تجارة المخدرات في سوريا؛ ورقةٌ لإعادة تدوير نظام الأسد
تقرير تحليلي من إعداد الوحدة المجتمعية
عُرفت سوريا قبل عام 2011 بكونها معبراً لتجارة المخدرات القادمة من أفغانستان وإيران؛ فقد نشطت شبكات التهريب التي تشرف عليها شخصيات مقربة من نظام الأسد تحت غطاءٍ من بعض الفروع الأمنية، وأُنشئت أيضاً ورشاتٌ لتصنيع المخدرات ظلّ إنتاجها محدوداً وموجهاً للاستهلاك المحلي[1].
ومع انطلاق الثورة السورية انخرط العديد من تجار المخدرات ومهرّبيها في عمليات قمع المتظاهرين، وأسسوا لاحقاً مليشيات مسلحة شاركت في العمليات العسكرية لصالح نظام الأسد، وقد بدأ الحديث عن تزايد نشاط تجارة المخدرات منذ عام 2013؛ إذ أصبحت أحد مصادر تمويل العمليات العسكرية والمليشيات[2].
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتورط فيها نظام الأسد بتجارة المخدرات؛ فقد سبق له أن استغل الأوضاع الأمنية خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وأدار تجارة المخدرات التي جنت منها شخصيات عسكرية وأمنية مقربة من نظام الأسد أرباحاً هائلة وأسهمت في تغذية النزاع[3].
وبُعيد اتفاق الطائف وانتهاء أعمال العنف في لبنان استثمر نظام الأسد ملف تجارة المخدرات مرة أخرى؛ إذ إنه – لتلميع صورته – بدأ بتنفيذ مداهمات عالية المستوى استطاع من خلالها ضبط الأوضاع في لبنان في نهاية عام 1997، ثم تمكن من إقناع الإدارة الأمريكية بإزالة سوريا من قائمتها لدول المخدرات، وبمنحه حق وصول تجاري للصادرات الأمريكية واستثمارات البترول الأمريكية، مقابل تخلّي سوريا عن أسلحة الدمار الشامل ومقابل التحرر الاقتصادي، واحتمال عقد صفقة سلام بين سوريا وإسرائيل[4].
من منطقة عبور إلى مركز إنتاج وتصنيع:
بدأت سوريا بتصدير الكبتاغون عام 2013، بالتزامن مع انكماش اقتصادها الرسمي بسبب الحرب والعقوبات الاقتصادية والفساد داخل نظام الأسد، وتحولت مصانع الكيمياويات في مدينتي حلب وحمص إلى مصانع لهذه الأقراص، وقد أفادت المصادر أن قوات الأسد والمليشيات الأجنبية التابعة لإيران استخدمت المخدرات -لاسيما الكبتاغون- مع عناصرها، خاصة في الصفوف الأمامية؛ لتشجيعهم على الصمود، والتغلب على الخوف خلال المعارك؛ مما نشّط تجارة المخدرات في تلك الفترة[5].
وتشير دراسة صادرة عن مركز التحليلات العملياتية والأبحاث COAR إلى أن حجم المواد المخدرة القادمة من سوريا والتي تمت مصادرتها في الأعوام 2013- 2015 زاد 4-6 أضعاف مقارنة بما كانت عليه عام 2011، ثم انخفض في العامين التاليين اللذين شهدا أعنف العمليات العسكرية التي شنّها نظام الأسد لاستعادة المناطق الخارجة عن سيطرته (الشكل1).
الشكل 1: كمية المخدرات السورية التي تم اعتراضها خلال عمليات التهريب مقدرة بالكيلو غرام
ومع استعادة نظام الأسد معظم المناطق الخارجة عن سيطرته عام 2018 انتقلت تجارة المخدرات إلى مرحلة جديدة؛ فقد ارتفع حجم المخدرات المصادرة القادمة من سوريا في الأعوام 2018-2020 ما بين 6-21 ضعفاً مقارنة مع عام2011، وتزايدت أعداد مراكز وورشات التصنيع المحلي للمخدرات بهدف التجارة، وازدادت أيضاً عمليات التهريب ونقل المخدرات القادمة من لبنان أو من إيران، وكذلك عدد الشحنات التي تم اعتراضها، وأصبح إخفاء شحنات المخدرات أيضاً أكثر تطوراً من الناحية التقنية[6].
وتشير دراسة محلية إلى أنها رصدت 50 موقعاً حالياً لتصنيع المخدرات في سوريا؛ إذ يوجد قرابة 14 مركزاً لتصنيع الكبتاغون، و12 مركزاً لتصنيع الكريستال ميث[7]، و23 مركزاً لتصنيع الحشيش. وقد استطاع نظام الأسد اختراق المناطق الخارجة عن سيطرته مستغلاً حالة الضعف الأمني، وقام بتجنيد بعض الخلايا وإنشاء الشبكات التي تروّج وتصنّع المخدرات، والتي تقوم أيضاً بجمع المعلومات وفق ما كشفه بعض أفرادها بعد القبض عليهم[8] (الجدول 1).
نوع المادة المخدرة | أماكن التركز | مناطق تحت سيطرة | |||
“حزب الله” | قوات النظام | قوات قسد | قوات المعارضة | ||
الكبتاغون | محافظة حلب واللاذقية، والحدود السورية اللبنانية | 5 | 8 | 1 | |
الكريستال ميث | في محافظتي درعا والسويداء، ريف دمشق والحدود السورية اللبنانية | 5 | 5 | 3 | |
الحشيش | محافظة درعا وريف دمشق والحدود السورية اللبنانية، وريف حلب وإدلب | 7 | 9 | 3 | 4 |
الجدول 1: أماكن وأعداد ورشات تصنيع المواد المخدرة وفقاً لدراسة مركز جسور
تُغادر المواد المخدرة سوريا – خاصة شحنات الكبتاغون – متجهة إلى ثلاث وجهات رئيسة، هي: شمال إفريقيا، وشبه الجزيرة العربية، وأوروبا. حيث تشير الأدلة المتوفرة إلى أن أوروبا تشكل الآن محطة عبور للمواد المخدرة المتجهة إلى أسواق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا[9].
الشكل 2: خريطة تجارة الكبتاجون الإقليمية
الأثر الاقتصادي لتجارة المخدرات:
من المعروف أن نظام الأسد بعد أن بسط سيطرته على الكثير من المناطق منع أهلها من العودة إليها، وأصبحت بعض تلك المناطق تحت نفوذ المليشيات الداعمة له وإدارتها؛ فقد سيطر “حزب الله” على المناطق الحدودية في ريف حمص وريف دمشق كالقصير وسهل الزبداني ومناطق القلمون، واستثمر أرضها الخصبة في زراعة الحشيش، بدل أن يسمح لأصحابها باستثمارها في مشاريع زراعية تؤمّن المواد الغذائية اللازمة.
ومع الانهيار الاقتصادي الذي تشهده سوريا نتيجة سياسات نظام الأسد فقد تراجعت الأنشطة الاقتصادية التقليدية لصالح تنامي أنشطة تصنيع المخدرات الذي أصبح قطاعاً مربحاً، تعود عائداته إلى جيوب أولئك المرتبطين بنظام الأسد وحلفائه الأجانب وأمراء الحرب الجدد[10].
ومن جهة أخرى تمت مكافأة العديد من المتورطين في إدارة شبكات التجارة، وأصبح عدد منهم أعضاء في “مجلس الشعب” بدعم من النظام، وهو ما أمّن لهم حصانة سياسية من شأنها أن تسهّل أعمالهم غير القانونية[11]، كما شملت مراسيم العفو العديد من المتورطين في جرائم الاتّجار بالمخدرات وتم إطلاق سراحهم[12]، فيما لا يزال آلاف معتقلي الرأي والمعتقلين السياسيين مغيبين في السجون لا معلومات عنهم[13].
وقد كشف تحقيق لصحيفة “نيويورك تايمز” أن معظم عمليات إنتاج وتوزيع المخدرات تتم بإشراف الفرقة الرابعة المدرعة في جيش نظام الأسد، وهي قوة نخبة يقودها ماهر الأسد، الأخ الأصغر لبشار الأسد وأحد أكثر الشخصيات نفوذاً في سوريا[14]، كما ينخرط في هذه التجارة مجموعة رجال أعمال يتمتعون بصلات وثيقة بنظام الأسد وميليشيا “حزب الله” اللبنانية، وأعضاء آخرون من أسرة الأسد يحظون بحماية نظام الأسد في ممارسة الأنشطة غير المشروعة؛ وفق تحقيق لصحيفة “تايمز” البريطانية استند إلى إفادات مسؤولين أمنيين في عشر دول وخبراء في تجارة المخدرات[15].
وقد استفادت هذه الشبكة من كل إمكانيات سوريا؛ سواءٌ الإمكانيات البشرية، وتحويل معامل الأدوية إلى ورشات للتصنيع[16]، واستخدام المرافق والمخازن والمرافئ المتصلة بممرات الشحن في البحر الأبيض المتوسط، وطرق تهريب برية إلى الأردن ولبنان والعراق خضعت لحماية أمنية من الدولة[17].
كما أقيمت مراكز تصنيع جديدة للكبتاغون في مصانع صغيرة مقامة في هنغارات حديدية أو في فيلات مهجورة، تخضع لحراسة أمنية من قبل جنود النظام، تُصنع فيها الحبوب بآلات بسيطة، فيما وُضعت أمام منشآت أخرى لافتات تفيد بأنها مواقع عسكرية مغلقة؛ وفيها يتم إنتاج نوعين من حبوب الكبتاغون: النوع الأول ذو الجودة المتدنية، وهو مخصص للاستهلاك المحلي، تُباع فيه الحبة الواحدة بدولار واحد. ونوع مرتفع الجودة مخصص للأسواق الخارجية تُباع الحبة الواحدة منه بـ 14 دولار[18].
ويُقدر حجم اقتصاد المخدرات السوري – خاصة قيمة تجارة حبوب الكبتاجون – في البلاد بما يقارب 16 مليار دولار أمريكي سنوياً، وهو ما يعادل 3 أضعاف ميزانية الحكومة السورية لعام 2022، وقد خَلُصت تحليلات مركز التحليلات العملياتية والأبحاث – (COAR) إلى أن السلطات في أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بصورة رئيسة صادرت ما لا يقل عن 173 مليون حبة كبتاجون (34.6 طن) و12.1طن من الحشيش المصدرة من سوريا في عام 2020، مقدراً القيمة السوقية لهذه الكمية المصادرة من حبوب الكبتاجون بما يقارب 3.46 مليار دولار أمريكي[19].
وقد تسببت عمليات تهريب المخدرات عبر الصادرات السورية الزراعية أو الصناعية بتوقف العديد من الدول عن استيراد المنتجات السورية واللبنانية، وهو ما حرم السوريين نتيجة سياسات النظام غير القانونية من مصدر للقطع الأجنبي كان يمكن أن يدعم الاقتصاد السوري المتهالك ولو بشكل جزئي.
جمعت تجارة المخدرات وتصنيعها الحلفاء (إيران ونظام الأسد و”حزب الله”) على مصلحة واحدة، الهدف منها إيجاد مصادر تمويل جديدة تسمح بالتهرب من العقوبات، والوصول الى أسواق جديدة، وإيجاد مصادر تمويل ذاتي للمليشيات، وتأمين قطع أجنبي[20].
المخدرات وسيلة لتطويع المجتمع:
على الرغم من أن المخدرات مُعدة للتصدير الخارجي؛ إلا أن نظام الأسد أغرق المجتمع السوري بمنتجاته ذات النوعية الرديئة، حيث لجأ الكثير من الناس لتعاطي المخدرات وسيلةً للهروب من اليأس وحالة انسداد الأفق والإحساس بالعجز والوضع الاقتصادي المتردي، فضمن نظام الأسد بذلك تدمير طاقات الشباب وعدم تكرار الاحتجاجات ضده.
وقد ركز نظام الأسد جهوده واستخدم المخدرات سلاحاً لزعزعة أمن المناطق الخارجة عن سيطرته؛ وذلك من خلال تجنيد بعض الخلايا هناك، سواءٌ في مناطق سيطرة المعارضة السورية أو في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية- قسد”[21]. وكذلك المناطق التي خرجت عن سيطرته في وقت سابق وتمكن من استعادتها، أو تلك التي لم يضمن ولاءها؛ فقد نشطت عصابات تهريب المخدرات في كل من محافظتي السويداء[22] ودرعا، وأصبحت هذه الخلايا مركزاً لنقل المعلومات، ولزرع المتفجرات، ولعمليات الاغتيال، فضلاً عن كونها وسيلة لزعزعة الأمن الاقتصادي والاجتماعي ومنع هذه المجتمعات من التعافي[23].
وفي المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الأسد أصبح انتشار حالات التعاطي والإدمان بين طلاب المدارس بكل مستوياتها أمراً شائعاً جداً، سواءٌ المدارس الإعدادية والثانوية وبعض النوادي الرياضية[24]، وانتقل الأمر ليصبح ظاهرة شائعة في الجامعات، لاسيما بين الطلاب في جامعة دمشق[25] وفي مدينتها الجامعية[26]، وسط غياب أي اهتمام حكومي حقيقي بضبط هذه الظاهرة وحماية الأطفال أو الشباب.
وتشير بعض الشهادات إلى أن ثمّة سياسة تسعى إلى توريط الأطفال والمراهقين بتشجيعهم على الإدمان بداية، عبر تقديم عينات مجانية لهم من قبل زملائهم المتورطين، ثم تحويلهم إلى مروّجين وبائعين، وتنتشر هذه الظاهرة بين الطالبات اللواتي يتم استغلالهن في عمليات النقل والترويج والبيع، بالإضافة إلى الاستغلال الجنسي[27].
وعلى الرغم من كل الادعاءات الحكومية حول قيامها بمداهمات وإلقاء القبض على بعض المروّجين فإن هذه العمليات تطال صغار المروّجين والمتورطين، فيما لم تقترب من الشخصيات والجهات التي تدير أو تحمي هذه التجارة، وغالباً ما يتم إطلاق سراح المتورطين والمروجين بعد مدة قصيرة ليعاودوا نشاطهم مرة أخرى[28].
وتشير الأخبار الواردة من مناطق نظام الأسد إلى سهولة الحصول على المخدرات بأنواعها كافة عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ يتم الأمر من خلال إرسال رسالة مشفرة على واتس أب، ومن خلالها يتم الاتفاق على مكان التسليم والشيفرة المطلوبة، وغالباً ما يكون مكان التسليم أحد الأكشاك القريبة من المدارس أو البقاليات العامة، كما أن خدمات التوصيل للعميل متاحة في بعض الحالات.
وقد انتشرت العديد من الأخبار التي تشير إلى أن عملية بيع المخدرات انتقلت إلى شكل علني؛ حيث إنها تُباع في دمشق على البسطات وفي أكشاك بيع الدخان[29] أو في الحدائق، ومن قبل بائعي الشاي والقهوة المتجولين المنتشرين في الطرقات تحت نظر وحماية بعض الفروع الأمنية[30].
الشكل 3: أحد الأكشاك التي تبيع المخدرات قرب المشفى الوطني في السويداء[31]
ومن جهة أخرى تحولت المخدرات إلى وسيلة غير مباشرة من وسائل تجنيد الشباب، خاصة مع المليشيات التابعة لإيران[32]؛ إذ يتم استغلال إدمان الشباب وعدم قدرتهم على تأمين الأموال اللازمة للمخدرات، وإغراؤهم بالرواتب ودفعهم للالتحاق بالمليشيات المحلية أو حتى التابعة لإيران؛ حيث إن الالتحاق بهذه المليشيات يمكن أن يكون البديل للشباب الذي يؤمّن لهم مورداً مادياً من خلال الإتاوات التي يتقاضونها على الحواجز أو عمليات السرقة أو التشبيح، كما أنها تؤمّن لهم حماية وبديلاً عن الالتحاق بعملية التجنيد الإجباري.
هذا؛ ويعاني المدنيون في المناطق التي تنتشر فيها المليشيات المتزعمة عمليات تجارة المخدرات من الاشتباكات المسلحة والخلافات التي تحصل بين الجماعات المختلفة أو التي تحصل مع حراس الحدود، والتي يكون المدنيون ضحية فيها؛ ففي مطلع العام 2020 شهدت منطقة القلمون الغربي قتالاً مسلحاً بين ميليشيات “حزب الله” وعناصر من “جيش الدفاع الوطني” نتيجة خلافات على أرباح مبيعات المخدرات والحشيش[33]، كما يعاني الكثير من سكان البلدات الواقعة على الحدود السورية الأردنية من تساقط الرصاص المتفجر نتيجة الاشتباكات بين حرس الحدود ومهربي المخدرات[34].
ومن الجدير بالذكر أن العديد من الجرحى الذين أُصيبوا في مناطق سيطرة المعارضة خلال السنوات السابقة التي كانت معظم تلك المناطق فيها محاصرة لم يحصلوا على الرعاية الطبية المطلوبة؛ مما تسبب لهم بحالة إدمان على الحبوب المسكنة قوية التأثير والتي كانت البديل الوحيد لتخفيف آلامهم، وقد تطور الأمر مع بعضهم من تعاطي المسكنات لتعاطي المخدرات أو المزج بينهما في محاولةٍ للتخفيف من آثار إصاباتهم[35].
وتغيب المراكز المختصّة بعلاج الإدمان عن مناطق سيطرة قوى الثورة المعارضة رغم ارتفاع حالات التعاطي بين مختلف الشرائح، نتيجة غياب اهتمام الداعمين بهذا الموضوع، إذ تقتصر مكافحة هذه الظاهرة على بعض جلسات التوعية، كما لا تتوفر منظومة واضحة للتعامل مع حالات الإدمان؛ فغالباً ما يتم معاقبة المدمنين بالسجن، دون أية توعية أو توجيه للمدمنين إلى نظام المعالجة، وهو ما يفسّر عودة المدمنين إلى تعاطي المواد المخدرة بعد خروجهم من السجن[36].
الآثار المتوقعة نتيجة تصاعد تجارة المخدرات في سوريا:
برع نظام الأسد في استخدام الكثير من المشاكل والقضايا المعقدة التي قام بصناعتها ورعايتها لصالحه، بهدف تحقيق المكاسب السياسية اللاحقة، ومن ذلك الحرب الأهلية اللبنانية وتجارة المخدرات خلال تلك الفترة، بالإضافة إلى ملف “الجهاديين” في العراق ثم ملف تنظيم “داعش”؛ ولذا فليس مستغرباً أن يستخدم نظام الأسد قضية المخدرات ورقةً جديدةً للتفاوض، ليقدم نفسه شريكاً وحيداً قادراً على ضبط واحتواء المشكلة التي أصبحت تهدد الأمن المحلي والإقليمي على حد سواء.
ولن يكون مستغرباً أن يستمر نظام الأسد في رعاية واستثمار هذه التجارة التي من شأنها تأمين سيولة نقدية، تُمكّن المتورطين فيها من الالتفاف على العقوبات الأمريكية المفروضة في قانون “قيصر”، إذ يُتوقع أن ترتفع عملية تصنيع المخدرات وتهريبها في السنوات القادمة لزيادة العائد المادي من جهة، ولإجبار الدول الإقليمية ودول الجوار على إعادة العلاقات مع نظام الأسد من أجل ضبط الحدود وإيقاف مرور هذه الشحنات من جهة أخرى.
أما على المستوى الداخلي السوري فإن تجارة المخدرات ستُطيل أمد النزاع في سوريا، وتُقوّض حكم القانون، وتُعرقل استعادة الأداء الاقتصادي المتكامل، لاسيما بعد أن تحولت الموارد المحلية والبشرية من الإنتاج المفيد إلى إنتاج المخدرات وتصديرها، فضلاً عن السمعة السيئة التي أصبحت تطارد الصادرات السورية، وعن إيقاف استقبال الصادرات السورية في العديد من الدول؛ وهو ما يعني حرمان الاقتصاد السوري من القطع الأجنبي لمدة طويلة.
ومع غياب أي تصور حكومي لإيقاف انهيار الاقتصاد السوري، وانشغاله بالأنشطة الاقتصادية غير القانونية يعيش ملايين السوريين ضمن دائرة الفقر والفقر المدقع؛ فقد باتت كل السلع الأساسية والخدمية غائبة، ويُتوقع في ظل سياسات نظام الأسد الاقتصادية أن تتفاقم حالة الاحتياج وترتفع معدلات الفقر والعوز، وتزيد معها معدلات الجرائم كالسرقة والخطف، حيث إن عائدات تجارة المخدرات تستقر في جيوب عائلة الأسد والمقربين منها وتُستخدم في إطالة أمد الصراع.
وبالتالي: ستتفاقم حالة الفقر والاحتياج، ويعلن “نظام الأسد” عجزه عن تحمل المسؤوليات، في محاولةٍ لاستقطاب المزيد من الدعم والمساعدات، وزيادة الادعاءات بأن هذا الانهيار الاقتصادي سببه العقوبات الخارجية، متجاهلاً دورها في تبديد موارد البلاد وتدمير الاقتصاد والبنية التحتية خلال السنوات الماضية.
ومن جهة أخرى، وفضلاً عن التبعات الاجتماعية التي يتحملها السوريون أنفسهم كفقدان الأمان وشيوع الفساد والارتزاق؛ فقد تحولت المدارس والجامعات في مناطق سيطرة نظام الأسد من مكان يفترض به أن يسعى لبناء الإنسان إلى مكان يتم فيها هدر طاقات الشباب وتدميرها، ويتم تبديد رأس المال الاجتماعي بشكل ممنهج، وتفريغ البلاد من الكفاءات نتيجة الاعتقالات والملاحقات الأمنية؛ وهو ما يغيّر شكل المجتمع الحالي وعلاقاته، ويجعل مستقبل سوريا قاتماً ما لم يتم اتخاذ إجراءات سريعة لاحتواء هذه المشكلة وإيجاد حلول لها على المستوى المنظور وبعيد المدى.
لقد أصبح الذكور الذين هم في عمر الخدمة العسكرية بالتحديد معتادين على تعاطي المنشطات -ومنها الكبتاجون- بعد تعاطيها خلال العمليات العسكرية، وأصبحت المواد المخدرة المصنعة بتكاليف زهيدة الآن من بين المسكنات القليلة المتاحة للسوريين الذين يواجهون فقراً طاحناً متعدد الأبعاد مع انهيار الدولة من حولهم، وانتقل الكثير من الشباب و المراهقين والنساء من كونهم ضحايا ليصبحوا متورطين ومروجين؛ حيث إن التعامل مع هذه الفئات سيكون من أصعب المشاكل التي يجب على السوريين التحضير لها ، كما ستكون من الفئات التي تقاوم أي عملية تغيير وانتقال سياسي مستقبلي.
يجب الإقرار بأن تعاطي المخدرات في هذا السياق هو قضية اجتماعية-سياسية متعددة الأوجه، ولها جذورها في العنف والفشل المؤسسي والأزمة الإنسانية واليأس الشخصي، وقد تكون المقاربات المعتمدة على العناية بالصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي منطلقات مهمة لمواجهة الأسباب الجذرية الدافعة لتعاطي المخدرات؛ ولكن الأهم من ذلك سيكون استعادة فرص سبل العيش، ووجود مخرج من اليأس الذي أصبح علامة الحياة اليومية للكثير من السوريين[37].
وتشير المعطيات أن مشكلة المخدرات لم تعد مشكلة محلية أو إقليمية تغرق المجتمعات المجاورة لسوريا فحسب، بل أصبحت الدول الأوروبية إحدى الوجهات الثلاث الرئيسة المستهدفة في هذه التجارة، وهو ما يؤكد نمو هذه الصناعة المحلية وانفتاحها على أسواق جديدة، وانتقالها لتصبح أداة عابرة للحدود تهدف إلى زعزعة أمن المجتمعات وزيادة مشاكلها وتخريب طاقاتها لتحصيل مكاسب سياسية، مع كون المال الناتج عن هذه الأعمال غير القانونية يُصنف ضمن المال الأسود الذي يُستخدم لدعم الإرهابيين والعمليات الإرهابية؛ وهذا ما يوحي بإمكانية ارتفاع وتيرة الأعمال الإرهابية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وحتى في أوروبا مستقبلاً.
إن البدء بحل سياسي لا يكون لنظام الأسد دورٌ فيه هو السبيل الأساسي لإنقاذ انزلاق سوريا، وحماية شبابها من أن يتحولوا إلى مرتزقة في مشروع إيران العابر للحدود؛ فقد أثبت نظام الأسد منذ سنوات أنه نظام غير قابل للإصلاح، كما أنه نظام قادر على أن يتخطى الحدود الإنسانية والقانونية ويلعب على التحالفات، ويستثمر في المشكلات وتصديرها إلى دول الجوار بما يخدم مصلحته، ولو كان ذلك على حساب ملايين السوريين.
ومن جهة أخرى لا تبدو العقوبات الاقتصادية على هذه الجرائم قادرة بمفردها على تحجيم نظام الأسد ومنعه من التمادي، ما لم تتحول هذه العقوبات إلى أدوات ضغط حقيقية تُجبر نظام الأسد على الانخراط في حل سياسي حقيقي، ينطلق من مبادئ جنيف ومن القرارات الأممية التي تركز على عملية انتقال سياسي حقيقي يعالج جذور المشكلة لا عوارضها.
لقد خرج السوريون في 2011 وقدموا الكثير من التضحيات من أجل أن تتحول بلادهم إلى نموذج يُحترم فيه الإنسان وتُصان حقوقه، ويتحول إلى فرد فاعل ومؤثر ومنتج؛ إلا أن مسار الأحداث والتدخلات العسكرية الخارجية حوّلت الصراع إلى مكان لتصفية الحسابات الدولية، كما أن عجز المجتمع الدولي عن التدخل بفعالية وتأثير وجمود المسار السياسي لسنوات حوّل السوريين إلى ضحايا وزاد معاناتهم، ومكّن نظام الأسد من استغلالهم بشكل كبير.
يحتاج السوريون إلى حشد كل الجهود من أجل إيقاف نظام الأسد ومنعه من ارتكاب المزيد من الجرائم؛ لأن بقاءه بعيداً عن دائرة المحاسبة يعني استمراره في تلك الجرائم وازدياد عدد ضحاياه، وتشجيع غيره من الأنظمة الديكتاتورية على اتباع السياسة نفسها، وتحميل المجتمع الدولي أعباءً إضافية للتفاعل مع المشاكل المتجددة واحتوائها؛ وهو ما يقوّض السلام العالمي، ويجعل عملية التعافي والاستقرار في سوريا أمراً صعب المنال.
لمشاركة الورقة: https://sydialogue.org/ksmu
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة
2 تعليقات