخاصة الطائفي منه، إذ يبدو التوافق كبيراً نظرياً على قضيتين؛ هما ضرورة وجود حرية تعبير بسقوف عالية باعتبارها أحد أهم مكتسبات ومبادئ الثورة السورية، وضرورة مواجهة خطاب الكراهية الذي يُفتّت المجتمع السوري ويثير مزيداً من الانقسام، وفي هذا الأخير دائماً ما يتم إلقاء اللوم على المؤسسات العامة بوصفها مُقصّرة في تطبيق إجراءات ردعيّة، إلا أنه عند الانتقال للتطبيق تخرج وجهات نظر حادة مختلفة ومتناقضة.

يشير ما سبق بالفعل إلى ضرورة إيجاد ضوابط معيارية يمكن لها أن تنعكس على الإصلاح القانوني في سوريا باعتبار أن المُحاججة بقانون الجرائم الإلكترونية في سوريا تخضع أيضاً للكثير من الجدل وخاصة في التفسير والنظرة إلى النصوص التي استخدمت من نظام الأسد البائد في قمع الحريات، وهذا يقود لضرورة الإجابة على مجموعة من التساؤلات الرئيسية من أهمها؛ هل يمكن التمييز من خلال ضوابط واضحة بين كل من ممارسة حرية التعبير والانحدار إلى بث خطاب الكراهية؟ وهل من خصوصية تبعاً لحالة المجتمعات؟

مفهوم الحق في حرية التعبير وخطاب الكراهية في القانون الدولي:

بداية يمكن القول إن الحق في حرية التعبير يقع في صُلب الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، حيث تم النص عليه في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كذلك في المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فضلاً عن حضوره الدائم في اتفاقيات دولية وإقليمية من أبرزها الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان المادة 10، ووفقاً للجنة المعنيّة بحقوق الإنسان في تعليقها رقم 34 لعام 2011 فإنه يُنظر إلى حرية التعبير بوصفها شرطاً ضرورياً لتحقيق مبادئ الشفافية والمساءلة التي بدورها ضرورية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان، ولذلك يترتب على الدول كفالة احترام هذا الحق في قوانينها، والممارسات الإدارية والأحكام القضائية أيضاً.

إلا أن هذا الحق يخضع للتنظيم والضوابط لأسباب مشروعة؛ وأولها احتـرام حقـوق الآخرين أو سمعتهم، أما الثاني فهو حماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة، وبشرط أن تكون هذه القيود ضرورية ومُحدَّدة بنصوص قانونية، ومن أهم هذه القيود المنصوص عليها دولياً هي الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تُشكّل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف.

بالتركيز على خطاب الكراهية، يمكن القول إنه على الرغم من حظره في المادة 20 من العهد الدولي و المادة (4) من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، فإنه لا يوجد حتى الآن نصّ صريح بتعريفه في القانون الدولي ولا يزال هذا المفهوم محل نزاع واسع، لا سيما فيما يتعلق بحرية الرأي والتعبير وعدم التمييز والمساواة، إلا أن الأمم المتحدة وفي إطار استراتيجيتها بشأن خطاب الكراهية قد عرّفته بأنه “أي نوع من التواصل، الشفهي أو الكتابي أو السلوكي، الذي يهاجم أو يستخدم لغة ازدرائية أو تمييزية بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس الهوية، وبعبارة أخرى، على أساس الدين أو الانتماء الإثني أو الجنسية أو العرق أو اللون أو النسب أو النوع الاجتماعي أو أحد العوامل الأخرى المحددة للهوية.

الجهود المبذولة لوضع ضوابط معياريّة بين الأمرين:

رغم الفروقات النظرية الواضحة بين حرية التعبير وبين خطاب الكراهية بوصف الأخير يحمل لغة ازدرائية على أساس هوياتي، فإن الحدود الفاصلة بينهما لا تزال موضع نقاش كبير، وخاصة مع تزايد استخدام المنصات الرقمية التي أتاحت أشكالاً غير مسبوقة من حرية الحصول على المعلومة وممارسة حرية الرأي والتعبير.

 لذلك بُذلت جهود عديدة لتحديد الفروقات الرئيسية بينهما ومن أهمها كانت مبادئ كامدن حول حرية التعبير والمساواة، والتي تضمنت مبادئ عديدة منها: تجنُّب الإشارة غير الضرورية إلى العِرق أو الدين أو النوع، وأن تكون القيود المفروضة من الدولة تراعي حاجات ملحّة، وأن تُوضّح الدولة بشكل صريح بالقانون أو عبر تفسير رسمي معنى كلمة الكراهية أو العداء والخطر الوشيك للتحريض، وأن الأصل هو حرية مناقشة الأفكار ونقدها بما فيها الأيديولوجية والدينية.

من جانب آخر أكثر تحليلاً، تبرز خطة عمل الرباط بشأن حظر الدعوة إلى الكراهية عام 2012 والتي حلّلت السياق القانوني الدولي والممارسات وأكدت حجم الالتباس والتداخل، وأن القوانين التي تُواجه خطاب الكراهية غالباً تكون متباينة وقاصرة أو غامضة، وكذلك الاجتهادات القضائية نادرة وملتبسة، ولذلك فقد قدمت ثلاث توصيات رئيسية تُسهم في رسم معالم واضحة لهذه الفروقات وهي: التمييز بين التعبير الذي يُشكّل جريمة، والتعبير الذي يُسوّغ إجراءً إدارياً أو دعوى مدنية، وأخيراً التعبير الذي يُعد مثيراً للقلق لكن لا يستدعي أي جزاءات، وذلك بالاستناد بشكل رئيس إلى معيار الحدة، بمعنى أن يكون التحريض على الكراهية الذي يستوجب إجراءً جنائياً مرتبطاً بأكثر أشكال الازدراء حدة وتأثيراً في النفس بالاستناد إلى ستة عوامل وهي: الأول هو السياق الاجتماعي والسياسي عند صدور الكلام ونشره، والثاني مركز المتكلم في بيئة الجمهور الذي يوجه إليها الخطاب، أما العوامل الأخرى فترتبط بوجود النية، ونتائج تحليل محتوى أو شكل أو أسلوب الكلام، ومدى الخطاب وتأثيره، وأخيراً تحديد درجة الضرر الناجم عن الخطاب.

الإشكالية المزدوجة في سوريا: ما الحلول المتاحة؟

بإسقاط ما سبق على الحالة السورية يمكن الانطلاق من قضيتين اثنتين هما إشكالية حرفية النصوص في الإطار القانوني السوري باعتبارها معيبة من حيث الصياغة والسلطة التقديرية الواسعة في إعمال النصوص والتي جاءت عامة مع تشدُّد بالعقوبات، وأشهرها المادة 285 و286من قانون العقوبات السوري وتعديلاته، والقانون رقم 20 لعام 2022 الخاص بالجرائم المعلوماتية ولائحته التنفيذية، وهي نصوص تم انتقادها كثيراً باعتبارها من بين الأكثر تقييداً للحرية على الإنترنت على مستوى العالم، أما القضية الثانية فترتبط بالمكانة التي خصصها الإعلان الدستوري السوري للاتفاقيات الدولية والحقوق والحريات من جهة، والفقه الإسلامي باعتباره المصدر الرئيس للتشريع من جهة أخرى، وبالعودة للأخير نجد أن الإسلام يُجرّم خطاب الكراهية بهدف حفظ الروابط الاجتماعية ونبذ العداوة، كما يفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ” [رواه الترمذي]، وكقوله صلى الله عليه وسلم: “لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصْبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصْبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصْبِيَّةٍ”، [رواه أبو داود]، إلا أن الإعلان الدستوري قد أبقى في نفس الوقت على المنظومة القانونية السورية سارية المفعول مما يجعل القوانين السابقة مُطبَّقة حالياً على المستوى النظري على الأقل، وعليه يغدو المشهد معقَّداً لجهة الإطار الدولي والوطني على حد سواء.

للتوفيق بين هذه التناقضات يمكن أن يتم الاعتماد على مقترحات الجهود الأممية أعلاه باعتبارها مرجعاً لتفسير الإطار القانوني الوطني، وعبر استحضار الفقه الإسلامي بوصفه مصدراً وطنياً ومدخلاً قيمياً، والتي بإعمالها نغدو أمام نمطين رئيسيين لخطاب الكراهية في مستواه الأعلى تأتي المساءلة الجزائية على أن تطبق بالطبع بدون تمييز، وفي المستوى الأقل يفتح باب المساءلة الإدارية أي عبر المؤسسات وكوادرها أو من الدعاوى المدنية بمنطق التعويض، مع نشر مكثف للضوابط التي ترتبط من قبل وزارة العدل السورية أو تعميم من النائب العام للجمهورية كحل إسعافي إلا أن يتم مراجعة القوانين السورية وحل الإشكالات العالق بها في مجلس الشعب السوري القادم.

وباعتبار أن معيرة الإعمال والتطبيق ترتد بهذا المقترح إلى الخصوصية السورية التي تفرض نفسها في رسم ملامح العوامل الستة المشار إليها وإسقاطها على أرض الواقع، ومن أهمها السياق الحالي وطبيعة المتكلم وتأثيره، بحيث يدفع السياق السياسي الحالي إلى التشدد في إعمال المساءلة الجنائية على القضايا الرئيسية الأكثر سخونة وهي الخطاب الطائفي والعنصري والتكفيري، وفي مقابله الخطاب الذي يسيء لثوابت الشريعة الإسلامية بوصف ذلك تحريضاً على الانقسام ومخالفة للمكانة التي أفردها الإعلان الدستوري لكل من الحقوق والحريات والمواطنة والقيم الاسلامية، أما الثاني فهو التركيز على الشخصيات المؤثرة اجتماعياً وفي مقدمتهم الصحفيون والمؤثرون الإعلامين وقادة الرأي والقادة الدينيون، وقيادات المجتمع المدني، واعتبار أن النية بتشجيع العنف والأذى مفترضة حكماً، وذلك كله في العبارات المباشرة التي تتضمن الازدراء والتحقير بطريقة تعميمية، وبالتالي فإن المعايير الأشد ترتبط بـ”النخب”، وبضابط آخر كلي هو الجانب المباشر الذي لا يحتمل التأويل باعتباره تفكيراً  نقدياً أو تحليلاً علمياً بعيداً عن الشعبوية، وتغدو في المستوى الثاني أي المساءلة المدنيّة والإدارية على باقي أفراد المجتمع، والمؤسسات المعنية على سبيل المثال وجود جهات مدنية ترصد خطاب الكراهية وتشير إليه، ووجود أقسام في نقابات واتحاد الصحفيين ..الخ، لمتابعة أخلاقيات العمل الصحفي، وفرض أنماط من المساءلة المتدرجة حول انتهاكه، كذلك على صعيد القطاع الديني من قبل مجلس الإفتاء الأعلى.

ختاماً، يبدو أن النقاش حول حدود التفكير والنقد والتحليل، وبين خطاب الكراهية والأذى الذي يُلحقه بالمستهدفين والمجتمع ككل وتشجيعه على العنف الثقافي بداية والعنف المباشر في نهاية المطاف سيكون جزءاً من مخاض إعادة تعريف كل الحقوق والضوابط في سوريا خلال المرحلة الانتقالية وهذا أمر صحيّ من حيث النتيجة ومؤشر على حيوية المجال العام، إلا أن البقاء في دائرة الانقسام حول تطبيق وإعمال النظريات والدعوة إلى التشدُّد تارة، والتجاهل تارة أخرى، يسمح بحالة مزاجية تُدخِل المؤسسات قبل المجتمع في دائرة مغلقة ليس لها أية منافذ أو منهجيّة واضحة.

مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى