الإفتاء الرسمي في مصر والعراق – دروس مستفادة للحالة السورية
الملخص:
نظراً لتشابه ظروف نشوء غالبية الدول العربية الحديثة التي تشكّلت بعد انفراط عقد الدولة العثمانية؛ تنطلق هذه الورقة من فرضية وجود تشابُه بين المؤسسات التي استبقتْها هذه الدول من الحقبة العثمانية، كما هو حال مؤسسة الإفتاء؛ ولذا تسعى هذه الورقة عبر المنهج المقارن إلى تحليل تجربتَي مؤسستَي الإفتاء الرسمي في كل من مصر والعراق، بما يساعد على استخلاص أبرز الدروس التي يمكن الاستفادة منها في الحالة السورية، عبر تحديد العوامل المؤثرة في إدارة هذه المؤسسة، وبالتالي استشراف مستقبلها.
يشير تحليل وضع الإفتاء الرسمي في مصر إلى أن هذه الوظيفة موزعة بين مؤسستَي الأزهر ودار الإفتاء المصرية، وأن الأزهر تاريخياً هو المؤسسة الأقوى قانونياً وعلمياً واعتبارياً لتولي هذه الوظيفة؛ إلا أن إبداءه المواقف السياسية في بعض الفترات أضعفَ استقلاله عملياً، من جهة سعي السلطة الدؤوب لتوظيف مواقف الأزهر لمصلحتها، كما أن الضمانات القانونية التي جاءت في الدساتير المصرية الأخيرة لم تكن كافية لضمان استقلال مؤسسة الإفتاء؛ لعدم وجود إرادة صادقة من السلطة للالتزام بمثل هذه النصوص، ولفقدان ضمانات مؤسساتية أخرى يأتي في مقدمتها القضاء المستقل.
في الحالة العراقية تبيّن أن التنظيم الرسمي للإفتاء في العراق جعل “ديوان الوقف السّنّيّ” الذي يضم في هيكليته “المجلس العلمي الإفتائي” الجهة المسؤولة عن هذا الدور، بغضّ النظر عن دقة النص القانوني وتفصيله، مع منح غطاء قانوني في الوقت ذاته للمجمع الفقهي العراقي كمرجعية علمية سنّيّة غير رسمية، ويضاف إلى ذلك وجود غطاء قانوني ما -رغم جدليته- “للصميدعي” الذي يحظى بدعم إيراني.
أما على صعيد الاستفادة من التجربتَين في الحالة السورية فقد أكدت الورقة ضرورة التركيز على استعادة الضمانات المفقودة لاستقلال إدارة الإفتاء؛ كضمانة انتخاب المفتي بدلاً من تعيينه، وإضافة ضمانات جديدة لها مثل النص الدستوري الذي يشير إلى هذه الضمانات، حيث إن ذلك يتقاطع بشكل غير مباشر مع المبادئ التي تنادي بها غالبية وثائق قوى الثورة والمعارضة، من جهة سحب فكرة اللامركزية الإدارية إلى المجال المرفقي، بحيث تصبح إدارة الإفتاء في سوريا هيئة إدارية ذات طبيعة خاصة.
مقدمة:
ثمّة مؤسسات دينية إسلامية كبيرة في كل الدول العربية، وقد تطوّرت هذه المؤسسات الرسمية على نحو مُتباين وفقاً للتجارب التاريخية المختلفة في كل دولة، وأصبحت تلعب أدواراً متعددة، ويعود تطوُّر هذه المؤسسات الدينية الرسمية بشكل رئيس إلى مرحلة تشكُّل الدول الحديثة التي قامت على فترات عديدة بإصدار تشريعات لإيجاد تنظيم قانوني لـ “الإسلام الرسمي”[1]، بما فيها تنظيم الإفتاء والتدريس الديني[2].
مع صدور المرسوم التشريعي رقم /28/ لعام 2021 عن رأس نظام الأسد، الذي ألغى بموجبه منصب المفتي العام في سوريا، ثم انتخاب المجلس الإسلامي السوري الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً عاماً للجمهورية؛ ثار نقاشٌ حول التنظيم القانوني لهذه المؤسسة وأهداف نظام الأسد من هذه الخطوة، من خلال محاولة الاسترشاد بالتجربة العراقية بحكم تشابهها مع ما هو حاصل في سوريا من جهة الخضوع للنفوذ الإيراني.
من هذا المنطلق كان للوقوف على التجارب المقارنة لبعض الدول العربية التي تتشابه في بعض سياقاتها وجوانبها مع التجربة السورية في تنظيم مؤسسة الإفتاء قيمةٌ مضافةٌ يمكن أن تساعد على تحليل ما آل إليه الوضع في الحالة السورية، وعلى استشراف مآلاته.
كنا قد تناولنا في الإصدار الأول حالة التنظيم القانوني للإفتاء والتدريس الديني في سوريا، تحت عنوان “تطوُّر إدارة الإفتاء العام والتدريس الديني في سوريا من التأسيس إلى الإلغاء – نظرة تحليلية”[3]، ونتابع في هذا الإصدار دراسة التنظيم القانوني للإفتاء الرسمي في مصر والعراق، بهدف تحليل هاتين التجربتَين ومقارنتهما مع الوضع في سوريا، بما يساعد على استنباط أهم الدروس المستفادة من التجارب الثلاث.
بناءً على ذلك يسعى البحث للإجابة على الأسئلة الآتية:
ما هي الأبعاد القانونية لتنظيم إدارة الإفتاء في كل من مصر والعراق؟ وهل ثمّة أهداف سياسية لهذا التنظيم؟
ما هي العلاقة بين الإفتاء والدولة في كلا التجربتَين؟ وما هي نقاط التشابه والاختلاف بين التجربتَين؟
وهل ثمّة دروس من التجربتَين يمكن الاستفادة منها في الحالة السورية؟
نقصد بالإفتاء الرسمي من حيث التعريف الإجرائي في هذه الدراسة: الإفتاء الذي يصدر عن هيئة أو جهة أو مؤسسة رسمية “موجودة بنص القانون”، دون النظر في مدى إلزاميته للسلطات، وفي درجة استقلالية هذه الهيئة أو المؤسسة عن السلطة التنفيذية.
تتمثل أهمية الدراسة في كونها تبحث في مضامين التنظيم القانوني وأبعاده وتطوراته في تجربتَين مهمتَين؛ الأولى هي التجربة المصرية التي تتميز بقِدم تنظيمها ووجود تداخل تاريخي لها مع سوريا من جهة، وبأنها خضعت لنظام سلطوي عسكري لفترات طويلة من جهة أخرى، وتكمن أهمية الحالة العراقية في أنها خضعت قبل عام 2003 لحكم حزب البعث، ولأنها تخضع حالياً لنفوذ إيراني كبير، بما قد يعطي صورة استشرافية لما يمكن أن تؤول إليه الأمور في الحالة السورية مستقبلاً[4].
تعتمد الدراسة المنهج الوصفي التحليلي عبر تحليل النصوص القانونية الخاصة بتنظيم الإفتاء في مصر والعراق، بهدف ربط هذه النصوص بالسياق السياسي والسياق الاجتماعي، والوقوف على نتائجها. كما تعتمد الدراسة المنهج المقارن الزماني بهدف المقارنة بين النصوص القانونية التي طُبقت في فترات زمنية مختلفة من عُمر الدولتَين، والمقارن المكاني للمقارنة بين الحالتَين المصرية والعراقية. واستندت الدراسة إلى المصادر المفتوحة كالأبحاث والمقالات المتعلقة بالموضوع، إلى جانب المصادر الأصلية ممثلة بمقابلة أجراها فريق البحث مع أحد الخبراء في الشؤون الإسلامية والسياسية العراقية[5].
تحلِّل الورقة في قسمها الأول التنظيم القانوني للإفتاء في مصر، وفي القسم الثاني التنظيم القانوني للإفتاء في العراق؛ لنقارن بين التجربتَين في القسم الثالث، ونختم في القسم الرابع باستخلاص أبرز الدروس المستفادة في السياق السوري.
1- الإفتاء الرسمي في مصر: الثنائية ورقة بيد السلطة
على الرغم من التشابه المجمل بين التجربتَين السورية والمصرية من جهة وجود مؤسسة للإفتاء الرسمي؛ إذ في كلا التجربتَين ثمّة مؤسسة رسمية تتولى هذه الوظيفة، إلا أن هناك اختلافاً في التوزيع؛ ففي سوريا تولى الإفتاء الرسمي إدارة الإفتاء العام والتدريس الديني، بينما في مصر تولتها مؤسستان رسميتان هما: الأزهر الشريف وعلى رأسه شيخ الأزهر، ودار الإفتاء وعلى رأسها المفتي.
1-1- دور الأزهر في مجال الإفتاء: التراجع تحت وطأة السلطة
مارس الأزهر دوراً كبيراً في مجال الإفتاء باعتباره المؤسسة العلمية الإسلامية الأبرز في مصر[6]، وقد تأثر هذا الدور بصورة أو بأخرى بموقع الأزهر بشكل عام وتنظيمه القانوني، ويمكن تقسيم المراحل التي شهدها دور الأزهر في مجال الإفتاء على أربع مراحل رئيسة:
في المرحلة الأولى: سعى محمد علي أثناء فترة حكمه (1805م- 1845م) إلى تقويض الاستقلال المالي والإداري الذي تمتع به الأزهر[7]، إلا أنه نتيجة القوة والاستقلالية والمكانة الاجتماعية التي تمتعت بها طبقة العلماء اضطر إلى الإقرار بأن تعيين الأزهر ليس من اختصاص السلطة في عام 1835م[8]، وهو ما أظهر وجود توجُّه لدى الدولة الناشئة حديثاً نحو الحدّ من سلطة العلماء والمشايخ، سواء عبر التحكم بالجانب المالي أو إغراق المؤسسة الدينية بالأعباء الإدارية وطريقة التشكيل والتعيين، كوسائل يمكن من خلالها التحكم بقرار هذه المؤسسة وتجييره لمصلحة السلطة.
لم تكن هنالك تغييرات واضحة في المرحلة الثانية على مستوى الوظائف والأدوار بقدر ما كانت محاولة لقوننة عمل الأزهر مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين[9]، أهمها: القانون الخاص بإعادة تنظيم الجامع الأزهر رقم 26 لعام 1936م الصادر عن الملك فاروق، والذي نصّ صراحة على استقلال المؤسسة، وحدّد آلية تعيين شيخ الأزهر ووكيله من خلال الانتخاب عبر “جماعة كبار العلماء”[10] التي تختص أيضاً بإصدار نظام الدعوة والإرشاد، ومنحَ شيخ الأزهر صلاحيات واسعة بوصفه الإمام الأكبر والمشرف على جميع العلماء، وله صلاحية تعيين مشايخ الأروقة والحارات[11].
سعت السلطة الجديدة “الضباط الأحرار” التي وصلت للحكم عام 1952 في المرحلة الثالثة إلى السيطرة على الأزهر والحدّ من دوره[12]؛ عبر إلحاقه برئاسة الجمهورية، وتحديد صلاحيات شيخه الذي أصبح تعيينه بقرار من رئيس الجمهورية، وإلغاء “جماعة كبار العلماء” ودورها، في حين حافظَ القانون على المجلس الأعلى للأزهر، وأحدثَ “مجمع البحوث الإسلامية” الذي حاز صلاحيات فقهية ورقابية واسعة[13]، وأضحت “لجنة الفتوى”[14] إحدى لجانه، التي أُلحقت بعد ذلك بإدارة الوعظ والإرشاد في مجمع البحوث الاسلامية[15].
خلال هذه الفترة كانت علاقة الأزهر بالسلطة علاقة غير متكافئة؛ فقد سيطرت على المؤسسة بمختلف وظائفها تبعاً لعاملَي النصوص القانونية والممارسة الفعلية الناجمة عن السيطرة الأمنية في الدولة، ولكن على الرغم من ذلك فقد ظهرت العديد من الاختلافات بين مشايخ الأزهر والسلطة، لاسيما في القضايا الكبرى؛ إذ حاول الأزهر التمرد على التبعية عبر خوض بعض المواجهات التي نجح في بعضها، في حين حُسم أغلبها لمصلحة السلطة. ويُلحظ هنا أن شخص “شيخ الأزهر” كان العامل الأهم في كل ذلك[16].
استفاد الأزهر في المرحلة الرابعة من التغيرات التي حدثت بعد الثورة المصرية عام 2011، وتحرك لاستعادة استقلاليته، وعليه أصدر الأزهر وثيقة حول مستقبل مصر في منتصف عام 2011، وكان أبرز ما تضمنته استقلال مؤسسة الأزهر وفاعليته [17]. انعكس هذا الأمر على التنظيم القانوني؛ حيث أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة مرسوماً بقانون رقم 13 لسنة 2012 تضمن تعديل بعض أحكام القانون رقم 103 لسنة 1961[18]، وقد كان أبرز ما تضمنته التعديلات: النص على أن الأزهر هو المرجع النهائي في شؤون الإسلام، وكفالة الدولة استقلاله ودعمه، وأُعيد العمل بالآلية الانتخابية لاختيار شيخ الأزهر على مرحلتَين من قبل “هيئة كبار العلماء” التي أعاد المرسوم إيجادها[19]، وأصبحت “هيئة كبار العلماء” مختصة بترشيح مفتي الجمهورية، والبتّ في كل من المسائل الدينية والقوانين والقضايا الاجتماعية والنوازل، ومنحت دوراً علمياً ودعوياً[20]، وحدد القانون آلية تشكيلها لأول مرة من خلال ترشيح شيخ الأزهر وقرار رئيس الجمهورية. جاءت هذه التغيرات لتصبّ في مصلحة استقلال الأزهر وإعادة تفعيل دوره السياسي والاجتماعي؛ إلا أنها كانت نابعة أساساً من تلاقي مصالح الأزهر مع المجلس العسكري والحكومة الانتقالية في مواجهة الأحزاب ذات التوجه الإسلامي[21].
بعد وصول السيسي إلى السلطة جاء الدستور الجديد لعام 2014 ليرسخ في المادة (4) مكانة الأزهر، لكنه حذف ما تضمنته المادة السابقة رقم 4 من دستور عام 2012 والتي تعتبر الأزهر “مرجع تفسير الشريعة الإسلامية”، وكان هذا التغيير في النص الدستوري بين عامَين مؤشراً أولياً لما سيأتي بعده من تغييرات قانونية ترتبط بنمط التفكير السلطوي وتجاذبات ما بعد عام 2015 على خلفية الضغط من السيسي على الأزهر تحت مسمى ضرورة “تجديد الخطاب الديني”، وقد بدأت الحكومة عبر وزارة الأوقاف محاولة فرض خطب دينية موحدة على المساجد؛ وهو ما رفضه الأزهر[22].
في عام 2017 قُدمت مبادرة تشريعية كان الهدف منها إعادة تنظيم الطريقة التي تُدار بها المؤسسة الدينية في البلاد بشكل عام، انعكاساً لسوء العلاقة بين السلطة والأزهر؛ إذ تركزت الأفكار الرئيسة حول وضع الأزهر تحت إشراف السلطة، لكن مشروع القانون لم يرَ النور لأسباب متعددة، منها قوة تأثير الأزهر في المجتمع[23].
أما على صعيد التغيرات التي طرأت على لجنة الفتوى في هذه المرحلة فقد جاءت تنظيمية الطابع؛ حيث صدر قرار جديد عام 2020 من شيخ الأزهر يُخضع جميع جهات الفتوى التابعة له لإشراف هيئة كبار العلماء، عبر تشكيل هيئة إشراف على لجنة الفتوى وفروعها[24].
شكل رقم /1/ يظهر التغييرات على آلية اختيار شيخ الأزهر وصلاحياته
2-1- دور دار الإفتاء المصرية في مجال الفتوى: من الظل إلى تحت الضوء
تُعد دار الإفتاء المصرية من أولى دور الإفتاء في العالم الإسلامي؛ حيث أنشئت عام 1895م لتصبح منذ ذلك الحين أحد أعمدة المؤسسة الدينية في مصر، وتقوم بدور مهم في الإفتاء[25]، وبغضّ النظر عن أسباب إنشائها[26] فقد جاء تنظيمها القانوني ليلحقها بوزارة العدل، وبقيت كذلك حتى استقلّت مالياً وإدارياً عام 2007م[27]، وفي كل هذه المدة تمثلت صلاحيات دار الإفتاء في محورَين رئيسَين، هما:
- المحور الشرعي: ويتمثل باستقبال الأسئلة والرد عليها، واختصاص إعلان الأهلّة وإعداد الأبحاث والدراسات الإسلامية، بالإضافة إلى تدريب المفتين.
- المحور القانوني: عبر تقديم المشورة الشرعية للمحاكم المختصة في قضايا الإعدام[28].
لكن مع عام 2020 وضمن الحملة التي قادتها السلطة لتقويض سلطة الأزهر تقدمت اللجنة الدينية في البرلمان المصري بمشروع قانون شامل لتنظيم دار الإفتاء المصرية، لتصبح تابعة للحكومة، ويُلغى دور الأزهر وهيئة كبار العلماء في انتخاب المفتي، تحت عنوان تنظيمها كهيئة مستقلة[29].
هذا التوجه الجديد قابله الأزهر بقوة؛ فقد توجه بخطاب للبرلمان يعترض فيه على القانون لجهة أنه يخالف الدستور المصري، ويمسّ استقلالية الأزهر والهيئات التابعة له، وسيؤدي إلى اعتبارها كيانًا موازيًا[30]، ليأتي موقف القضاء الإداري متوافقاً مع مطالب الأزهر؛ مما أدى في نهاية المطاف لإعلان مجلس النواب سحب المشروع[31].
لم تنتهِ المعارك القانونية عند هذا الحد؛ إذ قام السيسي بالتصديق على قرار إضفاء صفة “الجهات ذات الطبيعة الخاصة” على دار الإفتاء، وانتزع كذلك صلاحية تعيين المفتي من “هيئة كبار العلماء” لصالح رئيس الدولة[32]، لكن سحب هذه الصلاحية من الأزهر لصالح السلطة التنفيذية -ممثلة برئاسة الدولة- لم يُواجَه هذه المرة باعتراضات من الأزهر[33]؛ وهو ما يشير إلى أن محاولات الأخيرة تقويض صلاحيات المفتي والأزهر، وإخضاعهم تماماً للتوجهات الجديدة فيما يخص الفتوى والتدريس الديني والفكر الإسلامي عموماً قد نجحت.
شكل رقم /2/ يظهر التغييرات على آلية اختيار المفتي واختصاصاته
عند المقارنة بين المؤسستين نجد تشابهاً بينهما؛ فإن علاقة “الأزهر ودار الإفتاء” بالسلطة “رئاسة الدولة والوزارات” شهدت شدّاً وجذباً، وحاول بعض المفتين وشيوخ الأزهر الاستقلال عنها، خاصة خلال النصف الأول من القرن العشرين، لكن نجحت السلطة ولو نسبياً في المحصلة في فرض السيطرة على دار الإفتاء والتحكم في شؤونها، وإضعاف سلطة الأزهر[34].
في المقابل يمكن الوقوف على فوارق متعددة بين الأزهر ودار الإفتاء، نلخصها بما يلي:
- من حيث الهيكلة والتبعية: تتبع لجنة الفتوى في الجامع الأزهر أعلى سلطة دينية في الدولة بنص الدستور والقانون “الأزهر”، والذي ما يزال نظرياً يحوز على شيءٍ من الاستقلالية عن السلطة التنفيذية ممثلة بالوزارات ورئاسة الدولة، سواء من حيث التعيين “يُعين شيخ الأزهر عبر الانتخاب” أو الصلاحيات، في حين تتبع دار الإفتاء وزارة العدل، وأصحبت مؤخراً هيئة ذات طبيعة خاصة، ويُعين المفتي الذي يرأسها بقرار من رئيس الدولة.
- من حيث الوظيفة: يحقّ للجنة الفتوى قانوناً الإجابة عن كل الأسئلة الموجهة لها من مصر وخارجها في كل الاختصاصات والمجالات، وتُعد الفتاوى الصادرة عنها وثائق رسمية يمكن تقديمها في المحاكم والمنازعات. في حين أن الأصل في دار الإفتاء الإجابة عن فتاوى الأحوال الشخصية فحسب، ولا تحوز فتاويها على الصفة الرسمية. غير أن الواقع يشير إلى عدم وجود هذا التمييز؛ إذ أصبحت دار الإفتاء المصرية واسعة الصلاحيات وتفتي في جميع المجالات والاختصاصات، وهو ما جعل دار الإفتاء المصرية أوسع من لجنة الفتوى في الجامع الأزهر[35].
مما سبق: يتضح أن مهمة الإفتاء الرسمي في مصر موزعة بين مؤسستَي الأزهر ودار الإفتاء المصرية، وإذا كان الأزهر تاريخياً وعلمياً وقانونياً هو الأولى بتولي وظيفة الإفتاء فإن اتخاذه أحياناً بعض المواقف السياسية تجاه السلطة أضعفَ استقلاله عملياً، من جهة سعي السلطة الدؤوب لتوظيف مواقف الأزهر لمصلحتها، وحتى عندما أراد الأزهر النأي بنفسه عن المجال السياسي والمحافظة على استقلاله الوظيفي استطاعت السلطة توظيف الثنائية الموجودة في النظام القانوني لمصلحتها عبر استمالة دار الإفتاء لتحجيم الأزهر ودوره. ولعل ذلك يشير من ناحية أولى إلى وجود ميلٍ واضحٍ لدى السلطة لإضعاف الاستقلال المؤسسي لأية مؤسسة دينية حتى ولو كانت مُسايرة بتوجهاتها للسلطة القائمة، ومن ناحية أخرى إلى أن تعدد مؤسسات الإفتاء غالباً ما تستغله السلطة لمصلحتها عبر ضرب إحداها بالأخرى، أكثر من كونه عامل غنى لوظيفة تقبل في طبيعتها التعدد؛ وذلك لأن هذه السلطة بما تمتلكه من أوراق قوة قانونية وغيرها هي الجهة الأقدر على توظيف هذا التعدد لمصلحتها، ولعل التوجهات الأخيرة للسلطة في مصر تشي بوجود توجُّه إما إلى تنوع الجهات التي يُناط بها وظيفة الفتوى، حيث يُضاف إلى لجنة الفتوى في الأزهر ودار الإفتاء الإدارة العامة للفتوى في وزارة الأوقاف[36]، وإما إلى الحد من دور الأزهر في هذا المجال وتعزيز دار الإفتاء التي هي بالأساس ملحقة بوزارة العدل.
كذلك تفيدنا التجربة المصرية بأن الضمانات القانونية بما فيها الدستورية غير كافية لضمان استقلال مؤسسة الإفتاء، طالما أن ذلك لم يترافق بضمانات أخرى معنوية ومؤسساتية[37]، يأتي في مقدمتها القضاء القادر على صيانة هذه النصوص وضمان احترامها.
2- الإفتاء الرسمي في العراق[38]: فوضى ما بعد الاحتلال عقب القبضة البعثية
يختلف مشهد “الإسلام الرسمي” في العراق عن غيره من الدول العربية والإسلامية، وذلك بسبب التركيبة الطائفية والعرقية من جهة[39]، والمراحل المختلفة التي مرّ بها العراق من جهة أخرى، خاصة على صعيد التحولات الكبرى بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، والتغلغل الإيراني في مفاصل العراق كافة.
مع نشأة الدولة العراقية الحديثة عرفت وجود مؤسستَين لـ “الإسلام الرسمي” هما: الأوقاف والإفتاء، اللتان تناوبتا على النهوض بوظيفة الإفتاء الرسمي، قبل أن تشهد هذه التجربة تحولات مهمة عقب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
1-2- الإفتاء الرسمي في العراق قبل عام 2003: المعايرة البعثية
زمن الخلافة العثمانية كان منصب المفتي حاضراً فيها كسائر الولايات العثمانية، ولعبَ كثير من المفتين المعينين من قبل السلطة دوراً في قيادة احتجاجات عراقية ضد بعض الولاة العثمانيين[40]؛ إلا أن منصب الإفتاء أُصيب بالأفول بعد تأسيس الدولة الحديثة لحساب وزارة الأوقاف التي تشكلت مع أول حكومة عام 1920[41].
مع سيطرة حزب البعث على السلطة عام 1963م أُعيد العمل بنظام وزارة الأوقاف، وقررت الحكومة البعثية في عام 1976 إلغاء دار الإفتاء العراقية[42]، وأصبحت المرجعية الدينية هي لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية[43]، مع الإبقاء على اسم المفتي وهو الشيخ عبد الكريم المدرّس الشهير بـ “عبد الكريم بياره”[44]، الذي كان رئيساً لرابطة علماء العراق من عام 1974[45].
وعلى هذا النحو مارسَ مفتي الديار العراقية دوره في الفتوى الرسمية لعقود دون وجود مؤسسة رسمية إن صح التعبير؛ حيث كان المفتي يقيم في مسجد الشيخ عبد القادر الجيلاني ببغداد، في الحضرة القادرية التي لها مكانة اعتبارية، وهو ما منحه قوة معنوية كبيرة، يُضاف إليها مصادر قوة أخرى كعلمه وتقدير العلماء له، وهو ما منحه هامشاً من الاستقلالية؛ ولذا لم يكن للمفتي فتاوى تؤيد ظلم نظام البعث، وفي الوقت نفسه لم يصرّح بمعارضته[46]، كما سعى النظام بوصفه “قومياً” لإضعاف مكانة المرجعية الدينية في العراق وجعل المفتي والإفتاء طي النسيان في الحضور الشعبي والرسمي[47].
في عام 1981م صدر قانون وزارة الأوقاف والشؤون الدينية رقم 50 لعام 1981[48]، الذي أسند وظيفة الإفتاء والتدريس الديني والإشراف على المساجد إلى وزارة الأوقاف، وبذلك أصبح مجال الفتوى والتدريس الديني خاضعاً لرقابة صارمة من الدولة، وأصبحت المقامات الشيعية والمساجد السنّيّة تخضع لمديرين تُعيّنهم الوزارة، وكان الحزب وأجهزة أمنية أخرى تتولى الإشراف والرقابة[49].
2-2- الإفتاء الرسمي في العراق بعد عام 2003: تداخُل في سياق الفوضى
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ألغى المجلس الانتقالي وزارة الأوقاف والشؤون الدينية[50]، واستبدل بها دواوين وقفية لكل مجموعة دينية، ونشأ عن هذا الإجراء ديوان للوقف الشيعي، وديوان للوقف السّنّيّ، وآخر للديانات المسيحية والأيزيدية والصابئة المندائية. ليترسخ ذلك في دستور العراق لعام 2005[51]، مما أسهم في تسارع وتيرة تطييف المجال الديني والتنافس بين السّنّة والشيعة[52].
على الرغم من تشكيل ديوان الوقف السني فإن عدم صدور تشريع ينظّم عمل الديوان[53] أسهم في تعدد الجهات المسؤولة عن الفتوى في المشهد السّنّيّ؛ حيث كانت البداية في بغداد عبر الإعلان عن تشكيل أمانة عليا للإفتاء والتدريس والبحوث والتصوف الإسلامي لإصدار الفتاوى الدينية للسنّة في العراق، بمشاركة ديوان الوقف السّنّي المنشأ حديثاً[54]، وقد قام المجلس بانتخاب الشيخ جمال عبد الكريم الدبان مفتياً للسّنّة في عام 2005[55]. بعد حوالي عام حصل خلاف حول المفتي المنتخب؛ إذ أعلن ديوان الوقف السّنّي عن انتخاب الشيخ عبد الملك السعدي مفتياً عاماً، فيما انتخبت الأمانة العليا للإفتاء الدكتور رافع طه الرفاعي مفتياً عاماً للديار[56].
كانت هذه الأحداث مؤشراً واضحاً على التداخل بين عدة جهات للإمساك بوظيفة الفتوى في العراق، ويرتبط ذلك بشكل رئيس بحالة الانقسام في المشهد السّنّي بعد الغزو؛ حيث حصل الانقسام على النحو التالي: السّنّة الذين يريدون المشاركة في العملية السياسية أرادوا مرجعية تؤيّد عملهم، والسّنّة الذين يرون مقاتلة الاحتلال واجباً شرعياً كانوا يريدون مرجعية تتبنى مقاومة الاحتلال، لينتقل الخلاف لطبيعة المرجعية “صوفية أم سلفية”، وكان يزداد الخلاف بعدُ في الصف السّنّي عند أي استحقاق للعملية السياسية كالدستور والانتخابات[57].
طوال هذه الفترة تنافست أربع جهات على وظيفة الإفتاء الرسمي، وهي: هيئة علماء المسلمين، والمجمع الفقهي العراقي، ودار الإفتاء العراقية، والمجلس العلمي الإفتائي.
- هيئة علماء المسلمين في العراق: تأسست الهيئة بعد أيام من سقوط النظام العراقي في 14 نيسان 2003[58]، ومارست نشاطاً دينياً عبر الإفتاء والعمل الدعوي ونشاطاً سياسياً واجهت من خلاله الحكومة العراقية بعد الاحتلال من خلال رفضها نظام المحاصصة الطائفية، كما واجهت الاحتلال الأمريكي من خلال تبنّيها المقاومة العسكرية، وقد امتلكت الهيئة كثيراً من الفروع داخل العراق وخارجه، بالإضافة للمدارس الدينية.
نتيجة لمواقفها العديدة ومواجهتها الاحتلال الأمريكي والمشروع الإيراني وأدواته في العراق تقلّص نفوذها، وأُغلقت الكثير من مكاتبها كمقرّها الرئيس في العراق بأمرٍ من ديوان الوقف السّنّي عام 2007؛ ولذا انتقل نشاط الهيئة إلى خارج العراق[59].
على الرغم من عدم وجود غطاء رسمي وقانوني للهيئة فإنها استمرت في لعب دور في الشأن العام وبإصدار الفتاوى، والتي كان من أشهرها فتوى تقضي بعدم جواز توقيع الاتفاقية الأمنية بين بغداد وواشنطن، ودعم الثورة العراقية في عام 2014، وتستمر الهيئة في إصدار فتاوى تتعلق بالأهلّة والصيام والزكاة والمستجدات الأخرى[60] .
- المجمع الفقهي العراقي: في بداية عام 2012 تأسس المجمع من قبل مجموعة من العلماء السّنّة بصفته هيئة مستقلة غير حكومية[61]، بهدف أن يكون مظلة شرعية للسّنّة في العراق، ويتكون المجمع من 25 عالماً[62]، ويقوم المجمع بإصدار الفتاوى، وتأمين التعليم الديني، والنهوض بالأعمال الخيرية. وقد جاء المجمع بهدف إيجاد مرجعية سنّيّة عليا توازي المرجعية الشيعية، وكان من دواعي تأسيسه التحضير لقوانين دواوين الأوقاف[63].
هذه النشأة لم تكن ببعيدة عن كل من الحالة السياسية العامة والخلاف الحكومي مع هيئة العلماء المسلمين؛ إذ لعب الحزب الإسلامي العراقي دوراً رئيساً في إنشاء المجمع ودعمه، بوصفه الحزب السّنّي الذي لعب دوراً مهماً في العراق بعد 2003 من جهة انخراطه في العملية السياسية، حيث حصل الحزب -على عكس القوى السنّيّة الأخرى- على مناصب عليا، وهو ما يفسر منحه دوراً في اختيار رئيس الديوان السّنّي الرسمي في قانون الوقف السّنّي الذي صدر لاحقاً[64].
إلا أن نفوذ الحزب الإسلامي العراقي على المجمع الفقهي العراقي بدأ يتراجع في المرحلة الأخيرة لصالح رئيس البرلمان الحالي “محمد الحلبوسي”[65]، المعروف بمعارضته للحزب الإسلامي. ويعود هذا التحول في موقف المجمع الفقهي لسببَين رئيسَين هما: ضعف الموقف الأمني لأعضائه، وحاجة المجمع للتمويل والدعم، وهو ما يوفره رئيس البرلمان؛ وهذا ما أخرج المجمع من كونه مؤسسة دينية مستقلة عن تأثير الجهات السياسية إلى جهة ضعيفة الاستقلال -إن صح التعبير- ومتأثرة بالقوى السياسية وتوجهاتها[66].
- دار الإفتاء العراقية: ترتبط دار الإفتاء العراقية بشخصية دينية سنّيّة هي مهدي الصميدعي[67]، الذي منحه نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي الأسبق لقباً صورياً تحت اسم مفتي “أهل السنة والجماعة في العراق”، وتحول بعدها إلى “مفتي الديار”[68]، وهي تسمية تستند فقط إلى قرار رئيس الوزراء العراقي، من دون وجود سند تشريعي واضح، ويُعد “الصميدعي” أحد رجالات المشروع الإيراني في العراق[69].
- المجلس العلمي الإفتائي: في عام 2012 م أصدر البرلمان العراقي القانون 56 لعام 2012 الخاص بتنظيم الوقف السّنّي، وكان أبرز ما جاء فيه: أن اختيار رئيس الديوان يكون بقرار من رئيس الوزراء بناءً على اقتراح مجلس الوزراء وبعد موافقة المجمع الفقهي العراقي، الذي له أيضاً حق تسمية ثلاثة علماء في مجلس ديوان الوقف. كما تضمن القانون إحداث المجلس العلمي الإفتائي الذي يُشكل بقرار رئيس الديوان بما لا يقل عن سبعة علماء، ويتولى مهام النظر في تعيين الموظفين والمتولين، وإعطاء الإذن بصلاة العيدين والجمعة وإثبات الأهلّة[70].
وعلى الرغم من أن النصوص لم تسند وظيفة الفتوى إلى المجلس العلمي الإفتائي إلا أنه تصدّى لهذه الوظيفة فعلياً، وشكّل لجنة للفتوى تابعة له أصدرت عدة فتاوى[71]، وهذا مؤشر على حالة التداخل وضعف التنظيم القانوني لوظيفة الإفتاء.
أما في إقليم كردستان العراق فيتولى مهمة الإفتاء فيها المجلس الأعلى للإفتاء[72]، الذي يتبع المكتب التنفيذي لاتحاد علماء الدين الإسلامي في الإقليم؛ ويقوم علماء الدين في الإقليم كل أربع سنوات بانتخاب أعضاء الاتحاد[73]، في حين تتولى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في حكومة الإقليم بموجب القانون رقم 11 لعام 2007 مجموعة المهام المرتبطة بشكل رئيس بالأوقاف والتدريس الديني وشؤون الخطباء والأئمة وشؤون الأديان والطوائف الأخرى ودور العبادة وتنظيم أمور الحج، وبدور فكري وعلمي إسلامي[74]، مع ملاحظة أن الإفتاء والأوقاف في الإقليم يُعد شأناً منفصلاً تماماً عن بغداد[75]، كانعكاس طبيعي لاستقلال الإقليم في شؤونه المحلية عن الحكومة الاتحادية ككل، وميله عملياً للاستقلال أكثر من الحكم الذاتي[76].
شكل رقم /3/ يوضح تفتت خريطة الإفتاء والشؤون الدينية في العراق بعد عام 2003
يمكن القول بشكل عام: إن التنظيم الرسمي للإفتاء في العراق يجعل ديوان الوقف السني الذي يضم في هيكليته المجلس العلمي الإفتائي الجهة المسؤولة عن هذا الدور، بغضّ النظر عن مدى دقة النص القانوني وتفصيله، مع منح غطاء قانوني في الوقت ذاته للمجمع الفقهي العراقي كمرجعية علمية سنّيّة رغم أنها مؤسسة غير رسمية. ويضاف لذلك وجود غطاء قانوني ما رغم جدليته “للصميدعي” الذي يحظى بدعم إيراني، وإن كان هذا الغطاء هو الأضعف مقارنة بسابقَيه.
يعود هذا التعدد في المؤسسات القائمة على الإفتاء الرسمي إلى عوامل متعددة، من أبرزها: السياسة الإيرانية في العراق القائمة على إضعاف المرجعية السنّيّة، وهو الذي يتقاطع مع رغبة السلطة التنفيذية في العراق -التي تخضع بصورة أو بأخرى للنفوذ الإيراني- في منح هامش لها في توظيف هذه الورقة لمصلحتها من أجل الضغط على أي من هذه المؤسسات في حال خالفت توجهاتها؛ ولعل استمرار “الصميدعي” حتى بعد صدور قانون ديوان الوقف السّنّي يشير إلى هذه الرغبة. إضافة إلى أن هذا الأمر قد يكون ناتجاً عن ضعف السلطة المركزية في العراق في المجال الديني؛ حيث كان التوجه واضحاً لدى الحكم الناشئ في العراق نحو منح شيء من الاستقلالية في هذا المجال، ومن ضمنه الإفتاء الرسمي، الذي يتوافق مع الاستراتيجية الإيرانية في العراق الداعمة لتشكيل مرجعيات خارج نطاق الدولة وإضعاف السلطة المركزية. إلى جانب إمكانية أن يكون التعدد مرتبطاً بعوامل ذاتية متعلقة بالطرف السّنّي ذاته، الذي شهد تخبطاً بعد الغزو على مختلف المؤسسات، وما الاختلافات التي حدثت تجاه مرجعية الإفتاء التي أشرنا إليها إلا مؤشر واضح في هذا الاتجاه.
مما سبق: يبدو أن مشهد الإفتاء الرسمي في العراق ما بعد الغزو الأمريكي أضحى معقداً؛ فعلى الرغم من النص الدستوري على استقلالية تنظيم الشؤون الدينية للطوائف إلا أن الواقع جاء ليعكس تأثير الولاءات السياسية على التنظيم الرسمي للإفتاء، وهو ما يظهر على سبيل المثال من خلال آلية اختيار رئيس ديوان الوقف السّنّي؛ إذ إن النصوص في قانون الوقف السّنّي رقم 56 لعام 2012 تمنح المجمع الفقهي العراقي صلاحية الموافقة أو الرفض على اقتراح مجلس الوزراء لشغل منصب رئيس الوقف، وتمنحها حق تسمية ثلاثة علماء في مجلس ديوان الوقف السّنّي[77]، إلا أن خضوع المجمع الفقهي تحت ضغط عوامل متعددة للقوى السياسية والمخاطر الأمنية “كالمليشيات الإيرانية” يجعل من حضوره ودوره في هذه العملية مجرد غطاء شكلي لإرادات المتحكمين في المشهد السياسي[78].
هذا المشهد يعيد للأذهان الربط المستمر بين الإفتاء والسياسة من جهة سعي الأخيرة لتوظيف الأولى لمصلحتها، بغضّ النظر عن النص القانوني الذي قد يكون من الناحية الشكلية ضامناً لاستقلالها[79].
وتبدو الصورة الحقيقة في العراق وهي عدم وجود مرجعية قانونية للفتوى -بالمعنى الصحيح- للسّنّة؛ إذ إن دور الإفتاء الرسمي السّنّي ما زال مغيباً، ويعود ذلك بشكل رئيس لإرادة النظام السياسي الطائفي القائم والعملية السياسية التي وجدت بإرادة كل من الولايات المتحدة وإيران الهادفة لتفتيت أهل السّنّة وتهجيرهم وجعلهم أقلية، دون وجود دور فاعل لها[80].
3- مقارنة بين التنظيم القانوني للإفتاء الرسمي في كل من مصر والعراق:
على الرغم من أن التجربتَين في مصر والعراق مرتا في سياقات مختلفة إلا أن كلاً منهما احتفظت بخصوصيتها، مما أدى بالنتيجة إلى وجود نتائج مختلفة عن الأخرى في كل تجربة، خصوصاً فيما يتعلق بكيفية تعاطي السلطة مع الإفتاء الرسمي، وبالتالي يتبادر إلى الذهن السؤال عن أبرز نقاط التشابه والاختلاف بين الحالتَين:
3-1 أوجه التشابه: نصوص ضامنة وتعددية بيد السلطة
لعل التشابه المباشر الذي يقفز إلى الذهن هو بدايات تجربة الإفتاء الرسمي في كلا البلدَين الذين كانا يخضعان للحكم العثماني، حيث كان منصب المفتي يتمتع باستقلال واضح عن السلطة التنفيذية ممثلة بالوالي “الملك في حالة مصر”؛ غير أن التغييرات السياسية المختلفة التي طرأت في كلا التجربتَين لم تنفِ وجود بعض أوجه الشبه الإضافية بينهما، والتي يمكن تلخيصها بما يلي:
- وجود نصوص قانونية دستورية تنصّ على استقلالية المؤسسات الدينية المسؤولة عن الإفتاء الرسمي[81]، مع استقلال نسبي؛ ففي الحالة العراقية نجد أن المجلس العلمي الإفتائي التابع لديوان الوقف السني يتم اختياره من قبل رئيس الديوان الذي يتم اختياره بعد الموافقة عليه من قبل المجمع الفقهي العراقي، وفي الحالة المصرية هنالك استقلال للأزهر ولجنة الفتوى التابعة له، مع تبعية دار الإفتاء لوزارة العدل حيث يُعين المفتي بقرار من رئيس الجمهورية.
- تعدد الجهات التي تمارس الإفتاء الرسمي: فأما في مصر فقد تولى الأزهر تاريخياً مهمة الإفتاء، إلى أن تم إحداث دار الإفتاء المصرية عام 1895، ومنذ ذلك الحين أصبحت مهمة الفتوى موزعة بين الأزهر ودار الإفتاء، مع وجود دور محوري ورئيسي للأزهر في الفتوى والإشراف على التدريس الديني والرقابة والإشراف على الفكر الإسلامي، مع ملاحظة وجود توجُّه جديد من السلطة حالياً لتوسيع دور دار الإفتاء على حساب الأزهر. وأما في العراق فعلى الرغم من حصر مهمة الإفتاء الرسمي بوزارة الأوقاف بعد مجيء البعث فقد عرف المشهد الإفتائي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق فوضى قانونية وفعلية؛ حيث وجدت هيئات إفتاء متعددة، وتوزعت مهمة الفتوى بين ديوان الوقف السّنّي الذي يضم المجلس العلمي الإفتائي في هيكليته بموجب القانون، والمجمع الفقهي العراقي كمؤسسة غير حكومية أُقرّ لها بدور قانوني دون النص صراحة على تكليفها بمهمة الإفتاء، وما قابلها من تسمية شخصية أخرى مفتياً لأهل السّنّة والجماعة من قبل رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي عام 2011.
- التوظيف السياسي لتعدد الجهات الممارسة للفتوى الرسمية: استطاعت السلطة في كلا البلدَين توظيف هذه الحالة لمصلحتها عبر الضغط على أية جهة إفتائية لا تتوافق مع توجهاتها، فمثلاً: رأينا كيف أن السلطة المصرية ضغطت على الأزهر عبر دار الإفتاء، وكيف أن السلطة العراقية ضغطت على المجمع الفقهي العراقي والمجلس العلمي الإفتائي عبر ما سُمي “دار الإفتاء العراقية”.
2-3 أوجه الاختلاف: العبرة في نموذج الحكم
على الرغم من أوجه التشابه السابقة بين الحالتين المصرية والعراقية فثمة نقاط اختلافية بينهما، يمكن تلخيصها بما يلي:
- ثمّة مركزية واضحة معنوية وقانونية حول دور الأزهر في مجال الإفتاء في مصر، على عكس الوضع في العراق حالياً؛ إذ هنالك نوع من اللامركزية والاستقلال في إدارة ملف الإفتاء في العراق، حيث إن ديوان الوقف السّنّي هو مؤسسة مستقلة. ولعل ذلك يعود إلى طبيعة السلطة التي تشكلت مؤخراً في كلا البلدين؛ حيث تميل السلطة المصرية إلى المركزية الشديدة وإلحاق كل شيء بالدولة، على عكس النظام السياسي في العراق الذي يعاني من الفوضى والاضطرابات، ويتجه في الوقت ذاته نحو اللامركزية، بما في ذلك إدارة الشأن الديني، ومن ضمنه الإفتاء.
- هنالك تفصيل وتقيُّد واضح بالقانون الناظم لإدارة مجال الفتوى الرسمية في مصر، حيث إنه دائماً ما كان النص القانوني ناظماً للواقع الإفتائي، فمثلاً: في ظل الخلاف القائم بين السيسي وشيخ الأزهر وجدنا صدور قرار جمهوري بتقوية دار الإفتاء. على عكس الوضع في العراق؛ حيث كان ينشأ الواقع ثم تتم قوننته، كما هو حال المجمع الفقهي العراقي، أو يصدر القانون بنصوص فضفاضة تتيح هامشاً كبيراً للتفسير والتأويل، كما هو حال إنشاء دار الإفتاء العراقية “الصميدعي”.
- ساعدت بعض المواقف والأحكام القضائية الأزهر نسبياً في الحفاظ على استقلاله من خلال إيقاف محاولات السلطة غير القانونية للنيل من هذا الاستقلال، في حين لم نشهد تدخلاً من القضاء العراقي لإيقاف حالة التداخل في الإفتاء الرسمي.
- أسهم طول عُمر تجربة الأزهر التاريخية ورسوخ مؤسساته في منح هامش أكبر لمؤسسة الإفتاء للوقوف -ولو نسبياً- في وجه محاولات تقويضه من قبل السلطة، على عكس الحالة في العراق؛ فحداثة مؤسسة الإفتاء التي نشأت رسمياً بعد نشوء الدولة العراقية الحديثة وضعف دورها في المجال العام أتاح للسلطة السياسية قبل الاحتلال تهميشها، وبعد الاحتلال تجزئتها وتفريقها.
- ثمّة تأثير خارجي واضح في سياسة إدارة ملف الإفتاء في العراق من خلال النفوذ الإيراني الذي يستغل الحالة الطائفية، الأمر الذي يُفتقد في الحالة المصرية.
4- دروس مستفادة للحالة السورية: بين ضمانات استقلال الإفتاء الرسمي وأوجه انتهاكه
بعد انطلاق مرحلة التنظيم القانوني للمؤسسات الدينية في سوريا جاء أول قانون معني بتنظيم الإفتاء العام والتدريس الديني في سوريا عام 1961؛ لينصّ على إنشاء جهازَين رئيسَين هما: المفتي العام للجمهورية ومفتو المحافظات من جهة، ومجلس الإفتاء الأعلى من جهة أخرى، وعلى الرغم من التعديلات المتعددة التي طرأت على عمل هذه المؤسسة بعد سيطرة البعث على السلطة فإنها بقيت مستقلة عن وزارة الأوقاف نسبياً، حيث إنها كانت برئاسة المفتي العام وتخضع لتوجيهاته وتعليماته، إلى أن صدر القانون رقم 31 عام 2018 الذي ألغى إدارة الإفتاء العام والتدريس الديني، ومنح وزير الأوقاف السلطة التقديرية الكاملة في تعيين المفتين بحسب الحاجة، واستعاض عن مجلس الإفتاء الأعلى بالمجلس العلمي الفقهي الذي ضمّ للمرة الأولى في التاريخ السوري جميع المذاهب إلى جانب “المذهب السّنّي”.
وقد حافظ القانون 31 في الوقت ذاته على منصب مفتي الجمهورية دون تحديد الصلاحيات وبتقييد الولاية الزمنية للمنصب بثلاث سنوات فقط، ليأتي عام 2021 بتغيير جديد تمثل هذه المرة بالمرسوم التشريعي رقم 28 الذي ألغى منصب المفتي العام وأحال صلاحياته إلى المجلس العلمي الفقهي، في خطوةٍ روّج لها نظام الأسد على أنها “تجسيد للفكر الإسلامي السوري المتطور”، بالتوافق مع رؤيته في الترويج لما يسميه” مذهب محمدي جامع وعابر للطوائف”[82].
أما الدروس المستفادة من التجربتَين في الحالة السورية فيمكن تلخيصها بما يلي:
- يسهم ضعف ارتباط مؤسسة الإفتاء بالحاضنة الشعبية بجعل الأولى وحيدة في مواجهة تغوُّل السلطة التنفيذية، وقد حدث هذا الأمر في التجربة العراقية بصورة واضحة؛ حيث إن ضعف التأييد الشعبي لأي من الجهات التي سعت لتكون في موقع المرجعية جعلها مجرد أدوات بيد السلطة. لذلك يفترض بأية مؤسسة مرجعية -كما هو حال المجلس الإسلامي السوري ومؤسسة الإفتاء العام لسوريا- أن تقوّي ارتباطها بحاضنتها، وتتخذ من الوسائل والأدوات خصوصاً على مستوى التفاعل ومخاطبة الرأي العام ما يعطيها مكانة اعتبارية -وهي الأولى والأهم- يصعب تجاوزها، قبل المكانة القانونية التي تأتي في مرتبة لاحقة.
- ثمة ضمانات متعددة لمؤسسة الإفتاء الرسمي، من أبرزها: النصوص الدستورية التي تمنح هذه المؤسسة استقلالاً مالياً وإدارياً، إلى جانب الاستقلال البنيوي المتمثل في تكوين المجالس المسؤولة عنها ورؤسائها من خلال الانتخاب لا التعيين، إلى جانب المكانة الاعتبارية للمؤسسة ذاتها، فضلاً عن وجود قضاء مستقل قادر على كفالة تنفيذ النصوص القانونية.
وقد فقدَ التنظيم القانوني للإفتاء في سوريا كل هذه الضمانات واحدة تلو الأخرى؛ حيث إن بعضها لم يكن موجوداً في الأساس، مثل النصوص الدستورية التي تنص على استقلال المؤسسة، وبعضها سُلخ من الإدارة عقب حقبة البعث والأسدَين، مثل إسناد سلطة تعيين المفتي العام إلى رئيس الدولة. فلابد من التركيز على استعادة الضمانات المفقودة، وإضافة ضمانات جديدة مثل النص الدستوري الضامن لاستقلال هذه المؤسسة.
- ثمة علاقة بين طريقة إدارة الدولة وإدارة الشأن الديني بما فيه مؤسسة الإفتاء؛ فالدولة التي لديها توجُّه واضح نحو المركزية سينعكس ذلك بالضرورة على إدارة الشأن الديني، والعكس بالعكس. ولعل الحالتين العراقية والمصرية تقدمان أدلة واضحة بهذا الخصوص.
وينطبق الأمر ذاته على الحالة السورية؛ فعقب وقوع الدولة السورية بيد البعث انعكس هذا الأمر على مؤسسة الإفتاء التي بدأت تفقد شيئاً فشيئاً استقلالها لحساب خضوعها لسلطة الدولة المركزية من جهتَي النص والواقع.
لذا يفترض أن يشمل تطبيق اللامركزية التي يتم المناداة بها في بعض وثائق قوى الثورة والمعارضة[83] المؤسسات والهيئات ذات الطبيعة الخاصة، مثل مؤسسة الإفتاء العام لسوريا، إلى جانب الوحدات الإدارية والمرافق العامة الأخرى؛ أي: أن يكون مفهوم اللامركزية شاملاً للمؤسسات الإدارية والمرفقية بصورة فعلية[84].
إلا أنه في المقابل لا يعني ذلك إنشاء مرجعيات متعددة ذات بعد مناطقي كما حدث في كردستان العراق؛ فالمقصود بإدارة الإفتاء بطريقة لا مركزية الاستقلال عن السلطة المركزية، لا تعدد المرجعيات الإفتائية. وهذا ما يجب أن يُحذَر منه في الحالة السورية، بحيث لا يكون المفتي العام للجمهورية مفتياً لمنطقة محددة على اعتبار انقسام سوريا حالياً إلى مناطق نفوذ بحكم الأمر الواقع.
- النزاعات بين المشايخ وعلماء الدين -بغضّ النظر عن أسبابها ودور السلطة فيها- توظفها السلطة لمصلحتها بحكم أنها الطرف الأقوى، كما حدث في الخلاف بين الأزهر ودار الإفتاء، وهو ما حدث على سبيل المثال أثناء احتدام المنافسة على منصب المفتي العام بين الشيخ أحمد كفتارو والشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني[85]. كذلك في الحالة العراقية استطاعت السلطة توظيف الخلاف بين المجالس والهيئات العلمائية لمصلحتها؛ فمثلاً: حيّدت تلك التي وقفت ضد العملية السياسية “هيئة علماء المسلمين”، ومنحت المجمع الفقهي العراقي الذي أيدها دوراً رئيساً في اختيار رئيس ديوان الوقف السّنّي[86].
- يعتمد التأثير الخارجي في مؤسسة الإفتاء الرسمية على الظروف الداخلية، ولعل تأثير العامل الإيراني في كل من سوريا والعراق يقدم لنا نموذجَين مختلفَين لكيفية محاولة إيران توظيف هذا الملف لخدمة أجندتها؛ ففي الحالة العراقية -وكما هو الأمر في لبنان- مثلاً حيث يوجد تنوع طائفي وعرقي عمدت إيران إلى تقوية المرجعية “الشيعية”، وإضعاف المرجعية المنافسة لها “السنية” وتشويهها عبر نموذج سّنّي ضعيف “الصميدعي” نموذجاً.
في الحالة السورية بما أنه من الصعوبة إنشاء مرجعية شيعية مستقلة، ولوجود توجُّه لدى السلطة نحو المركزية ثمّة ترجيح لاعتماد إيران على تمييع المرجعية السّنّيّة عبر إنشاء مجلس يضم كل المذاهب، ويكون هدفها في إنشاء مرجعية شيعية غير الواقعي متراجعاً أمام هدف أكثر واقعية هو تمييع المرجعية السّنّيّة[87].
- من الطبيعي أن يكون هنالك ارتباط بين السياق السياسي ومؤسسة الإفتاء، وأن تتأثر الأخيرة بالتطورات السياسية المحيطة بها، كما حدث في الحالة العراقية عندما فرضت السياسة واقعاً معيناً على مؤسسة الإفتاء من حيث استبعاد تلك التي عارضت العملية السياسية التي كرّست التقسيم الطائفي، وتقريب الجهات التي انخرطت في هذه العملية، ومن حيث تعدد الجهات التي تأخذ صفة المرجعية.
من هذا المنطلق يفترض بمؤسسة الإفتاء السعي لجعل مواقفها تجاه مبادئ العملية السياسية مبادئ مجمعاً عليها قدر المستطاع، خصوصاً من قبل القوى السياسية والاعتبارية والشعبية؛ حتى لا يُعطى المجال للقوى الخارجية لتشكيل “مرجعيات” منافسة.
- نعتقد أن ثمّة علاقة بين موقع مؤسسة الإفتاء في الدولة والسياقات السياسية والاجتماعية[88]؛ غير أن الأولى هي الأكثر تأثيراً وحضوراً بشكل مباشر بحكم استقرائنا التجارب الثلاث “السورية والعراقية والمصرية”، فعلى سبيل المثال: يكون لتأثير نمط السلطة وشكل إدارتها أثر مباشر في مؤسسة الإفتاء، على عكس السياق الاجتماعي الذي يكون له تأثير غير مباشر وتراكمي، وبالتالي عندما تفتقد مؤسسة الإفتاء للبعد التراكمي الاجتماعي يفترض تركيزها -تكتيكياً- على السياق السياسي لتحصين موقفها عبر الأدوات التشريعية والقانونية، دون أن تنشغل عن هدفها الاستراتيجي بتشكيل تحصين اجتماعي داعم يمكن أن يؤمّن حماية ممتدة لها.
خاتمة:
تعرضت مؤسسة الإفتاء تاريخياً -وما تزال- لمحاولات حثيثة من قبل السلطات التنفيذية القائمة في غالبية الدول العربية، للتحكم بها وتسييسها وتجييرها لمصالحها، كأن يتم توظيف هذه المؤسسة لمنح غطاء ديني “شرعي” لسلوكيات وقرارات هذه السلطات، أو لإضفاء الشرعية على النظام ذاته أو على العملية السياسية أو العسكرية التي أتت به إلى السلطة؛ وكل ذلك يدل بصورة أو بأخرى إلى حرص الأنظمة على حيازة هذه الورقة لإدراكهم أهميتها وحضورها على المستوى المجتمعي.
ويتضح مما سبق وجود تنظيم قانوني مختلف ومتمايز بين كل من الدول الثلاث (مصر والعراق وسوريا)، ويعود ذلك أساساً إلى خصوصية وتطور كل بلد على حدة، ونتيجة التفاعلات السياسية والاجتماعية المختلفة، مع وجود تقاطعات رئيسة تاريخية بين سوريا والعراق في الحقبة العثمانية، ووجود حالة فريدة في مصر بسبب وجود مؤسسة قوية وعريقة هي الأزهر الذي يصعب على السلطة تجاوزها بسهولة.
وقد ارتبط منصب الإفتاء وجوداً وعدماً في الدول الثلاث بالتوجه السياسي العام؛ حيث كانت العراق أول من ألغت المنصب كمؤسسة في السبعينيات، في حين أُلغي المنصب في سوريا مؤخراً، ويستمر تنظيم وظيفة الإفتاء منصباً وممارسةً رسميةً في مصر من مؤسستَين معاً حتى اليوم، مع توجُّه السلطة لتعزيز دار الإفتاء على حساب الأزهر.
كما يظهر أثر التوجهات السلطوية في سوريا ومصر على التنظيم القانوني للإفتاء؛ حيث صدرت دعوات مستمرة من رأسَي النظامَين ما بعد انطلاق ثورات الربيع العربي تعبّر عن الاستياء من الفكر والفقه الإسلامي الذي تمثله المؤسسات التقليدية، مع مطالبتهم بـ ” تجديد الخطاب الديني” و”مواجهة الفكر التكفيري”، وهو ما يعني أن السلطة تريد استجابة الفتوى بشكل غير مسبوق لتوجهاتها السياسية وأفكارها فيما يخص الإسلام ذاته، بعيداً عن أصول الفقه والمذاهب الإسلامية السّنّيّة الأربعة السائدة في هاتَين الدولتَين، وهو ما يعني أن المطلوب اليوم يتجاوز قضية الإفتاء السياسي المألوف لمصلحة السلطان، وهو ما يعطي دلالة لا يمكن إنكارها لصياغة النظامين معادلة جديدة هي التغيير في جوهر الدين الإسلامي، بدلاً من استغلال الدين. هذه التوجهات السلطوية الخطيرة في كلا البلدين يمكن مواجهتها بفعالية في ظل وجود مؤسسات دينية مرجعية خارج دائرة السلطة – إن صح التعبير- يمكن لها أن تكشف فساد تلك التوجهات وخطورتها، حتى ولو أُصلت زيفاً من قبل مرجعية وهمية تابعة للسلطة.
على عكس الحالة في العراق التي تشهد تخبُّطاً وانقساماً في مرجعية الإفتاء حتى الآن، كما أنه على الرغم من ابتعاد القانون بعد عام 2003 في العراق عن تنظيم الإفتاء بشكل رسمي وواضح ودقيق فإن أثر القبول بالعملية السياسية والانصياع لها يظهر في إسباغ الصفة الرسمية أو القبول بالوجود الفعلي لأي هيئة أو تجمُّع علمي في المشهد العراقي.
وعلى ما يبدو فإن الحالة السورية جاءت حالةً متقدمةً على مصر؛ إذ سمحت الظروف في سوريا بفرض السيطرة المطلقة في النص والممارسة على وظيفة الإفتاء، دون أدنى خوف وبأقل نقاش ممكن على المستوى الرسمي والشعبي؛ ولعل ذلك يعود إلى وجود فروق بين الهوامش المتاحة للمؤسسات والرأي العام بين مصر وسوريا.
أما فيما يخص الحالة العراقية فيمكن اعتبارها بالمقابل مشهداً متقدماً على سوريا لجهة زيادة المدّ الشيعي وتفتيت المشهد السّنّي، وإلغاء منصب المفتي.
لمشاركة الإصدار: https://sydialogue.org/8qlj
يُنظر: الوقف السني يختار السعدي مفتياً للعراق والأمانة العليا للافتاء تنتخب الرفاعي، وكالة الانباء الكويتية “كونا”، 20/6/2007، شوهد في: 28/11/2021.