الأبحاث والدراساتالإصداراتالقوى الدولية الفاعلة في الملف السوريوحدة تحليل السياسات

احتمالات طبول الحرب؛ العملية العسكرية التركية في سوريا بعد الانتخابات الرئاسية

إضاءات تحليلية تصدر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري

مقدمة:

مع فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بولاية رئاسية جديدة يتجلّى ملف السياسة الخارجية التركية وتموضع تركيا الإقليمي والدولي كأحد أبرز الملفات حساسيةً ضمن برنامج حكومة الائتلاف الذي يقوده العدالة والتنمية، خاصة فيما يتعلق بالقضية السورية، التي شغلت حيّزاً واسعاً في ساحة الاستقطابات والتجاذبات السياسية التركية قبيل الانتخابات.

وتُلقي مرحلة ما بعد الانتخابات بظلالها على المشهد في الشمال السوري؛ إذ يحظى بأهمية إستراتيجية لدى تركيا التي استثمرت فيه سياسياً وعسكرياً وأمنياً ومدنياً، وسط الحديث عن احتمالية شنّها عملية عسكرية برّية ضد “قوات سوريا الديمقراطية – قسد”، تنتزع بها مناطق جديدة، بالتزامن مع توارد الأخبار حول انسحاب روسي من مناطق تل رفعت؛ مما يشي باحتمالية حدوث تبدلات ميدانية رغم ثبات الخريطة العسكرية خلال الأعوام الماضية في منطقة تُعدّ من أكثر المناطق تعقيداً وتداخلاً بين قوى مختلفة تتصارع فيها لتوسيع رقعة نفوذها وسيطرتها.

كل ذلك يثير تساؤلات عن احتمالية حدوث عملية عسكرية تركية في هذه المنطقة، لاسيما وأنّ تركيا سبق أنْ لوّحت بها في إطار جهودها لمكافحة ما تعدّها نزعات انفصالية تشكّل تهديداً مباشراً لأمنها القومي، وضمن جهودها لاستكمال مشروع “المنطقة الآمنة”، وكذلك تساؤلات عن مدى اختلاف السياق الحالي عن السياقات السابقة التي حالت دون تنفيذ تركيا تهديداتها بإجراء هذه العملية.

سياق عودة احتمالات العملية العسكرية:

أفادت وكالة “هاوار” المقربة من “قسد” أن القوات الروسية أخلت قواعدها في مدينة تل رفعت بريف حلب الشمالي، وقاعدة في “مطحنة الفيصل” قرب قرية كشتعار في ريف عفرين[1]، بينما نفت مصادر في “الجيش الوطني السوري” عملية الانسحاب، معتبرةً أنها لا تتعدى كونها عملية تبديل روتينية للقوات[2]، بالتزامن مع انتهاء جولة الانتخابات التركية؛ وهو ما أضفى على الحدث أهمية وغموضاً.

وتكتسب منطقة تل رفعت أهمية خاصة بالنسبة إلى تركيا؛ من حيث حرصُ تركيا على تأمين مناطق نفوذها في الشمال السوري، وتهيئتها لإعادة اللاجئين، وتأمين الحدود التركية من خطر الإرهاب، وضرب مشروع “قسد”، بعد أن بات وجود “قسد” فيها يشكل قاعدة متقدمة لضرب المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية تحت النفوذ التركي في مدن وبلدات ريف حلب الشمالي، مثل إعزاز ومارع، من خلال قصف تلك المناطق واستهدافها وإظهار هشاشتها الأمنية وإحراج تركيا، ومحاولة إجهاض فكرة المنطقة الآمنة التي تمثّل أولوية قصوى لدى تركيا وأحد المحركات الأساسية لعمليتها العسكرية المحتملة[3]، والتي ستكون في حال تنفيذها رافعة قوية للحكومة بوصفها تعزيزاً للأمن القومي[4]، وتهدف ضمن جملة أهدافها إلى إعادة مليون لاجئ سوريّ من المقيمين في تركيا إلى تلك المناطق[5].

ومما يُعزّز من احتمالية تنفيذ تركيا عمليات عسكرية في تلك المناطق تبنّيها فكرة توسيع “المنطقة الآمنة” كحلّ أساسيّ لملف اللاجئين السوريين في تركيا، وتوفير الدعم والمساعدات الإنسانية، وتهيئة بيئة استثمارية واقتصادية وأمنية جاذبة للاجئين. وتأتي على رأس أولويات الحكومة التركية بعد الانتخابات، وقد وعد بها الرئيس التركي أردوغان أنصاره مباشرة عقب فوزه بالانتخابات خلال كلمة ألقاها في المجمع الرئاسي التركي بالعاصمة أنقرة[6]، لاسيما مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية المقررة في مارس عام 2024م، والتي يطمح فيها لاستعادة رئاسة بلدتَي إسطنبول وأنقرة، وقطع الطريق ربما أمام استثمار أحزاب المعارضة مجدداً ملف اللاجئين والهجرة لزيادة رصيدها الشعبي.

وفي السياق ذاته فمن المتوقع أن تنتهج الحكومة التركية نهجاً أكثر حزماً تجاه مصالحها القومية والإستراتيجية، خاصة فيما يتعلق بمسألة محاربة الإرهاب وتوسيع المنطقة الآمنة في سوريا بعد فوز أردوغان، الذي عزّز موقف الحكومة الحالية الإقليمي والدولي، فضلاً عن تأييد الأحزاب القومية والأحزاب الأخرى المتحالفة مع حزب العدالة والتنمية ضمن “تحالف الجمهور” سياسة مكافحة التهديدات الإرهابية عبر استخدام القوة العسكرية خارج الحدود التركية، ودعمهم مشروع الحكومة التركية حيال “المنطقة الآمنة” والتعامل مع اللاجئين السوريين[7]، لاسيما مع ميل المعادلة الإقليمية بين تركيا وروسيا إلى نوع من الأفضلية لصالح تركيا بعد غرق روسيا في المستنقع الأوكراني[8]؛ مما يقوّي الأوراق التركية للتفاوض مع روسيا حول ملف تل رفعت، لاسيما وأن “قسد” لا تتمتع بأي دعم شعبي في تلك المنطقة، ولا بامتدادٍ لنفوذها مع مناطق شمال شرق سوريا حيث معاقلها المدعومة من التحالف الدولي.

بمعنى آخر: قد تتوصل تركيا في المدى القريب إلى تفاهم مع روسيا يفضي إلى فسح المجال أمام العملية التركية في منطقة تل رفعت التي تقع ضمن النفوذ الروسي، كما حدث سابقاً في عفرين، لاسيما مع تقارب العلاقات التركية الروسية، والتي من المحتمل أن تأخذ خطاً تصاعدياً في استمرارٍ لسياسة تركيا الخارجية، إضافة إلى امتلاك تركيا أوراقاً مهمةً تزايدت بشكل ملحوظ بعد الأزمة الأوكرانية، خاصة مع كثرة الملفات والقضايا المتداخلة بين البلدَين؛ فقد تقدّم تركيا جملة من المكاسب والأوراق التي تستفيد منها روسيا في أوكرانيا، بما قد يسهم في تحقيق اختراق معين والتوصل لتفاهمات بين الجانبين، في ظل الحاجة الروسية الفعلية لدور تركيا وموقفها في الأزمة الأوكرانية والعقوبات الغربية على روسيا[9].

دلالات التحركات الروسية في تل رفعت:

مع عدم كفاية المعطيات السابقة التي تشي باحتمالية شروع تركيا بعملية عسكرية برية ضد “قسد” في مناطق تل رفعت، أو إبرامها مساومة معينة مع روسيا حيال تلك المناطق خلال الفترة المقبلة؛ فمن المبكر القول بقرب العملية العسكرية، وربط ذلك بمجريات الانسحاب الروسي الجزئي من عدة مواقع في تل رفعت؛ إذ يبدو أن عملية الانسحاب لا تعدو حقيقة كونها تبديلات وتحركات روتينية للقوات الروسية، وهو ما أشارت إليه تصريحات صحفية لعدد من قادة “الجيش الوطني” الذين نفوا حدوث انسحاب كامل، مؤكدين في الوقت نفسه قيام القوات الروسية بتخفيض عدد عناصرها في تلك المناطق، فضلاً عن مسارعة الوكالة الكردية التي سرّبت الخبر إلى حذفه من موقعها الرسمي بعد نشره بساعات.

فقد تكون هذه التحركات في مجملها رسائل روسية لمختلف أطراف الصراع في تلك البقعة، خاصة تركيا وميليشيا “قسد”؛ إذ عملت روسيا خلال الأعوام الماضية وخلال سلسلة من التحركات شمال وشمال شرقي سوريا إلى اللعب على تناقضات مصالح مختلف الأطراف الفاعلة في تلك المناطق لزيادة وجودها ونفوذها[10]؛ فقد تكون خطوة جديدة تستغل فيها مخاوف “قسد” مجدداً من تحركات تركيا وضرباتها العسكرية، لدفعها إلى تقديم تنازلات جديدة سياسية لنظام الأسد، متعلقة ربما بتسهيل وزيادة نقل المحروقات من مناطقها إلى المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد، وزيادة عدد المعابر بين الجانبين، مقابل تفادي عملية عسكرية تركية قد تُنهي سيطرتها على مناطق إستراتيجية تنتشر فيها القوات الروسية، وعلى رأسها تل رفعت.

ومما قد يشير إلى ذلك توتر الأوضاع مجدداً بين “قسد” ونظام الأسد؛ إذ لجأ نظام الأسد مؤخراً إلى تضييق الخناق على حيّي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب الواقعين تحت سيطرة “قسد”[11]، ومنع دخول قوافل المحروقات والمواد الغذائية والطبية إليهما، وهو ما ردّت عليه “قسد” بحصارها قوات نظام الأسد في المربع الأمني بمدينة القامشلي، واعتقالها عدداً من عناصر النظام في المدينة[12].

ومن جهة أخرى قد تكون رسالة روسية غير مباشرة إلى تركيا، عبر عرض رغبتها في نسج تفاهم معها، ترفع بموجبها روسيا يدها عن منطقة تل رفعت أو مناطق أخرى كعين العرب، مقابل تقديم تركيا تنازلاً معيناً فيما يتعلق بمسار التطبيع مع نظام الأسد، أو مقابل منح روسيا نفوذاً في المناطق الواقعة جنوبي طريق M4 في محافظة إدلب، حيث توجد مؤشرات إلى أن روسيا تسعى جاهدة إلى بسط سيطرتها على كامل الطريق الدولي، وهو ما قد يفسّر استمرار القصف الروسي على قرى وبلدات جنوب إدلب[13]، لاسيما وأن روسيا دعمت استيلاء “قسد” على منطقة تل رفعت بعد إسقاط تركيا المقاتلة الروسية في العام 2015، كردّ فعل نكائيّ وعقابيّ ضد تركيا، وليس لأهميتها الإستراتيجية؛ فلا تبدو المنطقة مهمة لروسيا أو حتى لـ”قسد” باستثناء أنها شوكة تهديد لتركيا يتم التلويح بها كل فترة.

خاتمة:

عزّز فوز تحالف الجمهور بقيادة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية من احتمالية استمرار سياسة تركيا تجاه الملف السوري؛ مما قد يفتح الباب مجدداً على إمكانية شنّها عملية عسكرية جديدة ضد “قسد” في شمال سوريا، في استئنافٍ لسياسة إبعاد “قسد” عن حدودها الجنوبية، واستكمال مشروع “المنطقة الآمنة” التي تضعها على سلّم أولوياتها المتعلقة بملف اللاجئين السوريين.

ورغم الحديث المتكرر عن العملية العسكرية البرية المرتقبة وربطها بالتحركات الروسية في تل رفعت إلا أن احتمال حصولها في المدى القريب غير مرجّح؛ نظراً لعدم نضج التوافقات الدولية التي تسبق عادة أي حراك عسكري تركي في الشمال السوري، فضلاً عن التوجه التركي الحالي نحو تهدئة الأجواء الإقليمية، واستكمال مسار التطبيع مع عدد من الدول العربية، وعلى رأسها مصر والسعودية والإمارات تحت مسمّى “تصفير المشاكل”، وتحسين علاقاتها مع الغرب، خصوصاً في حال الموافقة على انضمام السويد إلى حلف الناتو وإتمام صفقة طائرات “F16″، وهو ما يشكّل عائقاً إلى حدّ ما للعملية العسكرية؛ مما يُرجّح التأنّي التركي إلى حين حلحلة بعض القضايا الداخلية الملحّة أيضاً، والمتمثلة بالوضع الاقتصادي وملف إعادة الإعمار في مناطق الزلزال.


[3] من الواضح أنَّ القضاء على جيب تل رفعت يسهم في الوصول إلى مفهوم “المنطقة الآمنة” التي تريد إنشاءها تركيا لإعادة مليون لاجئ سوري على أراضيها إلى هذه المناطق، مع الأخذ بعين الاعتبار العوامل القانونية والسياسية التي تحول دون تحقيق مفهوم “المنطقة الآمنة”، سواءٌ باجتياح نظام الأسد أو القصف الروسي لها، وبالتالي فإن تحقيق هذا المفهوم يتطلب تفاهمات واضحة مع روسيا من جهة عدم قصفها أو التهديد باجتياحها من قبل نظام الأسد وحليفته إيران.
[5] قد تكون إعادة مهجّري هذه المناطق من العرب إلى مناطقهم دافعاً مهماً للعملية التركية؛ حيث إن غالبيتهم مقيم ضمن مخيمات متوزعة في عموم الشمال السوري، فإعادتهم إلى مناطقهم قد تخفّف من أزمة المخيمات وتسهّل على تركيا المضيّ بمشروع بناء المجمعات السكنية للاجئين الموجودين على أراضيها.

مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى