
مسارات مفتوحة وملفات عالقة.. ماذا أنجزت سوريا في عامها الأول بعد التحرير على المستوى الداخلي؟
مقدمة:
حمل العام الأول لسوريا بعد التحرير جملة من المحطات الرئيسية على الصعيد الداخلي، اتسمت بتداخل التقدّم والتعثّر، وبروز مسارات لم تستقر بعدُ على اتجاه نهائي، فقد شهدت بعض الملفات خطوات إلى الأمام، في حين اصطدمت أخرى بعراقيل بُنيوية وإرث ثقيل خلّفه النظام البائد على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
وإذ يُعدّ الوقوع في المطبّات خلال العام الأول أمراً متوقّعاً في مسار إعادة بناء دولة خارجة من حقبة استبدادية طويلة، فإن أهمية هذا التوقيت تكمن في قدرته على كشف مواطن القوة والضعف، وحدود الاستجابة، وطبيعة التحدّيات التي لا تزال تُعيق الانتقال نحو الاستقرار.
وعليه، يسعى هذا التقرير إلى رصد أبرز الملفات الداخلية في سوريا خلال العام الأول بعد التحرير، من دون الالتزام بالتسلسل الزمني للأحداث أو الغوص في تفاصيل جزئية، مع اعتماد التقسيم الموضوعي قدر الإمكان، نظراً للتداخل الموضوعي بين بعض القضايا، وذلك بهدف تقديم قراءة تقييمية تُظهر بوضوح مجالات التقدّم التي حققتها إدارة الدولة، ومواطن التعثّر، والملفات التي لا تزال تراوح مكانها أو تتأخر في المعالجة.
ومن المهم الإشارة إلى أن التقرير لا يدّعي الإحاطة بكامل ما جرى على المستوى الداخلي، ولا يسعى إلى تقديم صورة شاملة بكل تفاصيلها، نظراً لكثافة وتداخُل التحوّلات التي شهدتها سوريا خلال عام واحد فقط، وهي تحوّلات يصعب رصدها كاملة في تقرير واحد، خاصة في سياق دولة مُنهكة مثل سوريا، ولذلك فإنه سيُركّز على الملفات الأكثر تأثيراً في مسار الاستقرار وبناء الدولة، بوصفها مدخلاً لفهم الاتجاهات العامة للحالة الداخلية، لا سرداً تفصيلياً لكل الوقائع والمجريات.
وانطلاقاً من ذلك، ينتظم التقرير ضمن أربعة محاور رئيسية هي: التحديات السيادية والأمنية، إدارة المرحلة الانتقالية وبناء السلطة، الاقتصاد والمعيشة وإعادة التعافي، والملفات الإنسانية الضاغطة، بما يمنح فهماً أشمل لمسار العام الأول بعد التحرير على المستوى الداخلي، وتحديد أولويات المرحلة المقبلة.
أولاً: التحديات السيادية والأمنية:
يُشكّل محور التحديات السيادية والأمنية الإطار الأكثر حساسية في تقييم العام الأول بعد التحرير، إذ تتقاطع فيه أسئلة وحدة الأراضي وبسط سلطة الدولة واحتكار العنف المشروع، في ظل وجود بؤر توتر تسعى لاختبار قدرة الدولة الناشئة على تثبيت الاستقرار.
وفي هذا السياق، تبرز خمسة ملفات رئيسية تكشف طبيعة التحدّي القائم، تبدأ من تعثُّر التفاهمات مع “قسد” وما يرتبط بها من رهانات سياسية، ولا تنتهي بتوترات السويداء وخطابات الانفصال، مروراً بالتدخُّلات “الإسرائيلية” في الجنوب الغربي بوصفها ضغطاً سيادياً مستمراً، وصولاً إلى الهشاشة الأمنية في الساحل مع نشاط الفلول، ثم عودة تهديد داعش كعامل استنزاف طويل الأمد، وهي ملفات لا تُقاس أهميتها بحجم الحدث وحده، بل بقدرتها على رسم حدود الاستقرار الممكن في المرحلة الانتقالية.
1- جمود اتفاق آذار الموقَّع بين الحكومة السورية و”قوات سوريا الديمقراطية – قسد”:
يُشكّل ملف “قسد” أحد أهم أولويات الحكومة السورية نظراً لكون “قسد” تسيطر على نحو ثلث الأراضي السورية، بما فيها من موارد اقتصادية مهمة من شأن سيطرة الحكومة السورية عليها أن يتحسَّن لديها الواقع الاقتصادي ودوران عجلة الحياة الاقتصادية، فضلاً عن عامل أكثر أهمية وهو تعزيز سلطة الدولة المركزية وإنهاء طموحات الانفصال والحكم الذاتي التي تسعى لها قيادة “قسد”.
ومن هنا يمكن فهم أسباب تأخُّر تنفيذ الاتفاق حتى الآن، إذ إن قيادة “قسد” لا تزال تُعوّل على تحقيق مكاسب سياسية تتجاوز اللامركزية الإدارية إلى اللامركزية السياسية الموسَّعة بما يضمن لها نموذجاً مشابهاً لنموذج كردستان العراق رغم الفارق الكبير في البنية الديمغرافية والاجتماعية بين المنطقتين[1].
ولا يزال يُلاحظ في خطاب “قسد” الرسمي التركيز على مصطلحات من قبيل “الفيدرالية”، و”إقليم شمال شرق سوريا”، و”الحكم الذاتي”، مع خطوات رمزية قامت بها فقط في مناطق سيطرتها مثل رفع العلم السوري، بينما لم تَقُم بتنفيذ أي بندٍ من البنود الجوهرية في اتفاق آذار.
إجمالاً، يمكن القول إن ملف “قسد” لا يُزال أحد العوائق أمام استقرار ووحدة الأراضي السورية وتعافيها الاقتصادي، ويرتبط ذلك بالموقف الأمريكي الذي لا يزال يُقدّم الدعم لها رغم انفتاح واشنطن الكبير على الحكومة السورية ورفع عقوبات قانون قيصر والعلاقة الناشئة بين الرئيس الأمريكي ونظيره السوري، الأمر الذي يُدلّل على أن واشنطن تبدو حالياً بصدد الاحتفاظ بالشريكين معاً؛ الحكومة السورية و”قسد” لحين نضوج التسوية السياسية والوصول لصيغة مُعيّنة من التوافقات بين الطرفين.
وعليه، فإن احتمال التسخين العسكري المفتوح والواسع وإن كان خياراً وارداً عملياً، لكنه سيظل ضعيفاً في ظل الوجود الأمريكي شرق الفرات، كما سيظل مرتبطاً بمدى وجود رغبة أمريكية في تحقيق ضغوط فعلية على “قسد” لإجبارها على تخفيف مطالبها السياسية والاندماج كأفراد لا كتلة واحدة[2].
2- أحداث السويداء ورفع مطالب الانفصال:
شكّل ملف السويداء أحد أبرز التحديات في الحفاظ على وحدة واستقرار البلاد، وقد عملت الحكومة السورية في الأشهر الأولى من 2025 على محاولة بناء الثقة مع القيادات الدينية والمجتمعية في المحافظة، وفتحت قنوات تواصل مع الوجهاء والزعامات الدينية وخاصة حكمت الهجري الذي أظهر مواقف مُتقلّبة تجاه الإدارة السورية الجديدة إلى أن جاءت أحداث تموز التي شكّلت انعطافة سياسية في المحافظة بعد طلب الهجري رسمياً من “إسرائيل” التدخُّل عسكرياً في سوريا، ما دفعها إلى استغلال الذرائع وقصف مبنى هيئة الأركان بالعاصمة ومحيط القصر الرئاسي[3].
كما استغلّ الهجري هذه الأحداث لاتهام الحكومة السورية بارتكاب “انتهاكات طائفية”، رغم أن الحكومة السورية لم تَنفِ المسؤولية رسمياً حول وقوع انتهاكات من كافة الأطراف بما فيها قوى الأمن والجيش، لكن الهجري وجد بهذه الأحداث فرصة لزيادة الشرخ ورفض أي حلول أو وساطات مع الحكومة السورية، وهنا برز بشكل رئيسي مطلب الانفصال عن الدولة السورية وما يُسميه الهجري “حق تقرير المصير”.
وقد كان العامل “الإسرائيلي” مؤثراً بشكل رئيسي في هذا السياق، إذ صدّرت “إسرائيل” نفسها كحامٍ للدروز عبر تصعيدٍ عسكري ضد قوات دمشق، إضافة لبعض التصريحات السياسية المتكررة حول “عدم تخلّيها” عن الدروز و”التزامها بحمايتهم[4]، الأمر الذي شكّل حافزاً لدى بعض الجهات في السويداء وخاصة الهجري والمحسوبين عليه في زيادة التعلُّق بالدعم “الإسرائيلي”، ومن ثم رفع العلم “الإسرائيلي” في المظاهرات المنادية بـ “تقرير المصير”.
إجمالاً، يمكن النظر إلى ملف السويداء بوصفه تحدياً حقيقياً يواجه استقرار سوريا في ظل عدم إمكانية الحسم العسكري من جانب الحكومة السورية لإنهاء القوى الانفصالية والعصابات التي تُمارس الانتهاكات بحق الأهالي في السويداء وتستفرد بقرارهم مُستفيدة من الدعم “الإسرائيلي”، ولذلك من المرجّح أن يظل الملف مُعلَّقاً لحين نضوج التسوية الأمنية بين سوريا و”إسرائيل”، لاسيما أن “تل أبيب” باتت تستغل ملف الدروز للضغط على الحكومة السورية وإفشال مساعيها في توحيد البلاد وتحقيق الاستقرار.
3- الاعتداءات “الإسرائيلية” في الجنوب الغربي من البلاد:
برز الجنوب الغربي السوري خلال العام الأول بعد التحرير كإحدى أكثر الساحات هشاشة من حيث غياب الاستقرار الأمني وانتهاك سيادة الدولة، في ظل تصاعد وتيرة الاعتداءات “الإسرائيلية” المباشرة وغير المباشرة، مستفيدةً من مرحلة إعادة التشكُّل التي تمر بها الدولة السورية.
وقد اتخذت هذه الاعتداءات أشكالاً متعددة؛ أبرزها سيطرة الاحتلال “الإسرائيلي” على مساحات واسعة في جنوب غربي سوريا ضمن محافظتي درعا والقنيطرة بعد إعلان “إسرائيل” انهيار اتفاقية فض الاشتباك الموقَّعة عام 1974 عقب انهيار نظام الأسد في 8 كانون الأول 2024، وترافق ذلك مع تدمير “إسرائيل” أسلحة الجيش السابق كي لا تستفيد منها سوريا الجديدة، كما دمّرت جميع الثكنات والمواقع العسكرية على طول الحدود وأقامت 9 قواعد عسكرية، منها قاعدة واحدة في درعا و8 في القنيطرة، إلى جانب نقاط عسكرية متقدمة في جبل الشيخ[5].
تُشير بعض التقارير إلى أن السيطرة “الإسرائيلية” لم تعد مقتصرة على المنطقة العازلة التقليدية (الـ 235 كم²) وفق اتفاق 1974، بل امتدّت إلى مساحة تُقدّر بنحو 400 كم² داخل سوريا مع تحصينات ومواقع عسكرية ثابتة في مواقع استراتيجية[6].
إلى جانب ذلك، شنت “إسرائيل” غارات جوية متكررة استهدفت مواقع عسكرية للجيش السوري الجديد، إضافة إلى توغُّلات عسكرية بشكل متكرر على طول خط الحدود بين درعا والقنيطرة وأحياناً في منطقة بيت جن بريف دمشق الغربي، وسط محاولات لفرض وقائع أمنية جديدة تحت عناوين منع التمركز العسكري لقوات الحكومة السورية، أو حماية الحدود، أو الردع الاستباقي.
وفي الوقت ذاته، سعت “إسرائيل” إلى توظيف بعض التوترات التي حصلت بين الحكومة السورية وبعض المجموعات في السويداء وصحنايا وجرمانا بريف دمشق بما يخدم سياستها في سوريا، لذلك كان ولا يزال الخطاب الإعلامي “الإسرائيلي” يرفع ذريعة حماية الدروز كورقة جاهزة للتدخُّل في سوريا، كما لا يُستبعد أن تكون “إسرائيل” قد حرّكت مجموعات الدروز، خصوصاً بعدما أُثير مؤخراً عن دعمها ما يُسمى “مجلس السويداء العسكري” قبل سقوط الأسد[7]، بالإضافة إلى تقديمها مبالغ مالية شهرية تتراوح بين 100 إلى 200 دولار لنحو 3000 مقاتل من ما يُسمى “الحرس الوطني” في السويداء الذي يعمل بإمرة حكمت الهجري[8].
ويُمثّل هذا السلوك “الإسرائيلي” عاملاً ضاغطاً على الحكومة السورية، إذ يَحدّ من قدرتها على بسط سيادتها الكاملة على أراضيها، كما يضعها أمام معادلة تجمع بين تجنُّب الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة، والحفاظ على الحد الأدنى من الردع والسيطرة، ويزداد هذا الإرباك في ظل غياب مظلة إقليمية أو دولية واضحة تكبح هذه التدخُّلات، إذ إن الولايات المتحدة لم تَظهر بمظهر الجهة الضاغطة على “إسرائيل” لوقف اعتداءاتها في الجنوب الغربي، وظلت جميع المفاوضات التي دارت سواء بشكل مباشر أو غير مباشر تراوح مكانها في ظل ما يدور من حديث عن رفع “إسرائيل” سقف المفاوضات رغم مطالب دمشق المتكررة لها بالانسحاب من المناطق التي احتلتها بعد 8 كانون الأول 2024[9]، فضلاً عما يُثار في الأوساط “الإسرائيلية” من محاولات “تل أبيب” لفرض واقع جديد للسيطرة في الجنوب السوري ومنع دخول السلاح الثقيل إليه وحتى تكرار الحديث عن إنشاء منطقة حظر جوي كامل في المنطقة الجنوبية[10].
إجمالاً، يمكن القول إن العدوان “الإسرائيلي” المتكرر في الجنوب الغربي يُمثّل تحدياً سيادياً طويل الأمد لمسار تعافي الدولة السورية، إذ يُبقي المنطقة في حالة توتر مزمن، ويفتح الباب أمام استنزاف أمني وسياسي، في الوقت الذي تعمل فيه حكومة نتنياهو على إشعال الحروب في المنطقة وجرّ سوريا إلى مستنقع الحرب، خاصة بعمليات القصف الاستفزازية على مواقع سياديّة سوريّة.
4- أحداث الساحل السوري والتحرُّكات المُهدِّدة للأمن من فلول النظام البائد:
شكّلت أحداث الساحل السوري إحدى أخطر المحطات الأمنيّة خلال العام الأول بعد التحرير، لما حملته من أبعاد أمنية ومجتمعية حسّاسة، بعد هجوم شنّه فلول النظام البائد في آذار 2025 استهدف العديد من المناطق في الساحل، ثم أعقبته هجمات انتقامية طالت مدنيين في الساحل السوري، فيما تُقدَّر الحصيلة الكلية للقتلى بنحو 800[11].
وقد أعادت هذه الأحداث التذكير بحجم التحديات المرتبطة بإدارة المرحلة الانتقالية، ولا سيما في المناطق التي ما تزال تضمُّ شبكات أمنية وعسكرية مرتبطة بالنظام البائد، وتسعى إلى تقويض الاستقرار عبر استثمار الهشاشة الأمنية وإثارة الفوضى.
في المقابل، تعاملت الحكومة السورية مع التطورات عبر مسارين متوازيين؛ أمني وقضائي، فعلى المستوى الأمني، جرى احتواء الهجوم ومنع توسّعه، فيما بادرت على المستوى القضائي إلى تشكيل لجنة تحقيق رسمية، تبعها الإعلان عن بدء جلسات علنية لمحاكمة المتهمين، بمن فيهم عناصر من الجيش والقوى الأمنية، في خطوة تبدو في سياق محاولة تعزيز الثقة وإرساء سيادة القانون وتوجيه رسائل بأن المحاسبة لن تقتصر على طرف واحد.
وعلى الرغم من احتواء الهجوم الأساسي، لا يزال النشاط الأمني لفلول النظام البائد في الساحل يُشكّل تحدياً مستمراً، في ظل تكرار حوادث الاغتيال والاستهدافات المحدودة التي تهدف إلى زعزعة الاستقرار وبث رسائل ترهيب، مستفيدة من الطبيعة الجغرافية المعقّدة للمنطقة، ومن شبكات سابقة لم تُفكك بالكامل ولا تزال تحظى بالتمويل الخارجي[12]، وقد ظهر بالفعل مُسلَّحون من فلول النظام البائد يُهدّدون الحكومة السورية خلال المظاهرات المناوئة للحكومة استجابة لدعوة غزال غزال رئيس ما يسمى “المجلس الإسلامي السوري العلوي في المهجر” والذي يُصدِّر نفسه كمتحدث باسم العلويين في سوريا[13]، ويؤكد هذا الواقع أهمية استمرار الحملات الأمنية الاستباقية، ولا سيما عمليات الدهم المنظَّمة، لملاحقة كافة الفلول وضبط السلاح غير الشرعي، بما يحدّ من قدرتهم على إعادة التموضع أو التحوّل إلى عامل استنزاف أمني طويل الأمد.
5- تنامي نشاط داعش في عدد من المناطق:
عاد ملف تنظيم داعش ليبرز كأحد التحديات الأمنية خلال العام الأول بعد التحرير، في ظل تسجيل هجمات هدفت إلى إثبات حضور التنظيم ومحاولة إعادة ترسيخ نفسه كفاعل أمني قادر على الإرباك، مُستفيداً من مرحلة الانتقال السياسي والأمني التي تمر بها البلاد.
وقد تمثّلت أبرز هذه الهجمات في الهجوم الذي استهدف جنوداً أمريكيين في تدمر وأسفر عن مقتل جنديين ومترجم مدني[14]، إضافة إلى الاعتداء على كنيسة مار إلياس في دمشق، ومحاولة التنظيم استهداف ما يُعرف بـ “مقام السيدة زينب” في ريف دمشق، في مسعًى واضح لإثارة حساسيات طائفية ومخاوف غربية تتعلّق بأمن الأقليات الدينية، وإعادة توظيف هذا الملف كورقة ضغط سياسية وأمنية في مواجهة الحكومة السورية.
في المقابل، كثفت الحكومة السورية جهودها الأمنية لمواجهة هذا التهديد، حيث أعلنت تفكيك عشرات الخلايا التابعة للتنظيم في عددٍ من المناطق السورية، بعضها جرى بالتنسيق والتعاون مع التحالف الدولي، ثم جاء انضمام سوريا بشكل رسمي إلى التحالف الدولي ضد داعش كخطوة ذات دلالة سياسية وأمنية تعكس رغبة الحكومة في تثبيت موقعها كشريك في مكافحة الإرهاب في إطاره الدولي، بما يُسهم فيما يبدو في تضييق هامش تحرُّك التنظيم ويَحِد من قدرته على إعادة التموضع، وتقليل فرص الفواعل المحلية الأخرى وخاصة “قسد” الاستثمار بهذه الورقة.
إجمالاً، يظل خطر داعش قائماً وإن كان مضبوطاً نسبياً، ويعتمد احتواؤه على استمرارية الجهد الأمني والاستخباراتي، ومنع الفراغات الأمنية، والتعامل مع التنظيم بوصفه تهديداً طويل الأمد لا يرتبط فقط بالعمليات الأمنية والعسكرية، بل أيضاً بظروف الاستقرار وإعادة بناء الدولة.

جدول (1) خلاصة التحديات السيادية والأمنية خلال 2025
ثانياً: إدارة المرحلة الانتقالية وبناء السلطة:
شهد العام الأول بعد التحرير جملة من الخطوات الداخلية التي يمكن إدراجها ضمن مساعي تثبيت الاستقرار وإدارة المرحلة الانتقالية، رغم ما رافقها من تباين في التقييمات بين مختلف الأوساط السورية.
1- خطوات إدارية ودستورية وتشريعية:
يبرز في هذا السياق ملف دمج الفصائل العسكرية في الجيش السوري الجديد، حيث اتسمت عملية الدمج ضمن وزارة الدفاع بالهدوء والانسيابية، وشملت نسبة كبيرة من الفصائل، دون تسجيل نزاعات واسعة على النفوذ أو السلطة، خاصة بعد تنصيب أحمد الشرع رئيساً للجمهورية في يناير/كانون الثاني 2025، الأمر الذي ساهم أيضاً في توفير مظلة سياسية ساعدت على ضبط هذا المسار، ومنع تحوّله إلى مصدر صراع داخلي بين الفصائل العسكرية.
وجاء تشكيل الحكومة السورية الجديدة في آذار ليُعطي دُفعةً أساسية في إعادة تفعيل مؤسسات الدولة، ومحاولة الانتقال إلى منطق العمل الحكومي المُنظَّم، رغم استمرار التحدّيات المرتبطة بضعف الموارد، واتساع حجم التوقعات الشعبية مقارنة بالإمكانات المتاحة.
في الإطار الدستوري، أُعلن عن الإعلان الدستوري الذي نظَّم المرحلة الانتقالية، وهو ما أثار نقاشاً واسعاً في الأوساط السياسية والقانونية، فقد رأى منتقدوه أنه يمنح صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية، ويُطيل أمد المرحلة الانتقالية المحددة بخمس سنوات، بينما اعتبر المدافعون عنه أن هذه الصلاحيات تُمثّل ضرورة مرحلية تفرضها اعتبارات الاستقرار، والهشاشة الأمنية، والحاجة إلى مركزية القرار في المرحلة الانتقالية.
أما على المستوى التشريعي، فقد بدأ تشكيل مجلس الشعب عبر انتخابات خاصة اعتمدت نظام اللجان الناخبة، التي تولّت اختيار ثلثي الأعضاء، على أن يُستكمل تشكيل المجلس لاحقاً بتعيين الثلث المتبقي من قبل رئيس الجمهورية، وهنا برز مأخذان اثنان؛ الأول محدودية المشاركة الشعبية المباشرة في هذه الانتخابات وحصرها بيد اللجان الناخبة التي قد لا تُمثّل بالضرورة صوت الشارع، بينما يرى بعض المتابعين أن التركيز على هذه الإشكالية يتجاهل التعقيدات الواقعية للحالة السورية، ولا سيما في ظل وجود ملايين النازحين واللاجئين، واتساع شريحة السكان غير المُسجَّلين في السجلات الرسمية، ما يجعل تنظيم انتخابات عامة تقليدية في هذه المرحلة أمراً بالغ الصعوبة، إن لم يكن متُعذِّراً.
أما الثاني، فهو احتفاظ رئيس الجمهورية بصلاحية تسمية ثلث أعضاء مجلس الشعب، باعتبار أن ذلك قد يُضعف التوازن التشريعي، غير أن المدافعين عن هذا الترتيب يرون أن هذه الصيغة جاءت في سياق انتقالي استثنائي لضبط مسار المرحلة الانتقالية والتوازنات الإثنية والمجتمعية داخل المجلس خاصة مع بلد مر بحالة شديدة التعقيد مثل سوريا.
إجمالاً، عكست هذه الخطوات تفاوتاً واضحاً في مواقف السوريين تجاه مسار المرحلة الانتقالية؛ بين من يرى أن بعض الإجراءات عزّزت من صلاحيات السلطة التنفيذية على حساب التوازن المؤسسي، ومن يعتبرها إجراءات ضرورية في سياق استثنائي يتسم بالمخاطر الأمنية والسياسية والانقسام المجتمعي، ما يجعل الحكم النهائي عليها مرهوناً بنتائجها العملية في الأعوام اللاحقة.
2- إعلان انطلاق مسار العدالة الانتقالية.. مسار غير مكتمل الأركان:
على الرغم من مرور قرابة عام على سقوط النظام البائد، لا تزال ملامح مسار العدالة الانتقالية غير مكتملة، وسط غياب رؤية واضحة لآليات المحاسبة الشاملة لمتورطي الانتهاكات الجسيمة، فرغم إعلان الحكومة السورية تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية، وعرض بعض المشاهد المصوّرة للتحقيقات مع عددٍ من كبار المتهمين، إلا أن هذا المسار لم يتحوّل بعدُ إلى إطارٍ مؤسسي متكامل ومعلن المعالم.
ويبرز في هذا السياق الغموض الذي يُحيط بمصير الكثير من ضباط وعناصر النظام البائد الذين جرى اعتقالهم أثناء وجودهم على رأس عملهم، والذين توجد بحقهم توثيقات واسعة لانتهاكات وجرائم جسيمة، إذ لم تتضح بعدُ آليات التعامل مع هذه الملفات، ولا معايير الإحالة إلى القضاء، أو الفصل بين المسؤوليات الفردية والمراتب الوظيفية.
وتشير هذه المعطيات إلى أن إطلاق مسار العدالة الانتقالية بحد ذاته، لا يكفي ما لم يُقترَن بتعجيل في تحديد شكل هذه العدالة، وأدواتها، وجدولها الزمني، بما يوفّر تطمينات حقيقية للضحايا وذويهم بأن المحاسبة ستطال الجناة، وأن العدالة لن تكون انتقائية أو مؤجَّلة إلى أجل غير مسمى.
ومما يعزز مخاوف البعض ما يدور الحديث عنه حول تسويات غير مُعلنة مع بعض المتهمين بالجرائم، مثل فادي صقر، الأمر الذي يُثير تساؤلات جديّة حول معايير المحاسبة وحدودها، ويخشى منتقدو هذا المسار أن تؤدي مثل هذه التسويات، في حال ثبوتها أو غياب الشفافية بشأنها، إلى تقويض ثقة الضحايا وذويهم بمسار العدالة الانتقالية، وإضعاف قدرتها على أداء دورها بوصفها ركيزة أساسية للمصالحة المجتمعية وبناء دولة القانون.
إجمالاً، يظل ملف العدالة الانتقالية أحد أكثر الملفات حساسيّة وأولوية بالنسبة لملايين السوريين، ليس فقط بوصفه مدخلاً لإنصاف الضحايا، بل كشرط أساسي لبناء الثقة بين المجتمع والحكومة، وهو ما ينعكس بدوره على حالة الاستقرار ويُقلّل بشكل كبير من حالات الانتقام والثأر.
كما أن إطالة أمد الغموض في ملف العدالة الانتقالية لا تقتصر آثارها على إحباط الضحايا وذويهم، بل قد تحمل مخاطر أمنية، مثل أن تُغري بعض المتورطين السابقين في الانتهاكات بإعادة تنظيم أنفسهم لتشكيل خطر داخل المجتمع أو على مؤسسات الدولة، ولا تعني إعادة التنظيم بالضرورة العودة إلى أنماط الإجرام المباشر السابقة، بل قد تأخذ أشكالًا أكثر نعومة، عبر إعادة تعريف الأدوار والوظائف، والتغلغل في شبكات اقتصادية أو إدارية أو أمنية جديدة.
3- محاربة الفساد الإداري.. اختبار مُبكِّر للثقة:
يُعدّ ملف محاربة الفساد الإداري في مرحلة ما بعد التحرير أحد المؤشرات الأساسية على جدّية التحوّل نحو دولة القانون والمؤسسات، وبالفعل لم يغب الملف عن النقاش العام وبعض الإجراءات العمليّة المتعلقة بمعالجة ما خلّفه النظام البائد.
وفي هذا السياق، كشفت الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش عن تحصيل نحو 90 مليار ليرة سورية، وإنجاز 1198 قضية منذ تحرير سوريا ولغاية نهاية شهر تشرين الثاني الماضي “في إطار جهود الهيئة المبذولة لمكافحة الفساد الموروث من زمن النظام البائد، وتعزيز الشفافية والإنجاز وتحسين الأداء”[15]، فيما يعزو خبراء اقتصاديون الأسباب الرئيسية وراء كثافة الفساد في المرحلة السابقة إلى غياب الرقابة الفعلية أكثر من ضعف القوانين[16].
ومن هذا المنطلق، تبرز أهمية الشفافية في التعيينات والمواقع الرسمية بالدولة السورية الجديدة، ولا سيما مع تداول ملاحظات حول مشاركة بعض الأشخاص الذين لا يحملون صفات رسمية معلنة في اجتماعات دولية أو لقاءات سياسية، اعتماداً على صلات شخصية أو قرابة مع مسؤولين بارزين في الدولة، ورغم أن مثل هذه الظواهر قد تُبرَّر أحياناً بضرورات المرحلة أو ضيق الكادر المؤهل، إلا أن استمرارها دون أطر قانونية واضحة يُسهم في إضعاف مبدأ المؤسسية، ويغذّي الانطباع بوجود دوائر نفوذ غير خاضعة للمساءلة.
إجمالاً، إن معالجة ملف الفساد الإداري لا تتطلب فقط ملاحقة المتورطين، بل تستدعي إرساء قواعد واضحة للتعيين، وتحديد الصلاحيات، وتفعيل أجهزة الرقابة والمحاسبة، بما يمنع إعادة إنتاج أنماط الحكم التي اتسمت بها حقبة النظام البائد، في حين سيكون نجاح الحكومة السورية في هذا الملف عاملاً مفصليّاً في ترسيخ الثقة العامة، وجذب الاستثمار، وضمان استدامة الاستقرار السياسي والاقتصادي في المرحلة المقبلة.

جدول (2): إدارة المرحلة الانتقالية وبناء السلطة – التقدّم والتحديات (2025)
ثالثاً: الاقتصاد والمعيشة وإعادة التعافي:
يُشكّل محور الاقتصاد والمعيشة وإعادة التعافي أحد أكثر محاور المرحلة الانتقالية ارتباطاً بالمزاج العام للسوريين، ففي العام الأول بعد التحرير، برز هذا المحور كساحة تداخل بين مؤشرات تعافٍ جزئية، ومحاولات إنعاش اقتصادي لم تكتمل بعد، في مقابل أعباء معيشيّة ثقيلة وتوقّعات مرتفعة تفوق الإمكانات المتاحة.
ومن هنا، تتناول الفقرات التالية أبرز ملامح هذا المسار، من الاتفاقيات الاستثمارية وحدود تنفيذها، إلى واقع الخدمات الأساسية والتعليم، وصولاً إلى سياسات الأجور والدعم، بوصفها عناصر مترابطة ترسم معاً صورة التعافي الاقتصادي الممكن وحدوده والتحديات التي لا تزال تحول دون تحوُّله إلى تحسن معيشي مستدام.
1- الاتفاقيات الاستثمارية.. بين التوقيع والتنفيذ:
شهد العام 2025 توقيع عددٍ من الاتفاقيات الاستثمارية التي عُوّل عليها بوصفها مؤشراً على انطلاق مرحلة التعافي الاقتصادي وما صاحبها من ضخ إعلامي كبير حول جدواها واقتراب الانفراجة الاقتصادية، غير أنه اتضح لاحقاً أن معظم هذه الاتفاقيات لم تتجاوز إطار مُذكِّرات التفاهم، دون الانتقال إلى عقود تنفيذية واضحة أو مشاريع ملموسة على أرض الواقع، ما أسهم في حالةٍ من الغموض والتباين في التوقعات.
وقد تباينت القراءات حول أسباب عدم نضوج هذه الاتفاقيات؛ فبينما ربطها بعض المتابعين باستمرار الهشاشة الأمنية وتراكم آثار العقوبات الدولية ومخاطر السوق السورية، يشير آخرون إلى غياب البيئة التشريعية والإدارية الجاذبة، وتأخر استكمال الأطر القانونية والمؤسساتية اللازمة لطمأنة المستثمرين.
ولكن مع الرفع النهائي لقانون قيصر مؤخراً، يُتوقَّع أن تشهد المرحلة المقبلة تحسُّناً نسبياً في مناخ الثقة السياسية والاقتصادية، بما قد يُسهم في تقليص مستوى المخاطر، ويفتح المجال أمام تحويل بعض مذكرات التفاهم إلى استثمارات فعليّة، شريطة اقتران ذلك بإصلاحات داخلية تُعزِّز الشفافية والاستقرار.
إجمالاً، يظل ملف الاتفاقيات الاستثمارية من أكثر الملفات أهمية على الساحة السورية، نظراً لدوره المحتمل في دفع عجلة الاقتصاد، وتوفير فرص العمل، والمساهمة في تثبيت الاستقرار، إلا أن نجاحه يبقى مرهوناً بقدرته على الانتقال من الإعلانات إلى التنفيذ الفعلي.
2- الخدمات الأساسية والتعليم.. تحسُّن نسبي وحدود قائمة:
شكّلت الخدمات الأساسية، ولا سيما الكهرباء والمياه والمحروقات، أحد أبرز اختبارات الأداء الداخلي خلال العام الأول بعد التحرير، لما لها من أثر مباشر على حياة السوريين اليومية، وعلى مستوى الرضا العام تجاه مؤسسات الدولة وقدرتها على إدارة المرحلة الانتقالية.
وفي هذا السياق، سُجّل تحسُّن ملموس في قطاع الكهرباء مقارنة بالسنوات السابقة، ولا سيما بعد وصول الغاز الأذربيجاني إلى سوريا عبر الأراضي التركية، ما أسهم في زيادة ساعات التغذية الكهربائية في عدد من المناطق، وخفّف جزئياً من الاعتماد على البدائل المكلفة وغير المستقرة، ورغم أن هذا التحسّن لم يصل بعدُ إلى مستوى الاستقرار الكامل أو التوزيع المتوازن بين المحافظات، فإنه شكّل مؤشراً إيجابياً على إمكانية تحقيق اختراقات عملية في هذا القطاع عند توافر عوامل الدعم الإقليمي واللوجستي، ولكن مع ذلك فإن هذه الزيادة في التوصيل ستكون مقرونة بارتفاع في الفواتير بعد رفع الحكومة السورية لأسعار الكهرباء قرابة 60 ضعفاً في بعض الشرائح[17].
وقد برر وزير الاقتصاد والصناعة السوري محمد نضال الشعار القرار بأن “الكهرباء في عهد النظام السابق كانت تُقدَّم بأسعارٍ مصطنعة لا بدافع الرحمة، بل كأداةٍ سياسية استُخدمت لشراء الصمت”، معتبراً أن “زمن الوعود الزائفة انتهى”[18]، وهنا يشير مراقبون إلى أن سياسة تسعير الكهرباء في عهد النظام البائد لم تكن جزءاً من رؤية دعم اجتماعي حقيقي، فالكهرباء رغم رخص تعرفتها الاسمية؛ إلا أنها كانت شبه غائبة عن حياة السوريين، ما جعل “الدعم” فاقداً لأي قيمة اقتصادية أو معيشية حقيقية.
في المقابل، لا يزال قطاع المياه يواجه تحديات متفاوتة بين منطقة وأخرى، ترتبط بالبنية التحتية المتضررة، وارتفاع الكلفة التشغيلية، ومحدودية الموارد، فضلاً عن الضغوط الموسمية وقلة الأمطار، ما يجعل مستوى الخدمات غير مستقر ويخضع لعوامل ظرفية.
أما على مستوى المحروقات، فقد اختلف الأمر بشكل جذري عن حقبة النظام البائد، حيث تتوفر كافة أنواع المحروقات في المناطق السورية دون ضغوط نظراً لسهولة استيرادها، لكن التحدي يكمن في رفع الدعم عنها وبيعها بالأسعار العالمية.
يرتبط ملف الخدمات الأساسية أيضاً بجانب من قطاع التعليم، ولا سيما ملف المدارس المدمّرة، فعلى الرغم من أن الكثير من المراكز الحضرية الكبرى التي شهدت قصفاً في الـ 14 عاماً الماضية لا تعاني اليوم من دمار واسع في المدارس، نتيجة عمليات الترميم التي نفذتها جهات محلية ودولية، فإن هذا الواقع لا ينسحب بالدرجة نفسها على العديد من القرى والمناطق الريفية، حيث لا تزال هناك مدارس متضررة أو خارجة عن الخدمة، ما يحدّ من انتظام العملية التعليمية ويُعمّق الفجوة بين الريف والمدينة.
إجمالاً، يمكن القول إن العام الأول بعد التحرير شهد تقدُّماً نسبياً في بعض جوانب الخدمات الأساسية، لكنه كشف في الوقت نفسه عن حدود هذا التقدّم، وحاجته إلى دعم مؤسسي أوسع، وتمويل مستدام، وربطٍ أوثق بين تحسين الخدمات وإعادة الإعمار بوصفهما ركيزتين متلازمتين للاستقرار الاجتماعي والتعافي طويل الأمد.
3- رفع الرواتب.. تحسّن نسبي وتحديات معيشية قائمة:
أقدمت الحكومة السورية خلال عام 2025 على رفع الرواتب والأجور بنسبة بلغت نحو 200%، مع الحديث عن زيادات مرتقبة لفئات أخرى في المرحلة القادمة، في خطوة هدفت إلى تخفيف جزء من الضغوط المعيشية المتراكمة، وتحسين القدرة الشرائية للموظفين والعاملين في القطاع العام.
إلا أن هذه الزيادة تزامنت في الوقت ذاته مع رفع الدعم عن عددٍ من المواد الأساسية، ولا سيما الخبز والمحروقات، ما حدّ من الأثر الفعلي لزيادة الرواتب، وأعاد طرح تساؤلات حول مدى انعكاسها الحقيقي على مستوى المعيشة، في ظل استمرار ارتفاع تكاليف النقل والطاقة وأسعار السلع الأساسية.
وعلى الرغم من أن الأجور تُعدّ أفضل نسبياً مقارنة بمرحلة حكم النظام البائد، فإن مثل هذه المقارنات تبقى محدودة الجدوى في تقييم التحسُّن الفعلي للأوضاع المعيشية، إذ إن المعيار الأساسي لا يكمن في مقارنة الحاضر بالماضي فقط، بل في قدرة السياسات الاقتصادية على توفير دخل يوازي الواقع المعيشي ويضمن العيش الكريم لشريحة واسعة من السوريين.
ومن الجدير بالذكر أن جزءاً من زيادة الرواتب وتمويلها لم يكن مموّلاً داخلياً بالكامل من الخزانة السورية، بل تَمّ دعم جزء من أجور موظفي القطاع العام عبر مبادرات مشتركة من قطر والمملكة العربية السعودية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي[19]، وذلك بهدف ضمان استمرارية الخدمات العامة وتخفيف الضغوط المالية على الدولة، وقد تعهّد البلدان بتقديم ما يُقارب 89 مليون دولار لتغطية جزء من الرواتب على مدى ثلاثة أشهر، ضمن حزمة تهدف إلى دعم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، فيما تدخل الأموال عبر آلية إشراف دولية وتُدار من خلال الأمم المتحدة لتفادي التعقيدات المتعلقة بالعقوبات الدولية.
ويلقي هذا الدعم الضوء على اعتماد الدولة السورية في جزء من تمويل الأجور على دعم خارجي في هذه المرحلة الانتقالية، وهو ما أثار نقاشات حول استدامة هذا التمويل، ومدى قدرة الموارد المحليّة على الاستمرار في تغطية الرواتب بمجرد انتهاء تلك الفترات المدعومة، خاصة في ظل استقرار جزئي للخدمات الأساسية والحاجة لخطط اقتصادية طويلة الأمد.
إجمالاً، يُظهر ملف الرواتب أن المعالجة المستدامة للأزمة المعيشية لا يمكن أن تقوم على زيادات رقمية منفصلة، بل تتطلب خططاً اقتصادية متكاملة تُركّز على إطلاق مشاريع إنتاجية، وتوفير فرص عمل جاذبة، وتحسين بيئة الاستثمار، بما يخلق نمواً فعلياً ينعكس بشكل مباشر على حياة المواطنين، ويحدّ من الاعتماد على إجراءات مؤقتة ذات أثر محدود.

جدول (3): الاقتصاد والمعيشة وإعادة التعافي – السياسات والأثر (2025)
رابعاً: ملفات إنسانية عالقة:
لا تزال مخيمات النزوح تُمثّل أحد أكثر التحديات الإنسانية بعد التحرير، في ظل استمرار مئات الآلاف من السوريين في العيش داخل الخيام، في ظروفٍ ترتبط بشكل مباشر بجمود عملية إعادة الإعمار، وغياب خطة دولية واضحة لإطلاقها بدعم واسع النطاق.
ويشكّل هذا الواقع تحدّياً رئيسياً أمام الحكومة السورية في مساعيها لإغلاق المخيمات بشكل نهائي، إذ إن أي معالجة جذرية لهذا الملف تتطلَّب موارد مالية ضخمة، ودعماً دولياً مستداماً، وهو ما لا يزال محدوداً في المرحلة الراهنة، ونتيجة لذلك تقتصر غالبية حالات العودة على من يَملكون مساكن لم تتضرر، أو تضررت بشكل جزئي ويمكن تأهيلها بجهود فردية، في حين تبقى خيارات العودة شديدة الصعوبة بالنسبة لمن فقدوا منازلهم بالكامل.
وفي هذا السياق، يجد كثير من النازحين أنفسهم أمام خيارين؛ إما الاستمرار في المخيمات، أو العودة إلى المدن المأهولة واستئجار مساكن في حال توفرت القدرة المالية والظروف الأمنية المناسبة، وهو ما يعكس محدودية الحلول المتاحة خارج إطار إعادة الإعمار الشامل.
من حيث الأرقام، وثقت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عودة نحو مليوني شخص من النازحين داخلياً إلى مناطقهم الأصلية، غير أن هذه الأرقام تواجه إشكاليات تتعلق بدقة التصنيف، إذ غالباً ما تشمل نازحين كانوا يقيمون داخل المدن وعادوا إلى مناطقهم، ولا تقتصر حصراً على القاطنين في المخيمات، ما يحدّ من قدرتها على عكس الواقع الفعلي لحجم التحدي القائم.
إجمالاً، يظل ملف مخيمات النزوح مرتبطاً بشكل وثيق بمسار إعادة الإعمار والدعم الدولي، ويشكّل أحد الملفات الرئيسية نحو التعافي الاقتصادي والاجتماعي.
وقد شهد العام 2025 إطلاق العديد من حملات التبرع الشعبية على مستوى المحافظات السورية، انطلقت بمبادرات محلية في حمص ودرعا ودير الزور وريف دمشق وإدلب وغيرها، لجمع التمويل اللازم لتنفيذ خدمات طارئة تُعين السكان على تلبية احتياجات الحياة الأساسية، وقد حقّقت هذه الحملات تجاوباً واسعاً ونجحت في جمع ملايين الدولارات خلال فترات قصيرة، ما شجّع على تكرار التجربة في مناطق متعددة، ووصلت بعض الحملات مثل “حلب ست الكل” إلى جمع 426 مليون دولار، و”الوفاء لإدلب” 208 ملايين دولار.
ورغم الزخم الكبير الذي رافق حملات التبرُّع الشعبية، فإن أثرها الإيجابي المباشر على أوضاع النازحين ظل محدوداً، إذ لم تنعكس هذه المبادرات على تحسين شروط العودة الفعلية لسكان المخيمات، فهذه الحملات، بطبيعتها وأدواتها، غير قادرة على تأمين المتطلبات الأساسية للعودة الآمنة والمستدامة، مثل إعادة بناء المساكن، وتوفير مصادر الدخل، وضمان الخدمات العامة، وفي أحسن الأحوال تُسهم بعض هذه المبادرات في تأهيل جزئي للبنى التحتية أو تحسين الخدمات في مناطق محددة، ما قد يهيئ بيئة مساعدة للعودة مستقبلاً، لكنها تبقى غير كافية أمام حجم الدمار واتساع الاحتياجات، ويؤكد هذا الواقع أن معالجة ملف النزوح لا يمكن أن تقوم على المبادرات الشعبية وحدها، بل تتطلب خطة وطنية شاملة مدعومة دولياً، تضع العودة في صلب سياسات التعافي وإعادة الإعمار.
في ذات الوقت تثير هذه الحملات مخاوف جدّية من إيكال مهمة تأهيل البنى التحتية والخدمات الحيوية إلى منظمات المجتمع المدني والحملات الشعبية بدلاً من أن تكون جزءاً من خطة وطنية متكاملة.
وقد أثارت هذه التجارب النقاشات حول غياب إطار تنظيمي واضح يضمن الشفافية والمساءلة في جمع وإدارة التبرعات، إضافة إلى تساؤلات حول عدم شمول بعض المناطق أو استبعادها بسبب ضعف الفعالية المحلية في جمع التبرعات، ما يعكس تحديات في العدل بين المحافظات في الاستفادة من هذه الحملات.
ومع أن الحملات الشعبية أسهمت في تعزيز روح التضامن والتكافل بين المواطنين والمغتربين، فإنها أيضا تُسلّط الضوء على نقص الدعم المؤسسي والموارد المالية المتاحة لإطلاق مشاريع تنموية حقيقية أو تنفيذ مشاريع بنّاءة على نطاق واسع، ما يُبرز الحاجة إلى إطار حكومي وشراكات دولية تضمن دمج هذه المبادرات ضمن استراتيجية وطنية شاملة لإعادة الإعمار والتنمية.

جدول (4): الملفات الإنسانية العالقة – النزوح وحملات التبرع (2025)
خاتمة:
في ختام هذا الاستعراض، يتّضح أن العام الأول بعد التحرير شكّل مرحلة انتقالية متشابكة اتسمت بتداخل مسارات التقدّم والتعثّر والمراوحة في المكان، حيث نجحت الدولة السورية في تحقيق نجاحات نسبية في بعض الملفات الحسّاسة، ولا سيما في ضبط المشهد الأمني العام، وإدارة المرحلة الانتقالية دون انزلاق واسع نحو الفوضى، وإعادة تفعيل مؤسسات الدولة الأساسية.
في المقابل، أظهر استعراض الملفات السيادية والاقتصادية والإنسانية أن التحديات البنيوية ما تزال حاضرة بقوة؛ سواء فيما يتعلق باستكمال بسط السيادة ووحدة القرار، أو في معالجة الأزمات المعيشية والخدمية، أو في الانتقال من إدارة الأزمات إلى بناء سياسات مستدامة للتعافي وإعادة الإعمار، كما كشفت هذه الملفات عن فجوة واضحة بين حجم التوقّعات الشعبية وقدرات الدولة الفعلية، وعن اعتماد متزايد على الدعم الخارجي والمبادرات المجتمعية لسدّ فجوات لا يمكن معالجتها دون مقاربات مؤسسية طويلة الأمد.
وختاماً، يمكن القول إن حصيلة العام الأول بعد التحرير لا تُختزل بثنائية النجاح أو الفشل، بل تُعبّر عن مسار مفتوح لم يكتمل بعد، يتوقّف مستقبله على قدرة السلطة على تحويل الاستقرار النسبي إلى استقرار مؤسسي، وتسريع ملفات العدالة الانتقالية والحوكمة ومكافحة الفساد، بما يعزّز الثقة بين الدولة والمجتمع، ويضع أسس تعافٍ حقيقي ينعكس على حياة السوريين ويمنح مرحلة ما بعد التحرير معناها الفعلي.
محمد سالم، خيارات دمشق تجاه “قسد” بين الاندماج والحسم: المحركات والسيناريوهات المحتملة، مركز الحوار السوري، 22 / 12 / 2025
باحث مساعد في مركز الحوار السوري، يعمل ضمن وحدة تحليل السياسات، كتب وشارك في العديد من الأوراق المتعلقة بتحليل سياسات الفاعلين في سوريا، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية.




