إنفاق الدولة التركية على المهاجرين السوريين؛ غموض يدعم الإشاعات والمعلومات المضلِّلة
تحدثنا في المقالات الثلاث السابقة ما هو تأثير السوريين على معدلات البطالة في تركيا؟!، السوريون في تركيا: إسهامات اقتصادية في تنشيط الصادرات وتوليد فرص العمل (1)،السوريون في تركيا؛ إسهامات اقتصادية في تنشيط الصادرات وتوليد فرص العمل (2) عن قضايا البطالة، وتأثير هجرة السوريين على سوق العمل التركية سلبياً وإيجابياً، وإسهامهم في تنمية بعض القطاعات الاقتصادية وتوليد فرص العمل.
في سياق متصل جداً ثمّة قضية ذات أهمية وتأثير خاص في الجدل الدائر المتزايد داخلياً في تركيا حول مسألة المهاجرين السوريين وتشكيلهم عبئاً اقتصادياً؛ وهي قضية إنفاق المال العام التركي على السوريين. لاسيما وأن الحديث عنها وعن أعبائها صدرت عن أعلى الجهات الحكومية التركية؛ فقد صرّح الرئيس التركي أن بلاده أنفقت 40 مليار دولار على اللاجئين السوريين حتى العام 2019[1]، وينصرف الذهن غالباً عند سماع هذه التصريحات إلى أن هذه المبالغ قد تم إنفاقها من خزينة الدولة التركية على المهاجرين السوريين في تركيا تحديداً، إلا أن تتبُّع المصادر الرسمية نفسها يُظهر أن هذه الأموال تشمل الإنفاق في مناطق النفوذ التركي داخل سوريا أيضاً[2]، إضافة إلى أنها تشمل المساعدات والمعونات التي تقدمها منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية، وهذه الجمعيات عملياً تأخذ الجزء الأكبر من تمويلها من المنظمات الدولية والأمم المتحدة، التي تأخذ بدورها من المانحين الدوليين[3]، كما أن تلك الأموال تشمل حتى ما قدّمه الأشخاص المتبرعون[4]؛ فهذه الأموال عملياً في جزء كبير منها ليست من خزينة الدولة التركية. فضلاً عن أن الأموال تأتي للمنظمات والجمعيات الخيرية بالعملات الصعبة من المانحين الأوربيين والأمريكيين والعرب[5]، ويتم تصريفها إلى الليرة التركية غالباً، وتتم عمليات الشراء من الأسواق التركية عموماً؛ الأمر الذي يسهم في دعم الاقتصاد التركي، وليس الإضرار به.
ومما يؤكد عدم دقة الأرقام التي يتم الحديث عن إنفاقها على المهاجرين السوريين أيضاً: تصريحات وزير الاقتصاد التركي السابق (بين العام 2002 والعام 2015) علي باباجان[6]؛ إذ أشار الوزير السابق الذي شغل أيضاً منصب رئيس هيئة إعداد الميزانية لمدة 11 عاماً إلى أن الأموال التي أُنفقت على المهاجرين السوريين من الخزينة التركية محدودة نظراً لوجود مساعدات خارجية كبيرة، وصرّح باباجان بقوله: “إن النفقات المتعلقة بالسوريين واضحة في ميزانيتنا؛ هنالك دعم خارجي واضح، لذا عند النظر إلى الميزانية لا نرى أرقاماً كبيرة“، وقد علّل الحديث عن الأرقام الكبيرة من قبل الحكومة بقوله: “إلا أنه عند قدوم السوريين تم التحدث عن أرقام كبيرة من أجل التفاخر أمام العالم”[7].
بشكل مشابه أشارت زهراء زمرد سلجوق وزيرة العمل والخدمات الاجتماعية والأسرة في الحكومة التركية إلى أن الأموال التي يتم فيها مساعدة اللاجئين السوريين تأتي من الاتحاد الأوربي؛ وذلك في ردّها داخل البرلمان التركي على نائب من حزب الشعب الجمهوري[8].
تأتي إشكاليات تصريحات الحكومة التركية عن الإنفاق الكبير على المهاجرين السوريين من كونها تسهم في تعزيز الأوهام والإشاعات المنتشرة بين عموم المواطنين الأتراك عن إعطاء الدولة رواتب للسوريين، أو إعفائهم من دفع تكاليف الخدمات[9]؛ مما يسهم في زيادة احتقان المواطن التركي ضد المهاجرين عموماً، والسوريين خصوصاً. ويتضافر ذلك مع كونه يأتي بالتزامن مع مزاحمة المهاجرين السوريين للمواطنين الأتراك في قطاع الصحة والمشافي خاصة؛ لاسيما بعد تعرُّض هذا القطاع لضغط كبير مؤخراً بعد الجائحة بحكم الواقع، ثم في التعليم وفرص العمل، خاصة في المناطق ذات الكثافة في الوجود السوري.
ولذا لابد من الشفافية والوضوح فيما يتعلق بالأموال المنفقة على السوريين؛ حتى لا يتم تحميلهم أسباب الأزمات الاقتصادية[10]، لاسيما وأن بعض المساعدات الخارجية لم تُصرف فقط على المهاجرين السوريين، وإنما أسهمت في دعم البنية التحتية، حيث تم إنشاء المدارس والمستوصفات الطبية[11] وتأمين تجهيزاتها، فضلاً عن استهداف الكثير من المشاريع للمستفيدين مناصفة بين السوريين والأتراك.
وفي السياق ذاته ينتقد الباحث التركي مصطفى سنونماز[12] المختص في الشؤون الاقتصادية التركية الأرقام المعلنة؛ معتبراً أن رقم 40 مليار دولار رقم مُبالَغ فيه وغامض، وليس له توثيقات، مشيراً إلى أن جهات مدققة عليا مختصة في تركيا أشارت إلى الغموض فيه وضعف التوثيق، لاسيما وأن الغالبية العظمى من المهاجرين السوريين يعملون ويقومون بكفاية أنفسهم، ويقدّر الباحث المبالغ المنفقة بناء على حسابات منضبطة لسنوات سابقة بـ 24 مليار دولار، بما فيها المساعدات المقدمة، أي: أقل بـ 16 مليار من المبلغ الذي يتم الحديث عنه[13].
وفي مثال واضح على تسيس حساب هذه الأرقام شكّك كمال كليشدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري في الحديث عن إنفاق 30 مليار دولار قبل سنتين من إعلان الرئيس التركي عن إنفاق 40 مليار دولار، وفق ما نقله عنه الباحث مصطفى سونماز[14]، ولكن لاحقاً ادّعى كبير مستشاري حزب الشعب الجمهوري “أردوغان توبراك” أن تكلفة المهاجرين السوريين 250 مليار دولار، في تناقضٍ واضحٍ بين الموقفَين؛ فالحديث عن الرقم الأخير يعني أكثر من خمسة أضعاف الرقم الذي تحدث عنه الرئيس التركي سابقاً، مدعياً أن الوجود السوري في تركيا وحده كلّف 50 مليار دولار، أي أكثر بـ 10 مليار من الرقم المعلن من الرئيس التركي قبل عامين، وأضاف إليهم 50 مليار أخرى للتعامل مع المشاكل الأمنية والعسكرية في المنطقة، و150 مليار دولار بسبب تدهور التجارة مع سوريا[15]. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن السوريين لا يتحملون نتائج الحرب التي شنّها نظام الأسد على شعبه وما تبعها من نتائج كارثية؛ فالسوريون هم الأكثر تضرراً من هذه الحرب.
ولا شك أن تركيا قد تحملت أعباء ومخاطر كثيرة بسبب ما حصل في سوريا؛ إذ يرى بعض الخبراء أن التهديدات الأمنية بعد صعود تنظيم “داعش” ثم ما حصل من سيطرةٍ لقوات “قسد” في سوريا من أكبر التهديدات الأمنية التي تعرضت لها تركيا بعد الحرب العالمية الثانية[16]، ولكن في المقابل يرى بعض الخبراء الاستراتيجيين أيضاً أن القضية السورية فتحت الباب لتركيا لتصبح قوة إقليمية وتنشط في مناطق أخرى مثل ليبيا[17]، ولا يمكن أن يتم ذلك دون ثمن؛ وهنا تزداد إشكالية الوجود السوري من ناحية كونه قضية مختلفاً عليها بين الأحزاب والتوجهات السياسية، مما يجعل السوريين في مركز الاستقطاب السياسي في تركيا، والذي ازداد بشكل كبير في السنوات الأخيرة.
مع الأسف لا تستند الموجة المتصاعدة الرافضة للمهاجرين عموماً -والسوريين منهم خصوصاً- في تركيا إلى محاكمات عقلية وحجج منطقية، بل تستند إلى معلومات مضللة ومبالغات مفرطة؛ ولعل ذلك ما بدا واضحاً في حالة نقاش الشاب أحمد كنجو في الحادثة الشهيرة، مما يقلل من أهمية سرد الحقائق التي تحدثنا عنها في هذا المقال والمقالات السابقة في التأثير على الشارع؛ لأن ذلك يحتاج ضخّاً إعلامياً كبيراً. مع ذلك فإنّ تسلُّحنا بالوعي ومعرفة الحقائق يؤهّلنا لحمل رسالة موحدة بهدف بناء جسور الحوار والثقة مع المجتمع التركي المضيف، لاسيما وأن التأثير والتداخل التركي في القضية السورية أصبح معقداً، وسيكون غالباً طويل الأمد، بل وامتزج الدم السوري مع الدم التركي في الدفاع عن الأمن القومي والمصالح المشتركة بين السوريين وإخوانهم الأتراك على تراب الشمال السوري؛ الأمر الذي يلقي بالمسؤولية على السوريين من الأجيال الشابة، خاصة ممن تعلموا اللغة التركية، وباتوا قادرين على فهم المجتمع التركي لإيصال الرسائل المناسبة إليه، بما يؤدي إلى تخفيف الاحتقان والغضب ضد المهاجرين السوريين، والمهاجرين عموماً؛ فتركيا بلد كبير وعظيم، ويستحق أن يكون حاضناً للمهاجرين والمظلومين، وهو ما كان عليه طوال السنوات الماضية، لولا بعض الشوائب والإشكاليات التي زادت مؤخراً لأسباب كثيرة ومعقدة، أبرزها عوامل الأزمة الاقتصادية المتصاعدة.
لمشاركة التقرير: https://sydialogue.org/9aal
باحث ومستشار، كتب و شارك في كتابة العديد من الأوراق المتعلقة بالملف السوري. كما عمل مستشاراً وباحثاً في الشأن السوري لدى عدة مراكز سياسات سورية ناشئة، ولدى منظمات دولية. مدرب في مجال أساسيات ريادة الأعمال وأساسيات التحليل السياسي،