الإدارة الشعبية والإعلامية للحدث الفلسطيني الطارئ: دروس مستفادة لأصحاب القضايا العادلة
تقرير صادر عن الوحدة المجتمعية
تطورت الأحداث في فلسطين في الآونة الأخيرة بشكل متسارع، واستطاعت أن تحرك الشارع الفلسطيني والعربي والعالمي، وأعادت الموضوع الفلسطيني للواجهة بعد غياب، وتفاعل الفلسطينيون جميعاً إعلاميين وناشطين وحقوقيين ومؤثّرين مع الحدث بشكل لافت؛ فاستطاع أن يوجد موجة واسعة من التأثير والتفاعل تستدعي البحث والدراسة.
بدأت القصة بانتهاك جديد قامت به قوات الاحتلال بحق سكان “حي الشيخ جرّاح” أحد الأحياء القديمة في القدس الشرقية؛ حيث أصدرت المحكمة قراراً يقضي بطرد عدة عائلات من بيوتها وإسكان مستوطنين فيها، وأعلن السكان المتضرّرون رفضهم القرار واعتصموا في الشوارع.
ومع زيادة التشديد الأمني والاستفزازات التي قامت بها قوات الاحتلال لجأت الأخيرة إلى التضييق على المصلّين، ومنع وصولهم إلى باحات الأقصى في ليالي رمضان الأخيرة، حيث تطور الحراك الشعبي الداخلي وتوسع، وتشكلت موجة احتجاجات شعبية انتقلت من القدس لتشمل عدداً من المدن والبلدات الفلسطينية، قُوبلت بحملات اعتقال واسعة؛ وهو ما دفع الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة للتهديد باستهداف عسكري للمستوطنات الإسرائيلية إن لم تكفّ قوات الاحتلال عن انتهاكاتها، وبدأت الحرب بين الطرفين مخلّفة الكثير من الخسائر المادية والبشرية.
السياق العام للحدث
يمكن تلخيص مراحل تطور الحدث الفلسطيني الأخير بثلاثة محاور: بدأت -أولاً- بحملة حشد ومناصرة في موضوع حقوقي يتعلق بتهجير سكان “حي الشيخ جرّاح”[1] استهدفت الرأي العام العربي والدولي، تحولت -ثانياً- إلى موجة احتجاج شعبي عفوي واسع تضامناً مع سكان الحي، واحتجاجاً على الانتهاكات بحق المصلّين ومنعهم من الوصول إلى المسجد الأقصى من قبل قوات الاحتلال، ورداً على الدعوات الاستفزازية التي أطلقتها جماعات متطرفة بهدف تجميع الحشود من أجل اقتحام المسجد الأقصى في الـ 28 من رمضان وإقامة صلوات علنية فيه[2]، وشملت الاحتجاجات العديد من البلدات الفلسطينية[3]، ليتطور الحدث في النهاية -ثالثاً-إلى حالة صدام عسكري استمر قرابة 11 يوماً[4].
ولدراسة هذا الحدث الفلسطيني الطارئ لابد من معرفة السياق العام الذي حدث فيه؛ فقد جاءت هذه التطورات على الساحة الميدانية الفلسطينية في وضع يمكن إجماله بعدة نقاط:
- حالة هدوء طويلة على ساحة المواجهات العسكرية؛ فآخر مواجهة عسكرية بين قوات الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية كانت عام 2014 واستمرت لمدة 40 يوماً.
- غياب الحراك الشعبي الفلسطيني في العديد من المدن والبلدات داخل فلسطين “الخط الأخضر”لفترة طويلة قبل الأحداث الأخيرة.
- حالة من التشتت والجمود السياسي على المستوى الداخلي الفلسطيني عقب قرار تأجيل الانتخابات[5]، ترافقت مع حالة متصاعدة من الاحتقان الداخلي نتيجة انسداد أفق الحل السياسي والمصالحة الداخلية.
- مجموعة من الأحداث السياسية الدولية الداعمة للكيان المحتل، منها: إعلان القدس عاصمة “لإسرائيل” عام 2017[6]، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس[7].
- التحركات العسكرية والاستخباراتية “الإسرائيلية” خارج حدودها في سوريا والعراق، وهو ما رفع التوتر الأمني في المنطقة، وأبرز العنجهية “الإسرائيلية” التي اعتبرت أنها قادرة على توجيه الضربات العسكرية في أي زمان ومكان دون رد[8].
- جهود التطبيع التي نشطت مؤخراً مع بعض الدول العربية[9].
ولسنا هنا بصدد تحليل الحدث الفلسطيني، أو تحديد المسؤوليات وتقييم النتائج، أو مقارنته مع الحدث السوري رغم اختلاف الظروف الداخلية والخارجية من جهة وتشابهها من جهة أخرى[10]؛ وإنما نحاول دراسة تجربة التفاعل مع حدث طارئ تطور بشكل متسارع لتجربة تتشابه في خطوط عامة لها مع التجربة السورية، خاصة فيما يتعلق بجانب الانتهاكات الحقوقية والقانونية والتصعيد العسكري.
الحشد ضد الانتهاكات الحقوقية
بدأت الأحداث بحملة حشد ومناصرة حملت عنوان “#انقذوا_حي_الشيخ_الجراح” أطلقتها ناشطة إعلامية من سكان حي الشيخ جرّاح المهددين بالطرد خارج منازلهم؛ إذ بدأت بإثارة هذا الموضوع على مواقع التواصل الاجتماعي ونشر العديد من الفيديوهات التي تغطي عملية الإخلاء الإجباري، ونقلت فيها صوراً حيةً للانتهاكات واعترافاتٍ لأحد المستوطنين بسرقة أملاك الفلسطينيين، وصولاً إلى مشاهد تظهر اعتصام سكان المنازل في الشوارع معبرين فيه عن رفضهم قَبول قرار الإخلاء والهمجية التي يواجهونها[11].
وقد أسهمت الفيديوهات القادمة من قلب الحدث بتحريك الشارع الفلسطيني والعربي ثم الغربي؛ فقد ركزت الحملة على القضية الحقوقية في جوهرها، بغضّ النظر عن حجم المتضررين بها، وقدمت الأدلة والبراهين. فرغم أن الانتهاكات لحقت 12 عائلة ضمّت قرابة 60 فرداً في الحي بينهم 46 طفلاً وصلتهم أوامر لإخلاء منازلهم؛ إلا أن هذه الحملة ربطت قضية التهجير الحالي بقضايا تهجير سابقة، وعملت من خلالها على إثارة القضية مرة أخرى ووضعها تحت دائرة الضوء.
وقد لقيت هذه الحملة تفاعلاً واضحاً من معظم الفلسطينيين والسوريين الذين عايشوا تجربة التهجير، واستطاعت أن تؤثر بهم وتدفعهم للتحرك وإعلان التضامن عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كما لاقت صدى بين الجمهور الفلسطيني الداخلي الذي يعاني منذ مدة طويلة من انتهاكات العدو الصهيوني، ووجد في اللحظة الحالية فرصة لينّفس فيها عن حالة الغضب والاحتقان الداخلي التي يعيشها فتُرجمت على شكل مظاهرات واحتجاجات داخلية واشتباكات مع قوات الاحتلال واسعة النطاق عمّت مدن فلسطين.
التوظيف الناجح لأدوات الإعلام الجديد
نجحَ النشطاء الفلسطينيون خارج فلسطين في التقاط بذور الحدث ومتابعته، واستثمار هذه الحملات والحشد الشعبي لها بشكل بارع على مواقع التواصل الاجتماعي؛ فقد نشطَ الفلسطينيون بكثافة على إنستغرام[12] وتيك توك بالدرجة الأولى، وعلى فيسبوك وتويتر أيضاً، وقاموا بالنشر بالعديد من اللغات، وصمّموا مواد إعلامية خاصة بكل منصة وتناسب جمهورها، في محاولةٍ لإعادة صياغة “الوعي الجمعي” عبر المنصات الرقمية[13].
وإلى جانب استهدافهم الجمهور المهتم بالقضية الفلسطينية قام الناشطون الفلسطينيون باستهداف جمهور وفئات جديدة، خاصة من الشباب والمراهقين وحتى الأطفال الذين لم يشهدوا أحداثاً سابقة ولم يدخلوا في استقطابات سياسية، وكانوا من الشرائح المستهدفة ضمن حملات التطبيع الأخيرة، فقدّم لهم هؤلاء الناشطون الحدث بلغة تتناسب مع إدراكهم وبطرق متنوعة ضمن المنصات التي يتوفرون عليها.
ومن اللافت أيضاً انخراط العديد من الإعلاميين والمؤثرين[14] الفلسطينيين على مواقع التواصل الاجتماعي مع الحدث في بدايته، على اختلاف مشاربهم ونطاق اهتمامهم، سواء كانوا مختصين بطرح مواضيع بالسياسة أو بالكوميديا أو بالطبخ أو بالإعلام البديل، وقدموا رؤيتهم للحدث، وعبروا عن تضامنهم كلٌّ في الساحة التي يعمل فيها، رغم كل التضييق الذي تعرضوا له بسبب مراجعة المحتوى وسياسات تلك المواقع[15].
وقد استطاعت الناشطون الفلسطينيون استقطاب مؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي من جنسيات أخرى عربية وغير عربية، من أصول فلسطينية[16] أو غير فلسطينية، ونجحوا في إقناعهم بالانضمام إلى حملة الحشد حول الحدث الفلسطيني، رغم خطورة هذه المواقف التي يمكن أن تجلب للأجانب منهم تهماً بمعاداة السامية، وقد حاول اللوبي الصهيوني في الغرب ممارسة المزيد من الضغوطات على هؤلاء المؤثرين الأجانب لثنيهم[17] أو إجبارهم على التراجع[18]، وقد نجحوا في ذلك مع البعض.
وظهرت أشكال جديدة من البث المباشر -خاصة على إنستغرام- يمكن من خلالها استضافة عدد من المؤثرين في بثّ واحد في الوقت ذاته ومن دول مختلفة[19]، ويستمر لساعات طويلة؛ وهو ما مكّن من وصول مضاعف لمتابعي هؤلاء المؤثرين أيضاً من كل البلدان، وكان لها أثر واضح في التحشيد والتأثير على الجمهور العام.
وقد قُوبلت حملات الحشد على مواقع التواصل بمزيد من التضييق؛ إذ تدخل سياسيون “إسرائيليون” وطالبوا بعض مواقع التواصل الاجتماعي بحذف المنشورات التي ادّعوا أنها تحرّض على العنف[20]، فأُغلقت العديد من الحسابات ووُضعت قيود صارمة على نشر المحتوى المناصر للقضية الفلسطينية، وهو ما يعكس تخوّف “إسرائيل” من تأثير الإعلام الجديد على صورتها وقدرتها على تغيير الرأي العام.
الخطاب الإيجابي والعقلاني
ساعدت أعمال التوثيق والتدوين والمقالات والخبرات السابقة في توفير محتويات علمية جاهزة أو تحضير محتويات جديدة تتناسب مع الشريحة المستهدفة في فترة زمنية قصيرة؛ فقد ركّزت هذه المحتويات على التعريف بالمشكلة بشكل واضح وجليّ بسيط، وعلى استعراض أبعادها التاريخية والآنية وحتى المستقبلية.
وبالنظر إلى شكل الخطاب وشكل المحتوى المقدم لتغطية الحدث يمكننا ملاحظة أن المحتوى على مواقع التواصل محتوى ناضج وإن كان يُدار شعبياً؛ فحملَ رسائل واضحة ولغة إيجابية محفّزة، كما استخدم صوراً من قلب الحدث تظهر الجانب الإنساني المقاوم عند الفلسطيني، ولم تظهر جانب الضعف والاستجداء، فأظهرَ الشباب داخل فلسطين بمظهر الأبطال الشجعان مركّزاً على ابتسامة المعتقلين ومواجهتهم جيش الاحتلال بشكل سلمي يحمل الكثير من معاني البطولة والشجاعة[21].
ومن جهة أخرى نلاحظ أن الخطاب المستخدم استخدم لغة الإقناع؛ حيث عمل على تجميع العديد من الحجج المعاصرة[22]، بالإضافة لحجج ناشطين أجانب – بينهم يهود- دعموا القضية الفلسطينية ضد انتهاكات قوات الاحتلال، وكتبوا في ذلك العديد من المنتجات بلغات أخرى، وصوّروا فيديوهات ومقابلات بعدة لغات تشرح أفكارهم[23].
وعلى الجانب الآخر ورغم الرد العنيف والقصف المركز الذي قامت به قوات الاحتلال لقطاع غزة؛ إلا أن صور الدمار والجثث والأشلاء كانت مقننة بشكل واضح، فلم يلاحظ انتشار صور قاسية أو دامية ولا صور تظهر الخوف أو الهلع أو البكاء على الجانب الفلسطيني[24]، وإنما أظهرت الضحايا في أبهى صورة يودعهم أهلوهم، كما أظهرت بعض ملامح الدمار عبر قصص إنسانية أظهر أبطالها عزيمتهم واستمرارهم على الصمود، وركزت على مظاهر الخوف والهلع على الجانب الشعبي في “اسرائيل”.
كما استنفرت الأقلام الفلسطينية لمتابعة الحدث بروح معنوية مرتفعة؛ فكانت تلتقط وتركز على معظم الجوانب الإيجابية للصراع، وتتعاطى مع الخسائر بخطاب متوازن، ولم يُسمع بين الفلسطينيين صوت يغرد خارج السرب أو يتحدث بخطاب مغاير احتراماً للحدث والمعركة.
وقد رصدت العديد من الأقلام الفلسطينية ردود الفعل الشعبية والرسمية والإعلامية بين الجمهور في “إسرائيل”، وتُرجمت الكثير من التعليقات والتصريحات والانتقادات في “إسرائيل” لسياسة الحكومة؛ وهو ما أظهر حالة الرعب والخوف في “إسرائيل”، ورفع الروح المعنوية على الجانب الفلسطيني، وساعدهم على الصبر والثبات.
وقد كان للفنّ حضوره اللافت في حملات التحشيد؛ فقد نشط الإنتاج الفني بغزارة، سواء على نطاق الأناشيد الحماسية أو الأناشيد التي استخدمت أنماطاً غنائية معاصرة، شارك فيها منشدون فلسطينيون وعرب وأجانب، كما كان هناك حضور لافت لفن الكاريكاتير وللرسومات الفنية التعبيرية وللمحتويات المرئية، مع المواد الفنية المنتجة مسبقاً كالأفلام الوثائقية والأفلام القصيرة والطويلة التي أعطت مادة وافرة للمحتوى المقدم.
من وراء الستار
قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا التفاعل الشعبي الواسع جاء نتيجة تأثير الضخّ الإعلامي على مواقع التواصل الاجتماعي فحسب، إلا أن هناك مؤثراً خفياً تحرّك بنشاطٍ خلف الستار؛ فقد كان للناشطين الفلسطينيين أثرٌ في تشجيع بعض الشخصيات الفكرية والدينية والسياسية من جنسيات مختلفة عبر وسائل أخرى غير الإعلام لإظهار مواقف داعمة واضحة وعملية[25].
لقد كونت الحالة الإعلامية والإنسانية المتصاعدة تعاطفاً واسع النطاق إلا أنه كان تفاعلاً عاطفياً قام الناشطون الفلسطينيون -أفراداً ومؤسسات – باستثماره وتشجيع أصحابه لتحويله إلى فعل؛ فقد كان للمؤسسات الفلسطينية في الخارج دور مبادر في تحريك بعض المؤسسات الإسلامية والمؤسسات الصديقة، والتي قامت بدورها بالتواصل مع المؤسسات الأجنبية لتنظيم مظاهرات ووقفات احتجاجية وإصدار بيانات، دون أن ينتظروا أن تتحرك هذه المنظمات بفعل مبادر من تلقاء نفسها.
وفي السياق ذاته قام بعض الناشطين الفلسطينيين باستثمار البُعد الديني لقضيتهم، بهدف حشد علماء المسلمين – من غير العرب – وتشجيعهم على إصدار مواقف متضامنة مع الحدث وتقديم الأدوات التي تساعدهم على ذلك، فخرجت العديد من البيانات والرسائل المرئية أو خطب الجمعة التي أسهمت في تحشيد الشعوب المسلمة، وجاءت بتحفيز أفراد ومؤسسات فلسطينية[26].
ومن جهة أخرى أسهم بعض النشطاء الفلسطينيين في المجال الإعلامي بتوفير محتوى جاهز لمن يريد المشاركة في الحدث من مؤثّري مواقع التواصل الاجتماعي، بل وبتحضير محتوى خاص به يتناسب مع الشريحة التي تتابعه، دون أي قيود أو تدقيق على مَن يريد المشاركة ونوع المضمون أو المحتوى الذي كان يقدمه لجمهوره عادة؛ وهو أمرٌ -وإن رآه البعض غير موفَّق- إلا أن آخرين رأوه محاولة ناجحة للوصول إلى شرائح ذات اهتمامات مختلفة من جهة، ومحاولة للتأثير في مَن يُعرفون بـ”المؤثّرين” على مواقع التواصل الاجتماعي وتشجيعهم على الانخراط في قضايا جادّة ومساعدتهم على تطوير خطابهم الإعلامي من جهة أخرى.
الحضور في الساحة الدولية
على المستوى الغربي استثمر العديد من الناشطين الفلسطينيين علاقاتهم، وتمكنوا من إقناع العديد من الفنانين والمؤثرين الغربيين بالانضمام إليهم، رغم إمكانية تعرضهم لضغوط وعواقب نتيجة قوة اللوبي الصهيوني في الغرب، وهي خطوة تستدعي المزيد من الدراسة والبحث؛ فقد كان واضحاً حجم التفاعل الغربي -خاصة الشعبي- مع مطالب الفلسطينيين بشكل يشير إلى نجاح أدوات التأثير الناعمة التي استخدمها الفلسطينيون لعقود في صياغة رأي عام شعبي أجنبي، يتباين مع سياسات الحكومات الحالية، وقد يضغط عليها مستقبلاً.
ومن الملاحظ توجه الناشطين الفلسطينيين -خاصة من الشباب- لدراسة ميادين الإعلام والعلوم السياسية والتخصص بها، وهو ما ساعدهم على الحضور في العديد من القنوات الإعلامية والشبكات الدولية، وأسهم بتوسيع التغطية تجاه الحدث الفلسطيني وتنويعها.
ومن اللافت أيضاً التحرك السريع والمنظم للجاليات الفلسطينية والعربية في المهجر تجاوباً مع الحدث، وهو ما يعود لمكانة القدس الدينية في نفوس الجاليات المسلمة، ووضوح القضية الفلسطينية في أذهانهم؛ فقد خرجت العديد من المظاهرات التي تعلن الدعم والتضامن مع الفلسطينيين بأعداد كبيرة وعلى مدى أيام، وهو ما يعكس قدرة الناشطين الفلسطينيين على الحشد وقدرتهم على التشبيك مع المنظمات الأخرى، لاسيما في بريطانيا[27] والولايات المتحدة الأمريكية[28] وكندا[29].
لقد تمكنت عملية الحشد الشعبي على مواقع التواصل من التأثير في القائمين على تلك المواقع؛ فأصدرت مجموعة من موظفي شركة “غوغل” بياناً داخلياً طالبوا فيه بضرورة دعم Iلفلسطينيين وحماية الخطاب المعادي للصهيونية، واعترضوا على “الخلط بين إسرائيل والشعب Iليهودي”، معتبرين “أن معاداة Iلصهيونية ليست معاداة للسامية”[30].
ومن جهة أخرى تراجع تقييم تطبيق فيسبوك على متاجر التطبيقات بعد حملة بدأها ناشطون فلسطينيون وعرب على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب سياساته بحظر منشورات وحسابات تتحدث عما يحدث في فلسطين؛ حيث تراجع تقييم “فيسبوك” من 5 إلى 2.4 على متجر تطبيقات “غوغل بلاي”، فيما تراجع من 4 إلى 2.3 على متجر تطبيقات آبل، وهو ما جعل شركة فيسبوك تتابع نتائج الحملة بأعلى درجات الجدية؛ لأن هذه الحملة تعني تراجع ثقة المستخدمين بالتطبيق بسبب إحساسهم بفرض الرقابة عليهم أو إسكاتهم نهائياً[31].
وفي الوقت نفسه سعى فريق تطبيق إنستغرام في منطقة الشرق الأوسط للتواصل مع بعض الناشطين الفلسطينيين لفهم طبيعة المشاكل التي يواجهونها في المحتوى الفلسطيني، خاصة بعد صدور بعض التقارير البحثية العربية والأجنبية التي تؤكد عمليات تقييد المحتوى على بعض التطبيقات[32].
ملامح تغير في السياسات الدولية
من الملاحظ حدوث تغير ملموس في بعض السياسات الإعلامية الدولية؛ فعلى سبيل المثال: أصبح الناشطون الفلسطينيون من داخل فلسطين أكثر حضوراً على المنصات الإعلامية الغربية، وأصبحت روايتهم توضع مقابل الرواية الأخرى، في حين وجّه صحفيون آخرون أسئلة محرجة لبعض السياسيين الإسرائيليين حول قصف غزة وأعداد الضحايا المدنيين، وقد أصبحت بعض المصطلحات مثل مصطلحات “الفصل العنصري” Apartheid و”الاستعمار الاستيطاني” Settler Colonization دارجة ومستخدمة في مواقع التواصل الاجتماعي في توصيف دولة “إسرائيل” كدولة احتلال، فاستطاعت التأثير في شريحة من الجمهور الأجنبي وإقناعهم بالرواية الفلسطينية[33].
وعلى المستوى الحقوقي نظّمت حركة “آفاز” العالمية التي تهدف لتمكين سياسات الشعوب من صناعة القرارات حول العالم حملة توقيعات غير مسبوقة للوقوف مع غزة ضد العدوان “الإسرائيلي”، واستطاعت جمع أكثر من 3 ملايين صوت يطالبون بفرض عقوبات على “إسرائيل” ومساعدة الفلسطينيين لنيل حقوقهم، وأرسلت رسائل إلى عدد من البرلمانيين ووزراء الخارجية[34].
كما بدأت بعض الأصوات السياسية تتعالى للتنديد بالانتهاكات “الإسرائيلية”؛ فقد وصفت مجموعة من أعضاء مجلس النواب الأمريكي دولة “إسرائيل” بأنها دولة فصل عنصري واتهمتها بأنها ترتكب إعمالاً إرهابية، وطالبت إحدى النائبات الرئيس الأمريكي بالتخلي عن دعم “إسرائيل” والعمل على إحلال السلام، في حين شارك سيناتور يهودي معروف بمواقفه المميزة شعار “حياة الفلسطينيين مهمة”، وهو الشعار الذي تبنّاه أيضاً موقع حركة “حياة السود مهمة” على منصة تويتر[35].
وتظهر هنا أهمية مشاركة المجنّسين في الدول الغربية ضمن الأجهزة والأحزاب السياسية؛ ساعدهم في ذلك وجودهم في مراكز صناعة القرار الغربي، ونجاحهم في عقد تحالفات مع الجهات التي تتبنى قضايا تشبه قضاياهم في خلق حالة من التأثير التي يمكن من خلالها إحداث تغيير ناعم في سياسات الدول التي كانت تقدّم دعماً غير مشروط لـ ” إسرائيل”، وترفع شعارات حول “حق إسرائيل في الوجود” و”ضرب الإرهابيين” و”معاداة السامية”[36].
الإدارة الإعلامية العسكرية للحدث:
من الصعب دراسة الحدث الفلسطيني الأخير دون النظر في الجانب العسكري منه، والذي احتل مساحة زمنية واضحة خلال الحدث، وقدّم مفاجآت مادية ومعنوية أسهمت في جذب الجماهير ولفت الانتباه، كما قدم إدارة إعلامية وميدانية تستحق الدراسة والتحليل، لاسيما من خلال دورها في تعزيز الروح المعنوية وتجميع الشارع الفلسطيني والعربي من جديد.
فقد جاء العمل العسكري في سياق الدفاع عن الحاضنة الشعبية، وفي محاولة للتخفيف عنها بعد أن قامت قوات الاحتلال بقمع المتظاهرين واعتقالهم بشكل وحشي، وجاء في سياق زمني يعيش فيه قطاع غزة حصاراً اقتصادياً وتضييقاً كبيراً، ورغم وجود انتقادات وجّهها بعض المفكرين حول صوابية التدخل العسكري في سياق الاحتجاجات الشعبية؛ إلا أن هذا التدخل كان له دور كبير في تعزيز الروح المعنوية لدى الفلسطينيين داخل فلسطين وخارجها وإعادة الاعتبار لهم، فالتفّ الجميع من كل المشارب حول دعم المقاومة والوقوف معها، مؤكدين أن حق الشعوب في الدفاع عن وجودها هو حق مشروع.
ومن جهة أخرى فاجأت القوة العسكرية والتطور الحاصل في مدى الصواريخ الفلسطينيين قبل قوات الاحتلال، فلم تكن التهديدات العسكرية للاستهلاك الإعلامي؛ وإنما ترافقت بخطوات عملية على الأرض أكدت أن سنوات التهدئة السابقة لم تكن سنوات ضائعة، وإنما تم فيها تطوير القدرات الذاتية بخبرات محلية تمكنت من تحقيق نجاحات بالموارد المحدودة المتاحة، وهو ما أدّى إلى رفع الروح المعنوية الداخلية، وعزّز الالتفاف الشعبي حول فكرة المقاومة، لاسيما مع فشل المسارات الأخرى وخاصة السياسية منها.
كما أظهرت المقاومة الفلسطينية إدارة إعلامية ملفتة للمعركة من خلال إظهار متحدث رسمي يخرج بخطاب قوي محفّز، وهو متلفح بكوفية فلسطينية تخفي ملامحه، ويتحدث بلغة تحدٍّ للطرف الآخر، الأمر الذي كان له أثر واضح على الحاضنة؛ فحالة الغموض والثقة والخطاب المبادر الذي يصنع الحدث، لاسيما ما يتعلق بالهدن المؤقتة أو التلويح بضربات في زمان معين، وهو حدث جديد لم تشهده الساحة الفلسطينية، ولفت الأنظار لهذا التغير العسكري وجعله موضع متابعة وترقب.
ومن اللافت أن الناشطين الفلسطينيين التقطوا من خلال الخطاب العسكري بعض الرسائل الموجهة للعدو، وحولوها إلى رسائل داخلية كان من شأنها تعزيز الروح المعنوية، ومنها هاشتاغات #شربة_ماء، #على_رجل_واحدة[37] ، والتي انتشرت بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي وأصبحت موضع للتندر[38]، وهو ما يشير إلى أثر الخطاب العسكري في تعبئة الجماهير وقت الحدث.
ومما أسهم في متابعة الحدث الميداني وجود العديد من الصحفيين التابعين لشبكات إعلامية عربية وأجنبية استنفروا لنقل الحدث بداية، كما كان لاستهداف مكاتبهم في قطاع غزة دور في تعزيز التغطية والإضاءة على جانب من رد الفعل العنيف الذي تقوم به قوات الاحتلال.
ماذا نتعلم من الفلسطينيين؟
راهنَت قوات الاحتلال على أن قضية فلسطين ستخفت جذوتها مع الزمن، ومع تقادم الأجيال التي ستجد أن دولة “إسرائيل” أصبحت واقعاً يجب عليها أن تتعايش معه؛ إلا أن الفلسطينيين قلبوا المعادلة “الإسرائيلية” عندما تمسكوا بقضيتهم وغرسوها عميقاً في قلوبهم وقلوب أبنائهم وعقولهم، فأصبح الانتماء إلى قضية فلسطين محفوراً في وجدان الأبناء والأحفاد وشرفاً يتبارى صاحبه لدعمه وإثباته، سواء كان يعيش قريباً من فلسطين أو بعيداً عنها.
لقد أثمر العمل الشعبي الذي قام به الفلسطينيون لعقود أفراد ومؤسسات[39] في غرس انتماء واضح للهوية، دفع الأجيال الجديدة من تلقاء نفسها للدفاع عن قضيتها، سواء كانت تعيش في بلاد الطوق أو بلاد المهجر[40]، أو حتى داخل فلسطين في مناطق تخضع لسلطة قوات الاحتلال؛ حيث كان لافتاً عودة الحراك الشعبي الداخلي إلى مدن وبلدات لم تشارك في أي أحداث احتجاجية منذ زمن، كالمناطق الخاضعة لنفوذ السلطة الفلسطينية ومدينة القدس، وهي مناطق سعت قوات الاحتلال لتحييدها عن الصراع وخلق شروخ بينها وبين بقية المناطق، وخاصة قطاع غزة، فضلاً عن مناطق “الخط الأخضر-48”.
لقد ترجم الفلسطينيون هذا الانتماء الراسخ بوقفة جادة وسريعة تناسوا فيها خلافاتهم السابقة، وركزوا جهودهم على مواجهة الانتهاكات التي تهدد هويتهم وقضيتهم، ساعدهم على ذلك سنوات من الخبرة المتراكمة والإعداد المسبق وسجل من الإنجازات والأخطاء، فلم ينطلقوا من الصفر؛ وإنما بنَوا على ميراث كبير من العلاقات والمعلومات والمواد والخبرات الشخصية والمؤسساتية التي بدأت تطرح ثمارها بعد سنوات طويلة من العمل التراكمي.
أدرك الفلسطينيون أن التعاطف العربي والإسلامي والعالمي مع الأحداث الإنسانية لا يمكن التعويل عليه وحده بتحركات تضامنية ذاتية، بل لابد من استثمار هذا التعاطف وتوجيه حالة التعبئة النفسية والعاطفية نحو خطوات عملية ملموسة، وتقديم الأدوات والوسائل والأفكار والمقترحات والدعم المادي والمعنوي لإظهار هذا التعاطف بشكل عملي يساعد المتضامنين على معرفة أين وكيف ومتى يتحركون بشكل يخدم السياق العام للحدث.
وتمكن الفلسطينيون من استخدام الإعلام الجديد لخدمة قضيتهم بنجاح واضح، فاستطاعوا تشكيل تيار إعلامي قوي وعريض على مواقع التواصل الاجتماعي يواجه الرواية المعاكسة ويدحضها بأدلة وأدوات بسيطة من جهة، ويعيد تشكيل العقل الجمعي الذي تشوش بعضه بالكثير من الروايات والأحداث الأخيرة، وقد استطاع هذا التيار نتيجة نجاحه باجتذاب بعض الأسماء المشهورة في توسيع قاعدته وتشجيع الآخرين على الالتحاق به؛ حيث أصبح الحدث الفلسطيني الموضوع الذي يتكلم عنه الجميع “ترند”، وبالتالي وجد العديد من الأشخاص – الذين لم يسبق لهم الانخراط في مثل هذه الأنشطة -أنفسهم أمام هذا التيار مضطرين عن قناعة أو مجاملة أو عن طريق التقليد إلى الدخول والمشاركة وإثبات وجودهم فيه، لاسيما وأن موضوع هذا “الترند” موضوع له أبعاد إسلامية إنسانية حقوقية تمنح شرفاً اعتبارياً لمن ينخرط فيه.
وينبه الحدث الفلسطيني الأخير إلى قوة الأدوات الإعلامية وقدرتها على إعادة صياغة الأحداث، وعلى رفع معنويات أصحابها وخفضها لدى العدو، وصنع تاريخ جديد يمكن له أن يغير الرأي العام الدولي ويكتسب شرعية؛ إلا أن المعركة الإعلامية صعبة معقدة كذلك؛ فالطرف المقابل فيها متفوق أكثر في العدة والعتاد، ولابد فيها من خوض الكثير من الجولات بنفَس طويل حتى تظهر بعض الآثار على المدى البعيد.
وعلى الجانب العسكري، رغم انخراط الفصائل الفلسطينية في العملية السياسية، وما تسببت به هذه العملية من اختلافات وانقسامات على المستوى الداخلي، لم تترك فصائل المقاومة سلاحها ولم تركز جهودها على العمل السياسي فقط، بل عملت بعض هذه الفصائل على تعزيز قدراتها العسكرية وتطوير منظومة سلاحها بشكل ذاتي، وهو ما مكنها أن ترد بقوة على أي انتهاك، وجعل منها رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه، وملكها أوراقاً يمكن أن تعزز أي موقف تفاوضي لاحق، حتى لو تغيرت المواقف الدولية مستقبلاً.
وهنا يجب على أصحاب القضايا المحقة أن يتعلموا من التجارب المتاحة والمشاهدة أمامهم، وأن يستقوا منها الدروس والعِبر التي تمكّنهم من اختصار الجهود والسنوات للوصول إلى نتائج مشابهة، وأن يدفعوا بالأجيال الجديدة إلى دوائر صناعة القرار في البلدان التي استقروا بها، كما عليهم أن يعقدوا التحالفات التي تمكّنهم من بناء جبهات حقوقية وشعبية وإعلامية أقوى أثراً وأوسع انتشاراً يمكن من خلالها مواجهة أعدائهم والوقوف في وجه انتهاكاتهم، وتحقيق نجاحات مرحلية يمكن أن تكون الدافع والمحرّك لنجاحات أكبر وأكثر استدامة.
لمشاركة التقرير: https://sydialogue.org/v0jp
مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة