مقدمة:
ترسل أنقرة من جديد رسائل إلى نظام الأسد مضمونها رغبة في استئناف “العلاقات التركية – السورية”، التي رأى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تصريحات الأخيرة أنه لا يوجد أي سبب لعدم إقامتها[1]، ورغم أن هذه التصريحات تبدو مألوفة في الآونة الأخيرة من حيث إن بوادر التقارب التركي مع نظام الأسد طفت على سطح المعادلة السورية منذ عدة سنوات، تحديداً عام 2022 حينما أعلن وزير الخارجية التركي السابق مولود جاويش أوغلو عن إجراء محادثات قصيرة مع فيصل المقداد وزير خارجية نظام الأسد، وتأكيده آنذاك أن الرؤية التركية للسلام في سوريا تمرّ عبر إجراء “مصالحة / توافق” بين المعارضة ونظام الأسد[2]. إلا أن التصريحات الجديدة ضربت على “وتر حسّاس” لدى الشارع السوري المعارض بعد أن تحدّث أردوغان عن إمكانية “توجيه دعوة إلى بشار الأسد من أجل زيارة تركيا”، وعن الرغبة في “إعادة العلاقات إلى ما كانت عليه سابقاً” أي: قبل ثورات الربيع العربي، وأشار إلى أن “مسلّحي داعش” والتنظيمات مثل PKK/PYD/YPG هم مَن يعارضون هذا التقارب[3].
كل ما تقدّم أثار تساؤلات حول جديد التصريحات التركية والدوافع التركية للتقارب مع نظام الأسد، ومواقف قوى الثورة والمعارضة، وسيناريوهات التقارب التركي مع نظام الأسد. فيهدف هذا التقرير للإجابة عن التساؤلات السابقة من خلال رصد الأحداث السياسية والسياق الإقليمي والدولي والتصريحات الصادرة عن المسؤولين الأتراك، إلى جانب رصد بعض التحليلات للباحثين والكتاب الأتراك.
ينقسم التقرير أربع فقرات: نستعرض في الأولى دوافع تركيا الجديدة للتقارب مع نظام الأسد، واستكمال المسار الذي تعثّرت محطاته خلال السنوات الماضية. ونستكشف في الثانية جديد التصريحات التركية حول ملف التقارب مع نظام الأسد وما تضمنته من رسائل، والتغييرات على طرأت على خطاب صانع القرار التركي. أما الفقرة الثالثة فخُصصت لمعرفة موقف قوى الثورة والمعارضة من دعوات التقارب التركي مع نظام الأسد. فيما استعرضت الرابعة والأخيرة مآلات هذا التقارب، مع محاولة استشراف سريع لانعكاسات هذا التقارب على الملف السوري في المدى القريب والمدى المتوسط.
أولاً: دوافع الاندفاع التركي الأخير تجاه التقارب؛ التمحور حول “محاربة الإرهاب” وإعادة اللاجئين:
كما هو الحال بعد كل تصريح تركي حول مسار التقارب مع نظام الأسد تتصاعد التساؤلات حول الأهداف والدوافع التي تجعل من أنقرة تطلق تصريحات تدعو فيها هذا النظام للانخراط من جديد في مسار لطالما تعثرت خطواته رغم المحاولات الروسية الحثيثة لإنجاحه؛ إلا أن التغيرات التي شهدها الملف السوري والمنطقة دفعت تركيا إلى إعادة صياغة حساباتها بناءً على مجموعة عوامل، وهي[4]:
- مواجهة مشروع “قسد”: تنظر تركيا إلى سعي “قسد” لتعزيز حكمها في شمال سوريا من خلال إجراء انتخابات محلية على أنها محاولة للانتقال من “سلطة الأمر الواقع” إلى “مظلة الإرادة الشعبية”، خاصة بعد إصدار “المؤتمر العام التابع لمجلس سوريا الديمقراطية “مسد” في كانون الثاني 2023 وثيقة العقد الاجتماعي التي تُعد بمثابة “دستور محلي”[5]. ورغم إعلان “قسد” تأجيل الانتخابات نتيجة ضغوط محلية[6] ودولية[7] إلى شهر آب القادم؛ فإن تركيا رأت في هذه الخطوة تهديداً لمصالحها القومية ولأمنها القومي[8]، الأمر الذي دفعها -على ما يبدو- للتحرك في عدة اتجاهات بدأت من خلال:
- إزالة حالة الفتور في العلاقة بين تركيا وروسيا: أجرى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان اجتماعاً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة دول مجموعة بريكس في 11 حزيران الماضي وبحث معه “مسـألة انتخابات قسد”[9]؛ وهو ما أتاح لموسكو فرصة إعادة تفعيل ملف الوساطة لدفع مسار التقارب بين أنقرة ودمشق، وسط حديث عن وضع خطة عمل لتنفيذ ذلك تقوم على إعطاء زخم جديد لمسار أستانا[10].
- تنشيط مسار التقارب مع الأسد: تحاول أنقرة ضمان عدم استفادة “قسد” من أي فراغ سياسي في المنطقة، من خلال تقويض شرعيتها، وقد يكون ذلك عبر التعاون مع نظام الأسد وتشكيل ضغط سياسي ودبلوماسي يُضعف شرعيتها على الساحة الدولية والإقليمية، وقد يكون ذلك من خلال إعادة صياغة اتفاقية “أضنة” المبرمة عام 1998، بما يسمح لأنقرة بتنفيذ عمليات جديدة داخل الأراضي السورية لمسافة تتراوح بين 30-40 كم بحسب ما صرّح به وزير الدفاع التركي[11]، تشبه تلك التي تجريها مؤخراً في العراق ضد حزب العمال الكردستاني حيث استطاعت إحراز تقدم كبير في محافظة دهوك[12].
- إحراز تقدُّم في ملف اللاجئين السوريين، ومجاراة الأحزاب التركية المعارضة: انعكست تقلبات المشهد الداخلي التركي وتنامي الخطاب المعادي للاجئين السوريين من جديد على سياسة تركيا الخارجية، وكانت الأحداث التي شهدتها ولاية قيصري وما تبعها من توترات في تركيا والشمال السوري آخر فصول تلك الضغوطات التي تتعرض لها الحكومة التركية[13]، وكذلك فإن استمرار الأحزاب المعارضة بتبنّي مسار التطبيع مع الأسد وسيلةً لحل مشكلة اللاجئين السوريين قد سرّع من عملية الدعوة للتقارب مع نظام الأسد بهدف إغلاق الطريق أمامهم، وتعزيز موقف الحكومة في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
- مسايرة الداخل التركي وتقييم تجاوب نظام الأسد: لعل من الأمور التي شجعت تركيا على إعادة إطلاق تصريحات هدفها إعادة تفعيل مسار التقارب تفويت الفرصة على بعض الأصوات التي لم تعد قليلة في تركيا -وفي مقدمتها حزب الشعب الجمهوري[14]– التي تطالب بإعادة العلاقات مع الأسد بهدف تشكيل جبهة لضرب المشروع الأمريكي في المنطقة المتمثل بـ “قسد” ومن خلفها حزب العمال الكردستاني وفق رؤيتهم[15]. وفي الوقت نفسه شكّلت تصريحات نظام الأسد الرافضة لدعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأسد لزيارة تركيا أو اللقاء في بلد ثالث دافعاً لأنقرة لإعادة فتح ملف التقارب؛ حيث إنها حملت نبرة أقل حدّة من سابقاتها، إذ لم يتطرق بشار الأسد خلال لقائه مع المبعوث الروسي ألكسندر لافرنتييف في حزيران الماضي صراحة إلى شرط الانسحاب التركي من سوريا، واكتفى بالتركيز على انفتاح نظامه لجميع المبادرات مع تركيا”[16]؛ في خلافٍ لما جرت عليه العادة عندما كان نظام الأسد يستغل أية فرصة لمهاجمة أنقرة، كما حدث خلال مشاركة الأسد في قمة جدة في أيار العام الماضي[17].لكنّ بيان وزارة خارجية نظام الأسد بعد أيام من تصريحات الرئيس التركي خلط الأمور مجدداً[18]؛ فيما لا يُستبعد عنه قوة تأثير الإيرانيين فيما أعلنه نظام الأسد، لاسيما مع رفض إيران الواضح للتقارب بين الأسد وتركيا وفق المبادرة الروسية.
- اختبار تركي لنهج عربي من الوساطات: يبدو أن تركيا تسعى إلى اختبار نهج جديد من الوساطات بعد تعثُّر الوساطة الروسية في تحقيق أهدافها حتى الآن[19]، وقد سبق أن صرّحت الحكومة العراقية أنها تعمل على المصالحة بين تركيا ونظام الأسد، وأنها على اتصال مع بشار الأسد والرئيس التركي[20].
تنطلق المقاربة العراقية ظاهرياً من عدة محددات، تشمل: التركيز على تعزيز الاستقرار الإقليمي، وتأمين الحدود، والتعاون الاقتصادي، والحدّ من تأثير الجماعات المسلحة في المنطقة، وتسهيل عودة اللاجئين السوريين، والتعاون في محاربة التنظيمات الإرهابية[21]. وبما أن العراق هي التي تقود هذه المبادرة فإنه من غير المستبعد أن تكون إيران هي التي تقف خلفها في ظل رغبة الأخيرة في التحكم بمسار التطبيع بين تركيا ونظام الأسد، بحيث لا تتطور العلاقات بما يشكل تهديداً -ولو محتملاً- للنفوذ الإيراني في سوريا، وبحيث يكون هنالك تشويش على المبادرة الروسية[22]. ويمكن أن تكون بعض الدول العربية داعمة لهذه المبادرة، خصوصاً بعد عودة الأسد إلى الجامعة العربية.
ولذا فإن الانخراط بهذه المبادرة قد يمنح تركيا القدرة على إعادة تموضعها في الإقليم لتحقيق مصالح متعددة، منها: ما يخصّ الجانب الاقتصادي؛ حيث إن الأسواق العربية تُعد البديل الأفضل لتصريف المنتجات التركية[23]، وبذلك تكون قد أرضت شريحة من رجال الأعمال الأتراك الذي يطالبون حكومة أردوغان بإعادة الخطوط البرية مع الدول العربية عبر إعادة إحياء العلاقات مع نظام الأسد[24]، ولعل قرار إعادة فتح معبر أبو الزندين في ريف مدينة الباب شرقي حلب الذي يصل مناطق المعارضة مع مناطق نظام الأسد جزءٌ من مساعي إعادة تفعيل الخط التجاري البري[25].
ثانياً: ما الجديد في التصريحات التركية الأخيرة؟ التقدم خطوة للأمام:
حفّز إعلان الإدارة الذاتية نيتها إجراء انتخابات محلية في مناطق سيطرتها في شهر حزيران الماضي حالة الركود التي طغت على مسار التقارب التركي مع نظام الأسد بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية التركية منتصف العام الماضي؛ فقد توالت التصريحات التركية الرافضة والمستنكرة لها، مع التلويح بإمكانية شنّ عملية عسكرية إذا مضت “قسد” في خطتها[26]، وكان اللافت في ضوء الانزعاج التركي إعادة فتح ملف التقارب بين تركيا ونظام الأسد من خلال تصريح حزب الحركة القومية التي تُعد الأولى من نوعها في الفضاء التركي غير المعارض؛ إذ كان الحديث سابقاً يقتصر في سياق دعم أي مبادرة من شأنها تحقيق “مصالحة” بين نظام الأسد والمعارضة تفضي إلى حل سياسي[27].
تلا ذلك تصريحات وزير الدفاع التركي يشار غولر التي عبّر فيها عن استعداد بلاده “للتفكير” بالانسحاب العسكري من سوريا بـ”شروط وأطر محددة”، كاعتماد دستور شامل وإجراء انتخابات حرة وتوفير بيئة أمنة وضمان أمن الحدود الجنوبية لتركيا[28]، ورغم أن هذا الخطاب ليس بجديد على صانع القرار التركي ويمثل أحد عقد التقارب السابقة؛ إلا أن وزير الخارجية التركي “هاكان فيدان” عزّزه بتصريحات كانت بمثابة خطة عمل لنظام الأسد تقوم على حثّه على “استثمار حالة الهدوء وتوقف الاشتباكات من أجل حل المشاكل الدستورية وتحقيق السلام مع معارضيه، بغية التمهيد لإعادة ملايين السوريين”[29].
ولعل الأكثر أهمية بالنسبة إلى التصريحات التركية الأخيرة هو دعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رأس النظام بشار الأسد إلى زيارة تركيا وإعادة العلاقات “التركية – السورية” كما كانت عليه “في الماضي”، واستحضاره الجانب العائلي من خلال حديثه عن إمكانية عقد لقاءات “عائلية” مع بشار الأسد “في المستقبل”[30]؛ في محاولة -على ما يبدو- إعطاء انطباع أن العلاقات قد تتجاوز الجانب الرسمي والسياسي، وبذلك يكون قد حقّق أكثر مما تسعى إليه المعارضة التركية وعلى رأسها زعيم حزب الشعب الجمهوري الذي أعلن مطلع تموز الحالي إجراءه اتصالات مع بشار الأسد، وقال: إنه “سيلتقي معه قريبا”[31]، وهو ما نفته لاحقاً وسائل إعلام موالية للأسد[32]. في المقابل ربط أردوغان فكرة التقارب بمبدأ “خطوة مقابل خطوة” بقوله: بمجرد اتخاذ بشار الأسد خطوة لتحسين العلاقات مع تركيا سوف نبادر بالاستجابة بشكل مناسب، وهو ما يعني أن أي انفراجة في العلاقات ستكون مرتبطة بموقف نظام الأسد وقدرته على تلبية أي من متطلبات التطبيع، التي تنحصر في عدة نقاط، أهمها: تلك المتعلقة بالأمن القومي التركي، وقضية وجود “قسد” وحزب العمال الكردستاني شمال سوريا، ومسألة اللاجئين.
ولذا يمكن القول: إن التغييرات التي طرأت على الخطاب التركي فيما يتعلق بمسار التقارب مع نظام الأسد مؤلفة من ثلاث نقاط، هي:
- إمكانية دعوة بشار الأسد لزيارة تركيا مع فتح المجال لإعادة العلاقات لما كانت عليه قبل 2011.
- إمكانية “التفكير” بسحب تركيا قواتها من الأراضي السورية شرط أن يتحقق ما تريده أنقرة.
- اعتماد مبدأ “خطوة مقابل خطوة” آلية لإعادة العلاقات بين تركيا ونظام الأسد.
ثالثاً: التقارب التركي وموقف قوى الثورة والمعارضة؛ الرفض الـمُصاغ بلغة دبلوماسية:
لا يزال الشارع السوري المعارض محافظاً على موقفه الرافض للتقارب أو التطبيع مع نظام بشار الأسد، حتى وإن كان ذلك بدعوة من أحد أهم “حلفاء الثورة”؛ حيث أفرزت التصريحات التركية الأخيرة حالة غضب تُرجمت على شكل مظاهرات استمرت لعدة أيام[33] تزامنت معها اجتماعات على مستوى الأفراد والفعاليات السورية، وأخرى جرت بين وجهاء وناشطين وسياسيين مع الجانب التركي في منطقة “حور كلس” بريف حلب أكدوا فيها رفضهم أية خطوة تؤدي للمصالحة مع الأسد وحصر أية اتفاقيات أو تفاهمات تتعلق بالداخل السوري وفتح المعابر مع نظام الأسد بيد “القيادة المدنية الممثلة للثورة”[34].
وبالنظر إلى مواقف القوى السياسية والعسكرية والنقابات والاتحادات، ورغم أن بعضها لم يعلن صراحة عن موقفه من التقارب التركي مع نظام الأسد؛ إلا أن البيانات التي صدرت تؤكد أهمية ثبات موقف تركيا تجاه الحل السياسي والقرار الدولي 2254 [35]، وخطورة أية خطوات تطبيعية من شأنها تعزيز قوة نظام الأسد وزيادة معاناة السوريين[36]. مع الإشارة إلى دعم أية عملية تفاوضية تقودها الأمم المتحدة وتؤسس لبيئة آمنة ومحايدة تساعد السوريين على العودة إلى بلادهم[37]، وقد أصدرت النقابات والاتحادات العاملة في الشمال السوري بمطالب تتعلق بحق الشعب السوري في التعبير عن رأيه والمطالبة بحقوقه بكل الطرق والوسائل السلمية، مع تأكيد أن عقد الاتفاقيات مع أية جهة أو طرف فيما يخصّ المناطق المحررة يجب أن يضمن مصلحة الشعب السوري وفق مبادئ الثورة، بينما شدّد المجلس الإسلامي السوري على أن “الشرعية المطلوبة في سوريا هي شرعية نابعة من إرادة الشعب واختياره ورضاه، وليست شرعية ناتجة عن مصالح الدول”، واعتبر أن “أي حل يتم فيه تغييب إرادة السوريين وحرمانهم من اختيار نظامهم السياسي وتقرير مصيرهم هو حل غير قابل للتطبيق”[38].
رابعاً: مآلات مسار التقارب التركي مع سلطة الأسد؛ الولوج من بوابة الاقتصاد:
من خلال تتبع التصريحات التركية وما يُنشر في الصحف المقربة من دوائر صنع القرار يظهر أن عملية التقارب مع نظام الأسد وإن بدت تأخذ منحى جديداً ومتقدماً إلا أنها إلى اليوم لم تتضح معالمها، لاسيما بعد رفض نظام الأسد ظاهرياً المبادرة وإصراره على انسحاب القوات التركية من سوريا قبل البدء بمسار التطبيع[39]، ومع وجود مقاربتين تحدث عنهما الرئيس التركي واحدة برعاية روسية والثانية برعاية عراقية، والهدف منهما كسر حالة الجمود في مسار التقارب وحلحلة القضايا العالقة، وهو ما قابله نظام الأسد بتصريحات سابقة يؤكد فيها انفتاحه على “جميع المبادرات المرتبطة بالعلاقة بين سوريا وتركيا” لكن بشرط أن تكون “مستندة إلى سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها ومحاربة كل أشكال الإرهاب وتنظيماته”، وعلى الرغم مما حمله تصريح الأسد بشأن “التعاطي الإيجابي” مع مبادرات التطبيع إلا أن هذا التصريح لا يعكس تراجعاً في الموقف؛ إذ يرهن نظام الأسد تقدّم المحادثات بـ “سيادة” نظامه على كامل سوريا”.
ومن الواضح أن تغييرات طرأت على خطاب طرفي مسار التقارب؛ فمن جهة دعوة أردوغان الأسد لزيارة تركيا، ومن جهة أخرى إعلان الأسد انفتاحه على جميع المبادرات المتعلقة بالتقارب مع تركيا؛ إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن المسار بدأ يأخذ منحى جديداً في طريق تحقيق المصالحة التي تسعى كل من روسيا ومؤخراً العراق لتحقيقها، أو الوصول إلى تطبيع سياسي دبلوماسي /كامل – جزئي/ وطيّ صفحة الخلافات والمواجهات السابقة.
لا نقول: إن التقارب لن يحقق أياً من أهدافه؛ إلا أن العقبات التي حالت دون استمراره سابقاً لا تزال إلى اليوم قائمة، وعلى رأسها الانسحاب التركي من سوريا الذي يضعه نظام الأسد شرطاً لأية مصالحة مع أنقرة، وعلى الرغم من تغيير النبرة في خطابات الأخير إذ انتقل من طلب الانسحاب إلى التعهد بالانسحاب، ورغم الليونة في الخطاب التركي؛ إلا أن أنقرة أبدت تمسكاً بالملف الأمني فأكّد الناطق باسم حزب العدالة والتنمية عمر جليك استمرار وجود قوات بلاده في سوريا لمنع إنشاء “كيان إرهابي”، فيما أعلن وزير الدفاع يشار غولر عزم بلاده إنشاء ممر أمني بعمق 30 – 40 كم على طول الحدود مع العراق وسوريا؛ مما يرجح استمرار إبقاء تركيا قواتها شمال سوريا.
يُضاف إلى ذلك مدى استعداد نظام الأسد للتخلص من “قسد” والتفاعل مع المطالب التركية؛ حيث إنه نفسه لا يملك القدرة أساساً على اتخاذ خطوات من شأنها إنهاء وجود “قسد” التي يتشارك معها في العداء للمعارضة السورية، وتتلقّى دعماً من الولايات المتحدة الأمريكية. ويشكّك هنا محللون أتراك في نجاعة أن يؤدي التقارب -إن حصل- إلى إنهاء قضية “قسد” التي تعدّها تركيا “قضية بقاء”، بينما ينظر إليها نظام الأسد بشكل مختلف. بمعنى آخر: يمكن لنظام الأسد إقامة علاقة “برغماتية” معها على اعتبار أن مكافحتها ليست من أولوياته[40]، وربما أكثر من ذلك؛ فقد تتلاقى مصلحة الطرفين في مسألة معينة كـإنهاء الفصائل في شمال غرب سوريا، حيث وجهت “قسد” قبل أيام دعوة إلى نظام الأسد تعلن فيها استعدادها للقتال إلى جانبه إذا ما بدأ عملية عسكرية هناك[41].
من جهة أخرى يبدو أن ثبات الموقف الأمريكي الرافض لعملية التطبيع مع نظام الأسد قد يشكل عائقاً أمام مسار التقارب، وإن بدا مؤخراً أكثر بروداً؛ حيث ربطت واشنطن أي خطوات للتقارب مع نظام الأسد بضرورة اتخاذ خطوات “موثوقة” لتحسين الوضع الإنساني وحقوق الإنسان والأمن للسوريين”، مع التشكيك بمدى استعداد نظام الأسد لاتخاذ أية خطوات باتجاه الحل السياسي في سوريا[42].
كذلك من المستبعد تحقيق أي تقدُّم في ملف اللاجئين[43]؛ فمن جهة لم يبد نظام الأسد أية سياسات تشي بإمكانية تعاونه في تحقيق بيئة مواتية لإعادة اللاجئين، فما زال القصف على مناطق شمال غرب سوريا -وعلى وجه الخصوص إدلب- مستمراً[44]، ومن جهة أخرى فإن سلوكه تجاه هذا الملف بالتحديد تشي بـ”الرفض”، وإن صرّح خلاف ذلك؛ فقد تعرّض العديد من اللاجئين لحالات اعتقال وتعذيب انتهى بعضها بالموت فيما لا يزال مصير بعضهم غير معروف[45]. ويُضاف إلى ذلك رفض نظام الأسد “التعاطي الإيجابي” مع إعادة اللاجئين من الأردن، رغم أنه كان أحد أهم البنود في بيان لجنة الاتصال العربية[46]، فضلاً عن رفض إعادة اللاجئين من لبنان[47]، كل ذلك ربما يؤكد توجه نظام الأسد لعدم التعاطي بإيجابية مع ملف إعادة اللاجئين بهدف تكريس التغيير الديموغرافي لمصلحته عبر تحقيق فكرة الأسد في “المجتمع المتجانس”[48].
في المحصلة: يبدو أن مسار التقارب مع نظام الأسد بالنسبة إلي تركيا بات قراراً سياسياً من الصعب التخلي عنه وفق المعطيات الحالية، خاصة بعد تكليف الرئيس التركي وزير خارجيته البدء بعملية إعادة العلاقات[49]، ولكن يمكن القول إن هذا المسار طريقه طويل ومليء بالمفاوضات الصعبة والمعقدة. وقد تكون البداية من البوابة الاقتصادية؛ لأنه ليس من الصعب الوصول إلى تفاهمات برعاية روسية لتفعيل بعض الاتفاقيات السابقة، كفتح الطرق الدولية والمعابر التجارية، لاسيما وأن الطرفين يبحثان عن طريقة تخرجهما من أزمتهما الاقتصادية المُتفاقمة من خلال تفعيل الطرق التجارية[50].
عسكرياً يُتوقع في المدى المنظور المتوسط -فيما لو حصل التطبيع وحصلت تركيا على تنازلات من نظام الأسد تخصّ وجودها العسكري- أن تكون الجهود مركّزة على عدة مجالات، منها ما يتعلق بمناطق شمال غرب سوريا؛ حيث يمكن تنظيم دوريات مكثفة تركية – روسية لمراقبة الأوضاع الأمنية على خطوط التماس، ودفع الفصائل للابتعاد عن طريق M4 وتطبيق اتفاق موسكو الموقع في آذار 2020، لاسيما وأن نظام الأسد يصرّ على تطبيق هذا البند[51]. ثم قد نرى تصاعداً في عمليات اغتيال ممنهجة للشخصيات الوازنة عسكرياً ومدنياً في المنطقة الرافضة لسيناريو التطبيع، كما حدث ويحدث حالياً في درعا.
أما في شمال شرق سوريا فيُتوقع تبادل المعلومات الأمنية بين أنقرة ونظام الأسد بشأن قوات سوريا الديمقراطية “قسد”؛ على اعتبار أن النظام يتشارك السيطرة معها في العديد من المناطق، إلا أن ذلك لا يعني الانخراط بعمل عسكري مشترك ضدها، بل الاكتفاء بتبادل المعلومات من باب تعزيز حالة الثقة؛ لأن أية عملية في مناطق “قسد” تتطلب ضوءاً أخضر أمريكياً، وتوافقاً ثنائياً تركياً أمريكياً – تركياً روسياً.
في إطار انعكاسات التطبيع على فصائل وقوى الثورة والمعارضة السورية فقد تتركز الجهود في المدى المتوسط على تحجيم بعض الفصائل العسكرية وإعادة هيكلتها، بهدف تشكيل كيان عسكري يتم الدفع به ليكون في المستقبل البعيد جزءاً من “المؤسسة العسكرية السورية”، ومن خلال هذا التوجه تضمن أنقرة امتلاك “أوراق تأثير” مهمة في الساحة السورية، ولكن هذه الخطوة لا يمكن المضي بها قبل ترتيب حل نهائي وشامل لسوريا يتماشى مع مسار الحل السياسي الدولي المرتبط أصلاً باعتبارات تتخطى الجانبين.
كذلك يُتوقع أن يؤثر هذا التقارب في المدى القريب على المعارضة السياسية الموجودة في تركيا، كتشديد الضغوط عليها لتبنّي خطابات “أقل حدة” تتوافق مع السياسات والمصالح التركية في سوريا، مثل حثّها على اتخاذ مواقف تدعم الانفتاح التركي على نظام الأسد فيما يتعلق بالمستويين الإنساني والاقتصادي في سوريا، فتبتعد بذلك عن التطبيق الفعلي لقرار مجلس الأمن 2254 لحساب توافقات إقليمية بعيدة عن مرجعية جنيف.
فيما يتعلق بملف اللاجئين الذي يُعد من القضايا الأكثر إشكالية في سياق التطبيع يرفض نظام الأسد استقبال أي لاجئين لأسباب أشرنا إليها سابقاً، ولذا فإن السيناريو الأكثر قابلية للتحقق هو إعادة اللاجئين إلى مناطق النفوذ التركي في شمال سوريا كخطوة أولى، وتقوم تركيا باستكمال عمليات تحسين البنية التحتية لتكون بمثابة حل مؤقت يوفر للاجئين بديلاً عن العودة إلى المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد، مما يساعد على تخفيف العبء عن تركيا، خاصة إذا تم دعمه من الدول العربية المطبِّعة مع نظام الأسد.
إنّ أولى الانعكاسات إذ جرى التطبيع وتجاوز الطرفان العقبات التي حالت سابقاً دون إحراز أي تقدُّم ستكون على الجانب الاقتصادي، ومن ثم على الملف العسكري وتغيير أنماط العلاقة مع قوى الثورة والمعارضة الموجودة في تركيا. أما فيما يتعلق بمسار الحل السياسي فتبقى التحديات كبيرة ومعقدة؛ نظراً لتداخل مصالح العديد من الفاعلين الدوليين والإقليميين، لذا من غير المرجح تحقيق خرق كبير في المسار الأممي الحالي الذي يتطلب توافقاً دولياً شاملاً وتعاوناً من جميع الأطراف المعنية، والذي قد يموت بالتقادم كما جرى في الحالة الفلسطينية. ومع ذلك قد يشهد الملف السوري تقدماً في المسارات الموازية؛ إذ يمكن لتركيا ونظام الأسد التوصل إلى تفاهمات واتفاقات ثنائية، أو حتى البناء على المسارات السابقة “أستانا”.
صحفي سوري ومساعد باحث في وحدة التوافق والهوية المشتركة، تتركز اهتماماته البحثية على سياسات القوى المحلية والفاعلة في الملف السوري، شارك بإنجاز العديد من الأوراق البحثية المتعلقة بالحراك السوري وكتب العديد من التقارير التحليلية.
عمل في مجال كتابة تقارير المعلومات في الصحافة الالكترونية وإعداد النشرات التلفزيونية.