مقالات الرأي

التحريض المُنظَّم: وسيلة معارضة أم أداة تخريب؟

يشغلني منذ سقوط نظام الأسد تتبُّع حراك المجتمع وديناميكيته، وأساليب تطوّره والأدوات التي يستخدمها بعد أن ارتفعت عنه قبضة نظام ديكتاتوري غاشم، واستعاد الإحساس بصوته وبوجوده، لاسيما مع بلد مهدّم خرّبه نظام الأسد المجرم بشكل ممنهج وأعاده عقوداً إلى الوراء.

وبالنظر إلى الفجوة الصارخة ما بين الواقع والإمكانيات والتحديات من جهة، وفضاء السوشيال ميديا الافتراضي من جهة أخرى لا يمكن للعين أن تخطئ وجود تيار صاخب غاضب محرِّض على السوشيال ميديا لم يهدأ منذ سقوط الأسد، وهو تيار غير متجانس؛ بعضه يتحرك بدوافع وطنية، وبعضه الآخر يطالب بمثاليات ويريد أن يكون السوريون ملائكة لا تخطئ، ومنهم مَن يسير وفق أجندات متشابهة هدفه الأساسي بثّ الذعر وشيطنة الواقع وإسقاط تجربة السوريين الوليدة.

هل نحن أمام تحريض مُنظَّم؟

إنّ تصفُّح السوشيال ميديا السورية، ومتابعة بعض ما يكتبه النخب يقودنا إلى تمييز نمط سائد من الخطاب، يُلاحظ فيه الصوت النسوي بشكل واضح، يتراوح بين النقد المعتدل والمعارضة الوجيهة على ضفّة، والخطاب التحريضي والمعارضة غير العقلانية التي تريد أن تحشد الناس إلى صفها باستخدام أسلوب ونهج منظَّم “غير بريء” على ضفّة أخرى.

وبالنظر إلى التيار الأخير وتحليل خطابه يمكن ملاحظة أنماط متكررة وأدوات تأثير تم اختيارها بعناية، الهدف منها إعادة صياغة الرأي العام من خلال التجاهل التام للإيجابيات، والتركيز المفرط على السلبيات، وإثارة مشاعر الخوف والفزع، والترويج لمعلومات وتحليلات مضلِّلة تُضعف الثقة بقدرة السوريين على تجاوز المرحلة الانتقالية.

تتميز سمات هذا الخطاب بتعبئة عاطفية مكثفة قائمة على استحضار مشاعر الغضب والاحتقار والذل والخوف، تستخدم تقنيات التسميم النفسي الذي يهدف إلى التحشيد تجاه عدو مشترك تتم صناعته بعناية يتمثل في السلطة والنخب المؤيدة لها أو العاملة معها، والجماهير التي تؤمن بوجود مساحات للتغيير وتلحظ الاختلافات عن العهد السابق.

يركّز هذا التيار هجومه وفق مسارَين: الأول يستهدف كبار الشخصيات من السلطة الحالية متصيّداً أخطاءهم وهفواتهم، فيُحرّف بعض القرارات ويفسّرها تفسيرات رغائبية منقوصة، في سعي لتحويل المتلقي إلى حالة دفاعية عبر تحريك مخاوفه وإثارة ذعره، وهي حالة تغيّب عقل المتلقي ومحاكمته المنطقية. وأما مسار الاستهداف الثاني فهو يركّز على النخب السورية، خاصة النخب الوطنية المعارضة لنظام الأسد، التي لم تتوافق في مواقفها مع هذا التيار، وآثرت الانخراط واستغلال هذه اللحظة التاريخية للمساهمة في إعادة بناء سوريا وتجنيد كل خبراتها السابقة لتقديم المشورة والمنفعة والدعم، فأصبحت هذه النخب _التي كانت سابقاً في خانة الحلفاء_ من أشد أعداء هذا التيار التحريضي؛ لأن موقفها الجديد أفقد هذا التيار حجته،  بل إنّ انغماس هذه النخب التي يصعب التحكم بها أو استمالتها يشير بكل تأكيد إلى وجود مساحات عمل وتأثير يمكن من خلالها تغيير الواقع ومعالجة الأخطاء، وهو ما يتعارض مع النهج التحريضي الذي لا يرى في الواقع الحالي غير السواد والهاوية.

لقد عزّز هذا الخطاب التحريضي حالة الانقسام السوري، وزاد من حدة الاستقطاب؛ فهو يقسم السوريين بشكل حدّيّ بين فئتَين فقط لا ثالثة لهما: الفئة المعارضة الساخطة التي لا ترى نجاة سوى بتغيير جذري للمشهد ينسف الواقع من جذوره ويعيد صياغته وفق رؤاهم الخاصة وتصوراتهم المثالية عن الدولة “العلمانية”، وجمهور عريض له هويته وتطلعاته يتم وصفه كاملاً بالتطبيل والارتهان والانقياد للسلطة، ووسمه بعبارات ساخرة وتسميات مهينة بهدف التسخيف من موقفه وإشاعة صورة عنه تسمه بالغباء والجهل والانقياد الأعمى.

يسعى هذا التيار التحريضي إلى تعميق الانقسام بين المكونات السورية من خلال تصوير مؤيديه كونهم مجموعة طاهرة وطنية واعية، قادرة على استشراف المستقبل، وتصوير الآخرين “المطبّلين” على أنهم مجموعة غبية خائنة، تقودها المصالح، تنخدع بالشعارات ولا تملك أيّ حسّ وطني.

يسعى أصحاب هذا الخطاب إلى تعميق هذا الانقسام الثنائي، من خلال تكرار ممجوج  للأخطاء السابقة كافة وحشدها كأدلة، ومحاولة خلق “رابط عجيب” فيما بينها لبناء حجة داعمة، حتى وإن كانت لا تبدو مقنعة؛ وذلك لأن استحضار هذه الحجج وتصيُّد الحوادث الشخصية وتعميمها وتكرارها يمكن أن يزيد التعاطف الجماعي ويحوّل الأفكار المجتمعية الشاذّة إلى أفكار مقبولة، ويزيح الرأي العام إلى الطرف الأكثر تطرفاً؛ وهو نهج في التأثير يُعرف باسم “نافذة أوفرتون“.

يستخدم هذا الخطاب التحريضي مواقف صادمة من حوادث شائعة في كل دول العالم، ويقدّمها كأنها حدث فريد لم يحصل سابقاً في هذا البلد المنكوب، مستخدماً لغة عاطفية تسعى إلى إثارة الغضب وتعميق الشعور بالتهديد والتحريض العاطفي والتشكيك بالآخر ونزاهته، واتهامه اتهامات غير أخلاقية بـ”التطبيع” مع العدو، و”الخيانة” و”التخلّي عن الوطن” دون دليل، وتعميم الخطأ وتحويله إلى حادثة كبيرة، وإعادة تكرار السردية نفسها مراراً وتكراراً، مع استدعاء الشعور بالذنب الجماعي ومشاعر العار التي ستلحق بكل مَن يتبنّى وجهة نظر مغايرة، والتهديد بلعنة التاريخ، وذلك بهدف تشويه الخصم وشيطنته، وليس لحلّ المشكلة والمساعدة في إنهائها.

يستفيد أصحاب هذا الخطاب من حالة الإحباط واليأس عند شرائح في المجتمع تعيش أوضاعاً صعبة كانت تتوقع تغييرات جذرية سريعة، ومن مخاوف لدى مجموعات انتفعت سابقاً من نظام الأسد لا تزال تنظر إلى ما حدث في سوريا من تغيير بعين الرهبة أو ترفض تقبُّل الواقع، ومجموعات تضررت نتيجة توترات في مناطقها، أو تضررت من أخطاء أو سوء الإدارة تعيش حبيسة لمشاعر الخوف والتوجُّس أو على أمل حدوث تدخل خارجي موعود يقلب كفّة الميزان، كما يستغل أصحاب هذا الخطاب حساسية النخب تجاه اتهامات الخيانة، وتأثر الجماهير بالترند ومحاكاته بشكل غير واعٍ والتفاعل معه، وبطموح بعض الناشطين الذين يسعون للفت الانتباه وتصدُّر المشاهدات، أو الذين يتبنّون هذا التوجه طمعاً في الحصول على مكاسب شخصية، لاسيما خارج سوريا.

التحريض جريمة!

عاش السوريون تجربة قاسية جداً استمرت لنصف قرن، وانتهت بمخاض عسير لم يؤتِ ثماره إلا خلال العقد الأخير، فشلت معها كل محاولات الإصلاح والتغيير، وعانوا من التهميش ومن الإذلال، فقاموا ووقفوا في وجه الطاغية وأعوانه، وأعادوا تنظيم صفوفهم؛ فطوّروا خبراتهم، وتعلّموا خلال سنوات الثورة، نجحوا في مواضع وأخفقوا في أخرى؛ ولذا فإن نعت السوريين بالجهل والغباء هو قمة العنجهية والتعالي والجهل بطبيعة السوريين واحتياجاتهم.

إنّ انخراط السوريين في دعم التجربة الوليدة، سواءٌ بالقول أو بالفعل ليس تطبيلاً للحكومة ولا شخوصها، بل هو نتيجة إحساسهم بإعادة استعادة وطنهم والانتقال به إلى عتبات الاستقرار، إضافة إلى رغبتهم العارمة في إثبات وجودهم والمشاركة في إصلاح الواقع، خاصة مع الهوامش المتاحة حالياً وإمكانية التأثير.

ثمّة شريحة واسعة من النخب السورية لا تلتقي أيديولوجياً أو سلوكياً مع السلطة الحاكمة، لكنها تدرك تماماً حساسية اللحظة التاريخية، ومسؤوليتها لعبور المرحلة الانتقالية بأقل خسائر ممكنة، وقد اختبرت الواقع على الأرض وفهمت ضعف الإمكانيات المادية والبشرية، ولاحظت الأخطاء والتعثرات، ومع ذلك آثرت الانخراط؛ لأن إعادة بناء الدولة لا يتم بالتوجيه عن بُعد ولا بالتنظير من أبراج عاجية، بل هو اشتباك مع الواقع بكامل تعقيداته وتحدياته وأخطائه وتدوير الزوايا لإيجاد حلول عملية قابلة للتحقيق وفق الممكن والمتاح.

لقد تعلّم السوريون الدرس، ونما وعيهم خلال السنوات الماضية، ومن الصعب على أية حكومة قادمة أن تُعيد إنتاج نظام استبدادي بعد أن دفع السوريون الأثمان الباهظة لاقتلاعه، بل على العكس سيفرض هذا الشعب العظيم احترام كلمته ورأيه ووجوده على كل الحكومات اللاحقة، وسيُطالبها بأداء غير اعتيادي وبجهود استثنائية، ترقى لمستوى التضحيات المقدمة، وتتوافق مع الإمكانيات، وتتفهم تحديات الواقع والعقبات المهولة التي تواجهه.

إن النقد والمعارضة العقلانية ضرورية، بل واجبة؛ لأنها السبيل لإعادة توجيه الدفّة وتصحيح المسار، وهي السبيل لضمان حقوق السوريين وتلبية تطلعاتهم، وهذه المعارضة تتطلب رؤية وطنية متوازنة بعيدة عن المصالح الشخصية وقولاً منصفاً واقتراحاً لحلول وتوصيات من شأنها إصلاح المشهد وتطويره، لا نسف الجهود وشيطنة أصحابها والسخرية والاستهزاء من شعب قدّم ما لا يقلّ عن مليون شهيد لانتزاع حريته واستعادة بلاده وإعادة بناء مسار جديد نحو سوريا العظيمة التي يتمناها الجميع.

 وفي جميع الأحوال، فإنه في هذه اللحظات الحاسمة التي يتم فيها إعادة بناء الدولة ولملمة جراح المجتمع الممزق من الإجرام الذي طال السوريين بجميع طوائفهم لا يمكن النظر إلى التحريض المنظّم وإثارة الكراهية ونشر الخوف والذعر سوى بكونه جريمة؛ فهو يعمّق الشروخ ويزيد الانقسام ويثير التفرقة والضغائن ويغامر بتفتيت ما تبقى من السلم الأهلي الهش، لاسيما إن كان صادراً من وراء الشاشات وخلف البحار ومن أشخاص لا يهمهم سوى الشهرة وجمع المشاهدات ولفت الانتباه.

مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى