نظرة على الاحتجاجات العشائرية الأخيرة ضد “قسد” في دير الزور وانعكاساتها على استقرار المنطقة
تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
ملخص:
- شكّلت احتجاجات العشائر الأخيرة ضد “قسد” في ريف دير الزور، ومطالبتهم بإنشاء مجلس عسكري خاص بهم مثالاً جديداً على حالة عدم الثقة الشعبية بسلطة الأمر الواقع هناك؛ وذلك بسبب تورُّط “قسد” بالكثير من الانتهاكات، وتهميشها للخدمات، وحماية الفاسدين وفق اعتبارات السكان المحليين.
- عملت “قسد” على إخراج الاحتجاجات من سياقها وجعلها مشكلة بين عشيرتَين؛ مما كاد يُهدّد باندلاع نزاع عشائري كبير في ريف دير الزور.
- تستخدم “قسد” السكان المحليين العرب واجهةً للكثير من ملفات الفساد، وتتحكّم بكل القرارات من تحت الطاولة عن طريق من يُعرفون بـ “الكوادر”، وهم في غالبيتهم من عناصر حزب العمال الكردستاني.
- يُدرك التحالف الدولي مدى فاعليّة المكوّن العشائري في دير الزور؛ ولذا فإنه يسعى إلى رأب الصدع واحتواء النزاعات الكبيرة بين “قسد” والعشائر العربية، خشيةً من حصول فوضى أمنية في منطقة دير الزور التي يوليها أهمية كبيرة.
- تسعى إيران -إلى جانب نظام الأسد- إلى اللعب بورقة العشائر وتحريضهم ضد “قسد” للخروج بمظاهرات ضدها، أو تنفيذ عمليات ضد التحالف الدولي.
مقدمة:
انتهى العام 2022 مع خروج العديد من المظاهرات في بلدات بريف دير الزور الغربي، للمطالبة بمحاسبة شقيق قائد “مجلس دير الزور العسكري” التابع لـ “قسد” بعد اتهامه باغتصاب امرأتَين وقتلهما، وكان المكوّن العشائري العربي هو المهيمن على تلك المظاهرات للمطالبة بمحاسبته بجريمة حسّاسة مجتمعياً، وتتمثل في الاغتصاب والقتل؛ مما دفع “قسد” إلى محاولة استخدام أوراق عديدة للتشويش على الاحتجاجات وإخراجها عن سياقها خشيةً -فيما يبدو- من خروج الوضع عن السيطرة[1].
الجدير بالذكر أن هذه الاحتجاجات تمثّل غيضاً من فيض احتجاجات متكررة ضد “قسد”، ولا يكاد يمرّ عام دون تسجيل الكثير من التظاهرات ضد “قسد” في ريف دير الزور خصوصاً، وفي مناطق أخرى شرق الفرات؛ علماً أن أسباب هذه التظاهرات تتراوح بين التنديد بالفساد، وتهميش الخدمات، وغياب المحروقات رغم أن المنطقة غنية بالنفط[2].
يسلّط هذا التقرير الضوء على الاحتجاجات الأخيرة، ابتداءً بالعوامل المحرِّكة لها، مروراً بردود أفعال “قسد” عليها، ومدى فاعلية المكوّن العشائري في محافظة دير الزور وحجم تأثيره في حكم “قسد”، وطريقة تعاطي التحالف الدولي مع تلك الاحتجاجات، والعوامل المغذّية لها؛ وصولاً إلى استنتاج هشاشة الاستقرار في المناطق التي تسيطر عليها “قسد”.
محرِّكات الاحتجاجات الأخيرة ضد “قسد” في دير الزور؛ شرارة بعثت ناراً تحت الرماد:
فجّرت جريمة الاغتصاب والقتل التي يُتّهم بالضلوع بها المدعو “أدهم الخبيل” شقيق قائد المجلس العسكري التابع لـ “قسد” بدير الزور “أحمد الخبيل” الملقب “أبو خولة” موجة احتجاجات شعبية بقيادة عشائرية على وجه الخصوص[3]، لاسيما وأن مثل هذا النوع من الحوادث يندر أن تقع في منطقة ريف دير الزور ذات الطبيعة العشائرية.
وعلى الرغم من نفي قائد “قسد” في دير الزور ضلوع شقيقه بالعملية إلا أن الاحتجاجات استمرت عدة أيام، وسط تصعيد عشائري وصولاً إلى مطالبة العشائر التحالفَ الدولي بإنشاء مجلس عسكري لعشيرة البكّارة في منطقة غرب دير الزور يكون بديلاً عن مجلس “قسد”[4]، في حين التزمت “قسد” الصمت عدة أيام؛ ولكن مع ضغط الاحتجاجات أصدرت بياناً متأخراً تحدثت فيه عن إطلاق تحقيق لمعرفة ملابسات وجوانب الجريمة والمتورطين فيها، وأدانت الجريمة ومرتكبيها[5]، وتعهدت بملاحقتهم وتقديمهم إلى القضاء، ولكن الثقة تكاد تكون معدومة من قبل السكان المحليين بـ “قسد” ووعودها إزاء ذلك[6]، وهذا ما أدى إلى استمرار الاحتجاجات لعدة أيام متواصلة؛ بسبب إدراك المكوّن العربي في منطقة دير الزور على وجه الخصوص أن “قسد” شريكة بالكثير من الانتهاكات التي حصلت من قبل “مجلس دير الزور العسكري”، ولم تتحرك ضد “أحمد الخبيل” المتهم بالكثير من ملفات الفساد[7].
وبسبب غلبة العنصر العربي في محافظة دير الزور تقوم “قسد” -كما تقول المصادر المحلية- باستخدام العرب واجهةً للكثير من ملفات الفساد، ولكنها تتحكم بكل القرارات من تحت الطاولة عن طريق مَن يُعرفون بـ “الكوادر”، وهم في غالبيتهم من عناصر حزب العمال الكردستاني القادمين من جبال “قنديل”؛ بحيث يكون لأي قائد عسكري أو مدير مدني عربي “مستشارون” من تلك الكوادر يتحكمون بقرارته بشكل عملي[8]، ولذلك فإن الاحتجاجات الأخيرة هي عامل من عدة عوامل تُحرّك المكوّن العربي في الخروج ضد “قسد”.
وبعد اطلاعنا على محركات الاحتجاجات يبدو من المنطقي أن نتعرف على ردود فعل “قسد” على تلك الاحتجاجات والتعامل معها.
تكتيكات “قسد” في إخماد الاحتجاجات؛ محاولة تغذية فتن عشائرية:
حاولت “قسد” اللجوء إلى سلاح الشائعات لوقف الاحتجاجات الشعبية، عبر نشر شائعة مفادها أن قوات نظام الأسد أرسلت حشوداً عسكرية وتستعدّ للدخول إلى مناطق ريف دير الزور الغربي التي تشهد الاحتجاجات[9]؛ مما أثار حالة من الخوف والقلق لدى بعض السكان، ودفع بعضهم لإعلان الجاهزية للتصدي لأي هجوم من قبل قوات نظام الأسد، قبل أن يدرك السكان المحليون أنها مجرد شائعة من “قسد” تهدف بها إلى وقف الغضب الشعبي.
وعلى خلاف العادة من تجاهل الاحتجاجات الشعبية المندّدة بالفساد وانعدام الأمن والفوضى وسوء الخدمات فإن قائد مليشيا “قسد” مظلوم عبدي دخل على خط الأزمة[10]، خشية -فيما يبدو- من خروج الأوضاع عن السيطرة في منطقة ريف دير الزور التي تشهد في الأصل احتقاناً شعبياً مكبوتاً ضد “قسد” بسبب سياساتها التهميشية في المنطقة[11]، لاسيما وأن التظاهرات امتدت مثلاً إلى قرى عدة بريف الحسكة الجنوبي[12].
وقالت مصادر محلية: إن قائد “قسد” التقى وفداً برئاسة الشيخ “حاجم البشير” وممثلين عن قبيلة البكّارة في مدينة الحسكة للتباحث حول المستجدات الأمنية ومطالب الأهالي بريف دير الزور الغربي بعد جريمة اغتصاب وقتل الفتاتَين.
ولكن لقاء عبدي بالعشائر لم يكن كفيلاً بإنهاء التوتر، إلى أن عملت “قسد” على خطة أخرى تمكّنت بموجبها من إخراج الاحتجاجات من سياقها وجعلها مشكلة بين عشيرتَين؛ عشيرة البكيّر التي ينتمي لها قائد “قسد” بدير الزور وعشيرة البكّارة التي طالبت بتشكيل المجلس العسكري الجديد[13]؛ إذ كانت المنطقة على صفيح ساخن بعدما حشد قائد “قسد” أنصاره وأمرهم بالخروج بتظاهرات دعماً له بحجة أن الاعتداء عليه يمثل اعتداءً على القبيلة، وأعقب ذلك إساءات كبيرة من أنصار “أبو خولة” لشيخ البكّارة وتهديده والتوعّد بمواجهة كل مَن يطالب بعزل “أحمد الخبيل”؛ مما كاد أن يشعل موجة عنيفة من النزاع العشائري بين القبيلتَين. علماً أن “قسد” تتجاهل عادةً النزاعات العشائرية التي تجري في دير الزور، وهو نهج دأبت عليه قيادة “قسد” في السنوات الماضية في منطقة شرق الفرات عموماً[14]؛ إذ إنها تُتهم بالسعي لضرب العشائر ببعضها بهدف إضعافهم، وهذا ما لُوحظ أكثر من مرة عند عدم تدخل “قسد” في القتال العشائري، رغم أنها سلطة الأمر الواقع في منطقة شرق الفرات.
ومع المخاوف من انزلاق منطقة دير الزور نحو العنف بين العشائر جرت مفاوضات عشائرية قادها “الخبيل” نفسه، وتم عقد الصلح بين القبيلتَين، مما أدى بالنتيجة إلى تجاهل المحاسبة على جريمة اغتصاب وقتل الفتاتَين، فتمّ احتواء الاحتجاجات وفق سيناريو لا يشكل تهديداً لـ”قسد”، ولكنه في ذات الوقت يُبقي احتمال النزاع والثأر العشائري قائماً في وقت لاحق[15].
وبما أن منطقة دير الزور عموماً تتميز بالبُعد العشائري فيجدر الاطلاع على هذا العامل، ومدى فاعليته في الحراك المجتمعي.
مدى فاعلية العامل العشائري في دير الزور:
لا يمكن إغفال أهمية العامل العشائري في محافظة دير الزور؛ لذا فإن معظم جهات السيطرة التي تعاقبت على الحكم في دير الزور سعت للاستثمار في العشائر وتجنُّب العداء معها، بدءاً بجهة النصرة (هيئة تحرير الشام –”هتش” حالياً) ثم داعش[16]، وصولاً إلى “قسد” التي تعمد إلى دعوة العشائر في أغلب الاجتماعات العامة التي تقيمها في مناطق شمال شرق سوريا، وهو أمر يُرجعه بعض المراقبين إلى أن الوجود الكردي شبه معدوم في منطقة دير الزور؛ مما يجعل أبناء المنطقة العرب الركيزة الأساسية التي تعتمد عليها “قسد” في التجنيد وخلق حاضنة موالية لها في المنطقة، كما أن وجود مكوّن عربي ضمن “قسد” وهيكليتها العسكرية يمكن أن يندرج أيضاً ضمن محاولات التحالف الدولي إظهار شرعية “قسد” بأنها مكوّنة من مختلف مكونات الشعب السوري، بهدف تخفيف غضب تركيا التي تقول: إن “قسد” الذراع السوري لمليشيا حزب العمال الكردستاني، إلى جانب عوامل أخرى مثل زجّ المقاتلين العرب في الخطوط الأمامية للقتال ضد داعش، أو المواجهات ضد الجيش الوطني، وخلال عمليات التمشيط يبرز أهمية المكون العشائري والعربي عموماً لدى “قسد” والتحالف الدولي.
ومما يدل على فاعلية العامل العشائري والمحلي في منطقة دير الزور تمكُّنُه من عرقلة خطط “قسد” للعبث بالواقع التعليمي وإدخال فكر حزب العمال الكردستاني إلى مدارس دير الزور؛ إذ حاولت “قسد” إقرار مناهج دراسية تُروّج لأفكار أوجلان[17]، لكنها فشلت في ذلك بسبب التصدّي الشعبي، وهو أمر يبدو أنه كان أحد أسباب تهميش “قسد” الواقع التعليمي بشكل كبير في ريف دير الزور، فضلاً عن أن “قسد” تُتّهم بالتعامل مع المنطقة بسياسة تمييز وتهميش للخدمات الأساسية؛ وهو ما كان كفيلاً بخروج تظاهرات شعبية ضدّها أكثر من مرة كما أسلفنا.
وبما أن المنطقة تُعد عملياً تحت إشراف التحالف الدولي، وهو الذي يحمي “قسد” ويدعمها في المنطقة؛ يبدو مفيداً محاولة استطلاع موقف التحالف من هذه الاحتجاجات، وكيفية تعامله مع المطالب العشائرية والانتهاكات المتكررة التي تُتهم “قسد” بارتكابها.
طريقة تعامل التحالف الدولي مع الاحتجاجات الشعبية والعشائرية ضد “قسد”:
على اعتبار أنّ “قسد” تتلقّى الدعم من قبل التحالف الدولي فإن المظاهرات التي كانت تخرج ضدها لم تكن تخلو من مناشدات للتحالف بإيجاد حلولٍ لمشاكل المنطقة ووقف انتهاكات “قسد”[18]، ومن ذلك المظاهرات التي خرجت للتنديد بقتل الفتاتَين في ريف دير الزور؛ فعشيرة البكّارة وجّهت المناشدات للتحالف بحلّ المجلس العسكري وتشكيل مجلس عسكري جديد من العشيرة، ليؤول إليه الحكم في منطقة ريف دير الزور الغربي.
وخلال السنوات الماضية تباينت مواقف التحالف الدولي إزاء الاحتجاجات الشعبية ضد “قسد”؛ فتارةً يتدخّل وأخرى يتجاهل الاحتجاجات، إلا أنه في العام 2020 كان حضوره كبيراً في الاجتماعات مع العشائر بعد تحميل قبيلة العكيدات التحالفَ الدولي مسؤولية ما جرى من توتر في مناطق سيطرة “قسد”، بعد مقتل وإصابة شيوخ من القبائل العربية بهجمات من مجهولين في مناطق سيطرة “قسد”؛ حيث وُجِّهت اتهامات لـ”قسد” بالوقوف وراء الاغتيالات[19]، وطالبت العشائر التحالف بتسليم إدارة المنطقة لأهلها ولأصحابها وطرد “قسد” منها.
يبدو أن التحالف الدولي يُدرك مدى فاعليّة المكوّن العشائري في دير الزور؛ ولذا فإنه يسعى إلى رأب الصدع واحتواء النزاعات الكبيرة بين “قسد” والعشائر العربية، خشية من حصول فوضى أمنية في منطقة دير الزور التي يوليها أهمية كبيرة؛ فمن جهةٍ في المنطقة أهم الحقول النفطية شرق سوريا، ومن جهة ثانية تطلّ المنطقة على مناطق غرب الفرات الخاضعة لسيطرة المليشيات الإيرانية[20]، بينما تسعى إيران بدورها إلى اللعب بورقة العشائر وتحريضهم على “قسد” للخروج بتظاهرات ضدها أو تنفيذ عمليات ضد التحالف الدولي[21]؛ ولهذا فإن التحالف يضع بالحسبان فيما يبدو مخاطر استعداء العشائر العربية في المنطقة، وما قد يؤدي إليه ذلك فعلاً من حصول هجمات ضد أرتاله التي يُسيّرها بشكل مستمر، فضلاً عن قواعده في دير الزور، خاصة قاعدة حقل العمر التي تُعد هدفاً متكرراً لمليشيات إيران[22]؛ فتهدئة العشائر وإبداء الاهتمام بها ومعالجة مخاوفها أمرٌ يدرك التحالف أهميته، وهذا ما يُفسّر إقدام منظمات مدعومة من الخارجية الأمريكية على تحسين الخدمات بمناطق “قسد” في ريف دير الزور، كتأهيل مشافٍ تعرضت للتدمير خلال الحرب ضد داعش وافتتاحها بحضور مسؤولين أمريكيين[23]، وإنارة شوارع وطرقات لم تولِها مؤسسات “قسد” أي اهتمام[24].
وعلى الرغم من إجراءات التحالف الدولي إلا أنه لا يمكن اعتبارها كافية لتخفيف الاحتقان الشعبي ضد “قسد”، لاسيما مع الامتداد الواسع لمنطقة ريف دير الزور الواقعة تحت سيطرة “قسد”، وما تعانيه من تدنٍّ ملحوظ في الخدمات وشحٍّ في فرص العمل، مما تسبّب بموجات هجرة من المنطقة.
الخاتمة:
رغم تمكّن “قسد” من إخماد الاحتجاجات العشائرية الأخيرة في ريف دير الزور دون صدام مسلح؛ إلا أن المنطقة لا تبدو متجّهة نحو الهدوء والاستقرار لعوامل موضوعية عديدة، يتصدّرها استمرار “قسد” بمنطق التهميش والتمييز ومحاولة استثمار المكوّن العربي فيما يخدم أجنداتها الخاصة، إضافة إلى تأمين الحماية للقادة الفاسدين الذين تجمعهم مع “قسد” المنفعة المتبادلة، في حين لا يُبدي التحالف الدولي الجديّة الحقيقية أو الحراك المطلوب في كبح جماح “قسد”، وإنما يؤمّن لها الحماية بذريعة استمرار الحرب ضد “داعش”، لاسيما وأن “قسد” تستثمر بورقة تنظيم “داعش” مع كل عملية تنوي تركيا شنّها ضدها؛ مما يجعل منطقة دير الزور مهيّأة لتوترات أكبر، لاسيما مع الاحتقان الشعبي العشائري المتزايد يوماً إثر آخر بسبب تلك الممارسات، ما يؤكد هشاشة الوضع وقابليته للاشتعال بشكل متجدد.