الإصداراتالتقارير الموضوعيةالتوافق الوطنيوحدة الهوية المشتركة والتوافق

التوافق والخلاف في مواقف قوى الثورة والمعارضة – خلاصات من تحليل مواقف عام كامل

الملخص:

يأتي هـذا التقرير ليلخص النقاشات التي حصلت بين المشاركين في ندوة أقامها مركز الحوار السوري بعنوان: “التوافق والخلاف في مواقف قوى الثورة والمعارضة: خلاصات من تحليل مواقف عام كامل”، حيث تضمن التقرير سبع فقرات رئيسة أساسية.

تضمنت الفقرة الأولى نقاشاً حول ضرورة مركزية فكرة “الانتقال السياسي” كفكرة أساسية يمكن البناء عليها، حيث كانت هنالك دعوة للتركيز شعبياً وإعلامياً وسياسياً على هذه الفكرة وعدم الانجرار وراء مصطلحات العملية السياسية والحل السياسي. إلى جانب ذلك، كان هنالك رأي بضرورة استكمال التوافق حول فكرة “الانتقال السياسي” في حال تحققها بالعمل على بناء تصوراتٍ توافقية لسوريا المستقبل.

ركزت الفقرة الثانية على ضرورة إعادة توسيع “المسؤولية الوطنية” بحيث لا تشمل الحل السياسي فقط بقدر ما تركز على استرداد حقيقي للدولة والجغرافية، وبحيث لا تكون هذه المسؤولية ملقاة على عاتق المؤسسات السياسية فقط، بل تشمل السوريين أفراداً ومؤسسات “رسمية” ومجتمع مدني أينما حلّوا، ما يفرض عليهم التنسيق والتكامل بالأدوار.

جاءت الفقرة الثالثة لتشير إلى النقاشات التي ركزت على ضعف قدرة مؤسسات قوى الثورة والمعارضة في “تمثيل مجتمع الثورة والمعارضة” لعدم امتلاكها أوراق قوةٍ، وغياب قدرتها على التأثير وتغيير مجرى الأحداث، أو على الأقل خلط الأوراق، مما خلق فراغاً سياسياً بينها وبين المجتمع، ينتهي في كثير من الأحيان إلى تباين في المواقف بين الطرفين وفي بعض الأحيان سجالات وتدافع سببه محاولة كل فريق أو كل شخص إثبات صحة ووجاهة رأيه.

في الفقرة الرابعة، أشير إلى أن التوافق الدائم والكامل بين قوى الثورة والمعارضة ليس مطلوباً حتى لا نعود إلى حالة مماثلة للوضع السياسي إبان حكم نظام حزب البعث، وأن ذلك لا ينفي ضرورة التوافق تجاه بعض القضايا التي يمكن إدراجها ضمن “المسار الاستراتيجي” التي يشكل فيها التخالف خطراً. في حين يبقى تطلب التوافق التكيكي تجاه المواقف السياسية الحادثة هو تكلف ومناف لطبيعة هذه الحوادث التي تقبل بطبيعتها الاختلاف.

جاءت الفقرة الخامسة لتشير لواقع العلاقة بين المنظمات الإنسانية وقوى الثورة والمعارضة، حيث أشير فيها  إلى أن الكثير من المنظمات الإنسانية السورية التي تصف نفسها بالحياد، تبتعدُ عن التنسيق مع الجهات السياسية السوريّة المعارضة لكيلا تتهم بالتحيّز، مما يؤدي بالنتيجة إلى ضعف التنسيق بين هذه المؤسسات، على الرغم من الحاجة الكبيرة لذلك.

ألقت الفقرة السادسة الضوء على قضية التعاطي مع الملف الحقوقي من قبل قوى الثورة والعارضة، حيث تم بيان أن هنالك ضعف في التفاعل مع هذا الملف لضعف التغطية الإعلامية لما يحدث خلال المحاكمات المقامة بحق بعض الشخصيات التابعة  لنظام الأسد . إلى جانب ذلك هنالك ضعف ثقة من المجتمع بل وبعض الفئات المطلعة كالسياسيين بالمنظمات الحقوقية بشكل عام؛ نتيجة اقتناعهم بأن قرار محاسبة نظام الأسد على جرائمه هو سياسي بالدرجة الأولى.

جاءت  الفقرة السابعة لتناقش “ظاهرة الصمت” لدى قوى الثورة والمعارضة، حيث أشير أن الظاهرة ليست طبيعية  لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية جعلت المعارضة الرسمية في حالة عجز مطبق، وغير قادرة على اتخاذ أي قرار ذاتي نابع من المصلحة الوطنية المجردة في معظم الحالات. مما جعلها في حالة ضعف شديد يسهل معه التحكم بها من قبل الدول الفاعلة في الملف السوري.

مقدمة:

شهدت الساحة السورية خلال عام 2020م الكثيرَ من الأحداث الميدانية والعسكرية والقانونية التي أثرت على الملف السوريّ بشكل مباشر، فبينما شهدت المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسدِ حراكاً شعبياً جذب أنظار العالم إليها، هتفت حناجرُ السوريين في المناطق التي تسيطر عليها “قسد” احتجاجاً على فرض الأخيرة منهاجاً تعليمياً يروّجُ فكر حزب العمال الكردستاني، وفي مناطق قوى الثورة والمعارضة كان العنوان الأبرز هو الفلتان الأمني.

كذلك شهد الملف السوريّ تطورات عديدة على مختلف الأصعدة؛ ابتداءًا من استهداف النظام لثلاثٍ وثلاثين جندياً تركياً في إدلب، مروراً بإعلان تركيا عمليةِ “درع الربيع”، ثم دخول قانون قيصر حيز التنفيذ، وانتهاءًا باستهداف روسيا معسكر فيلق الشام في إدلب.

أما على الصعيد القانوني فكان الحدث الأبرز إصدار منظمة حظر الأسلحة الكيماوية تقريراً تتهم فيه نظام الأسد باستخدام السلاح الكيماوي.

وبينما لا يزال الملف السوريّ رهيناً للمصالح الروسيّة والأمريكية، فقد أصدر مركز الحوار السوريّ في إطار رصد مواقف قوى الثورة والمعارضة الإصدار الخامس من مؤشر التوافق الوطني لعام 2020م[1].

وبهدف استكمال النقاش حول النتائج التي خرج بها مؤشر التوافق الوطني، عقد مركز الحوار السوريّ ندوة حوارية حملت عنوان: “التوافق والخلاف في مواقف قوى الثورة والمعارضة: خلاصات من تحليل مواقف عام كامل”.

هدفت الندوة إلى مناقشة المحاور التالية:

  • آليات البناء على التوافق المتحقق بين قوى الثورة المعارضة تجاه المواقف المتعلقة بالقضايا الداخلية.
  • الوسائل والأدوات التي يمكن العمل عليها سياسياً من أجل زيادة التوعية بأهمية الملف الحقوقي والقانوني في الشمال المحرر.
  • مقاربات جديدة للتعاطي مع ملف الحل السياسي.
  • وسائل التنسيق بين القوى السياسية والمنظمات غير الحكومية فيما يتعلق بدعم الملف الإنساني؟ سواء من قبل القوى تجاه المنظمات أو العكس؟
  • تجليات ظاهرة “الصمت” التي ما تزال مسيطرة على غالبية مواقف قوى الثورة والمعارضة وأسبابها.

يأتي هذا التقرير ليضع القارئ في أجواء الندوة والنقاشات التي دارت فيها، مع إيضاح السياق العام الذي أقيمت فيه الفعالية، من خلال توضيح الأسباب التي دفعت إليها وبيان الهدف منها.

وقد أعد هذا التقرير من خلال اتباع قاعدة “تشاتام هاوس”[2]، ومن دون التقيد بالترتيب الزمني للعرض والمداخلات؛ فقد استخدم التقسيم الموضوعي بقصد ترتيب الأفكار بطريقة سلسة وموضوعية تساعد القارئ الكريم -قدر المستطاع- على متابعة الموضوع.

ينقسم التقرير إلى سبع فقرات: تناولت الأولى مركزية فكرة “الانتقال السياسي” في مقاربة التوافق الوطني، وتحدثت الثانية عن  ضرورة تحمل المسؤولية الوطنية وتفعيل البنى التنظيمية، بينما عرضت الثالثة وجهات النظر حول إشكالية تمثيل مجتمع الثورة والمعارضة، والرابعة عن مدى حاجة قوى الثورة والمعارضة السورية للتوافق الكامل والدائم في مواقفها، في حين استعرضت الخامسة العلاقة بين القوى السياسية والمنظمات الإنسانية السورية، والسادسة ضعف تفاعل قوى الثورة والمعارضة مع الملف الحقوقي، وختمت السابعة تحليل ظاهرة الصمت لدى قوى الثورة والمعارضة.

1- مركزية فكرة “الانتقال السياسي” في مقاربة التوافق الوطني:

على الرغم من ارتفاع نسبة التوافق بشكل عام بين قوى الثورة والمعارضة كما أظهرته الإصدارات الخمسة لمؤشر التوافق الوطني؛ إلا أن الموقف تجاه الحل السياسيّ بقي محلاً للتجاذب واختلاف الآراء، فمنذ الحديث عن اللجنة الدستورية عام 2018، والتحول نحو الاهتمام بسلة الدستور فقط، بدأ الانقسام بين قوى الثورة والمعارضة تجاه التعاطي مع مسار الحل السياسي، وهذا ما ظهر واضحاً وجلياً في مواقفها على مدى السنوات الثلاث الماضية[3].

وفي معرض الحديث عن ذلك، أكّد أحد الباحثين على غياب التوافقات بين قوى الثورة والمعارضة تجاه التعاطي مع مسار الحل السياسي، مشيراً إلى إمكانية أن تكون فكرة “ضرورة التغيير السياسي وتحقيق الانتقال إلى نظام ديمقراطي”، هي الفكرة المركزية للتوافق، بغض النظر عن الآليات والأدوات.

حيث يرى الباحث ضرورة أن تحظى فكرة الانتقال السياسيّ على توافق المجتمع السوري بمختلف قواه ومؤسساته ومكوناته، خصوصاً أن القرارات الدولية تؤكد على هذه الفكرة، وتحدّد كيفية تحقيقها. غير أن الكثير من الالتباسات، حسب تعبيره، شوشت على هذا الهدف الأساسي، مشدّداً على أنه لا مخرج للسوريين من الواقع الصعب الحالي إلا بالخلاص من نظام الاستبداد والانتقال إلى نظام ديمقراطي. وفي هذا السياق أشار إلى إمكانية أن يساهم مؤشر التوافق الوطني في تصليب فكرة الانتقال السياسيّ كتوافق وطنيّ عريض يمكن استقطاب كل السوريّين حولها باعتبارها مصلحةً وضرورةً سوريّة. وهنا دعا عضو في الائتلاف الوطني إلى التركيز شعبياً وإعلامياً وسياسياً على الانتقال السياسي وعدم الانجرار وراء مصطلحات العملية السياسية والحل السياسي التي قد تؤدي إلى التهرب من هذا الاستحقاق المصيري للسوريين، إلى جانب ضرورة تفكيك القرارات الدولية بما يساعد في التركيز على هذا الهدف الرئيس.

غير أن باحثاً آخر أوضح أن ضعف الرضى الشعبي عن أداء مؤسسات قوى الثورة والمعارضة، كان أحد العوامل التي ساهمت في إضعاف موقف هذه القوى في سعيها للتمسك بهذا الهدف.

ونبّه آخر إلى أن فقدان الحاضنة الاجتماعية الأمل بالوصول لحل من خلال العملية السياسية؛ يضعُ عبئاً على عاتق قوى الثورة والمعارضة بضرورة خلق شعورٍ بالأمان لدى الحاضنة من خلال تعاطيها مع الملف الاقتصاديّ، والملف الأمنيّ، مشيراً لوجوب تضمين رؤى المجتمع بالأدوات والفعاليات المناسبة، والسعي للتحشيد والمناصرة من خلال الخطاب السرديّ، الموجّه لكلّ السوريين على حدّ سواء.

في مجال متصل، أشار أحد الباحثين إلى ضرورة استكمال التوافق حول فكرة “الانتقال السياسي” في حال تحققها بالعمل على بناء تصوراتٍ توافقية لسوريا المستقبل، والتوافق على إجاباتٍ للمواضيع الأساسية المتعلقةِ ببناء الدولة كعلاقةِ الدين بالدولة، والموقف من القضية الكردية.

2- في ضرورة تحمل المسؤولية الوطنية وتفعيل البنى التنظيمية: 

في إطار استكمال الحديث عن دور قوى الثورة والمعارضة تجاه التعاطي مع مسار الحل السياسي، رأى باحث سوري أن هنالك غياب لمقتضيات “تحمل المسؤولية الوطنية” في أعمال غالبية هذه القوى، مؤكداً أن طبيعة المسؤولية اليوم لم تعد منوطة فقط بالحل السياسي، لأن جميع الفاعلين وصلوا الى نقطة التوافق الأمني الدقيق، الذي يتعثر بعده الوصول الى نقطة توافق سياسي، مستدلّاً على انعدام مساحات التوافق السياسي في الجدل الأخير الذي حصل إثر القرار المتعلق بإدخال المساعدات[4]، على الرغم من أنه يعد “قضية إنسانية” يفترض أن التوافق حولها أمر مسلم به إذا ما قورنت بالتوافق تجاه مسار الحل السياسي، مشدّداً -في ضوء ذلك- على ضرورة إعادة توسيع مفهوم “المسؤولية الوطنية” بحيث لا يشمل الحل السياسي فقط بقدر ما يركز على استرداد حقيقي للدولة والجغرافيا.

لذلك ووفق هذا التأطير، يرى الباحث أن تحمل المسؤولية الوطنية لم يعد ملقى على عاتق المؤسسات السياسية فقط، بل يشمل السوريين أفراداً ومؤسسات “رسمية” ومجتمع مدني أينما حلّوا، ما يفرض عليهم التنسيق والتكامل بالأدوار.

في الإطار ذاته، شدّد باحث آخر إلى ضرورة اعتماد مقاربات جديدة في ظل سوء الأوضاع التي آلت إليها قضية الشعب السوري، في ظل تعثر اللجنة الدستورية ووصولها إلى طريق مسدود، وضعف الصوت السوري المستقل، داعياً إلى العمل على تفعيل عمل المؤسسات المدنية واللوبيات الضاغطة السورية التي بدأت تظهر في الخارج كأحد الحلول التي يمكن أن تساعد على دفع الملف السوري باتجاه الانتقال السياسي، مشيداً بالعمل السياسي للجالية السورية في الولايات المتحدة الذي أفضى إلى إقرار قانون قيصر عام 2019[5]. وقد نبّه إلى ضرورة بناء المقاربة الجديدة على استراتيجية بناء التحالفات وتقوية الصلات مع المجتمع الدولي، من خلال مجموعات ضغط سوريّة ذات صلات عربية ودولية، يمكنها التأثير على القوى الفاعلة في الملف السوري لعلها تجد نقاط تقاطع مع “حلفاء النظام السوري” تمهد لصفقةٍ تنهي الصراع، كل ذلك على صعيد التنظيم الخارجي.

أما على الصعيد الداخلي، فأشار باحث سوري إلى ضرورةِ إعادة التفكير بالتنظيم السياسي والنقابي والاتحاديّ، وذلك لضمان استمرار “فكرة الانتقال السياسي والتحول نحو نظام ديمقراطيّ، بحيث يخرج المجتمع في طريقه نحو التحرر من الاستبداد من دائرة التمثيل الحزبي إلى التعبير عن ذاته من خلال المنتديات والتجمعات المحلية المتحررة من الأيديولوجيات، بحيث تشكل هذه الأخيرة حاملاً اجتماعياً لتنظيم المجتمع إلى جانب الحوامل السياسية التي لم تثبت فعاليتها حتى الآن”.

3- إشكالية تمثيل مجتمع الثورة والمعارضة:

أوضح أحد السياسيين السوريين أن هنالك غياب لتعريف قوى الثورة والمعارضة -من وجهة نظره- منوهاً إلى إشكالية وجود منصات تنسب نفسها إلى هذه القوى، في الوقت الذي لم يعد فيه الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة المنصة الوحيدة التي تحتكر تمثيل هذه القوى.

في السياق ذاته، أكد السياسي على ضعف قدرة هذه المؤسسات في “تمثيل مجتمع الثورة والمعارضة” لعدم امتلاكها أوراق قوةٍ، وضعف قدرتها على التأثير وتغيير مجرى الأحداث، أو على الأقل خلط الأوراق، مما خلق فراغاً سياسياً بينها وبين المجتمع، ينتهي في كثير من الأحيان إلى تباين في المواقف بين الطرفين وفي بعض الأحيان سجالات وتدافع سببه محاولة كل فريق أو كل شخص إثبات صحة ووجاهة رأيه. إن وجود مظلةٍ جامعة يساهم في الاستغناء عن مواقف فردية تكون في كثير من الأحيان مبنية على العواطف وليس على معطيات واقعية وموضوعية.

4- مدى حاجة قوى الثورة والمعارضة السورية للتوافق الكامل والدائم في مواقفها:

خلص مؤشر التوافق الوطني إلى وجودِ توافق عامٍّ فيما يتعلق بالقضايا الداخلية خصوصاً تلك المتعلقة بمناطق قوى الثورة والمعارضة بمختلف المجالات السياسية والعسكرية، كما حظيت غالبية الأحداث الواقعة في مناطق “قسد” بتوافق تام، سوى الموقف من الحوار بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي، كما شهدت أحداث مدينتي درعا والسويداء توافقاً كاملاً بين قوى الثورة والمعارضة[6].

في إطار تعليقه على إمكانية توسيع دائرة التوافق من خلال البناء على التوافق المتحقق في مختلف المواقف الصادرة عن قوى الثورة والمعارضة، تساءل أحد الباحثين عن الحاجة للتوافق دوماً بين القوى السورية؟ حيث أوضح أن الاتفاق التام والدائم هو حالة مماثلة للوضع السياسي إبان حكم نظام حزب البعث الـذي كرس فكرة “الرأي الواحد” ومسخ فكرة التعددية عبر ما سمي آنذاك “الجبهة الوطنية التقدمية” التي كانت تقوم بطباعة موقف واحد تلزم به جميع مكوناتها، مؤكداً بالمقابل أن هذا الأمر لا ينفي ضرورة التوافق تجاه بعض القضايا التي يمكن إدراجها ضمن “المسار الاستراتيجي” التي يشكل فيها التخالف خطراً على اعتبار أن المقاربات السياسية فيها أمراً مصيريّاً يحدد مستقبل الشعب السوريّ؛ لذلك فإن التوافقات الاستراتيجية مطلوبة لتحديد المصير، وهو ما يشكل الأهمية الأساسية للمؤشر في إطار السعي لبناء المقاربات السياسية التي يتم التوافق عليها بين الأطراف، بينما يبقى الأصل في غير هذه القضايا “التخالف”، وذلك لأن طبيعة الحياة السياسية تقوم على الاتفاق والاختلاف في تلك القضايا، ويصبح لزوم التوافق تكلفاً لا داع له.

5- العلاقة بين القوى السياسية والمنظمات الإنسانية: ضرورة التنسيق

على الرغم من أحد الحالات التي يمكن التكامل فيها في أدوات القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني هو الحشد والمناصرة[7]، إلا أنه لوحظ من خلال اصدارات مؤشر التوافق وجود ضعف تفاعل “صمت” تجاه أحداث متعلقة بالملف الإنساني من قبل المنظمات والقوى السياسية كذلك؛ فقد رصد المؤشر خلال عامي 2019 و2020 عدة مواقف تبين طغيانَ حالة الصمت[8].

في إطار السعي لتفسير العلاقة بين القوى السياسية والمنظمات الإنسانية، أوضحت عضوة في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة أن الكثير من المنظمات الإنسانية السورية التي تصف نفسها بالحياد، تبتعدُ عن التنسيق مع الجهات السياسية السوريّة المعارضة لكيلا تتهم بالتحيّز، مما يؤدي بالنتيجة إلى ضعف التنسيق بين هذه المؤسسات، على الرغم من الحاجة الكبيرة لذلك في مثل هذه المواقف كما حدث مؤخراً عندما كان هنالك نقاش دولي حول استمرار دخول المساعدات عبر الحدود[9]، حيث أن مثل هذه المواقف تتطلب تنسيقاً بين هذه الجهات، الأمر الذي لم يحدث كما ذكرت عضو الائتلاف.

كذلك انتقدت المشارِكة “الحالة الحياديّة” لدى بعض المنظمات غير الحكومية السوريّة “المرتبطة بالثورة” المشاركة في غرفة المجتمع المدني، مشيرةً إلى ما أثير حول البيان الصادر عن غرفة المجتمع المدني في مؤتمر بروكسل الرابع، والذي مال إلى طلب رفع العقوبات عن النظام رضوخاً منها للجهات الداعمة[10]. كل ذلك مع تأكيدها على أن مبدأ “الحياديّة في الجانب الإنسانيّ” يعني عدم حرمانِ أيّ سوريّ من حقه بالحصول على المساعدات، من دون أن ينسحب ذلك إلى ضرورة سكوت هذه المنظمات عن الانتهاكات التي يرتكبها النظام في المجال الإنساني أو عدم تنسيقها مع الجهات السياسية المحسوبة على قوى الثورة المعارضة فيما فيه مصلحة أهلنا في الشمال المحرر؛ خصوصاً وأن المنظمات الموجودة داخل مناطق النظام لا تتبنى هذا النوع من “الحيادية”.

مؤكدةً على ضرورةِ التنسيق مع المؤسسات السياسية في إطار الضغط والحشد والمناصرة لاستمرار وصول المساعدات للمناطق المحررة، مشيرةً إلى أنّ “الحياد” المطلوب لا يتعارض مع مثل هذا التنسيق.

6- ضعف تفاعل قوى الثورة والمعارضة مع الملف الحقوقي:

على الرغم من أن الملف الحقوقي المتعلق بجرائم نظام الأسد يعد أهم أوراق القوة المتبقية بيد قوى الثورة والمعارضة لإيقاف جهود إعادة تعويمه التي تقودها الدول الداعمة له، فإن ثمة ضعف بالاهتمام بهذا الملف من قبل غالبية هذه القوى على الرغم من كونه أداةً فعّالة يمكن استغلالها في جهود الحشد والمناصرة. وعلى الرغم من ضعف تفاعل هذه القوى مع الملف الحقوقي بشكل عام، إلا أن ذلك لا ينفي وجود ارتفاع في مستوى وعي الحاضنة الشعبية بهذا الملف، مع وجودِ نسبةٍ لا تزال تعتقد بعدم جدواه، مما يخلق ردود أفعال سلبية تجاه الأحداث المتعلقة بهذا الملف[11].

في محاولة تفسيره لضعف تفاعل القوى السياسية مع هذا الملف المهم، ووجود شريحة من الحاضنة لا تنظر بإيجابية لإمكانية توظيفه لمحاسبة نظام الأسد على جرائمه، أرجع مدير أحد المنظمات الحقوقية ذلك لضعف التغطية الإعلامية لما يحدث خلال المحاكمات في كوبلنز وهولندا وغيرها[12]، وبالتالي هنالك ضعف في نقل مثل هذه الأحداث للجمهور المعني بطريقة سلسة وواضحة، إضافةً إلى ضعف الثقة المجتمعية بالعدالة الدولية نتيجة طول أمد الصراع وغياب النتائج الحقيقية لمحاسبة نظام الأسد على أرض الواقع.

وأكّد أحد السياسيين على ضعف ثقة المجتمع بل وبعض الفئات المطلعة من السياسيين والأكاديميين في المناطق المحررة بالمنظمات الحقوقية بشكل عام؛ نتيجة اقتناعهم بأن قرار محاسبة نظام الأسد على جرائمه هو سياسي بالدرجة الأولى، مستشهداً على ذلك بالتقرير الصادر عن منظمة حظر الأسلحة الكيماوية التابعة للأمم المتحدة الذي خلص إلى إثبات استخدام نظام الأسد للسلاح الكيماوي في ثلاثة مواقع هي: “خان شيخون واللطامنة والغوطة”[13]، حيث لم يتبع هذا التقرير أي إجراء ملموس على أرض الواقع ضد المجرمين المتهمين بارتكاب هذه الجرائم، ما أدى بالنتيجة إلى فقدان المنظمات الحقوقية مصداقيتها لدى جمهور الثورة.

7- ظاهرة الصمت لدى قوى الثورة والمعارضة: بين أسباب ذاتية وأخرى موضوعية

تتبع المؤشر حالة الصمت عند مختلف قوى الثورة والمعارضة تجاه العديد من القضايا السياسية والعسكرية والحقوقية على مدار السنتين الأخيرتين، حيث تم تسجيل صمت قوى الثورة والمعارضة في عام 2020 تجاه قيام الحكومة التركية بإزالة ملفات المرشحين للجنسية الاستثنائية من السوريين، وكذلك انطلاق جلسات أولى محاكمة في العالم بشأن التعذيب في سوريا[14].

في السياق ذاته، سجّل المؤشر عام 2020م عدم إصدار القوى العسكرية أيّة مواقف معلنة فيما يتعلق باللجنة الدستورية وبعض الأحداث الدولية، مما يمكن اعتباره استمراراً لسلسلةِ الصمت التي سجلها مؤشر عام 2019م تجاه اللجنة الدستورية، إضافة إلى أحداثٍ داخليةٍ أخرى[15]، كما سجّل المؤشر صمت القوى الشعبية ذات النشاط السياسي عن ذات المواقف عام 2020، فيما يعد تغيراً في تفاعل هذه القوى مع الأحداث المؤثرة بالثورة بعد أن رصد المؤشر صمتها تجاه ثمانِ أحداثٍ من أصل ثلاثة عشر خلال عامِ 2019[16].

أما القوى السياسية؛ فقد كان سجلها عام 2020 خالياً من المواقف الصامتة تجاه أي موقف، بعد أن رصد مؤشر النصف الثاني من عام 2019 صمتها عن الاتفاق التركي الروسي في سوتشي حول إنشاء منطقة آمنة شمال شرقي سوريا، وإعلان “حزب الله” نيته تقليص أعداد مقاتليه في سوريا[17].

وفي تعليقه على هذه “الظاهرة”، أكّد أحد السياسيين أنّ الظاهرة ليست طبيعية لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية جعلت المعارضة الرسمية في حالة عجز مطبق، وغير قادرة على اتخاذ أي قرار ذاتي نابع من المصلحة الوطنية المجردة في معظم الحالات. مشيراً إلى أنّ انتشار ظاهرة الصمت لدى هذه المؤسسات وانعدام القدرة على الفعل خلق فراغاً؛ تسبب بانفصال قوى الثورة والمعارضة عن الحاضنة الشعبية، مما جعل الأولى في حالة ضعف شديد يسهل معه التحكم بها من قبل الدول الفاعلة في الملف السوري، ولعل ذلك تجلى على شكل صمت من قبل القوى والمؤسسات السياسية على الرغم من الحاجة في كثير من المواقف إلى بيان أو قرار.

لمشاركة الصفحة: https://sydialogue.org/c9zb


[1] “مؤشر التوافق الوطني”: هو مؤشر رقمي يقوم على الرصد والتحليل للمواقف المعلنة لعدد من القوى الفاعلة والمؤثرة في الساحة السورية تجاه أبرز الأحداث والمواقف السياسية -دون تقييمها موضوعياً- وذلك خلال سنة “مؤشر سنوي”. ُ
ينظر: مؤشر التوافق الوطني “الإصدار الخامس”، مركز الحوار السوري، 18/7/2021، شوهد في: 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3AgIRIu.
[2] يقصد بقاعدة “تشاتام هاوس” بأنه: «حينما يعقد اجتماع أو جزء منه في إطار قاعدة تشاتام هاوس، فإن المشاركين يكونوا احراراً في استخدام المعلومات التي يحصلون عليها، لكن من دون كشف هوية المتحدث أو انتماءه أو أي شخص آخر، ودفعاً للقارئ للتركيز على سياق الحوار ومضمونه بغض النظر عن أشخاصه.
Chatham House Rule, Chatham House. Available at: https://bit.ly/3hFIEr0.
[3]  يُنظر: مؤشر التوافق الوطني “الإصدار الخامس”، مرجع سابق،  https://bit.ly/3AgIRIu، ص41-43.
[4] يُنظر على سبيل المثال: مجلس الأمن يؤجل التصويت على تمديد إدخال المساعدات إلى سوريا، يورونيوز، 8/7/2021، شوهد في: 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/2XixXUl، مجلس الأمن يوافق بالإجماع على تمديد تفويض آلية إيصال المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى سوريا، الأمم المتحدة، 9/7/2021، شوهد في: 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3lsI8xs.
[5] كان دور الجالية السورية مفيدًا للغاية في دعم إقرار القانون، فقد عمل أفراد كثيرون على إقناع متزعمي الأغلبية في الحزبين “آدم كينسنجر” و”إليوت إنغل” على مشروع القانون إضافة إلى إقناع زعيم الجمهوريين في الكونغرس “ميتش ماكونيل” بإلحاق القانون بميزانية وزارة الدفاع الوطني، وإلا فإن القانون لم يكن مهيّئًا للإقرار.
يُنظر: التقرير الموضوعي للندوة الحوارية: “قانون قيصر: الأسباب والتوقعات والمآلات”، مركز الحوار السوري، 6/12/2020، شوهد في: 16/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3Av3LUp.
[6] حاز التصعيد في السويداء ضد نظام الأسد وميليشيات إيران على نسبة توافق بلغت 42%، كذلك الموقف تجاه الانتفاضة في درعا بنسبة %16.
 يُنظر: مؤشر التوافق الوطني “الإصدار الخامس”، مرجع سابق، ص22 وما بعدها.
[7] يشير مفهوم “المناصرة” إلى قدرة جانب من المجتمع المدني على التأثير في عملية صناعة القرار، أو تسليط الضوء على بعض القضايا بهدف تحسين الواقع، من خلال مجموعة من الأنشطة والجهود والاستراتيجيات التي تسعى إلى إثارة الرأي العام تجاه قضية ما، ثم الحشد الجماهيري لها، والتوجه بالضغط نحو المعنيين لتصحيح الأوضاع إلى شكل أفضل أو تعديل القوانين والسياسات، أو المساهمة في ترسيخ مبدأ الشفافية والمساءلة.
يُنظر: جهود الحشد والـمُنَاصَرة السورية في الساحة الدولية: واقع متشابك، وغياب للاستراتيجيات، مركز الحوار السوري، 6/4/2021،شوهد في: 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3Ell0K4، ص2.
[8]مثل الموقف من الفيتو الروسي الصيني ضد مشروع قرار إدخال المساعدات على سوريا عبر الحدود عام 2019، وكذلك الحال فيما يتعلق برفض تمديد قرار إدخال المساعدات عبر معبري الرمثا واليعربية عام 2020. ففي كلا الموقفين كان الصمت هو الموقف الغالب للقوى السياسية، خصوصاً تلك المشكلة حديثاً.
يُنظر: مؤشر التوافق الوطني “الإصدار الخامس”، مرجع سابق، ص39.
[9] يُنظر: ضغوط دولية لمواصلة تقديم المساعدات لسوريا عبر الحدود، الاتحاد، 25/6/2021، شوهد في: 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3tFc7Ga.
[10] فُسِّرَّ بيان غرفة المجتمع المدني آنذاك من قبل الكلمات التي ألقيت في المؤتمر على أنها دعوة لرفع العقوبات الغربية عن نظام الأسد، الأمر الذي دفع رابطة الشبكات السورية لإصدار بيان توضيحي مبينة النقاط الخمس المتوافق عليها.
للاطلاع على بيان رابطة الشبكات السورية ذي الصلة، ينظر: بيان رابطة الشبكات السورية بخصوص مشاركتها في الفعالية الجانبية لغرفة دعم المجتمع المدني ببروكسل 4، رابطة الشبكات السورية، ديسمبر/2020، شوهد في: 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3hx9j9c.
[11] رصد الإصدار الخامس من مؤشر التوافق الوطني ردود أفعال قوى الثورة والمعارضة تجاه إصدار منظمة حظر الأسلحة الكيماوية تقريراً يتهم النظام باستخدام السلاح الكيماوي، وانطلاق جلسات أول محاكمة في العالم بشأن التعذيب في سوريا، وتقرير للأمم المتحدة يتحدث عن انتهاكات في إدلب قد ترقى لجرائم ضد الإنسانية، واستعداد هولندا لرفع قضية ضد النظام السوري في “العدل الدولية”.
يُنظر: مؤشر التوافق الوطني “الإصدار الخامس”، مرجع سابق، ص35 ما بعدها.
[12] يُنظر: صالح ملص ولؤي رحيباني و يامن مغربي، آثار محدودة لأهداف سياسية.. محاكمات أوروبية لانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، عنب بلدي، 25/10/2020، شوهد في: 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3CdxOAh.
[13] يُنظر: تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية حول هجمات قوات الأسد الكيماوية يجب أن يشكل لحظة مفصلية حول نهج المجتمع الدولي تجاه سورية، الرابطة السورية لكرامة المواطن، 9/4/2020، شوهد في: 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3AhjYMD.
[14] عمل مؤشر التوافق الوطني بإصداره الخامس على رصد مجموعة من الأحداث الخارجية المؤثرة في أوضاع السوريين القانونية، منها: عبور طوفانٍ من السوريين نحو أوروبا عبر الحدود اليونانية، والاعتداء على طفل سوري لاجئ في لبنان، وإزالة ملفات المرشحين للجنسية الاستثنائية في تركيا، ومغادرة عائلات سورية بلدة بشري اللبنانية خشية تعرضها لانتهاكات، وإحراق مخيمات لاجئين سوريين في المنية.
 يُنظر: مؤشر التوافق الوطني “الإصدار الخامس”، مرجع سابق، ص35.
[15] المرجع السابق، ص61 وما بعدها، يُنظر: مؤشر التوافق الوطني “الإصدار الثالث”، مركز الحوار السوري، 24/9/2019، شوهد في: 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3lo2JmM، ص12 وما بعدها، مؤشر التوافق الوطني “الإصدار الرابع”، مركز الحوار السوري، 11/4/2020، شوهد في: 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3hzg0aY، ص28.
[16] يُنظر: مؤشر التوافق الوطني “الإصدار الخامس”، مرجع سابق، ص58 وما بعدها، مؤشر التوافق الوطني “الإصدار الرابع”، مرجع سابق، ص29.
[17] يُنظر: مؤشر التوافق الوطني “الإصدار الخامس”، مرجع سابق، ص64، مؤشر التوافق الوطني “الإصدار الرابع”، مرجع سابق، ص27.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى