روسيا ونظام الأسد؛ تحالف استراتيجي وخلافات تكتيكية
عن محركات العلاقات الروسية مع نظام الأسد في ضوء تقلبات البيئة السياسية الدولية
ملخص تنفيذي:
تسعى روسيا عبر استثمارها في التحالف مع نظام الأسد إلى تثبيت نفسها لاعباً أساسياً في الساحة الدولية، وربطت ذلك بصراعها القديم المتجدد مع الغرب؛ فقد أخذت روسيا دوراً محورياً معترفاً به دولياً في ترتيب مسار الحل السياسي في سوريا، وهو ما يعدُّ خطوة متقدمة نحو هدفها الاستراتيجي المتمثل في العودة إلى الساحة الدولية ضمن نظام متعدد الأقطاب يكسر التربع الأمريكي على عرش النظام الدولي، وذلك عبر البوابة السورية واستخدام هذه البوابة للتأثير في المعادلات الإقليمية والدولية.
تُولِي روسيا أهمية كبيرة لملف “الحل السياسي” السوري؛ نظراً لتصنيفها سوريا جزءاً من استراتيجية أوسع لمقايضتها في قضايا أكثر أهمية وحيوية بالنسبة إليها، واستطاعت بجهودها في هذا الملف حرف المسار السياسي لصالح سرديتها ورؤيتها للحل النهائي في سوريا، مستفيدةً من التماهي والتغاضي الدولي عن طروحاتها، وهي تدعم تحركات نظام الأسد في مسار “الحل السياسي”.
لكن العلاقة بين الجانب الروسي ونظام الأسد شهدت تجاذباً واضطراباً عندما تعلق الأمر بمقتضيات “الحل السياسي” وفق الرؤية الروسية؛ إذ لا يبدو أنَّ نظام الأسد يشارك روسيا حرصها على تمرير رؤيتها وتثبيت مصالحها في إطار جهودها لتحويل مكاسبها العسكرية إلى “تسوية سياسية” شاملة على طريقتها الخاصة، بهدف الحصول على المكاسب الاقتصادية والاستراتيجية، ويحاول نظام الأسد اللعب على التناقضات والتحرك ضمن الهوامش المتاحة له، والحفاظ على حيوية العلاقة مع الروس عبر استخدامه موارد سوريا الاقتصادية وثرواتها الطبيعية والباطنية وسيلة لإرضائهم، دون التماهي التام معهم في رؤيتهم لـ”الحل السياسي”، كما يقوم نظام الأسد بالانحياز السافر لروسيا في المحافل الدولية، وصولاً إلى الانخراط معها في حروبها وتدخلاتها العسكرية من خلال المرتزقة كما هو الحال في أوكرانيا، ونجح نسبياً في رهن مصالح روسيا الاستراتيجية في سوريا والمنطقة ببقائه واستمراره في الحكم.
في الوقت ذاته قد يشكل ذلك قلقاً محدوداً لموسكو؛ نظراً لما سيؤديه ذلك من محاولة نظام الأسد توسيع هوامشه الاستقلالية الخاصة بعيداً عنها، لاسيما وأنَّ روسيا تفرض بعض القيود على حرية حركة نظام الأسد وإيران في سوريا من جهة تقديم روسيا نفسها ضامناً أمام القوى الدولية والإقليمية الأخرى، الولايات المتحدة وتركيا والأردن و”إسرائيل”، التي تربطها بها تفاهمات أو اتفاقيات معينة، وبالتالي فإنَّ تجاوز مصالح روسيا الاستراتيجية في سوريا عبر تهديد تفاهماتها السياسية مع القوى المنخرطة، أو تمادي نظام الأسد بفسح المجال لإيران وتمكينها من مواقع حساسة على حساب روسيا يشكّل خطوطاً حمراء تُولِيها روسيا أهمية قصوى.
ومن ثم غدت روسيا أكثر بعداً عن ممارستها أي ضغط على نظام الأسد لتقديم تنازلات بسيطة في مسار “الحل السياسي” المتمثل حالياً باللجنة الدستورية، أو حتى الضغط على نظام الأسد للابتعاد عن إيران وفق رؤية “الإسرائيليين” وبعض الدول العربية، خاصة بعد التطورات الأخيرة التي أعقبت الحرب الروسية ضد أوكرانيا.
مقدمة:
مثّل التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا في 30 أيلول من العام 2015م أحد أهم العوامل التي حوّلت مسار الثورة السورية لصالح نظام الأسد[1]؛ إذ نجحت موسكو عبر هذا التدخل في تحقيق انتصارات عسكرية لصالح النظام، وتمكّنت من زيادة مساحة سيطرته على طول الجغرافية السورية. وعلى الرغم من نجاح روسيا في تثبيت أركان نظام الأسد ومنع سقوطه عسكرياً فإنها فشلت في التوصل إلى تسوية سياسية شاملة معترف بها دولياً تكرّس دورها في الساحة السورية، وتترجم انتصارها العسكري إلى انتصار آخر سياسيٍّ يحفظ لها مصالحها الاستراتيجية في سوريا، مما يعني عدم قدرتها في الذهاب نحو إعادة الإعمار بعد العمل على إعادة تعويم الأسد، بالتزامن مع توتّر علاقتها مع الولايات المتحدة بعد فترة من “التنسيق غير المباشر” في سوريا[2]، ولاسيما بعد الضغوطات الاقتصادية المتراكمة على موسكو بسبب تفشي وباء كورونا الذي أرهق الاقتصاد الروسي المكبّل أصلاً بعقوبات الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الأمريكية بشكل أكبر من أي وقت مضى، وقد تصاعدت وتيرتها تحت وطأة تطورات الأوضاع في أوكرانيا[3]، فضلاً عن عقوبات أمريكية أخرى سابقة تنصّ على فرض عقوبات على نظام الاسد وداعميه عبر “قانون قيصر”.
تمرّ السياسة الروسية في سوريا بالعديد من العقبات والمتغيرات التي تؤّثر سلباً أو إيجاباً في طبيعة تفاعل موسكو مع القوى الفاعلة الأخرى في الملف السوري، كالولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا وحتى نظام الأسد؛ مما قد يفتح المجال لحدوث تغيرات وتحولات في الرؤية الروسية حيال طبيعة الحل النهائي في سوريا بما يضمن لها مصالحها الاستراتيجية، وهو ما قد ينعكس بطبيعة الحال على علاقتها مع نظام الأسد، ولا سيما بعد محاولات نظام الأسد القيام ببعض المناورات في الهوامش المتاحة له، ليصطدم بالموقف الروسي، ولتمرّ العلاقة بينهما بحالة من التوتر لم تدم طويلاً، والتي كشفت عن خلافات بين الطرفين، وربما تباعد في مصالحهما ورؤيتهما للحل النهائي في سوريا، مما يفتح باب التساؤل حول مدى مرونة روسيا في الضغط على نظام الأسد أو الدفع تجاه تغيير حقيقي فيه، أو تقديم تنازلات معينة في حال تعارضت مصالحها مع مصالحه.
ومع ما تشهده العلاقات الروسية مع الولايات المتحدة والغرب من توتّر كبير بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط الماضي، بعد إعلان اعترافها باستقلال جمهوريتَي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتَين شرقي أوكرانيا تتزايد احتمالات انعكاس ذلك على قواعد الصراع في سوريا، واستخدام الملف السوري مجدداً ورقة شدٍّ وجذب وضغط بين تلك القوى، الأمر الذي قد يؤذِن بحدوث بعض التغيرات على طبيعة العلاقة الجامعة بين نظام الأسد وروسيا، لتدخل مرحلة جديدة قد تختلف عن المراحل السابقة في تاريخ العلاقة بين الطرفين، متأثرة بتغير البيئة الدولية تجاه روسيا وبالصراع الغربي الروسي في أوكرانيا.
سياق الصعود الروسي في عهد بوتين والتدخل الروسي في سوريا:
أدّى انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م وتفّرقه بين جمهوريات مستقلة إلى حدوث انهيارات متلاحقة على كل النواحي الاقتصادية والثقافية والسياسية، وقد رافق ذلك حالة تبعية للغرب تزامنت مع اكتساح السياسات الليبرالية الغربية جميع نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية[5]، الأمر الذي ترتب عليه مزيد من التراجع في الدور الروسي على الصعيد العالمي. وقد عُدّ مجيء بوتين إلى السلطة في روسيا عام 2000م حدثاً مفصلياً غيّر التوجهات السياسية في البلاد؛ فعلى الصعيد الداخلي استطاع بوتين إعادة التماسك السياسي والاقتصادي في روسيا عبر دعم سلطة الدولة المركزية وتشديد قبضتها على المؤسسات الاقتصادية والسياسية، ثم توجه خارجياً نحو تعزيز دور روسيا الإقليمي والدولي عبر تبنّي سياسات مزاحمة لنفوذ الولايات المتحدة الأمريكية، رافضاً مفهوم “العالم أحادي القطب”؛ الذي تتربع الولايات المتحدة على عرشه كقوة عظمى وحيدة، إذ اتهم بوتين الولايات المتحدة في مؤتمر أمني بميونيخ في العام 2007م بأنها تحاول فرض إرادتها على العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وبأنها “تسعى لإثارة سباق تسلح نووي جديد من خلال تطوير دفاعات صاروخية باليستية وتقويض المؤسسات الدولية وجعل الشرق الأوسط أكثر اضطراباً”[6]، وهو ما فُسّر على أنّه إعلان عن تحوُّل في توجهات روسيا الاستراتيجية المستقبلية لاستعادة دورها ونفوذها في النظام الدولي، والاضطلاع بدور عالمي جديد بعد خسارة موقعها العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي[7]، يتجاوز الأقاليم المتاخمة سواءٌ أكانت آسيوية أم أوروبية، وسط الحديث عن تأثّر بوتين الواضح بـ”العقيدة الأوراسية” التي تنظّر للفضاء الأوراسي الممتدِّ بين آسيا وأوروبا كاتحاد سياسي لتحقيق التكامل والتنسيق في مواجهة الهيمنة الأمريكية الغربية وتطوير دور روسيا في عالم متعدد الأقطاب، وبتحالف مع إيران وأنظمة حليفة كنظام الأسد في سوريا ونظام معمر القذافي سابقاً في ليبيا، وهو ما نظّر له منظّرون من أمثال (ألكسندر دوغين) بصورة ممنهجة[8].
وضمن هذا السعي وضمن جهود بوتين في تحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في استعادة المكانة الدولية الروسية في النظام الدولي يمكننا إدراج حرب روسيا في جورجيا عام 2008م، وضم روسيا لشبه جزيرة القرم في أوكرانيا عام 2014م، ودعم الانفصاليين شرق أوكرانيا، وما تبعها من تدخل عسكري روسي مباشر في سوريا إلى جانب نظام الأسد عام 2015م، وأخيراً ما نشهده حالياً من اعتراف روسي بالجمهوريتَين الانفصاليتَين دونيتسك ولوغانسك، ثم إعلان الغزو الشامل على أوكرانيا.
الدوافع الروسية للتدخل العسكري في سوريا:
لا يمكن اجتزاء الدور الروسي في سوريا والدعم الكبير لنظام الأسد عن الهدف الاستراتيجي الأوسع لروسيا على الصعيد الدولي؛ حيث إن سوريا كما يبدو بالنسبة لروسيا تُعدّ بوابة لها لإعادة تموضعها على المستوى الدولي قوة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأمريكية وتفردها في النظام الدولي، في مواجهة التجاهل والاستخفاف الغربي بدور روسيا وفاعليتها على الساحة العالمية[9]، ومن ثم توظيف الصراع في سوريا بوصفه ورقة تفاوضية مع الغرب والولايات المتحدة فيما يتعلق بملفات خلافية إشكالية، وتعزيز الوضع الدبلوماسي لروسيا؛ بحيث أصبح اتخاذ أي قرار في سوريا دون مشاركتها صعباً، وقد ازدادت فعلياً الاتصالات الدبلوماسية بين الغرب وروسيا منذ التدخل الروسي في سوريا بعد مرحلة من الجمود، ولا سيما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وضمِّ شبه جزيرة القرم[10]، والرغبة الروسية الفعلية في الاستفادة من وجودها في سوريا في سبيل انتزاع اعتراف دولي بدورها العالمي، فضلاً عن تحقيق روسيا مكاسب اقتصادية وجيوسياسية وعسكرية استراتيجية انطلاقاً من الجغرافية السورية[11]، كتعزيز الحضور الروسي على ضفاف البحر المتوسط عبر قاعدتَي حميميم وطرطوس البحرية (الوصول للمياه الدافئة)، واستخدام تموضعها في سوريا للتأثير في المعادلات الإقليمية والدولية.
كما أنَّ للعلاقة التاريخية التي تجمع نظام الأسد بروسيا منذ حقبة الاتحاد السوفيتي سياسياً وعسكرياً واقتصادياً دوراً مهماً في تركيز روسيا اهتمامها على تمتين علاقتها بنظام الأسد وعدم التفريط به، ومسارعتها في التدخل عسكرياً إلى جانبه؛ لِـمَا يمثّله النظام من كونه أحد أهم حلفاء روسيا التاريخيين المتبقيين من الحقبة السوفيتية في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما عزّزه قدوم بوتين إلى سدّة الحكم في روسيا وتحول المقاربة السياسية الخارجية لروسيا لتأخذ دوراً فاعلاً في الساحة الدولية، حيث شهدت العلاقة بين الجانبين تحسّناً ملحوظاً تمثّل في توقيعهما بعد العام 2005م قرابة 43 اتفاقية ومذكرة تفاهم، شملت الاتفاقات مجالات عدة، منها: الدفاع والصناعة والتجارة والسياحة والثقافة والطاقة، وقُلصت الديون السورية لروسيا، وتم من خلال اتفاقية شطب 73% من الديون المستحقة البالغة 13.4 مليار دولار مقابل موافقة النظام على تحويل قاعدة طرطوس إلى قاعدة عسكرية ثابتة للسفن الروسية[12].
ويمكن من خلال الجدول الآتي الإطلالة سريعاً على أبرز المصالح والحسابات الروسية الاستراتيجية والتكتيكية التي تقف وراء تدخل روسيا العسكري لصالح نظام الأسد:
الحسابات الروسية وراء تدخلها العسكري في سوريا: |
1. ردّ الاعتبار لمكانة روسيا الدولية، وتأكيد دورها العالمي بوصفها طرفاً أساسياً في معالجة القضايا الدولية والإقليمية. |
2. توظيف وجودها في سوريا بوصفه ورقة تفاوضية في علاقتها مع الغرب والولايات المتحدة بخصوص ملفات إشكالية، كالعقوبات الاقتصادية الغربية وملف شبه جزيرة القرم. |
3. التأثير في المعادلات الطاقوية الإقليمية والعالمية، باعتبار أن سوريا تشكل واحدة من ساحات التنافس على خطوط الغاز الدولي؛ إذ خشيت روسيا فعلياً (قبل تدخلها المباشر في سوريا) من مشروعات نقل الطاقة، النفط والغاز المسال، من منطقة الشرق الأوسط باتجاه أوروبا عبر سوريا؛ بما يضعف من حصتها التصديرية لأوروبا باعتبار أنَّ تصدير الغاز الروسي هي ورقة ضغط سياسي على أوروبا[13]. |
4. استخدام سوريا كقاعدة روسية مركزية للتوسع والتمدد في الشرق الأوسط، وتقويض النفوذ الغربي في المنطقة. |
5. مصالح اقتصادية؛ وذلك للسيطرة على الاستثمارات في المشاريع الاقتصادية المتنوعة لا سيما النفط والفوسفات. |
6. مكاسب عسكرية؛ حيث استخدمت روسيا الساحة السورية لتعزيز صادراتها من الأسلحة واختبارها وتطويرها[14]. |
7. مكاسب جيوسياسية؛ وذلك بسعيها لتعزيز تموضعها على ضفاف البحر المتوسط[15]. |
8. توجس روسيا من الثورات العربية عموماً والثورة السورية على وجه الخصوص، ورأت فيها “حيلة غربية للتمدد بدعوى الديمقراطية”، وهو ما يمكن أن يطال مستقبلاً الأنظمة الموالية لها في جوارها الحيوي في دول آسيا الوسطى[16]. |
ومن هنا يمكن القول: إنَّ الدوافع الروسية الكامنة وراء تدخلها العسكري في سوريا ودعمها لنظام الأسد منح روسيا رافعة قوية في علاقاتها التنافسية مع الغرب ضمن حساباتها الاستراتيجية الأوسع، إضافة إلى تحصيلها مكاسب متعددة على أصعدة مختلفة؛ إذ تقتضي المصلحة الروسية وجود نظام سياسي متماسك يضمن لها المكتسبات التي حققتها في سوريا[17]، فضلاً عن تشكّل رؤية روسية عميقة تدعم وتؤيد الأنظمة السلطوية والانقلابات العسكرية على المستوى العالمي، وتعادي التحول نحو النظم الديمقراطية باعتبار ذلك “حيلة غربية” للنيل من روسيا والحد من نفوذها الإقليمي والعالمي، وعدّ أي محاولة للوصول إلى نظام ديمقراطي مجرد دعم لنفوذ الولايات المتحدة وحلف الناتو[18]، وتميل روسيا إلى تكريس واقع عدم جواز استخدام القوة ضد الأنظمة الديكتاتورية مهما تمادت في انتهاك حقوق الإنسان، والإعلاء من شأن القوانين الدولية الحالية التي تركّز على مبادئ “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول” و”سيادة الدولة”[19]. وبهذا تلاقت مصالحها مع نظام الأسد الذي استطاع إظهار نفسه كضامن أصيل للمصالح الروسية الاستراتيجية في سوريا والمنطقة[20]، في محاولته تثبيت حكمه، ورهنت مصالحها الاستراتيجية ببقاء نظامه في الحكم.
التغيرات السياسة الروسية في سوريا، وتأثيرها في التفاعل مع نظام الأسد:
ينقسم الدور الروسي في سوريا إلى مراحل عدة تباينت فيها طريقة تفاعل روسيا مع نظام الأسد، تبعه تغيّر في الأدوات والأهداف المرحلية، وفقاً لطبيعة وحجم انخراطها في الملف السوري؛ فقد وفّرت روسيا بدايةً حماية سياسية لنظام الأسد ودعماً كبيراً في المحافل الدولية أحبطت من خلالها مشاريع قرارات تدين نظام الأسد عبر استخدامها حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن لمنع إدانته[21]، أو عبر تفاهمات مع أطراف دولية؛ فعلى سبيل المثال: تحركت روسيا لإيقاف ضربة أمريكية متوقعة تستهدف نظام الأسد في العام 2013م بعد محادثات مكثفة مع الولايات المتحدة انتهت بتوقيع اتفاق يقضي بنزع الأسلحة الكيميائية من النظام[22]، فضلاً عن الدعم العسكري والاقتصادي متعدد الجوانب لنظام الأسد، لتشرع روسيا في العام 2015م بالتدخل العسكري المباشر في سوريا بتغاضٍ ضمني غربي وبالتنسيق مع إيران[23]، للحيلولة دون سقوط النظام بعد الانهيارات العسكرية المتسارعة التي عصفت بقواته في مناطق استراتيجية في سوريا آنذاك[24].
ويبدو أنَّ هامش المناورة لدى نظام الأسد وتعامله وفقاً لحساباته الخاصة البعيدة عن إملاءات وضغوطات حلفائه الروس أخذ بالتناقص تدريجياً نتيجة ثقل وزن الفاعل الروسي وزيادة حدّة انخراطه سياسياً وعسكرياً في الملف السوري، لاسيما بعد التدخل العسكري المباشر، وبسبب جهود موسكو الرامية لتحقيق مصالح روسيا الاستراتيجية وتكريس نفوذ متداخل طويل الأمد في سوريا، عبر محاولة إحكام السيطرة على مفاصل المؤسسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والثقافية في سوريا من جهة[25]، والدخول في تفاهمات واتفاقيات مع أطراف إقليمية ومحلية على حساب توجهات نظام الأسد ومصالحه من جهة أخرى، وهو ما أدّى بطبيعة الحال إلى تردّي مساحة الدور السياسي لنظام الأسد وقدرته على انتقاد الروس أو رفض أجندتهم التي تناقضت أحياناً مع أجندته وحساباته الخاصة؛ لاسيما تلك المتعلقة بتحركات روسيا لإحداث تغييرات في بنية المؤسسات السورية، والتوغل داخل أروقة مؤسسات النظام العسكرية والاقتصادية والثقافية والتحكّم تدريجياً في قراراتها وأجنداتها.
لكن هذا التراجع بدأ بالانحسار مع تحول ميزان القوة الميدانية لصالح نظام الأسد (بدعم روسي إيراني)؛ فقد أصبح النظام أكثر قدرة على التفلّت من التزاماته تجاه الكرملين وتقديراته الخاصة في سوريا، لتأخذ العلاقة بين الجانبين مساراً يشوبه ظهور بعض الخلافات “التكتيكية” بشكل دوري أسهمت في بعض الأحيان في توتر العلاقات بين الطرفين، نتيجة رغبة روسيا في إبداء نظام الأسد مرونة في مفاوضات “الحل السياسي” التي ترعاها[26]، وقضايا أخرى تتعلق بالامتيازات الاقتصادية وإعادة الديون السورية والعلاقة مع إيران[27].
قدرة نظام الأسد على تجاوز حليفه الروسي:
يمتلك نظام الأسد فيما يبدو قدرةً محدودةً نسبياً على المناورة، وهامشاً يمكّنه من تجاوز حليفه الروسي في ملفات معينة، على الرغم من الضغوط الروسية التي قد تجبره على الانصياع والوقوف عند مطالب روسيا وإملاءتها في ملفات أخرى داخلية وخارجية؛ حيث يُبدي نظام الأسد مثلاً تخوفاً وامتعاضاً من التحركات الروسية الداعمة لبعض الشخصيات والتيارات السورية، ومحاولتها التمدُّد داخل أجهزته العسكرية والأمنية[28]، ويرفض ـــ بدعمٍ إيراني ــــ التجاوب إيجابياً وتقديم أي من التنازلات الشكلية والترقيعية للمعارضة السورية في الملف السياسي ومسار العملية التفاوضية التي تطلبها روسيا، ويصرّ على الحسم عسكرياً دون أخذ مصالح روسيا وتقديراتها للملف السياسي بالحسبان[29]، وهو ما يظهر في تعطيله المتكرر لجولات اللجنة الدستورية في جنيف، الأمر الذي قد دفع بعض الأوساط الروسية إلى تحميل النظام مسؤولية فشل محادثات الجولة السادسة للجنة الدستورية، ولطالما رأى الأسد أنَّ مفاوضات جنيف التي تحظى بأهمية خاصة لدى روسيا[30] مجرد “لعبة سياسية”، معلناً في أحد تصريحاته أنها “ليست ما يركّز عليه المجتمع السوري الذي تنحصر اهتماماته بالإصلاحات التي ينبغي علينا القيام بها، والسياسات التي نحن بحاجة لتغييرها لضمان تلبية احتياجاتهم؛ وهذا ما نركز عليه حالياً”[31].
ويعتمد نظام الأسد في ذلك عبر اللعب بشكل أساسي على بعض التناقضات في المصالح الروسية الإيرانية، والاتكاء على إيران في موازنة الضغوطات الروسية المتكررة ضمن الهوامش المتاحة[32]، وينطلق أيضاً كما يبدو من محدد رئيسي يحدّد التوجه العام للعلاقات بينه والروس؛ يتمثل في رهانه الدائم على حاجة روسيا الفعلية لبقائه واستمراره لما يمثّله من كونه ركيزة أساسية لنفوذها الاستراتيجي في المنطقة ككل[33]، وصمّام أمان يحفظ مصالحها ومكتسباتها التي حققتها في سوريا[34].
مرتكزات السياسة الروسية في سوريا:
تُولي روسيا أهمية -إلى حدٍّ ما- للمسار السياسي على الرغم من تحايلها ومحاولتها تجيير المسار بأكمله لصالح حساباتها الاستراتيجية وأجندتها في سوريا؛ فبعد أن نجحت روسيا فعلياً في تثبيت أركان نظام الأسد ومنع سقوطه عسكرياً تحولت باتجاه العمل على ترجمة إنجازها العسكري سياسياً عبر تفعيل قدراتها الدبلوماسية لرعاية عملية سياسية وفق سرديتها ومقاربتها الخاصة للملف السوري، إذ سلكت الدبلوماسية الروسية مبكراً مساراً سياسياً موازياً استطاعت من خلاله حرف مسار الحل السياسي الخاص بسوريا لصالح رؤيتها؛ ابتداءً ببيان جنيف1 في العام 2012م[35]، مروراً بفكرة المجموعات الأربع وبيانات فيينا 1+2 والقرار رقم 2254 وانتهاءً باللجنة الدستورية[36]، متكئةً على ثقلها وقدرتها على التأثير في بقية الدول المعنية بالملف السوري، سواءٌ بالنسبة لمجموعة أستانا (تركيا وإيران) أو للمجموعة المصغرة حول سوريا وحتى للأمم المتحدة، وهو ما جعل من الروس أصحاب الكلمة العليا في سوريا وسط الانكفاء الأمريكي، ومكّنهم في الوقت نفسه من فرض الجزء الأكبر من رؤيتهم للحل السياسي في سوريا[37].
وضمن هذا السعي ارتكزت روسيا في بناء نفوذها المتداخل في سوريا على عدد من الدعامات التي سندت سياساتها تجاه سوريا والمنطقة، ولعل أهمها:
- التراجع الأمريكي في المنطقة، وعدم إبداء الإدارات الأمريكية المتعاقبة الاهتمام الكافي بالملف السوري، مقارنة بتوجُّهاتها لحلّ العديد من القضايا الشائكة بالنسبة إليها، كالحدِّ من التمدُّد الصيني والاتفاق النووي مع إيران[38]، ولعلَّ في سياسة أوباما الانطوائية في التعامل مع الملف السوري وترك المجال لروسيا للتدخل في الصراع في سوريا أبرز الأمثلة على التماهي الغربي المبكر مع الموقف الروسي في سوريا[39].
- وجود اعتراف ضمني أمريكي/غربي بمصالح روسيا الاستراتيجية، وبرؤيتها للحل السياسي في سوريا، وتنسيق الجهود معها عبر بوابة الأمم المتحدة[40].
- نفوذ روسيا داخل أروقة مؤسسات نظام الأسد الأمنية والعسكرية والاقتصادية.
- تشتت المعارضة السورية وتشرذمها ومجاراة بعض الوجوه السورية المعارضة الموقف الروسي للحل السياسي[41].
- نشاط الجهاز الدبلوماسي الروسي وجهوده في التواصل المباشر مع القوى الإقليمية والدولية لرسم خارطة طريق تثبّت النفوذ[42]؛ ما جعل من روسيا مرتكزاً أساسياً ضمن شبكة معقّدة من المصالح والتناقضات بين مختلف اللاعبين في المنطقة[43].
حدود التنازلات الغربية لروسيا؛ وعقبات تَحُول دون حصاد ثمار تدخلها العسكري في سوريا:
حقّقت روسيا عدداً من أهدافها من خلال تدخلها العسكري في سوريا، أبرزها منع سقوط نظام الأسد وتأمينه عسكرياً، والاستفادة من تدخلها بوابةً لفرض وجودها الإقليمي والعالمي[44]، واستطاعت فرض جزء كبير من رؤيتها فيما يتعلق بالملف السياسي وترتيبات الحل السياسي المتوقع في سوريا، وفرضت على الأطراف الدولية الفاعلة واقعاً عسكرياً وسياسياً لا يمكن تجاهله؛ ولكنها لا تزال تصارع لحصاد نتائج تدخلها العسكري، خاصة النتائج المتعلقة بتحقيق المكاسب الصلبة التي تضمن استقرار وجودها على المدى الطويل، بسبب وجود العديد من المنغّصات والمطبّات التي قد تحدث نتيجة انسداد أفق العملية السياسية، ما قد تؤثّر بشكل جدّيِّ على خطوات موسكو لترجمة انتصارها العسكري لآخر سياسي، مما قد يحول بينها وبين قطف ثمار حصادها وانتصاراتها العسكرية[45]. ومن أبرزها:
- اقتصاد نظام الأسد المنهك بالعقوبات، خاصة المتعلقة بـ”قانون قيصر”؛ الذي يحظر التعامل مع نظام الأسد.
- عدم قدرة الروس على ترتيب تسوية سياسية دائمة تفرض رؤيتها للحل السياسي في سوريا.
- عجز الدبلوماسية الروسية عن إقناع المجتمع الدولي للبدء بضخ الأموال لإعادة الإعمار، وعجزها عن إقناع المجتمع الدولي بمسألة عودة اللاجئين السوريين إلى سوريا[46].
- فشل جهود روسيا -حتى الآن- في تحقيق كسر ملموس للعزلة الدولية المفروضة على نظام الأسد وتعويم نظامه دولياً.
- اصطدام النفوذ الروسي بالوجود العسكري التركي والأمريكي في شمال وشرق سوريا؛ ما يمنع موسكو من الحسم عسكرياً، ويجبرها على أخذ مصالح هذه القوى بالحسبان عند أي استحقاق سياسي.
- توغل إيراني داخل المؤسسات العسكرية والاقتصادية التابعة للنظام، وتضارب المصالح النسبي بين الطرفين الروسي والإيراني.
- الخلافات التكتيكية التي تظهر بين الحين والآخر مع نظام الأسد.
- ازدياد صعوبة تحقيق الأهداف الروسية مع دخولها في الحرب ضد أوكرانيا، وخضوع اقتصادها لعقوبات منقطعة النظير.
ونظراً لتشابك الملف السوري وارتباطه بملفات أخرى لها أهمية كبيرة لدى روسيا كالعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها غربياً وعلاقتها العامة مع الغرب والولايات المتحدة؛ لا يبدو أنَّ لروسيا غنى عن الانخراط في المسار السياسي الذي يُعدّ أبرز نقاط التباين والخلاف “التكتيكي” الروسي مع نظام الأسد، حيث تميل روسيا لفرض “حل سياسي” شكلي/تجميلي عن طريق اختزال العملية السياسية بمجرّد “إصلاح دستوري” شكلي، وإجراء انتخابات في ظل بقاء نظام الأسد، وتشكيل حكومة “وحدة وطنية” تمنح المعارضة فيها بعض المقاعد، بما يسمح بتغيير بنية النظام الحالي بشكل “جزئي وسطحي”، بعيداً عن النواة العميقة للنظام، المتمثلة ببنيته الأمنية والعسكرية الطائفية[47]، كما ترغب في نجاح المسار السياسي الذي خطّته وفق رؤيتها الخاصة للحل النهائي في سوريا، وكسب الاعتراف الدولي بهدف الدفع نحو عملية إعادة الإعمار، وهو ما يصطدم مع رؤية نظام الأسد الذي يصرُّ على الحسم عسكرياً، ويتعنّت في تقديم أي تنازل لقوى الثورة والمعارضة، ويعرقل أي مرونة “ولو شكلية” تقدّمها روسيا في مسار الحل السياسي[48].
ولذا نرى أن روسيا مارست ضغوطاً على نظام الأسد للانخراط في مباحثات اللجنة الدستورية (المتمخّضة عن اتفاق روسي تركي إيراني) في محاولة لجرّ المحادثات لصالحها[49]، والظهور أمام المجتمع الدولي بمظهر الراعي الوحيد القادر على التأثير المباشر في العملية السياسية، والتحكم بكل مساراتها، واستثمار ذلك في المساومة على ملفات كبرى عالقة مع الغرب تثبت بها مصالحها في المنطقة.
ولعلَّ الحملة الإعلامية الروسية التي أطلقتها بعض المواقع الإعلامية الروسية عام 2020م ضد نظام الأسد دلّت حينها على مدى تململ الجانب الروسي من النظام؛ إذ شنّت وسائل إعلامية روسية حملة ممنهجة ومدروسة ضد نظام الأسد، حيث نشرت وكالة “الأنباء الفيدرالية” الروسية المملوكة لرجل الأعمال الروسي “يغفيني بريغوجين” المعروف باسم “طباخ الكرملين” عدة تقارير اتهمت فيها الأسد بأنه “فاسد وضعيف”، وحمّلته مسؤولية الظروف الاقتصادية في سوريا، محذّرة من “أنَّ الفساد المستشري في مفاصل الدولة بدمشق يعيق التعاون بين روسيا وسوريا”[50]، وقد شكّكت الحملة بشرعية الأسد عبر الإشارة إلى فقدان السوريين الثقة به وبنظامه، لتردَّ بعض الشخصيات المقربة من النظام بالتلويح بإمكانية إعلان الوجود الروسي في سوريا “احتلالاً”[51].
وقبل ذلك جرى التعبير عن “انزعاج” صانع القرار الروسي من سياسة نظام الأسد بأوجه مختلفة؛ ففي العام 2016م أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن بدء سحب الجزء الأكبر من قواته من سوريا، في خطوةٍ بدا أن أحد أهدافها الضغط على النظام على خلفية اتساع الخلافات معه بشأن العملية التفاوضية[52]، وانتقاد الناطقة باسم الخارجية الروسية “ماريا زاخاروفا” تصريحات الأسد في العام 2019م التي وصف فيها الرئيس أردوغان بـ” اللص” واعتبارها “غير مقبولة”[53]، وتعيين بوتين في العام 2020م سفير روسيا في سوريا “ألكسندر يفيموف” ممثلاً رئاسياً خاصاً “لتطوير العلاقات الروسية مع سوريا”، الأمر الذي فُسِّر على أنها خطوة أيضاً لتقليص مساحة المناورة لدى نظام الأسد وزيادة الضغط عليه، لاسيما فيما يخصّ علاقات النظام الخارجية والداخلية[54].
وتدرك روسيا حقيقة استحالة التوصل إلى تسوية سياسية شاملة معترف بها دولياً تضمن لها مصالحها وأهدافها الاستراتيجية دون تحقيق توافق شامل مع الأطراف الدولية الفاعلة في سوريا؛ التي تصرُّ بدورها على تحصيل مزيد من المكتسبات والاستحقاقات مستندة إلى نقاط قوّة تدعم موقفها ضمن المعادلة السورية، وهو ما يدفع روسيا للعمل على الموازنة بين رغبتها في تحصيل أكبر قدر من المكتسبات تخدم سرديتها ورؤيتها للحل السياسي النهائي، وبين مسايرة مطالب ومصالح باقي الفواعل الدولية الأخرى (الولايات المتحدة و”إسرائيل” وتركيا وإيران)، وإيجاد نوع من التقارب وبناء تفاهم معها، الأمر الذي يتطلب منها التعاطي مع المشهد السوري بشكل واقعي يقتضي مرونة في التعامل مع مختلف أطراف الصراع والمناورة بينها[55]، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال على علاقتها مع نظام الأسد.
وتبدو الترتيبات الروسية للتسوية السياسية النهائية مهددة اليوم في ظل عجزها الواضح إلى الآن عن فرض رؤيتها للحل في سوريا، حيث فشلت روسيا حقيقة في إقناع القوى الدولية بالمباشرة في عملية إعادة الإعمار التي توليها روسيا اهتماماً متزايداً؛ لِـمَا قد ينعكس إيجاباً على اقتصاد نظام الأسد المتداعي في إطار مساعيها الرامية لكسر العزلة الدولية المفروضة عليه وربطه بالأسواق المالية العالمية، إلى جانب ما قد تجنيه روسيا من عوائد مالية واستثمارات ضخمة تعود بالنفع على الشركات والمؤسسات الروسية العاملة في سوريا[56].
كما فشلت الجهود الروسية أيضاً في تعويم نظام الاسد دولياً؛ فعلى الرغم من نجاح روسيا المبدئي في بناء تقارب نسبي مع الولايات المتحدة[57] حصلت بموجبه على بعض المكتسبات؛ كالحصول على اعتراف أمريكي ضمني بمصالح روسيا الاستراتيجية في سوريا، فضلاً عن تغاضي الولايات المتحدة عن خطوات بعض الدول لإعادة تعويم نظام الأسد، وتخفيف بعض العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام، وغضّ النظر عن التحركات الروسية المتزايدة في مناطق شرق الفرات، وتماهيها مع الدور الروسي في سوريا[58]؛ إلا أنَّ المعضلة الحقيقية أمام روسيا فيما يبدو هو إصرار الولايات المتحدة والدول المانحة (الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وبعض الدول العربية) على ربط تدفق أموال إعادة الإعمار وتعويم النظام بحدوث انتقال سياسي وفق قرار مجلس الأمن رقم 2254[59]، وهو ما يقف حجر عثرة أمام طموحات روسيا في جني ثمار انتصارها العسكري سياسياً واقتصادياً.
يبدو أنَّ الانعكاسات السلبية لتلك الخطوات على روسيا أكبر من انعكاساتها على نظام الأسد، باعتبار أنه غالباً لا يهتم كثيراً للخسارات الاقتصادية أو السياسية إن لم تهدد نواته الصلبة “الجيش والأمن” مباشرة[60]، وهو ما يعطيه دافعاً لاستمرار تعنّته ورفضه التعامل الجادّ والحقيقي مع الملف السياسي. والأرجح أنَّ روسيا لا تمتلك الرغبة ولا القدرة على القيام بضغط حقيقي على نظام الأسد لإجباره على إحداث تغيير جوهري في بنيته وسلوكه، نظراً لإدراكها حجم هشاشة النظام الذي لن يتحمل في الغالب إحداث تغيرات من هذا النوع، فضلاً عن تعنّت نظام الأسد ورفضه إجراء أية إصلاحات ـــ ولو شكلية ـــ في بنية مؤسساته، خاصة العسكرية والأمنية، لما قد تؤدي إليه مثل هذه الخطوات من إضعافه، وربما انهياره[61].
من المهم بالتالي عدم الذهاب بعيداً في قراءة الخلافات الروسية “التكتيكية” مع نظام الأسد؛ بل من الواضح أنَّ تقاطعات المصالح الاستراتيجية الكثيرة بين الجانبين تحتّم عليهما المحافظة على مسار العلاقة وتقويتها وتجنّب تصعيد الخلافات، حيث تنطلق الرؤية الروسية أساساً من صعوبة إيجاد بديل استراتيجي عن الأسد يلبي مصالحها وطموحاتها[62]. ويبدو أنَّ فكرة تخليها عن رأس النظام أو جزء منه بعد استثمارها الاستراتيجي في الوقوف إلى جانبه قد يفقدها رأسمال سياسي وورقة مهمة من الأوراق التي تمسك موسكو أطرافها في مسار مفاوضاتها مع الغرب[63] وتطلعاتها في تثبيت مكانتها العالمية في الساحة الدولية[64].
تداعيات الأزمة الأوكرانية على العلاقة الروسية مع نظام الأسد:
على الرغم من حرص القوى الدولية على اتباع سياسة فصل الملف السوري عن الأوكراني والابتعاد ـــــ قدر الإمكان ـــــ عن التصعيد في سوريا[65] ؛ إلا أن توتّر العلاقات الغربية/ الأمريكية ـــ الروسية قد يُلقي بظلاله على مسار العلاقة الروسية مع نظام الأسد متأثّراً بتفاعلات العلاقة الروسية مع القوى الدولية الأخرى المنخرطة التي تتشابك مصالحها وتتداخل في الساحتَين السورية والأوكرانية.
كان من الواضح أنَّ مسايرة القوى الدولية السردية الروسية في سوريا ورؤيتها للحل السياسي قد جعل من روسيا مرتكزاً أساسياً ضمن شبكة معقّدة من المصالح والتناقضات بين مختلف اللاعبين المحليين والإقليمين والدوليين في سوريا والمنطقة، استطاعت من خلاله تكريس رؤيتها السياسية للحل في سوريا وتثبيت نفوذها، مستفيدةً أيضاً من تراجع الحضور الأمريكي في المنطقة وحصولها على اعتراف ضمني أمريكي/غربي بمصالحها الاستراتيجية في سوريا، وتنسيق الجهود معها عبر الأمم المتحدة، وتراخي القوى الدولية الفاعلة لاحقاً عن بعض التزاماتها تجاه الضغط على نظام الأسد، والذي ظهر في تخلّي بعض القوى تدريجياً عن فكرة “الانتقال السياسي” مقابل تغيير سلوكه، فضلاً عن تراخي الولايات المتحدة في تطبيق قانون قيصر على الدول التي اتخذت خطوات تطبيعية سياسية واقتصادية مع نظام الأسد[66]، ما حوّل روسيا إلى وضع الانخراط الدبلوماسي النشط لتحقيق مزيد من المصالح الخاصة المتعلقة بقراءتها للحل السياسي النهائي في سوريا، الأمر الذي أذن بظهور بعض الخلافات بينها وبين نظام الأسد حول أمور تكتيكية متعلقة بالمشاركة السياسية وتقديم بعض التنازلات[67].
ويبدو أنَّ هذه المركزية المحورية للدور الروسي في سوريا قد تضعُف إن لم تستطع روسيا حسم الصراع في أوكرانيا عسكرياً لصالحها وامتصاص صدمة العزلة الاقتصادية المفروضة عليها، وهو ما سيكون له تداعيات مباشرة على النفوذ الروسي العسكري والسياسي في سوريا ومكانتها في المنطقة، وعلى العلاقات الروسية مع القوى الإقليمية التي نسجتها روسيا وعزّزتها بعد تدخلها المباشر في سوريا.
كما أنَّ توتّر العلاقات الأمريكية الروسية على الصعيد العالمي وتدهورها إلى أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة إثر الغزو الروسي لأوكرانيا سيؤدي في الغالب إلى تجميد المسار التفاهمي/التقاربي الذي شيّده الطرف الأمريكي والروسي عقب التفاهم المبدئي على ملف تمديد المساعدات الإنسانية إلى سوريا عبر معبر باب الهوى العام الماضي[68]. وبالتالي قد يأخذ مسار العلاقة بين الطرفين منعطفاً أقرب إلى “التشدّد/التعنّت” في مواقفهما وسياستهما في سوريا، وهو ما يعني إظهار روسيا مزيداً من التصلب والتعنّت في علاقتها مع الغرب، وتحييد خلافاتها “التكتيكية” مع نظام الأسد، وتجنّب ممارسة “الضغوط الناعمة” التي كانت سابقاً تمارسها على النظام لتقديم بعض التنازلات الشكلية، فضلاً عن أنَّ اندفاع النظام نحو التأييد المطلق للغزو الروسي وتأكيده أنَّ ” الغزو الروسي هو تصحيح للتاريخ وإعادة للتوازن إلى العالم الذي فقده بعد تفكك الاتحاد السوفيتي” بعد اعترافه رسمياً بسيادة الجمهوريتَين الانفصاليتَين “دونيتسك ولوغانسك”[69]؛ يمثّل عاملاً آخر يسهم في تصليب العلاقة الروسية مع نظام الأسد، ويزيد في المقابل من تشدد الموقف الأمريكي/الغربي تجاه النظام فيما يتعلق بمسألة التطبيع معه وعودته التدريجية للمجتمع الدولي[70].
في المقابل قد يحاول نظام الأسد زيادة هوامش تحركاته بشكل منفصل عن الروس، مستغلاً زيادة حاجتهم له وضيق هامش المناورة والضغوط التي يمكن أن يمارسوها[71]، وذلك بالاتكاء ربما أكثر على إيران وتوسيع مجال تحركها في سوريا، وتعزيز الارتباط بينهما لملء الفراغ الذي قد تخلفه روسيا مستقبلاً إذا خفضت نفوذها شيئاً فشيئاً في سوريا على حساب انشغالها في أوكرانيا، وهو ما نلمسه في زيارة الأسد الأخيرة لإيران، والتي وصفها الإعلام الإيراني بأنها “بداية لصفحة جديدة في العلاقات الإستراتيجية بين الجانبين”[72].
خاتمة:
على الرغم من حدوث خلافات محدودة بين نظام الأسد والروس فلا يبدو أن هذه الخلافات في طريقها للاتساع في ضوء غياب ضغوطات دولية حقيقية تدفعها للضغط على نظام الأسد لتقديم بعض التنازلات مقابل حصولها على مكتسبات تكرّس دورها وتثبّت مصالحها في المنطقة، لاسيما مع ضعف الفاعلية الروسية في الضغط على الأسد نتيجة تراجع حاجته للحماية الروسية ووجود هوامش له للمناورة مع إيران، ومع تقارب الموقف الدولي مع “الرؤية الروسية للحل” ، بالتزامن مع تراجع الدور الأمريكي وتسليمها لمحورية الدور الروسي في سوريا[73]، لاسيما في ضوء ملامح مسايرة الولايات المتحدة السردية الروسية في سوريا وتراخيها في تطبيق “قانون قيصر” وتغاضيها عن مسار التطبيع العربي مع نظام الأسد[74]، وظهور بعض التسريبات التي تشير إلى قبول ضمني دولي بإمكانية بقاء الأسد في السلطة مقابل إخراجه إيران من سوريا[75].
وقد حاولت روسيا سابقاً ممارسة بعض الضغوط المتنوعة على نظام الأسد لتطويع تحركاته وتقليل هامش المناورة لديه لإجباره على التجاوب مع توجهاتها في سوريا، خاصة فيما يتعلق برؤيتها لمسار الحل السياسي وملفات أخرى، معتمدة بذلك على ثقل وزنها السياسي والعسكري والاقتصادي وتغلغلها داخل مؤسسات نظام الأسد، وذلك بالتوازي مع تحركها الدبلوماسي لاختراق الموقف الدولي ودفع المجتمع الدولي والقوى الفاعلة في الملف السوري للقبول تدريجياً بنظام الأسد ببنيته العسكرية والأمنية الحالية، والاعتراف بمصالح روسيا ونفوذها الاستراتيجي في سوريا[76].
وتزيد حالة العزلة الدولية التي تطبّق على روسيا بشكلٍ تدريجيٍّ وتصاعديٍّ بعد مباشرتها غزو أوكرانيا، وتصعيد حدّة التوتر مع الغرب من احتمالية توجّه روسيا نحو تمتين علاقتها مع الأنظمة “السلطوية/الاستبدادية” الداعمة لها[77]، ومن بينها نظام الأسد؛ الذي تستثمر موسكو في علاقتها معه كونه ورقة من أوراق مناكفتها الغرب وباباً من الأبواب الذي يعزّز مقاربتها للعودة إلى المسرح العالمي وكسر الهيمنة القطبية الأمريكية على النظام الدولي، الأمر الذي يحاول نظام الأسد الاستفادة منه من خلال دعمه المطلق للروس في حربهم على أوكرانيا وانخراط مرتزقته فيها، وهو ما يمكن أن يزيد من تمسك موسكو به، وتحييد الخلافات التكتيكية التي أثرت سلباً في العلاقة بينهما سابقاً.
لمشاركة التقرير: https://sydialogue.org/ogft
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة