نظرة تحليلية لسلوك “هيئة تحرير الشام – هتش” في 2023 ومحاولة استقرائه في 2024
تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
مقدمة:
مرّ العام 2023 بالعديد من الأحداث التي شهدت تطوّرات في ملف “هيئة تحرير الشام-هتش” شمال غربي سوريا، سواء من ناحية اعترافها العلنيّ بحصول اختراقات في صفوفها وما شنته على إثرها من اعتقالات طالت قياديين كباراً في التنظيم بتهم “التجسُّس”، فضلاً عن مساعي “هتش” القيام بأدوارٍ مشبوهة في مناطق سيطرة الجيش الوطني السوري بريف حلب.
كما شهد العام الماضي مظاهرات متكررة في مناطق متفرقة من شمال غربي سوريا ندّدت بسلوك “هتش” واستمرارها بالتضييق على المدنيين، وذلك بعد ما حاولت فرضه من تكريس سيطرتها الأمنية وتكميم أفواه المنتقدين لها.
يُحاول هذا التقرير رصد أبرز المتغيّرات التي طرأت في سلوك “هتش” في العام 2023 وأثرها على تماسُك التنظيم من الناحية التنظيمية والعسكرية، وصولاً لاستعراض حالة الموقف الشعبي من “هتش” ومستقبلها في المنطقة.
مظاهرات غاضبة ضد “هتش” رداً على الاعتقالات والتضييق.. واستمرار سياسة كمّ الأفواه:
شهدت العديد من مناطق إدلب وريف حلب الغربي خلال العام 2023 مظاهرات تُندّد بـ”هتش” وقائدها أبو محمد الجولاني لأسباب مختلفة تتمحور حول التضييق ومحاولة قمع أيّ صوت معارض لها في المنطقة، ومما كان لافتاً أن بعض التظاهرات خرجت أكثر من مرة خلال الشهر الواحد، ما يمكن اعتباره أحد مؤشرات زيادة النقمة الشعبية من التنظيم وممارساته بحق سكان المنطقة.
تنوّعت أسباب الاعتقالات التي شنتها “هتش” في مناطق نفوذها بإدلب وريف حلب الغربي، فكان مما لوحظ بشكل أساسي محاولة إسكاتها الأصوات الإعلامية المنتقدة لها بالمنطقة، ما أدى لاعتقال عددٍ من الناشطين الإعلاميين، الأمر الذي فجَّر عدداً من المظاهرات ضد “هتش” احتجاجاً على تقييد الحريات والحدّ من حركة الإعلاميين والصحفيين الذين ينقلون صورة الأوضاع في المنطقة[1]، ليردّد المتظاهرون شعارات مشابهة لشعارات الثورة السورية المنددة بقمع أجهزة أمن نظام الأسد[2].
وبحسب مصادر حقوقية، فإن عمليات الاحتجاز التي تقوم بها “هتش” ضد نشطاء إعلاميين وسياسيين -على خلفية التعبير عن آرائهم التي تنتقد سياستها- تتمّ بطريقة تعسّفية على شكل مداهمات واقتحام وتكسير أبواب المنازل وخلعها، أو عمليات خطف من الطرقات أو عبر نقاط التفتيش المؤقتة[3]، فضلاً عن اعتقالها ناشطين بتهمة تصوير المظاهرات المناهضة لها[4]، وتطويق عناصرها الأمنيّين بعض المساجد في ريف إدلب لمنع خروج التظاهرات المناوئة لها[5]، في أساليب مشابهة في بعضها إلى حدٍ ما مع أساليب قوات نظام الأسد ومليشيا “قوات سوريا الديمقراطية-قسد” في اعتقال المدنيين بشكل تعسّفي.
بالإضافة للناشطين الإعلاميين، اعتقلت “هتش” أيضاً وجهاء معارضين لسياستها، ما أدى لحالة احتقان في المنطقة وخروج مظاهرات مندّدة بذلك، فضلاً عن صدور بيانات استنكار لهيئات وتجمّعات محليّة تعتبر أنّ الاعتقالات تتم دون مراعاة لحرمة المنازل أو التزام بمبادئ أو قوانين[6].
سياسة القمع التي تنتهجها “هتش” في بعض المناطق والخشية من الاعتقالات دفعت ببعض السكان إلى اللجوء لأساليبهم في مقارعة نظام الأسد، للتعبير عن الغضب من “هتش” وممارساتها وتوسيع الحراك ضدها، وذلك من خلال كتابة الشعارات على الجدران تنديداً بـ”هتش” وقائدها الجولاني بشكلٍ خاص، حيث تضمّنت بعض العبارات على جدران إدلب اتهامه بـ”العَمَالة” لإيران ونظام الأسد[7]، الأمر الذي دفع “هتش” إلى مزيدٍ من الإجراءات المُشدّدة ببعض المناطق وإلزام المحلات التجارية التي تبيع مواد الدهان والبخاخات بتركيب كاميرات مراقبة لتتبُّع من يشتريها[8].
ومما يزيد من غضب الشارع ضد “هتش” أن الأهالي يرونها تنشغل بالقمع والتضييق الأمني في الوقت الذي تزيد فيه الضرائب عليهم عبر ذراعها المدني “حكومة الإنقاذ” رغم الأوضاع المعيشية الصعبة التي تشهدها المنطقة[9]، وفي وقتٍ أيضاً تُحاول فيه “هتش” تحسين صورتها الخارجية على حساب صورتها أمام حاضنتها، وخصوصاً من خلال التزامها باتفاقية وقف إطلاق النار الموقّعة بين تركيا وروسيا في آذار عام 2020، سوى بعض الهجمات المتبادلة بينها وبين قوات نظام الأسد، والتي لا ترقى بطبيعة الحال إلى المواجهة المفتوحة.
ومع ذلك لا يمكن اعتبار المظاهرات تلك وحدها المؤشرَ الأساسي على النقمة الشعبية من “هتش”، فمن المعروف أن حجم القبضة الأمنية والتشديد والملاحقات بحق الناشطين تجعل الناس في مناطق إدلب وريف حلب الغربي يتخوّفون من الخروج بمظاهرات، وقد ظهر أحد مؤشرات هذا في أوقات سابقة بعد ارتفاع أسعار الكهرباء شمال سوريا، حيث تفجّر الغضب الشعبي في مناطق سيطرة الجيش الوطني السوري، بينما لم يحصل شيء من هذا القبيل بمناطق “هتش”[10]، ومثل هذا الأمر ينطبق على قطاع المحروقات التي تبيعها “هتش” بأسعار أعلى من مناطق الجيش الوطني السوري وفق ما سيأتي بالمحاور التالية، دون أن يُشكّل ذلك دافعاً للناس لتنظيم تظاهرات غاضبة ضد “هتش” خشية من الاعتقالات والتغييب القسري، فضلاً عن الرقابة على منظمات المجتمع المدني وتقييد أنشطتها والتدخُّل في خصوصيتها[11].
ويجدر بالذكر أن جزءاً من المظاهرات التي خرجت ضد “هتش” طوال العام 2023 كانت لعوائل وأنصار كوادر من “حزب التحرير” الذي ينشط ضمن مناطق نفوذها[12]، واعتقلت عدداً من عناصره[13]، ضمن مساعيها لتحجيمه على غرار العديد من التنظيمات المتطرفة[14] التي أظهرت انتقادات أو عداءً لسياسة “هتش” ودورها في إدارة منطقة إدلب وطريقة تعاطيها الجديدة مع الفواعل الإقليمية والدولية[15]، في ظلّ تلوّن الجولاني وإظهاره سياسات متناقضة[16]، بينما لم يكن لتلك التظاهرات تأثير حقيقي في الضغط على “هتش” للإفراج عن أعضاء الحزب[17].
ويرى بعض المراقبين أن “هتش” تركت “حزب التحرير” دون غيره إلى هذا الوقت لكونه خصماً ضعيفاً لا يُشكّل تأثيراً حقيقياً على وجودها بعكس بعض التنظيمات الأخرى التي كانت تملك السلاح والمقاتلين[18]، وبالرغم من تلك الرؤية إلا أن هناك رواياتٍ عن مقتل عناصر من “هتش” بعمليات لـ”حزب التحرير” في إدلب[19]، الأمر الذي ألّب “هتش” فيما يبدو بشكل أكبر على الحزب ودفعها لمواصلة الضغط عليه عبر عمليات الاعتقال، خصوصاً مع ما أظهره من محاولة تأليب الشارع العام على سياستها إزاء الاتفاقات التركية الروسية بشأن شمال غربي سوريا[20].
أدوار مشبوهة واستثمار أزمات في مناطق الجيش الوطني في محاولة للتمدد بريف حلب:
مع تحقيق جبهة إدلب استقراراً نسبياً من حيث توقّف العمليات العسكرية مع قوات نظام الأسد بعد توقيع اتفاق موسكو بين الرئيسين الروسي والتركي في آذار مارس 2020[21]، بدأت “هتش” تتطلّع إلى سياسة التمدّد باتجاه مناطق سيطرة الجيش الوطني السوري بريف حلب.
وتتعدّد الأساليب والغايات والوسائل التي تستند إليها “هتش” في محاولات التمدد التي تأتي استكمالاً لما قامت به في تشرين الأول أكتوبر 2022 حينما سيطرت بشكل مؤقتٍ على مدينة عفرين شمال حلب، وتمركزت على تخوم مدينة إعزاز في شمال حلب على الحدود التركية قبل أن تنسحب منها وتُبقي أذرعاً لها في المنطقة[22].
سعت “هتش” إلى زيادة مواردها المالية عن طريق الاستحواذ على عائدات معابر إستراتيجية في ريف حلب، وأهمها معبر الحمران في ريف جرابلس، الرابط مع مناطق سيطرة مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية-قسد”[23]، لكنها تجنّبت صراع النفوذ على معبر الحمران تحت رايتها، لذلك استخدمت أذرعها في ريف حلب المتمثلة بفصيل “أحرار عولان”، وفصيل “تجمع الشهباء”[24].
ويبدو أن معبر الحمران كان تحت أنظار “هتش” منذ فترة طويلة لأنها طالما تعرّضت لانتقادات بسبب التفاوت في أسعار المحروقات بين مناطق سيطرتها ومناطق سيطرة الجيش الوطني السوري التي تُباع فيها بأسعارٍ أقل، وقيامها بتفتيش كمية المحروقات في السيارات التي تدخل إلى مناطق سيطرتها لمنع أصحابها من ملء الوقود من مناطق سيطرة الجيش الوطني السوري، فضلاً عن إقدامها على تفكيك عددٍ من الكازيات قرب منطقة الغزاوية بريف حلب لمنع الأهالي من ملء الوقود منها[25]، وبالتالي فإن سيطرتها على معبر الحمران تجعلها تتحكم إلى حدٍّ ما بأسعار الوقود في كافة مناطق ريف حلب وإدلب الخارجة عن سيطرة نظام الأسد.
شهد المعبر أكثر من محاولة للسيطرة عليه من قِبل “أحرار عولان” كان أبرزها في أيلول سبتمبر الماضي، الأمر الذي دفع وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة إلى إطلاق عملية أمنية لدحر من وصفتها بـ”الجماعات الانفصالية”[26]، ومع ذلك لا يبدو أنه تمّ دحر الفصيل بشكل كلي من المعبر أو لم يعد له عائدات من وارداته، خصوصاً مع وجود حديث عن مفاوضاتٍ دارت تتضمّن انسحاب الفصيل مقابل حصول “هتش” على جزء من عائدات معبر الحمران، لا سيما مادة الفيول الخام، دون غيرها من العائدات الأخرى[27].
وقد استغلّت “هتش” -في محاولات تمدُّدها وتعزيز هيمنتها الاقتصادية- الحالة الفصائلية والتفكُّك لدى مكوّنات الجيش الوطني السوري، حيث استطاعت كسب ولاء بعض الفصائل بناءً على خلافات وصِدامات لها مع فصائل أخرى، وهذا ما ساهم بعدم وجود موقف موحّد لفصائل الجيش الوطني السوري في مواجهة محاولات تمدُّد “هتش”.
وبالتزامن مع ذلك، واصل الجولاني محاولات تسويق نفسه كضامنٍ ونموذجٍ أمني منظّم في مناطق الشمال السوري، مستنداً إلى انتشار السلاح وفوضى الصِّدامات في المنطقة، سواء بين فصائل الجيش الوطني السوري، أو بين العوائل المحلية.
وشكّلت حادثة مقتل ثلاثة مدنيين أكراد في مدينة جنديرس بريف عفرين على يد عناصر من الجيش الوطني السوري خلال الاحتفال بعيد “نوروز” في مارس آذار الماضي[28]، فرصة للجولاني، من أجل استثمار الحدث والظهور بمظهر الساعي لأخذ الحقوق وإنصاف المظلومين، إذ ظهر في تسجيل مصوّر مع أهالي الضحايا، قائلاً: “هذا آخر يوم تتعرضون فيه لاعتداء، أنتم بحمايتنا”، ومثل هذا فعل قياديون آخرون من “هتش” في لقاءاتهم مع ذوي الضحايا[29]، علماً أن الجيش الوطني السوري أصدر أحكاماً مُشدّدة بحق الفاعلين[30].
كما استثمر الجولاني حدثاً طارئاً في الشمال السوري للتغلغل فيه وإنشاء مراكز قوة غير مُعلنة تؤدي وظيفتها عند الحاجة، وذلك بعد اندلاع الصراع في شرق سوريا بين العشائر العربية ومليشيا “قوات سوريا الديمقراطية -قسد”، حين أرسل قوات وأسلحة منوّعة تحت غطاء “نُصرة” العشائر إلى ريف حلب الشمالي والشرقي، ما منح “هتش” فرصة لتمركز قوات تابعة لها في مناطق عديدة ضمن مقارّ فصائل موالية لها بأرياف الباب وجرابلس[31]، علماً أنه لم يكن لتلك القوات أي تأثير حقيقي على المعارك بين العشائر و”قسد” في ذلك الوقت[32]، لكن الحادثة كانت فرصةً للجولاني لإرسال قياديين وأمنيين يتبعون لـ”هتش” إلى مناطق الجيش الوطني السوري، وبالتالي إمكانية مشاركتهم في أي عمل عسكري أو أمني لصالح “هتش” أو الفصائل الموالية لها بالمنطقة.
ويظهر من خلال رصد سلوك الجولاني الأخير خلال العام الماضي أنه يطمح بوجود عسكري وأمني دائم في مناطق الجيش الوطني السوري بهدف التأسيس لمناطق سيطرة جديدة تضمن له نفوذاً فيما لو تم إخراج “هتش” من مناطق إدلب وريفها عند شن نظام الأسد وحلفائه أي عملية عسكرية مستقبلاً[33].
ورغم هذه العوامل والمبررات التي تقوّي رغبة “هتش” في التمدُّد نحو الشمال، إلا أنه ثمة عوائق تمنع أو تُصعّب هذا السيناريو؛ أبرزها:
أ- الموقف الدولي الرافض لشرعية “هتش” حتى الآن، ومواصلة تصنيفها كـ”تنظيم إرهابي”، على الرغم من الكثير من التنازلات التي قدّمها الجولاني وتلوّنه بألون متعددة[34]، وسعيه لذلك من خلال استضافة صحفيين أجانب وإجراء مقابلات معهم[35].
ب- الموقف التركي الرافض فيما يبدو لسيطرة ظاهرة لـ “هتش” في مناطق نفوذ الجيش التركي، وقد ظهر ذلك بسياقات مختلفة منها تدخل القوات التركية لإخراج “هتش” من عفرين ومنع تقدمها نحو أعزاز[36].
ج- الرفض الشعبي الكبير لوجود “هتش” في مناطق نفوذ الجيش الوطني السوري، وقد تمثل ذلك بخروج مظاهرات عديدة ترفض توغل “هتش” بالمنطقة[37].
انشقاقات تضرب “هتش” واعتقالات غير مسبوقة في صفوفها بتهمة “العمالة”:
شكّل ملفّ الانشقاقات في صفوف “هتش” وحملة الاعتقالات التي شنّتها ضد قياديين تابعين لها بتهمة “العمالة” أحد التطورات اللافتة في بُنية التنظيم خلال العام 2023ـ إذ أعلن القيادي في “هتش”، جهاد عيسى الشيخ، الملقّب “أبو أحمد زكور” في منتصف كانون الثاني الماضي، انشقاقه عنها عبر بيانٍ رسميّ بعد تمكُّنه من الهروب إلى أعزاز، مشيراً إلى أن قيادة “هتش” بدأت تدريجيّاً بتغيير سياستها عن طريق السيطرة والهيمنة وقضم الفصائل وتفكيكها، والسعي إلى السيطرة العسكرية والأمنية والاقتصادية في مناطق الجيش الوطني السوري، والعمل الأمني من خطف وغيره دون التنسيق مع أي جهة ودون علمه الشخصي، بالإضافة لتوجيه “التهم المعلّبة” والجاهزة لكل مخالف لنهج قيادة “هتش” وتشويه صورته، سواء كان من داخلها أو خارجها[38].
وشكّل انشقاق “أبو زكور” ضربة لـ”هتش” لكونه من قيادات الصف الأول فيها، ويُعدّ بمثابة “الصندوق الأسود” للتنظيم لما يحويه من معلومات وتفاصيل كثيرة عنه بحكم ملازمته للجولاني[39]، ولكون انشقاقه جاء وسط أزمة تعيشها “هتش”، فانشقاقه عنها جاء بعد وقتٍ قصيرٍ من اعتقال “هتش” للقيادي في صفوفها “أبو ماريا القحطاني” بتهمة التعامل مع التحالف الدولي، إضافة لتكثيف “هتش” حملات الاعتقال في مناسبات عديدة من العام الماضي ضدَّ عناصر وقياديين يعملون في صفوفها بتهمة “التخابر” مع التحالف الدولي وروسيا ونظام الأسد ومليشيا “حزب الله” اللبناني[40].
وطالت عمليات الاعتقال قياديين آخرين غير أبو ماريا، مثل “أمير هتش” في مدينة تفتناز أبو اليمان تفتناز، وأبو صبحي تل حديا المنضوي في “لواء علي بن أبي طالب”، وأبو خالد مسؤول “الكتلة الشرقية”، ومسؤول “الدراسات الأمنية” عن منطقتي سرمدا والوسطى، ومسؤول الموارد البشرية في الجناح العسكري وآخرين[41]، بينما تم الإفراج عن بعض المعتقلين بعد أشهر من الاعتقال وإعلان “هتش” أنها انتهت من التحقيقات الخاصة بما وصفتها “دعوى الخلية الأمنية”[42]، وسط تشكيك براوية “هتش” الرئيسية عن سبب الاعتقال وغياب الشفافية إزاء هذا الملف[43].
وعلى ضوء ذلك، يُرجَّح استمرار الانشقاقات في صفوف “هتش” لسببين؛ الأول: أن الشخصيات التي انسحبت منها قد يكون لها نفوذ وموالون داخل “هتش” ربما يكونون محلّ استهداف من قبل قيادة التنظيم، والثاني: بسبب التحريض من قبل الشخصيات التي انسحبت وأعلنت انشقاقها، كما إن بُنية هذه التنظيمات القائمة على التقيّة والمجاهيل تجعل إمكانية اختراقها كبيرة[44].
كذلك من المتوقّع استمرار سلوك “هتش” في القمع ومحاولة التغطية على هذه الانشقاقات بأنها هامشيّة وغير مؤثرة وأنه من الطبيعي حدوثها كما تحّدث الجولاني ذاته عنها، الأمر الذي يُشبه إلى حدٍّ ما سلوك أيّ نظامٍ أمني عندما تحدث فيه انشقاقات يعتبرها “حالة صحية” وأن الشخص المنشق هو سيئ وهذا “تنظيف ذاتي” للتنظيم[45].
ويبدو أن تلك الانشقاقات قد يكون لها أثر سلبي إلى حدّ ما في محاولات “هتش” التمدُّد نحو مناطق ريف حلب الخاضعة للجيش الوطني السوري، إذ يعتبر بعض المراقبين أنه وبعد فشل “هتش” باعتقال أبو أحمد زكور ضَعُفت وتيرة العمل الأمني للجولاني في مناطق ريف حلب الشمالي والشرقي، حيث كانت تعمل الخلايا التابعة لـ”هتش” بصورة واضحة، أما الآن فتعمل بشكل أمنّي متستّر نوعاً ما[46].
خاتمة:
لم تقتصر حالة الاحتقان الشعبي ضد الجولاني في 2023 على المظاهرات فقط، ولا سيّما أمام القبضة الأمنية ومواجهة الحراك المُعارض لـ”هتش”، إنما امتدّت لتشمل نشاطاتٍ تُذكّر بنشاطات المعارضين لنظام الأسد منذ أوائل الثورة الشعبية، وهي الكتابة على الجدران، واستهداف شخص الجولاني نفسه واتهامه بـ “العمالة”، ولعل الأمر الذي ساهم في ظهور مثل هذه النشاطات هو الخشية من القمع والاعتقالات والتغييب القسري الذي لم تُظهِر “هتش” أنها تراجعت عنه حتى مع الذين عملوا معها خلال السنوات الماضية.
ويبدو أن سلوك “هتش” الأمني والتضييق على الحُريّات سيستمر لأسباب متعددة؛ أبرزها أن التنظيم بنى سرديته على الأمن والضبط الأمني لتبرير ما يقوم به من انتهاكات وتضييق بحق السكان، الأمر الذي يعتمد عليه الجولاني لإسكات الأصوات المنتقدة له، في حين يبدو الوضع الاقتصادي بمناطق “هتش” آخذاً بالتدهور لأسباب موضوعية محلية ودولية أهمها ضعف الاستقرار الأمني وضعف البنية التحتية وشحّ الموارد الاقتصادية وسيطرة “هتش” على أهم المشاريع الموجودة في إدلب وريف حلب الغربي، وعدم إيلائها أهمية كبيرة لتحسين الواقع المعيشي أو خلق فرص عمل من خلال بعض الموارد التي تسيطر عليها مثل المحروقات والمعابر.
من جانبٍ آخر، شكّل اعتقال القيادي في “هتش”، “أبو ماريا القحطاني” تفجّراً لخلاف عميق وقديم داخل التنظيم، ورغم إلصاق “هتش” تهمة التنسيق مع التحالف الدولي للقحطاني إلا أن السبب قد يعود إلى معلومات وصلت للجولاني بأن القحطاني يُحضِّر للانقلاب عليه، لأن مسألة التنسيق مع التحالف تجري بعلم الجولاني نفسه، كما قد يكون الجولاني خشي من تعاظم دور القحطاني لا سيما أنه الرجل الثاني في “هتش”.
مع ذلك قد يكون اعتقال القحطاني محاولة من الجولاني لإبعاد العناصر غير السورية من صفوف “هتش”، تمهيداً لإمكانية الاعتراف بهيئة سياسية ناتجة عنها لا تحوي أياً من الوجوه القديمة في التنظيم، لاسيما أن الجولاني عمل في السنوات الماضية على تسويق تنظيمه كتنظيم منتمٍ للثورة السورية، وباتت الخطابات الإعلامية للتنظيم تتبنّى أدبيات الثورة وتتجنّب المفردات “الجهادية”.
وفي الوقت الذي يُظهِر فيه الجولاني الالتزام بوقف إطلاق النار شمال غربي سوريا وعدم نيّته التوسع باتجاه مناطق نظام الأسد يبدو أنه يسير بصورةٍ مغايرة لذلك تماماً فيما يخص مناطق سيطرة الجيش الوطني السوري، إذ عمل على استغلال عدة أحداث مرّت بها المنطقة في العام الماضي مثل قضية مقتل مدنيين أكراد في جنديرس وصراع العشائر العربية مع “قسد” من أجل إرسال قوات وعناصر أمنيّين وزرعهم بشكل دائم في المنطقة إلى جانب بعض الفصائل الموالية لـ”هتش” التي تمكّن من توظيفها وفق ما يخدم مصالحه الأمنية والاقتصادية مستغلّاً حالات الصدام فيما بينها، ولا يُستبعد أن ينقلب عليها أو يُفكّكها فيما لو تمكّن منها أو انتهت مصلحته معها كما فعل مع العديد من الفصائل التي تحالفت معه في السنوات الماضية، لكن مع ذلك لا يبدو أن محاولات الجولاني بتحقيق وجود علني أو كبير في مناطق ريف حلب ستتحقق في ظل عوامل متعددة يصطدم بها من أبرزها رفض الجانب التركي المشرف على المنطقة تمدُّد “هتش” خصوصاً مع استمرار تصنيفها تنظيماً إرهابياً، وتذرُّع روسيا بها لمهاجمة مناطق إدلب وريفها، الأمر الذي قد يدفع الجولاني إلى التفكير بنموذج سيطرة مختلف في شمال وشرق حلب يختلف عن نموذج سيطرته المباشرة في إدلب، وذلك من خلال تقوية الفصائل المتحالف معها ودعمها ومدّ نفوذها للقضاء على المناهضين له، مع بقاء الجولاني يُحرّك هذه الفصائل من الخلف، ومع إبقاء نموذج الإدارة التركي غير المباشر على حاله.
- إرسال رسائل إلى المجتمع الدولي بأن الجولاني يواصل ملاحقة “جماعات راديكالية” تهتف لـ “الخلافة الإسلامية” وغير راضية عن اتفاقات وقف إطلاق النار.
- تنفيذ ما يمكن تسميته “ضربات استباقية” خوفاً من تمدد القاعدة الشعبية للحزب في حال الصمت عن ممارساته والأفكار التي يروّج لها.
- تعرّض عناصر ودوريات تابعة لـ “هتش” لإطلاق نار من أفراد ينتمون للحزب، ما يشير إلى إمكانية تحول الحزّب من التظاهر والانتقاد إلى شنّ هجمات مسلحة ضد “هتش”.
المقال التحليلي “الجولاني، من رحم “داعش” إلى “قائد ثوري شعبي”؟ “، مركز الحوار السوري، 12 / 8 / 2020
باحث مساعد في مركز الحوار السوري، يعمل ضمن وحدة تحليل السياسات، كتب وشارك في العديد من الأوراق المتعلقة بتحليل سياسات الفاعلين في سوريا، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية.