الأبحاث والدراساتالإصداراتالتوافق الوطنيوحدة الهوية المشتركة والتوافق

الورقة التحليلية “نحو تمكين سياسي للثورة السورية ومنجزاتها”

مقدمة:

بعد تحول الثورة إلى العمل العسكري، كان واضحاً توجه مختلف الجهود والإمكانات لتحقيق نصر عسكري كامل، يؤدي إلى إسقاط النظام، يتبعه بناء دولة تتحقق فيها معاني هامة في الثورة من قبيل: تكريس الهوية الإسلامية المؤدية لاستعادة الكرامة، إسقاط الاستبداد والطائفية، إيقاف تغول الأجهزة الأمنية والعسكرية في الحياة العامة، استقلال القضاء، الحكم الرشيد، …إلخ.

بعد أن طالت الثورة، وبدا واضحاً أن الحسم العسكري الكامل قد يحتاج لسنوات، كان لزاماً على الثورة توجيه قسم أساسي من جهودها وإمكاناتها لإسقاط النظام عسكرياً، وفي الوقت ذاته، توجيه قسم آخر أساسي من جهودها وإمكاناتها لبناء مؤسسات نموذج دولة تتحقق فيها معاني الثورة آنفة الذكر.

إذا كان العمل العسكري هو الأساس لإسقاط النظام وهدمه، فإن العمل السياسي هو الأساس لبناء الدولة ومؤسساتها. من هذا المنطلق، تهدف هذه الورقة لطرح أفكار عامة من أجل تفعيل عمل الثورة السياسي بما يقود إلى بناء مؤسسات ثورية حقيقية، ويكرس مفاهيم الثورة التي ضحى الناس لأجلها بالغالي والنفيس، ويوظف الإنجازات العسكرية سياسياً، وذلك بالتدريج ووفق الإمكانات المتاحة.

أولاً- توصيف التعاطي السياسي للثورة:

يفترض أن التعاطي السياسي للثورة قد أفرز هيئة سياسية تقود الثورة وتمثلها، ومشروعاً سياسياً يمثل وجهة نظرها لواقع الثورة ومستقبلها. لكن أي من هذه الفرضيات لم يتحقق حتى الآن.

نستطيع حالياً توصيف الواقع السياسي للثورة بالصفات الثلاث التالية:

  • تركيز القوى خصوصاً العسكرية منها على العمل العسكري وتحقيق إنجازات عسكرية على الأرض، من دون أن توظف من أجل تحقيق بعض المكاسب السياسية ذات البعد الاستراتيجي.
  • اتصفت مختلف “المؤسسات” التي أنشأتها القوى الثورية بالصبغة الخدمية نتيجة عدم وجود الغطاء السياسي (هيئة سياسية)، إضافة الى التعاطي معها باللاوعي بعقيلة “مؤقتة” لحين اسقاط النظام.
  • لم تستطع المؤسسات والقوى الثورية تكريس المفاهيم السياسية التي قامت الثورة من أجلها “الحرية والكرامة، تحييد الحياة المدنية من تغول القوى العسكرية والأمنية، الحكم الرشيد ….. إلخ” بشكل يجعلها نموذجاً ناجحاً للسلطة والإدارة شعبياً وخارجياً.

لقد افتقدت الثورة للتوظيف السياسي للمؤسسات والأعمال الثورية، واقتصر العمل السياسي على بعض البيانات والمواقف والعلاقات التي تصنف ضمن “الشكليات”؛ حيث نظرت مختلف القوى الثورية خاصة العسكرية منها إلى البعد السياسي للأعمال والمؤسسات بوصفه تابعاً لأعمال أساسية تقوم بها “عسكرية، خدمية، تعليمية …. إلخ”، وبالتالي ركزت على هذه الأعمال مهملة التوظيف السياسي لها، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى، فإن الأعمال السياسية، على قلتها، قامت بها القوى الثورية كردة فعل على ما يطرح عليها من مبادرات وأعمال يقوم الآخرون (النظام أو المجتمع الدولي).

لعل من أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الواقع ما يلي:

  • عدم قناعة الثوار بأهمية العمل السياسي في إنجاز أهداف الثورة.
  • ضعف الخبرة السياسية لدى الثوار.
  • ضعف الثقة بين السياسيين والعسكريين[1].
  • افتقاد البيئة المناسبة لممارسة العمل السياسي في الداخل نتيجة الوضع الميداني الصعب وعدم الاستقرار.
  • ربط البناء وتحقيق أهداف الثورة بسقوط النظام الكلي، وهو أخطرها في تقديرنا.

ثانياً- الخيارات المتاحة تجاه عمل الثورة السياسي:

نعتقد أن الثورة أمام خيارات ثلاثة في هذا المجال:

الخيار الأول: التركيز على العمل العسكري فقط، بحيث تكون جميع الأعمال الأخرى مهيأة لها أو ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها من أجل استمرار الحياة في المناطق المحررة (النظافة والصحة …. إلخ)، بل نجد أن التعبير عن هذه الأعمال يمكن تحليله من خلال ألفاظ لا تخطئها الأذن كـ: استمالة\كسب الحاضنة الشعبية، التخفيف من معاناة الناس…. الخ. أما الأعمال السياسية في هذا الخيار فتتمثل ضمن المكاتب السياسية للفصائل مثلاً بالتركيز على البيانات والمواقف وردود الفعل على ما يطرح من مبادرات خارجية.

ولعل أنصار هذا الخيار، يرون أنه لا انتصار للثورة السورية إلا بتحقيق النصر العسكري الكامل الذي لا يتحقق إلا بسقوط النظام، وبالتالي يجب تسخير جميع الجهود والإمكانات لأجل تحقيق ذلك، بحيث لا نقوم بأعمال أخرى سياسية أو خدمية إلا ما تضطرنا حاجة الناس إليه، وبما يخدم الجهد العسكري فقط.

الخيار الثاني: وهو التركيز الكبير على الأعمال والمبادرات السياسية. ونعتقد أن هذا الخيار غير منطقي وغير واقعي في ظل وجود نظام كنظام الأسد الذي لا يفهم إلا لغة القوة، وبالتالي لن نفصل فيه.

وقد تشكلت معظم مؤسسات الثورة الحالية حول الخيارين الأولين في معظم الأحوال: عموم الفصائل للخيار الأول والائتلاف وما سبقه والأحزاب السياسية الخ للثاني، في انقسام كبير مبدئي ووظيفي أضعف الثورة.

الخيار الثالث –وهو ما نرجحه-: يأخذ موقفاً وسطاً بين الخيارين السابقين، وهو التركيز على العمل العسكري الذي يؤدي إلى تحرير المناطق، وفي الوقت ذاته، استثمار ذلك سياسياً بالبدء ببناء نموذج دولة وفق الحدود والإمكانات وبالتدريج، تتحقق فيها الأهداف التي خرجت الثورة من أجلها، مع ما يقتضيه ذلك من توزيع الجهود والأموال تجاه الأمرين.

يرى أنصار هذا الرأي، بأن الثورة قد تطول، وإسقاط النظام كاملاً يحتاج إلى سنوات، فهل يعقل أن نركز على العمل العسكري فقط، في ظل وجود مساحات محررة واسعة يمكن أن نبني فيها مؤسسات سياسية تستطيع منافسة مؤسسات النظام المحتل (السيادية والخدمية سواء بسواء)، التي يمكن أن نسحب منها الشرعية تباعاً (شعبياً وعالمياً)، وحتى لا نترك الفرصة أمام قوى تريد القفز على الثورة والثوار (داعش وغيرها) تستغل الفراغ، وتقيم مشاريعها ودولها، فضلاً عن أن هذا الخيار سيكون مثبتاً لحاضنة الثورة للثبات على موقفها، ومحفزاً لأنصار المشاريع الأخرى (النظام وداعش) والفئة الصامتة، للالتحاق بركب الثورة.

ثالثاً- الرؤية الواقعية لعمل الثورة السياسي:

تقوم هذه الرؤية على وضع استراتيجية تستند إلى ثنائية العمل العسكري-السياسي، بقصد الوصول إلى نموذج دولة بالتدريج الذي يراعي الواقع والإمكانات، بحيث يضع هذا النموذج الثورة وأهدافها ضمن إطار مؤسساتي فاعل، يستطيع منافسة المشاريع القائمة “النظام وداعش”.

في ضوء ما تقدم، نستطيع رسم ملامح الرؤية العامة لعمل الثورة السياسي وفق المحددات التالية[2]:

  • تفعيل العمل السياسي بكل أبعاده وتفاصيله من خلال ما يلي:
    • طرح مبادرات سياسية: سواء محلية مع النظام لإنهاكه سياسياً وإيصاله الى “حل سياسي” يؤول إلى نهايته الناجزة، وتحقيق بعض المكاسب الجزئية أو المرحلية للثورة مثل توفير بعض الخدمات للمواطنين لكسب مزيد من المشروعية والتعاطف، أو دولية للضغط على حلفاء النظام وإحراجهم دولياً[3].
    • تحشيد قوى دولية مؤيدة للثورة: مبادرات لتثبيت المؤيد ومبادرات لإضافة محايدين إلى قوائم المؤيدين.
    • تكريس المفاهيم التي قامت الثورة من أجلها في حياة الثورة ومؤسساتها (إسقاط الاستبداد، تكريس الهوية الإسلامية للمجتمع، الحكم الرشيد، استقلال القضاء، سلطان الأمة، …. إلخ).
    • توظيف الإنجازات العسكرية سياسياً بما في ذلك طرح الحل السياسي.
  • بناء مؤسسات للثورة ومنحها الغطاء السياسي: يتطلب هذا الأمر وجود هيئة سياسية، تمثل الثورة ثم تقودها.

نعتقد ضرورة التعامل مع هذه المحددات وفق فقه الممكن، فما نستطيع تنفيذه الآن وتتوفر شروطه ومتطلباته، نبدأ بتنفيذه وتكريسه (كمفهوم استقلال القضاء)، وما لا نستطيع تنفيذه، نخطط ونعد البيئة المناسبة التي تحقق متطلباته وتتجاوز معوقاته (الحل السياسي مثلاً).

رابعاً- الفئات التي يفترض تسويق فكرة تفعيل عمل الثورة السياسي لديها:

لعل من أهم الفئات التي تعارض حالياً، أو على الأقل لا تستشعر أهمية التوظيف السياسي لأعمال الثورة ومؤسساتها هي:

  • الثوار العسكريون وعناصرهم.
  • جزء لا بأس به من الحاضنة الشعبية.
  • قادة محليون/ شخصيات هامة من القدوات في المجتمع.

ولعل السبب في رفضهم لفكرة “التوظيف السياسي”، الصورة التي يأخذونها عن مخرجاته، بأن السياسة ستقود إلى حل استسلامي يضيع دماء الشهداء، وتأتي بالمتسلقين الذين استغلوا الثورة ولم يضحوا ليستلموا الحكم.

لذلك نعتقد ضرورة إقناع هذه الجهات على الأقل بأهمية التوظيف السياسي للثورة، وبأن العمل السياسي مثله مثل العمل العسكري، يهدف إلى تحقيق أهداف الثورة.

خامساً- الفئات التي يجب جذبها لتفعيل عمل الثورة السياسي:

ونقصد بذلك ضرورة جذب بعض الفئات، وكسب تعاطفها وتأييدها إلى جانب الثورة من أجل تفعيل العمل السياسي للثورة. ولعل أهم هذه الفئات:

  • “المتقاعدون” من الثورة أفراداً ومؤسسات.
  • النخب السياسية والمفكرون والأكاديميون.
  • رجال الأعمال والمستثمرون.
  • الإعلاميون والمؤسسات الإعلامية.
  • كبار الموظفين الشرفاء في الدولة من ضباط وقضاة.

سادساً- متطلبات تفعيل عمل الثورة السياسي:

يتطلب تفعيل عمل الثورة السياسي وجود قناعة وإرادة لدى الثوار بمختلف تخصصاتهم بأهمية العمل السياسي، وقدرته على تحقيق أهداف الثورة الأولى تباعاً، إضافة إلى وجود مناطق محررة تعمل فيها مؤسسات ثورية في مختلف التخصصات.

على الرغم من قلة متطلبات تفعيل العمل السياسي للثورة (الإرادة+ مناطق محررة)، إلا أنه يعترض إيجادها العديد من التحديات لعل من أهمها:

  • عدم وجود قناعة لدى الثوار خصوصاً العسكريين بأهمية العمل السياسي وقدرته على إحداث التغيير وتحقيق أهداف الثورة.
  • ضعف الثقة بين الثوار حتى من بين أصحاب الاختصاص الواحد، الأمر الذي أدى إلى التفرق والتشرذم، الذي أدى بدوره إلى غياب المؤسسات الثورية الفاعلة.
  • سياسة التدمير الممنهج التي يتبعها النظام ضد المناطق المحررة.
  • الواقع الجغرافي الحالي للمناطق المحررة، المتمثل بالانفصال بين الشمال والجنوب، فضلاً عن وجود مناطق محاصرة.
  • وجود بعض الفصائل العسكرية القوية التي ترفض أي تعاطي سياسي ثوري.
  • التناقضات الدولية والإقليمية المؤثرة على إطلاق واستقرار النموذج.

ومع ذلك، فإن تجاوز هذه التحديات ليس بمستحيل على من يبحث عن حلول بجدية وعزم، حيث تتوفر أدوات وخيارات متعددة للتغلب عليها، والبدء ببناء نموذج الدولة، فمثلاً تمثل الأوراق التي بين أيديكم والمتعلقة بالفصائل العسكرية وبنية الهيئة السياسية، نموذجاً لمشاكل تعاني منها الثورة وحلولاً مقترحة لمعالجتها، وهذه الحلول ليست بمستحيلة أو متعذرة. يضاف اليها أوراق أنجزناها في الإدارة والحكم المحلي، وبناء مؤسسة القضاء.

يمكن القول: إن النموذج المأمول ليس حلماً وردياً، وإنما هدف نستطيع تحقيقه بإمكانياتنا وقدراتنا إذا أحسنا توظيفها ووجدت الإرادة وثقافة التنازل لبعضنا البعض ومبدأ مراعاة التخصص. وهذا لا يعني خلو الأمر من العقبات والعوائق، بل هي في حالتنا كثيرة ومعقدة، ولكن نستطيع تجاوزها تدريجياً إن شاء الله، كما بينا سابقاً، بالإرادة والاعتماد على المؤسسات الفاعلة الموجودة. فالثورة تمتلك كوامن وخيارات متعددة يمكن توظيفها.

سابعاً- مخرجات تفعيل عمل الثورة السياسي:

تمثل المخرجات حافزاً للعاملين في الثورة من أجل حث الخطى لتوظيف الأعمال التي يقومون بها والمؤسسات التي ينشئونها، سياسياً. ولعل من أهم هذه المخرجات التي يمكن تحقيقها ما يلي:

  1. دستور “مؤقت” يحسم قضايا عدة مبكراً يمثل دستور الثورة، ويكون أساساً ورقماً صعباً في أي دستور قادم لسوريا.
  2. إرادة شعبية تتمكن من تطبيق مفهوم “سلطان الأمة“، تجعل للثورة قطاعاً شعبياً عريضاً مؤيداً\متبنياً يصعب تجاوزه في أي حل، داخلياً خارجياً.
  3. جيش وطني يكون نواة لجيش سوريا المستقبلي يحرس حدود الأراضي المحررة، ويحرر المزيد من التراب السوري، ويحمل عقيدة وظيفية واضحة يتربى عليها.
  4. إدارة محلية\حكم محلي واسع الصلاحيات ينتهج الحكم الرشيد والمشاركة الشعبية والتداول السلمي للسلطة يحتوي الاحتقانات\التخوفات في أماكن تواجد\كثرة الأقليات.
  5. قضاء مستقل ونافذ مرجعية واحدة في القانون والإجراءات.
  6. عودة المهجرين وتفعيلهم في مؤسسات الثورة والمجتمع، واستعادة “المتقاعدين” من الثورة.
  7. حماية “الثوار” مبكراً بالمشروعية الشعبية قبل ملاحقتهم في المستقبل للتخلص منهم.
  8. اعتراف دولي يبدأ بالأقرب ثم الأقرب، ويفرض نفسه بالمشروعية الشعبية وبالجيش الموحد وبالمنطقية في التعامل.
  9. إقبال رؤوس الأموال للاستثمار وإعادة الإعمار.

لا شك أن تحقيق هذه الأهداف حالياً هو ضرب من الخيال، إلا أن وضعها نصب أعيننا والتفكير بالمكاسب التي ستعود على الثورة بوجودها، سيشجعنا ويلهمنا لنبدع لتجاوز العقبات التي تعترضها، والسعي الدؤوب من أجل تحويلها واقعاً معاشاً ولو تدريجياً.


[1] يفترض أن يكون التنسيق والتكامل بين الطرفين على أعلى مستوى خصوصاً بعد تحول الثورة إلى العسكرة.
[2] فصلنا بين العمل السياسي والهيئة السياسية لافتراضنا صعوبة تشكيل هيئة سياسية تمثل الثورة في المدى المنظور والقريب، حيث نعتقد أن هذا التقسيم لا يربط ممارسة العمل السياسي بوجود الهيئة السياسية، وإن كان وجود الأخيرة سيزيد من فعاليته، على عكس المؤسسات التي لا يمكن بناءها وتفعيلها “كمؤسسات دولة” من دون وجود الغطاء السياسي.
[3] يجب الملاحظة هنا أنه من الواجب أن ترتص صفوف الثوار بحيث لا يحكم على الهيئة السياسية أو مجلس قيادة الثورة بالخيانة والعمالة بسبب هذه المناورات/المبادرات. فلا بد من حماية ظهر هذا المجلس بل ودعمه بكل السبل لكي يتفرغ وهو مطمئن لمواجهة الخصم فيبدع في المناورات السياسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى