التقاطعات والاختلافات بين الإجرام الإيراني و”الإسرائيلي”.. تأمّلات قانونية بعيدة عن السياسة
ما تزال الأقلام التي تُقارب وتُحلّل مواقف السوريين المعارضين لنظام الأسد، والمُبدين فرحهم و”شماتتهم” بمقتل زعيم ميليشيا “حزب الله” اللبناني في سجال حول أخلاقية هذا الموقف، خصوصاً أن الجهة التي قامت بعملية الاغتيال هي “إسرائيل” صاحبة المشروع العدواني الاستيطاني الرئيس في المنطقة، والمستهدَف جهة ساهمت بطريقة أو بأخرى في الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية، مما ربما يشفع لها -وفق هذا الرأي- بالسكوت عن أخطائها وجرائمها التي ارتُكبت بحق الشعب السوري ومن قبل بحق الشعب اللبناني.
لا شك أن قضية أخلاقية الاحتفال بمقتل حسن نصر الله ترتبط بقضية أساسية تُبنى عليها القضية الأولى وهي: المشروع الإيراني في المنطقة والتعامل معه، حيث إن بعض الأقلام اعتبرت أن إظهار الفرحة بمقتل نصر الله يحمل في أحد مؤشراته غير المباشرة دعماً للقاتل “الإسرائيلي”، وهو ما يعني أن هنالك مساواة بين المشروعين الإيراني و”الإسرائيلي” من حيث الخطورة وعدم المشروعية وطريقة التعامل، وهو ما يتنافى مع الواقع -بحسب هذه الأقلام- خصوصاً أن المشروع الإيراني وفق رأيهم يمكن الوصول معه إلى تسوية ما، يمكن أن تُخفّف من غلوائه، على عكس المشروع الصهيوني الذي هو مشروع وجودي إحلالي. في جميع الأحوال، ترى هذه الأقلام أنه ليس من السياسة والأخلاق في ظل الجرائم المرتكبة من قبل “إسرائيل” التلاقي مع الأخيرة في الشماتة من “حزب الله” وبقية الأذرع الإيرانية.
بعيداً عن المقاربات السياسية والأخلاقية التي تسوقها الأقلام السابقة لتبرير ضرورة تخفيف الحدة في التعامل مع المشروع الإيراني وأذرعه في المنطقة، ربما تُزوّدنا المقاربة القانونية بحكم الأدوات والمعايير الدقيقة التي تمتلكها، بأحكام أكثر موضوعية للتعامل مع المشروع الإيراني في مثل هذه الظروف.
في تجريم المشروع الإيراني:
تُجمع أدبيات القانون الجزائي في مختلف المدارس على أن لكل جريمة ركنان: ركن مادي “السلوك”، وآخر معنوي “الإرادة”، والبعض يضيف لها ركناً ثالثاً وهو “النص”، أي وجود نص قانوني يُجرّم “السلوك”، فعلى سبيل المثال: حتى يكون لدينا جريمة اسمها “السرقة” يُفترض أن يكون لدينا سلوك “أخذ مال الغير المنقول دون رضاه”، وأن تكون هنالك إرادة صحيحة مصاحبة لهذا السلوك، فإذا تحقق هذان الركنان أصبحنا أمام فعل جُرميّ هو السرقة. أحياناً تكون هنالك ظروف موضوعية أو شخصية تُخفّف من عقوبة المجرم تُسمّى الأسباب المُخفّفة القانونية أو التقديرية بحسب الحال، مثل: الدافع الشريف أو القصر أو الإثارة والغضب أو حالة المجرم الشخصية مثل فقره أو سوء حالته الصحية ..إلخ. فعلى سبيل المثال: عندما يقوم السارق بارتكاب جرم السرقة قد يقوم القاضي بالأخذ بالأسباب المخفّفة التقديرية ولكن ذلك لا يؤثر بطبيعة الحال على توصيفه بأنه سارق.
لو أسقطنا المثال أعلاه على المشروع الإيراني، لوجدناه مجرماً بمستوى إجرام المشروع “الإسرائيلي”، فكلاهما، ارتكب ذات السلوك من قتل الأبرياء من نساء وأطفال وشيوخ وتشريدهم وحصارهم وتجويعهم، وكلاهما لديه الإرادة الكاملة لارتكاب هذا السلوك الإجرامي. ولا أعتقد أن شخصاً عاقلاً يجادل في ذلك، الجدال كله منحصر في الدوافع والظروف الخاصة بالمشروع، وهي شروط لو فرضنا صحّتها -وهي ليست كذلك برأيي- فإنها تبقى أسباباً مُخفّفة لا تؤثر بطبيعة الحال على قيام الجريمة وتجريم المجرم، وهو في حالتنا المشروع الإيراني.
كذلك أشار البعض إلى أن المشروع الإيراني إنما هو فرع عن مشروع استعماري أكبر ترعاه الدول الغربية، الأمر الذي يجعل إيران مجرد أداة من أدوات المشروع الاستعماري الأكبر، فهي كالسكين الذي يستخدمه القاتل في جريمته، والسكين في حالتنا هي أداة لا يُحكم عليها، وإنما على المجرم الذي يستخدمها.
تُعدّ إيران دولة ذات سيادة لها مؤسساتها وحضورها، فهي ليست أداة لمشروع آخر، بل هي صاحبة مشروع، هذا المشروع قد يتقاطع مع المشاريع الاستعمارية الكبرى، ولكنه يبقى مشروعاً قائماً بذاته، وبالتالي لا يمكن لنا توصيفه بالأداة، بل المشروع الإيراني في أقل أحواله هو مساهم أو شريك في المشروع الاستعماري الأكبر، لأنه يخدم أهدافه من جهة إضعاف الدول المستهدفة “الضحية”. فإيران -وفقاً لتوصيف هؤلاء- هي المساهم أو الشريك الذي يحضر أدوات الجريمة ويراقب الضحية، بل ويساعد القاتل في الهجوم على الضحية، صحيح أن هذا المساهم أو الشريك قد لا يكون القاتل الرئيس إلا أنه يبقى له وِزرُه في ارتكاب الجريمة، وهنا أيضاً تجمع الأدبيات القانونية على أن وجود “الجريمة”، يجعل مسؤولية المساهم أو الشريك، وهو المشروع الإيراني في حالتنا، قائمة بحد ذاتها، فيسأل عنها بغضّ النظر عن المجرم الرئيس.
في التعامل القانوني الجزائي مع المجرم الإيراني:
إلى جانب التوصيف، ثمة من يرى أنه ليس من مصلحة العرب وضحايا المشروع الإيراني، تذكير الناس بجرائم الأخير حتى لا تزاحم أو تُنسي جرائم المحتل “الإسرائيلي”، بل يجب التذكير بمسؤولية الدول الغربية التي تُعدّ بمثابة “رئيس مافيا” يدعم القاتل الأكثر إجراماً “إسرائيل” الذي يقوم حالياً بالاعتداء على المشروع الإيراني الذي لا يزال على إجرامه في ساحات أخرى.
ثمة مقاربة منطقية وقانونية مفقودة في الرأي السابق، فبفرض أنه بالفعل هنالك مجرمان يعملان مع رئيس مافيا، أحدهما أكثر خطورة ويرتكب الموبقات، والثاني، كذلك مجرم ولكنه درويش وأقل خطورة، فإذا اختلف المجرمون فيما بينهم لسبب ما، هل نقول للضحية: اصمت، لا تتحدث عن جرائم المجرم الأقل خطورة؟!
أليس من الأولى، أن نشد على يد ضحايا الإجرام “الإسرائيلي” والإيراني ونسعى للتذكير بجرائم هؤلاء المجرمين جميعهم، لا أن نصمت ونستخدم إجرام المجرم “الأكبر ممثّلاً بإسرائيل” أداة لتبرئة الآخر “الأصغر ممثّلاً في إيران”، فالأخيرة كانت وما تزال مجرمة؛ فوقوع جريمة على مجرم ليس سبباً لتبرئته من جريمته في كل شرائع العالم، كما أنها لا تُعدّ سبباً لتخفيف العقوبة عنه، بل يسأل هو عن جريمته، وله الحق في تحصيل حقوقه بوصفه معتدى عليه.
ختاماً، لو أن المجرم الإيراني قام بمعروف للقضية الفلسطينية مع ما تحمله الأخيرة من شرعية أخلاقية ودينية، فإنها لا تتحوّل بحال من الأحوال إلى صكّ براءة، بل يُفترض بالضحايا الفلسطينيين مع ما يحملونه من ألم ومعاناة أن يكونوا أكثر تعاطفاً مع الضحايا أمثالهم، وألا يسمحوا لأي مجرم بما فيه الإيراني أن يجعل من قضيتهم مغسلاً لجرائمه النتنة بحق الأبرياء الآخرين، أو على الأقل ألا يطالبوا ضحايا هذا المجرم بأن يشكروه لمعروف أسداه لهم.
مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري، يحمل شهادة الدكتوراه في القانون العام من جامعة حلب، وحائز على اعتمادية المعهد العالي للحقوق في الشرق الأوسط، وعمل سابقاً مدرساً في كلية الحقوق في جامعة حلب الحرة. يركز في أبحاثه الحالية على دراسة ديناميكيات العلاقة بين المجتمع السوري والنصوص القانونية والدستورية منها على وجه التحديد.