السوريون في تركيا: إسهامات اقتصادية في تنشيط الصادرات وتوليد فرص العمل (1)
تحدثنا في المقالة السابقة[1] عن تأثير الهجرة السورية على البطالة في تركيا، وأشرنا إلى وجود نتائج مختلطة ومتضاربة بحسب الدراسات؛ إذ تحدثت دراساتٌ عن تأثيرات سلبية للهجرة السورية على مستويات التوظيف التي تراجعت لدى العمال الأتراك في القطاع غير الرسمي، الذي يشكل أكثر من ثلث العمالة في تركيا عموماً، إضافة إلى تأثيرات إيجابية على هذه العمالة نفسها في تحويل جزء منها إلى عمالة رسمية، أو استفادتها من خلال صعود السلم الوظيفي.
في الوقت ذاته أشارت دراساتٌ أخرى إلى تأثير إيجابي آخر في زيادة مستويات توظيف تلك العمالة التركية غير الرسمية في ذروة هجرة السوريين في الأعوام 2013 و2014 في مدينة غازي عنتاب تحديداً.
بناءً على ما سبق، ولمحاولة فهم حقيقة هذه التأثيرات التي تبدو متناقضة إلى حد ما اقترحنا التوجه لفهم بقية التأثيرات الاقتصادية وتداخلاتها المجتمعية، دون الاقتصار على متابعة موضوع العمالة بشكل منعزل.
من خلال ملاحظاتنا الميدانية نرى أن نسبة كبيرة من العمالة السورية تعمل أصلاً في شركات ومصانع مملوكة لسوريين، ليدفعنا هذا للتساؤل عن طبيعة تلك الشركات والاستثمارات السورية، ومدى دورها في تشغيل العمالة السورية ومدى استيعابها تلك العمالة باعتبار أن العمالة السورية مثار جدل كونها تنافس العمالة التركية، وفيما إذا كان لدى تلك الاستثمارات والشركات السورية أدوار أخرى في فتح أسواق جديدة داخلية وخارجية، وتحريك عجلة الإنتاج.
ونستطيع القول بعد شيء من البحث: إن دخول المهاجرين السوريين بعمالتهم واستثماراتهم وعلاقاتهم قد أسهم في توليد دورة إنتاجية جديدة لسلع وخدمات بمواصفات جديدة[2] لأسواق داخلية وخارجية جديدة، وبالتالي أوجد فرص عمل جديدة للعمالة السورية، وكذلك للمجتمع المضيف. فضلاً عن استحداث العديد من الوظائف للمجتمع المضيف في الوظائف الحكومية والمنظمات غير الحكومية التي نشطت مع ازدياد الهجرة السورية، وهو ما سوف نحاول توضيحه.
إسهام السوريين في تنشيط إنشاء الشركات التجارية وزيادة الصادرات التركية:
أسهم السوريون في زيادة وتنشيط الصادرات التركية إلى عدد من الدول، خاصة دول الشرق الأوسط، ومن المعروف أن كلّاً من الصادرات وقطاع السياحة في تركيا يشكلان مصدرَين أساسيين للقطع الأجنبي والانتعاش الاقتصادي[3]، وتشكل الصادرات ما يقارب ثلث الناتج المحلي[4] التركي[5]، وقد وصلت صادرات تركيا في السنوات الأخيرة إلى أرقام قياسية بحسب التصريحات الرسمية؛ إذ بلغت 225 مليار دولار في العام2021[6]، وقد أسهم المهاجرون السوريون في تنشيط تلك الصادرات إلى منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص من خلال الاستثمارات وتأسيس الشركات التجارية والعمالة، أو من خلال العمل كميسيرين للتجارة مع تلك البلدان بحكم الروابط الثقافية والمعرفة اللغوية.
شكل يظهر تزايد الصادرات التركية بالتزامن مع تعاظم الهجرة السورية، المصدر: statista
وبحسب الإحصاءات فقد وصل عدد الشركات التي أسسها السوريون بشكل جزئي أو كامل في تركيا إلى أكثر من 10 آلاف شركة حتى العام 2018؛ تقوم كل شركة بتوظيف 7 أشخاص وسطياً (حوالي 70 ألف شخص)، يتركز نصف تلك الشركات تقريباً في الجنوب التركي، في الولايات الأكثر استيعاباً للمهاجرين السوريين مثل أنطاكيا وأورفة وغازي عنتاب وكيليس وغيرها[7]. ويبدو أن عدد هذه الشركات في ازدياد ملحوظ؛ فقد بلغ عددها 13880 مع نهاية العام 2019 بحسب تصريح لوزير التجارة التركي في رده على سؤال داخل البرلمان التركي[8]، كما قُدّر عدد تلك الشركات بـ 20000 شركة في العام 2021[9] ، تعمل في مجالات عديدة، كالبناء وتجارة الجملة الخارجية، وتجارة المواد الغذائية، وبيع وشراء العقارات، وصناعة وتجارة الملابس والأحذية.
السوريون ماهرون للغاية في عدد من القطاعات؛ نظرًا لأنهم يتقنون اللغتين العربية والإنجليزية، حيث لعبوا دوراً نشطاً في التجارة الدولية وفتح أسواق جديدة للمدينة، كما لعبوا دورا رئيساً في نمو المدينة وإنعاش اقتصادها، حيث ساهموا بـ 50% في المؤسسات الصناعية في المدينة. السيدة فاطمة شاهين، رئيسة بلدية غازي عنتاب |
وأوضح تقرير أجرته منظمة (بيلدنغ ماركتس – Building Markets )[10] أن الشركات المنضوية تحت شبكتها في جنوب تركيا والتي تعمل ضمن مجال التصدير تشكّل ما نسبته 56% من مجموع الشركات المصدرة المسجلة في شبكتها في تركيا؛ وهو ما يشير إلى أهمية المنطقة الجنوبية في التصدير، حيث يلعب السوريون في هذه الشركات دوراً مهماً في هذه النسبة من خلال التصدير إلى سوريا والعراق ودول أخرى في الشرق الأوسط. فقد أسهم المصدّرون السوريون في توسيع فرص المنطقة الجنوبية خاصة، وتركيا عموماً في التصدير إلى الشرق الأوسط وإفريقيا، مستفيدين من شبكات علاقتهم وتداخلاتهم الثقافية واللغوية مع عموم الشرق الأوسط والعالم العربي الناطق بالعربية عموماً؛ حيث شهدت مناطق جنوب تركيا التي يتركز فيها العدد الأكبر من الشركات والمهاجرين السوريين ازدياداً ملحوظاً في الصادرات إلى كل من العراق وسوريا وليبيا والخليج العربي في قطاعات ومجالات متعددة[11]، وهو الأمر الذي أشار إليه مسؤولون أيضاً إضافة إلى تقارير الباحثين. على سبيل المثال: شهدت رئيسة بلدية غازي عنتاب بذلك بقولها: “السوريون ماهرون للغاية في عدد من القطاعات؛ نظراً لأنهم يتقنون اللغتين العربية والإنجليزية، حيث لعبوا دوراً نشطاً في التجارة الدولية وفتح أسواق جديدة للمدينة”[12]، كما قالت أيضاً: إن السوريين “قد لعبوا دورا رئيساً في نمو المدينة وإنعاش اقتصادها، حيث ساهموا بـ 50% في المؤسسات الصناعية في المدينة”[13].
نقاط أساسية عن الملف التعريفي للشركات السورية:
بالإضافة إلى تنويع منتجات ووجهات التصدير في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الأوسط يمكن لفت النظر أدناه إلى عدة نقاط فيما يتعلق بالشركات السورية في الجنوب التركي:
- 36٪ من الشركات الصغيرة والمتوسطة السورية في المنطقة الجنوبية تقوم بالتصدير، وترتفع هذه النسبة إلى 46% في غازي عنتاب، أي: أن حوالي نصف الشركات السورية الصغيرة والمتوسطة في غازي عنتاب تقوم بالتصدير، وفي بحث سابق لوقف أبحاث السياسات الاقتصادية التركي تمت الإشارة إلى أن الشركات السورية أكثر توجهاً للتصدير من الشركات التركية، حيث إن 55% من الشركات السورية ذات توجه تصديري، في حين أن 31% فقط من الشركات التركية ذات توجه تصديري[14]، وتعتمد بعض الشركات التركية في غازي عنتاب على توظيف موظفين سوريين في أقسام التصدير الخاصة بها لخبراتهم التصديرية السابقة وقدراتهم على التواصل مع البلدان العربية[15].
- أسواق العراق وسوريا[16] ودول الشرق الأوسط هي أكثر الأسواق المستهدفة من قبل الشركات المملوكة لسوريين، إضافة إلى التصدير لدول الاتحاد الأوربي ودول أخرى.
- تتصدر المنتجات الغذائية قائمة صادرات الشركات الصغيرة والمتوسطة المملوكة لسوريين في المنطقة الجنوبية، تليها الملابس والمنسوجات معاً، وهي تشكل أكثر من 47٪ من إجمالي صادراتها، وتتوزع باقي الصادرات على منتجات أخرى عديدة، كالأثاث والأجهزة الإلكترونية والسلع المنزلية وغيرها[17].
- تحتلّ غازي عنتاب المرتبة الخامسة من حيث قيمة الصادرات على المستوى الوطني، وقد غدت مركزاً للصادرات إلى سوريا والعراق ودول أخرى في الشرق الأوسط بعد الهجرة السورية وتنشيط الأعمال التجارية بفعل الاستثمارات والعمالة السورية[18].
- يبلغ معدل التوظيف لكل شركة مملوكة لسوريين حوالي 7 أشخاص وسطياً، ويدخل ضمنهم مواطنون أتراك، والنسبة الأكبر غالباً من السوريين من أرباب الأسر، أو ممن يدعمون أسرهم في تركيا وسوريا[19]، وتقوم هذه الشركات بالمساهمة في الضرائب والتراخيص مثلها مثل باقي الشركات التركية المرخصة.
سوف نتحدث في المقالة القادمة عن كيفية مساهمة العمالة السورية مع المستثمرين السوريين في رفع القدرة التنافسية لبعض السلع والخدمات؛ مما أسهم في زيادة استهلاكها في الداخل التركي، وزيادة تصديرها خارجياً.
لمشاركة المقال: https://sydialogue.org/qaz6
باحث ومستشار، كتب و شارك في كتابة العديد من الأوراق المتعلقة بالملف السوري. كما عمل مستشاراً وباحثاً في الشأن السوري لدى عدة مراكز سياسات سورية ناشئة، ولدى منظمات دولية. مدرب في مجال أساسيات ريادة الأعمال وأساسيات التحليل السياسي،
3 تعليقات