أبعاد نقل القوات الأمريكية منظومة “هيمارس” إلى شمال شرق سوريا
إضاءات تحليلية تصدر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
مقدمة:
شهدت الأيام الماضية حراكاً أمريكياً جديداً في مناطق انتشار قوات التحالف الدولي شمال شرقي سوريا تمثَّل بنشر منظومة صواريخ “هيمارس” المتطورة[1]، الأمر الذي يُثير تساؤلات عن الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة لاتخاذ مثل تلك الخطوة[2] رغم أن مناطق النفوذ الأمريكي شرق الفرات تشهد في الوقت الحالي حالة من الهدوء واقتصار عمليات داعش -إن وُجِدت- على بعض الاغتيالات والهجمات ضدّ مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية-قسد”[3].
تناقش هذه المقالة دوافع الولايات المتحدة في نشر منظومة صواريخ “هيمارس” بمناطق نفوذها شمال شرقي سوريا وأبعاد تلك الخطوة على الوجود الأمريكي في سوريا والرسائل التي تود واشنطن بإرسالها إلى الفواعل الأخرى، خصوصاً إيران والمليشيات الموالية لها في المنطقة.
نشر منظومة “هيمارس”.. التوقيت والدلالات:
استقدام الولايات المتحدة الأمريكية منظومة “هيمارس” إلى شمال شرق سوريا ليس الأول من نوعه، فخلال حربها ضد تنظيم داعش في السنوات الماضية نشرتها قوات التحالف الدولي في شمال سوريا وعلى الحدود التركية لضرب مواقع لتنظيم داعش بحسب ما تؤكد “مصادر مخابراتية” لوكالة رويترز[4].
وفي عام 2017 تم نشر المنظومة في قاعدة التنف على الحدود السورية الأردنية، التي تتمركز فيها قوات التحالف مع فصيل “جيش سوريا الحرة” (مغاوير الثورة سابقاً)[5]، وجاء نشرها في ذلك الوقت بعد تعرُّض القاعدة لهجوم من قبل مليشيات إيرانية تصدّت له القوات الأميركية ثم استقدمت بعد ذلك تعزيزات عسكرية من بينها هذه المنظومة[6].
وفي وقتٍ لاحقٍ بالعام 2022 أعلن فصيل “مغاوير الثورة” أن قوات التحالف أجرت تدريبات عسكرية للفصيل استُخدمت فيها منظومة صواريخ “هيمارس” الأمريكية ضمن منطقة الـ 55 كيلومتر في التنف[7]، في رسالة يبدو أنها كانت موجّهة بشكل خاص إلى روسيا، لأن هذا التدريب جاء بعد أيام من قصف روسي بالطائرات على الفصيل ضمن منطقة التنف.
الظروف المحيطة بما سبق تُدلّل على أن الولايات المتحدة اعتادت نشر مثل تلك الأنظمة المتطورة في سوريا بدافع أقرب إلى ما يكون “رد فعل” أو استعراض قوة لردع الفواعل الأخرى. ومن حيث التوقيت يبدو أن نشر المنظومة مجدداً في مناطق بشمال شرق سوريا يبعث برسائل بشكل خاص إلى كل من روسيا وإيران بدرجة أولى وإلى تركيا ونظام الأسد بدرجة أقل.
فيما يتعلق بروسيا وإيران: جاء نشر المنظومة متزامناً مع الحديث عن تخطيط إيران لتصعيد هجماتها ضد القوات الأميركية في سوريا، كجزء من استراتيجية أوسع مدعومة من روسيا لمواجهة الولايات المتحدة وفقاً لما نقلته صحيفة “واشنطن بوست” عن مسؤولين استخباراتيين أميركيين ووثائق سرية مسربة[8]، مؤكدين أن إيران تسعى لتجنيد وكلاء لها لشن هجمات بواسطة عبوات ناسفة ضد القوات الأمريكية[9].
الاستراتيجية التي تحدثت عنها الصحيفة تتقاطع مع ما ذكرته مصادر محلية سورية من سعي “الحرس الثوري” الإيراني لتجنيد مخبرين له ضمن مناطق سيطرة “قسد” وتحويلهم فيما بعد إلى خلايا تابعة للميليشيات الإيرانية تقوم بتنفيذ عمليات عسكرية وتزويد الميليشيات الإيرانية بمواقع و تحركات القوات الأمريكية وقيادات “قسد”[10]، الأمر الذي يوحي بأن إيران تعتزم تصعيد عملياتها ضد القوات الأمريكية بشكل لا يقتصر فقط على الهجمات الصاروخية أو عبر الطيران المُسيّر، وإنما السعي لمهاجمة القوات الأمريكية في عمق مناطق نفوذها، وهذا ما يبدو أنه يحظى بدعم روسي، ربما لاعتبارين؛ الأول: أن روسيا تسعى للضغط على الولايات المتحدة في سوريا ودفعها إلى الانسحاب من سوريا أو تقليص وجودها هناك والثاني: رد فعل على ازدياد تدفق الأسلحة الأمريكية المقدّم إلى أوكرانيا وسط حالة من الفشل تُحيط بالقوات الروسية بعد أكثر من عام على بدء الحرب هناك.
وفي هذا السياق أيضاً، سعت روسيا مؤخراً إلى مضايقة القوات الأمريكية في سوريا وعدم اللجوء إلى خط التنسيق الساخن بين الطرفين، وهذا ما أكده أكثر من مرة مسؤولون أمريكيون أشاروا إلى وجود زيادة ملحوظة في انتهاك روسيا لآلية عدم التضارب في سوريا وصلت إلى 60 مرة منذ آذار من العام الجاري وحتى نيسان من العام نفسه[11]، كما يتّهم مسؤولون أمريكيون روسيا أنها تتقصّد تنفيذ “مناورات عدوانية” في مناطق العمليات الأمريكية[12].
ما تقدّم ذكره يوحي بأنّ الأهداف المشتركة بين إيران وروسيا ازدادت في سوريا للضغط على الولايات المتحدة الأمريكية ودفع قواتها للانسحاب من الأراضي السورية، وهذا ما يؤدي بالنتيجة لزيادة التنسيق المشترك بين الطرفين ضد قوات التحالف الدولي عبر الوكلاء والأذرع المحلية، خصوصاً أن إيران باتتْ أيضاً شريكاً غير مباشر في الحرب الأوكرانية عبر دعمِها روسيا بالطيران المسيّر والقذائف المدفعية بحسب ما تؤكد واشنطن[13].
أما فيما يخص نظام الأسد وتركيا: فإن الولايات المتحدة يبدو أنها تسعى لتوجيه رسائل بأنها غيرُ معنيّةٍ بعمليات التطبيع التي يجري العمل عليها بين الطرفين، حيث تسعى لتقوية نفوذها في سوريا والاستمرار بحماية “قسد”، بل والانتقال لمرحلة جديدة من العمل ضمن مناطق شمال شرقي سوريا، وهذا ما ظهر مؤخراً على لسان مسؤول بالتحالف الدولي أكد أن مهمة القوات الأميركية في سوريا والعراق “تغيرّت بشكل كبير”[14]، وأنه وفي المرحلة المقبلة، سيتعهّد شركاء التحالف الدولي فيها بمئات الملايين من الدولارات “لدعم مشاريع تحقيق الاستقرار على مستوى المجتمع وإخراج الناس من مخيم الهول وتحسين الخدمات والتعليم والصحة والإسكان والصرف الصحي لأولئك الذين لا يستطيعون العودة إلى ديارهم”، الأمر الذي يُشير لخطوات أمريكية على المدى البعيد ضمن مناطق شمال شرق سوريا تجعل موضوع الانسحاب الأمريكي من سوريا ليس على أجندة الإدارة الديمقراطية الحالية[15].
ومما يرجّح ذلك أيضاً أن الحِراك على الأرض يترافق مع خطوات سياسية تصعيدية ضد نظام الأسد مثل إقرار “لجنة العلاقات الخارجية” في مجلس النواب الأميركي بأغلبية ساحقة مشروع قانون لمكافحة التطبيع مع نظام الأسد[16]، إضافة إلى الرفض المتكرر والمعلن لإعادة نظام الأسد للجامعة العربية قبل تحقيق الحل السياسي والاستمرار بفرض العقوبات ضد نظام الأسد.
على الجانب الآخر، بعثت الولايات المتحدة برسائل طمأنة إلى أنقرة بعدما تحدّثت وسائل إعلام تركية عن أن قوات التحالف الدولي سلّمت “قسد” منظومة “هيمارس”، مؤكدة أنه لم يتم تسليم المنظومة المتطورة لـ”قسد”[17]، كما أعقب ذلك تأكيد أمريكي على أن واشنطن لا تريد إنشاء “دولة منفصلة” شمال شرق سوريا[18]، ويبدو أنّ تسليم منظومة مثل “هيمارس” لـ”قسد” خطوة مستبعدة لأن واشنطن لا تريد إغضاب تركيا من جهة لدرجة كبيرة، ومن جهة ثانية فإن التحالف الدولي يشرف بنفسه على منظومات الأسلحة المتطورة التي تدخل سوريا[19]، بينما يُسلّم “قسد” مدرّعات وما يلزم من أسلحة وذخائر ومعدات لوجستية لمواجهة خلايا تنظيم داعش، في حين أن منظومة مثل “هيمارس” لا تُستخدم في مواجهة تلك الخلايا، ما يجعل وجودها مرتبطاً أكثر بتوجيه ضربات ضد المليشيات الإيرانية المتمركزة في الضفة الغربية من نهر الفرات بدير الزور.
خاتمة:
نقل الولايات المتحدة الأمريكية منظومة هيمارس إلى مناطق نفوذها شمال شرق سوريا يندرج ضمن ملامح زيادة الفاعلية الأمريكية في الملف السوري، وسط زيادة الشرخ مع مصالح الفواعل الأخرى التي تسعى إلى مضايقة القوات الأمريكية ودفعها إلى الانسحاب من الأراضي السورية، خصوصاً مع سعي روسيا إلى تطبيع العلاقات بين تركيا ونظام الأسد ضمن مسار تفاوض تشترك فيه إيران، ما يسهم في حشد رباعي متوافق على رفض الوجود الأمريكي في سوريا.
وللاطلاع بشكل أكبر على الموضوع يمكن مراجعة التقرير التحليلي الذي أصدرته وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري سابقاً حول الموضوع بعنوان: ملامح زيادة الفاعلية الأمريكية في الملف السوري وسط تضارب مصالح الفاعلين، حيث خَلُص إلى أن الولايات المتحدة عزّزت حضورها في الملف السوري بعدة قضايا تهمها مثل محاربة داعش والحفاظ على وجود “قسد” وعدم التخلي عن مناطق نفوذها، بينما بدا دورها فاتراً بقضايا أخرى لا تبدو ذات أولوية، مثل تطبيق الحل السياسي في سوريا الذي استحوذت عليه روسيا فيما يُعرف بمباحثات اللجنة الدستورية، مع تهميش كامل لتطبيق الحل السياسي وفق القرار 2254 المتضمّن عملية انتقالية.
تعليق واحد