الضمانات القانونية الدولية للمنظمات غير الحكومية ومدى تطبيقها في الحالة السورية
ورقة بحثية صادرة عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري
مقدمة:
تكوّنت منظومة حقوق الإنسان اليوم نتيجة عملية تراكمية عبر محطات طويلة من التاريخ الإنساني كان من أبرز محطاتها وثيقة المدينة النبوية في العصر القديم والوثائق والمعاهدات التي أقرت بعد الحرب العالمية الثانية في العصر الحديث[1]، وباتت تَشتملُ على طيفٍ واسعٍ ومتشابك من الحقوق المترابطة وغير القابلة للتجزئة، ومن هذه الحقوق الراسخة في الشرعة الدولية يبرزُ الحقُ في تشكيل الجمعيات السلمية[2]، والذي يُعد أحد بوابات المشاركة في الشأن العام من خلال النشاط المدني بمختلف جوانبه، وهو بحد ذاته أيضاً وسيلة لممارسةِ مجموعةٍ واسعة من حقوق الإنسان[3].
وتبعاً لأهمية المجتمع المدني بمختلف مكوناته بما فيها المنظمات غير الحكومية “NGOs”[4]، ولدورها المتصاعد في مختلف الجوانب بما فيها التنمية الشاملة المستدامة في حالة السلم[5]، والذي يبدو أكثر وضوحاً في حالة النزاعات المسلحة إذ تعمل على تقديم الخدمات العامة وإعادة الإعمار وبناء السلام[6]؛ فقد تزايد الاهتمام بهذا الحق في المواثيق الدولية، وتشكلت تدرجياً قواعد معيارية تمثل معاً ضماناتٍ قانونية لوجود منظمات غير حكومية حرة ومستقلة عن السلطة، ولأنّ هذا الحق بطبيعة الحال ليس حقاً مطلقاً فإن الدول المختلفة تضع الإطار القانوني الناظم لممارسته، دون وجود تماثل بين هذه التشريعات؛ فمنها من التزمت بحسن تنظيمه، ومنها من انتهكت هذا الحق وأفرغته من مضمونه، ضاربةً عرض الحائط بجميع المبادئ الدولية ذات الصلة، سواء عبر التلاعب بالنصوص أو الإخلال بتطبيقها، وهذا ما يرجع أساساً إلى نظرة السلطة إلى دعم وجود مجتمع مدني قوي وحقيقي أو لا.
إشكالية البحث:
في سوريا نصت عدة دساتير على الحق في تشكيل الجمعيات، كما صدرت تشريعات لتنظيم عمل المنظمات غير الحكومية، ومع انطلاق الثورة السورية شهدت مختلف المناطق السورية نمواً كبيراً لهذه المنظمات بعد التخلص من القبضة الأمنية لنظام الأسد ونتيجة للحاجة الموضوعية[7]، حيث برز دورها في سدّ الفراغ الذي خلفه تلاشي الدور الحكومي المفترض في تقديم الخدمات العامة، وباتت تسهم بقوة في التحضير للمستقبل السوري[8].
في ظل النص على هذا الحق دولياً ودستورياً وإحاطته بضمانات متعددة يظهر لنا السؤال الآتي: إلى أي مدى التزمت القوانين السورية بالمعايير القانونية الدولية لحماية الحق في تشكيل الجمعيات؟ وهل التزمت الجهات المسيطرة في مختلف المناطق بعد انطلاق الثورة السورية بهذه الضمانات من خلال الأنظمة الصادرة أو الممارسة التطبيقية؟ ويتفرع عن هذه الإشكالية مجموعة من الأسئلة الفرعية، وهي:
- ما مدى التزام التشريعات السورية السابقة بالمعايير المثلى لتنظيم مجتمع مدني حرّ ومستقل؟
- هل توفرت الضوابط القانونية لتنظيم المنظمات غير الحكومية في المناطق المختلفة في سوريا بعد انطلاق الثورة السورية؟
- هل تنطبق على أي من مناطق السيطرة في سوريا شروط البيئة القانونية المواتية للمنظمات غير الحكومية؟
- ماهي الضمانات الواجب توافرها في التشريع السوري في مرحلة بناء سوريا الجديدة.
إطار البحث:
تركز هذه الدراسة على القوانين الناظمة للمنظمات غير الحكومية؛ فيخرج عن نطاق البحث جميع القوانين والأنظمة ذات الصلة بتنظيمات المجتمع المدني الأخرى كالنقابات والأحزاب.. إلخ.
ويرتبط البحث بالتحديات الرسمية على صعيد النصوص القانونية والممارسة الإدارية من “السلطة الموجودة”؛ فيخرج من نطاق البحث مجموعة التحديات والصعوبات العملية التي تواجه المنظمات السورية غير الحكومية، سواء أكانت تحديات داخلية (كمأسسة المنظمات وحوكمتها ومكافحة الفساد)، أو خارجية (كضعف التمويل والانطباعات الاجتماعية المسبقة والمخاطر الأمنية المرتبطة بظروف العمليات العسكرية والجرائم الأخرى كالخطف والسرقة).
أهمية البحث وأهدافه:
تبرز أهمية هذا البحث في ارتباطه بأحد أهم القضايا القانونية الحالية على الصعيد الدولي والوطني، التي يستمر الجدل حولها على مختلف الأصعدة، وهي: تنظيم المنظمات غير الحكومية وعملها، خصوصاً المنظمات غير الحكومية، ومدى كفاية الضمانات وصياغة النص القانوني لضمان حرية عمل هذه المنظمات واستقلالها عموماً، وفي الحالة السورية بشكل خاص يمثل الإطار القانوني الناظم لعمل المنظمات غير الحكومية دراسة حالة مهمة في ظل وجود دراسات وكتابات تشير إلى الانتهاكات المتعددة التي يحتويها هذا الإطار؛ الأمر الذي يتطلب معايرة هذه النصوص وفق الضمانات الدولية، بما يساعد في الإضاءة على هذا النوع من الانتهاكات، بعيداً عن الانتهاكات الأخرى كتلك المتعلقة بالضغط الأمني والفساد وضعف الحوكمة.. إلخ.
لذلك يهدف هذا البحث بصورة أساسية إلى تقييم مدى توافق القوانين النافذة حالياً في المناطق السورية المتعددة؛ (مناطق سيطرة نظام الأسد، والمناطق المحررة، ومناطق سيطرة هيئة تحرير الشام “هتش”، ومناطق سيطرة “قسد”) مع المعايير الدولية – بغضّ النظر عن تقييم هذه المعايير أو التسليم بها – ومدى احترامها عند التطبيق، وما يمكن أن يسهم في تحريك النقاش العام حول الضمانات القانونية المعيارية المطلوبة في أي تشريع سوري مستقبلي، أو على أقل تقدير تسليط الضوء على واقع البيئة القانونية للمنظمات غير الحكومية في سوريا، ويسعى إلى لفت نظر الجهات الحاكمة في المناطق المحررة إلى القواعد التي يجب مراعاتها عند تنظيم العمل المدني بما يضمن حرية هذه المنظمات واستقلالها، لتعزيز حالة المشاركة في الشأن العام.
ونود التنبيه إلى أن دراستنا واقع تنظيم المنظمات غير الحكومية في أي منطقة سورية تحت سلطة معينة لا يعني الإقرار بشرعية هذه السلطات، وإنما هي دراسة للنظام القانوني للمنظمات غير الحكومية بعيداً عن الأبعاد سياسية.
منهجية البحث وتقسيمه:
اعتمدت هذه الدراسة بشكل رئيس على المنهج الوصفي التحليلي، وذلك من خلال دراسة القواعد القانونية على مختلف مستوياتها ومصادرها وطنياً ودولياً ثم تحليلها للخروج بالنتائج المطلوبة، كما اعتمد على المنهج المقارن الزماني والمكاني كلما دعت الحاجة إلى ذلك من خلال المقارنة بين النصوص القانونية المختلفة في فترات زمنية من عمر الدولة السورية أو في مناطق السيطرة المختلفة حالياً.
قُسمت هذه الدراسة ثلاثة أقسام رئيسة؛ تناول الأول الضمانات القانونية للمنظمات غير الحكومية في القانون الدولي، حيث نتطرق فيه للضمانات وأبرز الانتهاكات. لننطلق من هذا التأسيس المعياري لدراسة ملاءمة التنظيم القانوني للمنظمات غير الحكومية في سوريا للمعايير الدولية في القسم الثاني، وذلك عبر إلقاء نظرة على كل من التنظيم في متن الدساتير، والتنظيم التشريعي. لنستعرض في القسم الثالث من الدراسة التطبيق الواقعي لهذه النصوص في المناطق السورية الأربع (مناطق سيطرة نظام الأسد، والمناطق المحررة، ومناطق سيطرة “هتش”، ومناطق سيطرة “قسد”).
1- الضمانات القانونية المعيارية للمنظمات غير الحكومية وصور انتهاكها وفق قواعد القانون الدولي:
حرص القانون الدولي بدايةً على كفالة الحق في حرية تكوين الجمعيات[9]، وقد ظهر هذا الحق في أوجه مختلفة لجهة الإلزام[10]، كما حرص على حماية نشطاء المجتمع المدني – خاصة المدافعين عن حقوق الإنسان – وإعطاء ممارسة هذا الحق بُعداً دولياً، وقد تجسد ذلك في القرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة حول “المدافعين عن حقوق الإنسان”[11].
لكن هذه النصوص على أهميتها ليست كافية وحدها لمنع انتهاك هذا الحق، كونها نصوصاً عامة ومرنة نوعاً ما، لذلك تأتي الضمانات القانونية لكفالة الحق وصونه من تفريغ جوهره ومضمونه، ومن مصادرته عملياً عندما تعمل الدول بما لها من سلطة تقديرية على إصدار تشريعات ناظمة له.
وحتى تكتمل الصورة سنستعرض بداية أبرز القواعد المعيارية التي جاءت ضمن قواعد القانون الدولي، ثم نرى أبرز الانتهاكات التي يمكن أن تحدث لهذه القواعد.
1-1- أبرز القواعد المعيارية لتنظيم المنظمات غير الحكومية[12]: نحو بيئة قانونية محفِّزة
تستند هذه الضمانات إلى مبدأ أساسي وهو واجب الدولة في خلق الإطار الملائم لممارسة الحق في حرية تشكيل الجمعيات[13]، وهي ضمانات متعددة وغير جامدة، وذات ارتباط مزدوج بكل من التشريعات والتطبيقات معاً[14]، وبتوفرها تكون البيئة أو الإطار العام الذي تكون فيه المنظمات غير الحكومية محفزاً ومناسباً.
نستعرض بشكل موجز أبرز هذه الضمانات، بما يغطي معظم المحطات المهمة في حياة أي منظمة غير حكومية، وهذه الضمانات أو القواعد هي:
- عدم تعليق ممارسة “حق إنشاء منظمة غير حكومية” على التسجيل الرسمي: ويُقصد بذلك ألا يكون اكتساب الشخصية القانونية شرطاً مسبقاً إلزامياً على ممارسة الحق في تكوين المنظمات المدنية (غير الحكومية)[15]، وهو ما يُعد شرطاً أساسياً لتوفير البيئة المواتية للمجتمع المدني[16].
- بساطة الإجراءات لاكتساب الشخصية القانونية: يجب أن تكون الإجراءات الإدارية ميسرة لممارسة هذا الحق، بحيث تكون سريعة وغير مكلفة وبأقل حدّ ممكن من الشكليات[17]، وألا تكون السلطة التقديرية للجهة الإدارية بالموافقة أو الرفض سلطة واسعة، وذلك من خلال تحديدها بدقة في نصوص القانون[18].
- الضمانة القضائية: يجب أن تكون كل الأفعال والقرارات التي تمسّ المنظمات غير الحكومية – ابتداءً بالموافقة أو الرفض على طلب إنشاء منظمة – قابلة للاستئناف أمام القضاء المستقل[19].
- الهيئة المستقلة المسؤولة عن المنظمات غير الحكومية: تتنوع النُّظم القانونية المحددة لطبيعة الجهة التي تتولى مهمة تنظيم هذه المنظمات؛ ففي الغالب تتجه القوانين إلى أن تكون هذه الجهة هي الوزارات أو المحاكم أو هيئة مستقلة، ولكل من هذه الوسائل سلبيات وإيجابيات[20]، إلا أن التوجه الغالب حالياً هو إسناد المهمة إلى هيئة أو لجنة مستقلة تضم ممثلين عن المنظمات إلى جانب الحكومة[21].
- كفالة الحق في التمويل[22]: يُعد التمويل عنصراً مهماً لنجاح المنظمات وفعاليتها، وقد يكون التمويل محلياً، وقد ينعدم في حالة افتقار البلد لهذه الثقافة فيصبح الخيار قاصراً على مصادر التمويل الخارجية، ويُعد عدم إلزام المنظمات بالموافقة المسبقة من السلطة للحصول على التمويل أمراً مساعداً لنجاح عمل المنظمات[23]، ويجب ألا تكون عملية مراقبة السلطة لهذه العمليات مرهقة وبيروقراطية ومعيقة[24]، ومن جانب آخر يتوجب على السلطة نفسها في الظروف الطبيعية وحال قدرتها تقديم الدعم بشكل عادل للمنظمات، خاصة التي تمثل الفئات المهمشة في المجتمع[25].
- ضمان الحق في الخصوصية[26]: هذه الضمانة أصل عام يجمع في طياته مجموعة من الضمانات اللاحقة؛ فهي تعني ضمان عدم التدخل في شؤون المنظمات بوصفها كيانات لها شخصية اعتبارية مستقلة، ويحق لها إدارة شؤونها الداخلية واتخاذ القرارات المتعلقة بنشاطها وأساليب عملها بما يتسق مع القوانين النافذة، التي يجب أن تكون “ضرورية ومبررة لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة”[27]، ويشمل الحق في خصوصية المنظمة حماية أعضاء المنظمات من التدخل غير المبرر في خصوصياتهم أيضاً[28].
- ضمان النشاط الحرّ: وهو ما يعني أن تكون المنظمات قادرة على تنفيذ الأنشطة ذات النفع العام، والمشاركة الفاعلة في إطار السياسات العامة المحددة بكل حرية عبر انتقاد العمل الحكومي والضغط عليه[29]، ويجب السماح لها بممارسة الأنشطة الاقتصادية التجارية والنشاطات في ميدان التقاضي، عبر فتح الباب لها لرفع الدعاوى في سياق عملها في الضغط والمناصرة[30].
- ضمانات النهاية الطوعية والسلمية: عند حلّ المنظمة خارج إرادتها يجب أن يكون ذلك إما بقرار إداري قابل للطعن، وإما أن يكون بقرار قضائي وهو الضمانة الأكبر في هذا السياق؛ على أن تكون عقوبة الحل أو مصادرة الأصول أو تولّي عمليات المنظمة من قبل السلطة بمثابة العقوبات الاستثنائية والمقيدة بشدة والمتخذة كإجراء أخير[31].
- ضمان مبدأ التشاركية: ويعني ذلك فتح الباب من قبل السلطة للحوار مع المنظمات، وللمساهمة بمقترحاتها ورؤيتها فيما يتصل بمختلف التشريعات[32]، كما يرتبط أيضاً بعدم وجود أية عوائق أو صعوبات أمام وصولها إلى كل من الهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان أو المنظمات غير الحكومية الدولية للتشارك معها في الأنشطة المتعددة[33]، وعدم وجود أية عواقب مهما كان نوعها نتيجة للتعاون معها[34].
1-2- أبرز الانتهاكات الممارسة بحق المنظمات غير الحكومية[35]: عوائق مثبطة في طريق التطبيق
ونقصد بها: مختلف طرق إعاقة عمل المنظمات غير الحكومية أو تقليص تأثيرها أو إيقافه أو عكسه[36]، ويمكن أن تتمثل هذه الانتهاكات بشكلَين رئيسَين: الأول عبر النصوص القانونية؛ أي: أن تكون القواعد القانونية الناظمة لعمل المنظمات غير متوافقة مع المعايير الدولية، وتنتهك الحقوق التي يفترض أن تتمتع بها[37]، أما الشكل الثاني فهي الأعمال غير القانونية المختلفة كالتعذيب والخطف، وتُعد جرائم وتدخل في إطار الانتهاكات التي تخالف القانون أصلاً، وهذه الأخيرة تخرج من إطار البحث[38].
تتعدد الانتهاكات القانونية التي يمكن أن تلجأ إليها السلطة لإعاقة عمل المنظمات غير الحكومية، لعل من أبرزها:
- حصرية النشاط المدني بعد التسجيل القانوني: وبالتالي تصبح ممارسة الحق من حيث الأصل وقفاً على موافقة السلطات، ومن أسوأ الممارسات تأتي فرض عقوبات جزائية على ممارسته دون إذن مسبق، أو بتحديد معايير للذين يمكنهم المشاركة في المنظمات المدنية[39].
- وطأة الإجراءات الإدارية: ويدخل في ذلك كل ما يتعلق بالمنظمات غير الحكومية أثناء تعاملها مع السلطات الرسمية، ابتداءً ببيروقراطية التسجيل وتكاليفه ومركزيته وتجديده المتكرر، وصولاً إلى تقييد إمكانية وصول المنظمات إلى المعلومات، أو إمكانية حشد الأنصار والمناصرة، أو التعامل الإداري الفظ في الرقابة أو التدقيق المالي…. إلخ.
- انتهاك حق المنظمات في الخصوصية: من خلال إبطال انتخاب أعضاء مجلس الإدارة، أو جعل صلاحية قرارات أعضاء اﻟﻤجلس مشروطة بحضور ممثل حكومي خلال اجتماع اﻟﻤﺠلس، أو من خلال طلب سحب قرار داخلي ما، أو عبر طلب رفع تقارير سنوية مسبقة من الجمعيات وتقييد قدرة المنظمة على التخطيط لأنشطتها وتنفيذها، أو دخول مباني جمعية دون سابق إنذار[40].
- تقييد مصادر التمويل: وهو أسلوب يهدف من حيث النتيجة إلى تجميد المنظمات من خلال تجفيف مصادر الدعم المحتملة، ويتم عبر منع بعض أنواع التمويل أو وسائل الحصول عليه، أو من خلال التعسف في الإجراءات الإدارية، أو ربطها بجهات أمنية أو بممارسة سياسة الضغط الضريبي لإرهاق المنظمات، وقد تصل الانتهاكات إلى ذروتها تبعاً لممارسة الحق في التمويل الأجنبي؛ إذ تُستغل عادة هذه النقطة لتشويه سمعة المنظمات أو قمعها أو اعتبارها تمسّ السيادة الوطنية.
- –تقييد ممارسة الأنشطة المختلفة: يأخذ هذا الانتهاك صوراً متعددة، منها: تحديد أنواع الأنشطة المسموح بها، وهو التطبيق المعاكس لقاعدة “أن النشاط المدني من حيث الأصل مشروع ومسموح به إلا ما استُثني لسبب ما وبشكل معلل”، أو حظر بعض أنواع النشاطات، أو فرض الامتثال الإلزامي بخطط التنمية الوطنية، أو فرض الحصول على الإذن المسبق لكل نشاط على حدة بحيث يصل الأمر إلى فرض عقوبات جزائية على ممارسة النشاط دون الحصول على الإذن[41].
- سلسلة الإجراءات التعسفية: تقوم عادةً بها السلطة الرسمية استغلالاً لنصوص عامة وردت في القوانين، كمكافحة الإرهاب أو حماية الأمن العام، ويدخل ضمنها أي شكل من أشكال الرقابة أو التسجيل أو الإغلاق القسري للمكاتب أو التفتيش أو المصادرة.
- تقييد مشاركة المنظمات: يتمثل هذا الانتهاك من خلال تقييد قدرة المنظمات على الحصول على المعلومات ومشاركتها، أو تقييد المشاركة مع المنظمات الوطنية أو الدولية؛ حيث تفرض عقبات على إنشاء الشبكات والتحالفات أو تمنع التواصل الدولي بجميع أشكاله وتقييدها بالحصول على إذن مسبق مهما كان شكل اللقاء أو المراسلة.
الضمانة | أبرز صور انتهاكات الضمانات |
عدم تعليق ممارسة “حق إنشاء منظمة غير حكومية” على التسجيل الرسمي | حصرية النشاط المدني بعد التسجيل القانوني |
فرض عقوبات جزائية على ممارسته | |
تحديد معايير الذين يمكنهم المشاركة في المنظمات المدنية | |
بساطة الإجراءات لاكتساب الشخصية القانونية | بيروقراطية التسجيل ومركزيته |
ضرورة تجديد الترخيص بشكل متكرر | |
الضمانة القضائية | منع الطعن بالقرارات الإدارية ذات الصلة |
الهيئة المستقلة المسؤولة عن المنظمات غير الحكومية | خضوع المنظمة لرقابة الجهات الأمنية. |
كفالة الحق في التمويل | منع بعض أنواع التمويل أو وسائل الحصول عليه |
ربط الموافقة بجهات أمنية أو بممارسة سياسة الضغط الضريبي لإرهاق المنظمات | |
المتطلبات الإجرائية المرهقة | |
ضمان الحق في الخصوصية | إبطال انتخاب أعضاء مجلس الإدارة مشروطة |
جعل صلاحية قرارات أعضاء اﻟﻤﺠلس بحضور ممثل حكومي خلال اجتماع اﻟﻤﺠلس | |
طلب سحب قرار داخلي ما | |
طلب رفع تقارير سنوية مسبقة من الجمعيات وتقييد قدرة المنظمة على التخطيط لأنشطتها وتنفيذها | |
دخول مباني جمعية دون سابق إنذار | |
ضمان النشاط الحرّ | تحديد أنواع الأنشطة المسموح بها |
حظر بعض أنواع النشاطات | |
فرض الامتثال الإلزامي بخطط التنمية الوطنية | |
فرض الحصول على الإذن المسبق لكل نشاط على حدة | |
ضمانات النهاية الطوعية والسلمية | الإغلاق القسري للمنظمة أو بقرار إداري مع عدم إتاحة الطعن به أمام القضاء |
ضمان مبدأ التشاركية للمنظمات | حظر بناء الشبكات والتحالفات |
تقييد القدرة على التواصل والحصول على المعلومات | |
منع التواصل الدولي كلياً أو جزئياً | |
فرض عقوبات جزائية |
جدول رقم /1/ يوضح صور الانتهاكات المتعددة لضمانات الحق في تشكيل المنظمات غير الحكومية
1-3- حال الضمانات القانونية المعيارية في الظروف الاستثنائية الواقعة في سوريا:
يخضع التنظيم القانوني للمجتمع المدني ككل إلى وجهات نظر مختلفة في كل تفاصيله، وهو ما ينطبق بشكل رئيس على التشريعات ذات الصلة بالمنظمات غير الحكومية كإحدى أكثر القضايا المثيرة للجدل في المجتمعات؛ إذ تتجسد العملية التنظيمية في الترجيح بين فكرتين أساسيتين هما حرية المنظمات واستقلالها من جهة، والمتطلبات المتعلقة بالأمن العام وغسيل الأموال والأنشطة الموجهة بأجندات خارجية أو حتى دعم الإرهاب من جهة أخرى.
من حيث المبدأ يجوز تقييد معظم الحقوق المدنية والسياسية التي تم النص عليها في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[42]، وفي إطار الحديث عن الحق في تشكيل الجمعيات نلحظ أنه يمكن تقييده ليس في الظروف الاستثنائية، وإنما في الظروف العادية أيضاً وفق الآتي:
- جواز تقييد الحق في تشكيل الجمعيات في الظروف الاستثنائية بموجب المادة /4/[43]: ثمة عدة متطلبات موضوعية لتفعيل هذه المادة، وهي[44]: وجود حالة طوارئ والتوافق مع الالتزامات الدولية، ومراعاة مبدأ “التناسب”؛ حيث يجب ألا تحدّ تدابير التقييد المسموح بها من الحقوق المقيدة إلا بالقدر الذي تقتضيه متطلبات الموقف، وأن يكون التقييد ذا “طابع استثنائي ومؤقت”، وضمان مبدأ عدم التمييز، وأخيراً تطبيق مبدأ الضرورة الصارمة بحيث تفرض التدابير التقييدية لخطر واضح ووشيك، وليس احتمالي[45].
نلحظ هنا أن المادة السابقة ليست خاصة بحق تشكيل الجمعيات فحسب، وإنما تنطبق على غالبية الحقوق والحريات الواردة في العهد باستثناء بعضها.
- جواز تقييد الحق في تشكيل الجمعيات في الظروف العادية بموجب المادة /22/: تضمنت المادة رقم /22/ من العهد قواعد خاصة بتقييد الحق في حرية تكوين الجمعيات بمعزل عن المادة /4/؛ أي: في الحالات التنظيمية العادية؛ فقد اشترطت أن تكون هذه القيود بموجب نص قانونيوتتصف بأنها تدابير ضرورية في مجتمع ديمقراطي، وتهدف لصيانة الأمن القومي أو السلامة العامة أو النظام العام أو حماية الصحة العامة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم[46].
فنلحظ هنا أن الضوابط التي وضعتها المادة /22/ يغلب عليها الطابع الموضوعي التي يترك للقضاء التأكد من حسن تطبيقها على أرض الواقع.
وباستعراضنا التنظيم القانون للمنظمات غير الحكومية في سوريا نلحظ أن القانون الأساسي الناظم لها قد صدر في عام 1958 تحت الرقم /93/، وتضمن هذا القانون -كما سنرى- الكثير من الانتهاكات لهذا الحق، بغضّ النظر عن حالة الطوارئ التي أُعلنت لاحقاً عقب استيلاء البعث على السلطة بانقلاب آذار لعام1963[47]؛ والتي أسهمت في تعزيز القيود المفروضة بموجب القانون على حرية تشكيل الجمعيات والمنظمات. بمعنى آخر: إن القانون رقم /93/ لعام 1958 رغم صدوره في ظروف عادية فإنه تضمن الكثير من القيود والانتهاكات القانونية للحق في حرية تشكيل المنظمات، ثم جاء إعلان حالة الطوارئ ليزيد الطين بلّة من جهة تعميق الانتهاكات القانونية والتطبيقية.
وفي المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد بشكل خاص، وفي ظل حالة عدم الاستقرار الاقتصادية والأمنية وتعرضها للقصف يبدو أن تنظيم أوضاع المنظمات غير الحكومية -دون النظر في أولوية هذه الخطوة ومشروعيتها وفعاليتها- يستند إلى فكرة الظروف الاستثنائية من وجهة نظر السلطات القائمة في هذه المناطق، ويستخدم للرد على أي انتقاد على نصوص هذه الأنظمة أو على طبيعة الممارسات الإدارية الفعلية التي تنتهجها، وهو ما يعني عملياً إرجاء الحديث عن الضمانات الدولية القانونية المعيارية لحرية هذه المنظمات واستقلالها إلى مراحل زمنية لاحقة.
في ظل هذا الواقع يُثار التساؤل الآتي: هل يصح الحديث عن ضمانات قانونية معيارية للحق في حرية تشكيل الجمعيات والمنظمات في ظل الواقع الاستثنائي الذي تمر به مختلف المناطق السورية؟
وإذا كان الجواب بالإيجاب: فما هي الضوابط التي يمكن وضعها للحد من التوسع في القيود القانونية التي قد تضعها السلطات الحاكمة في مختلف المناطق السورية؟
من حيث المبدأ تتطلب الحالة التي عاشتها وتعيشها سوريا الحديث عن الضمانات القانونية المعيارية التي تسمح بوجود منظمات حرة ومستقلة بما يضمن دوراً حقيقياً لهذا القطاع الثالث، وبالتالي نرى ضرورة تثبيت هذه القواعد في نصوص قانونية في الوقت الحالي تمهيداً لترسيخها في المستقبل لأسباب عدة، من أهمها:
- إشكالية السلطة وشرعيتها: في سوريا اليوم وعلى الرغم من وجود حالة استثنائية فإن الاستثناء أيضاً هو في عدم وجود سلطة شرعية يمكن الوثوق بها بحيث تقيد الحقوق والحريات وفق قواعد القانون الدولي، بهدف الحفاظ على المصالح الأكبر المتمثلة بالأمن القومي أو حياة المواطنين، ولذلك نرى أن حرية المنظمات غير الحكومية واستقلالها عن السلطات الحالية في سوريا سيمكّن هذه المنظمات غير الحكومية السورية التي تعبّر عن تنظيم مجتمعي من لعب دور كبير في عملية التحول المنشود في سوريا، وأن تلعب دوراً حالياً في الرقابة على ممارسات السلطة، بما يسمح بتفعيل المساءلة والمشاركة المجتمعية في حدود دنيا على الأقل، ويحدّ من تغوُّل السلطات الحالية وتحكُّمها بشكل مطلق دون وجود أي آلية مجتمعية أو دور للمواطنين في رسم السياسيات العامة أو حلّ القضايا المجتمعية.
- تُعدّ حرية المنظمات غير الحكومية واستقلالها في هذه الظروف عاملاً مساعداً في استمرار مساعدة السوريين على مواجهة الأعباء الاقتصادية والاجتماعية في ظل الكارثة الإنسانية الحالية.
- في ظل غياب أي شكل من أشكال المشاركة في الشؤون العامة (انتخابات -ترشيح -استفتاءات..)، ومع عدم وجود أحزاب سياسية فاعلة تمثل المنظمات غير الحكومية بيئة مؤسساتية فاعلة لمشاركة الكثير من الفئات كالشباب والنساء في الشأن العام، ومن خلالها يمكن إنتاج القيادات المجتمعية وممارسة الحقوق المختلفة، وهو أحد آمال السوريين في نضالهم للخلاص من حالة النظام الاستبدادي وتكريس ثقافة الحقوق والحريات مجتمعياً.
- يسمح وجود منظمات حرة ومستقلة وغير مقيدة بشكل كبير بوجود قطاع ثالث مرتبط بالمجتمع يتصف بالثبات النسبي، وهذا الثبات النسبي قد لا تتصف به السلطات الحالية التي أثبتت التجارب السابقة أنها غير مستقرة ولم تؤسس لحالة طويلة الأمد.
- يسمح تفعيل هذه الضمانات القانونية في التأسيس منذ الآن لمجتمع متحرر، يتقبل تعدد الآراء ووجهات النظر، ويسمح بوجود دولة قادرة على إدارة التعدد ومتقبلة له وغير خائفة من حيوية الداخل أو الاحتكاك مع الخارج؛ فالمنظمات غير الحكومية باتت سمة رئيسة للمجتمعات الحديثة، وعلى السلطة الموجودة ألا تتصادم معها أو تتعامل معها بمنطق العدو، ولا تفكر بمنطق الوصاية؛ بل يجب أن تنطلق من قاعدة تتمثل بأن واجبها هو حماية ممارسة السوريين لحقوقهم وضمانها وتحفيزها.
- يمكن النظر إلى أن الممارسة العملية لبعض الحقوق هي إحدى المكاسب المهمة للسوريين خارج سيطرة نظام الأسد وسطوته، وهي التي يُراهن عليها جدّياً في إيجاد مثال مختلف عن الحالة التي عاشها السوريون منذ عقود، وتتمثل بالتقييد والكبت والمنع والتحكم وقمع الآراء والإبداع وتكميم الأفواه والخوف من النشاط المجتمعي.
بناءً على هذه الأسباب فإننا ننطلق في هذه الدراسة من قاعدة تفيد بأن الالتزام بأكبر قدر ممكن من الضمانات الدولية لحرية المنظمات غير الحكومية واستقلالها يشكل أمر مهم وحيوي يسهم في تحقيق التغيير المنشود في سوريا، ويستجيب لتطلعات السوريين[48].
2- ملاءمة التنظيم القانوني للمنظمات غير الحكومية في سوريا للمعايير الدولية:
عرفت سوريا منذ أواخر الحكم العثماني في القرن التاسع عشر تنظيمات مدنية عديدة على شكل جمعيات ونوادٍ فكرية وثقافية أو جمعيات خيرية[49]، ومع ولادة الدولة السورية الحديثة وصولاً لفترة الاستعمار الفرنسي كان المجتمع المدني السوري موجوداً بمكوناته المختلفة[50] رغم ضغط الانتداب على الجمعيات ذات النشاط في الشأن العام بأشكاله[51]، ليبدأ التنازل العكسي لجهة النوع والعدد والدور المتاح منذ الوحدة مع مصر وانتهاءً بالسيطرة المطلقة للنظام البعثي على الدولة والمجتمع.
بالنظر في الإطار القانوني الخاص بالحق في إنشاء منظمات غير حكومية فإن هذا الإطار يرتبط بالقواعد الدستورية أساساً، ثم بالتشريعات واللوائح؛ لذا فإنه لابد من استعراض كل منها وإن كان التركيز هنا على التشريعات الناظمة.
2-1- نظرة في القواعد الدستورية الناظمة للمنظمات غير الحكومية في سوريا:
تضمنت غالبية الدساتير السورية المتعاقبة النص على هذا الحق بشكل أو بآخر؛ ففي دستور سوريا الأول لعام 1920 الذي لم يُكتب له التطبيق زمن الحكم الملكي الوليد، جاء النص عليه في الفصل الثالث المخصص لحقوق الأفراد والجماعات عبر المادة 16 التي جاء فيها: “تأليف الجمعيات وعقد الاجتماعات وتأسيس شركات حرة من ضمن قوانينها الخاصة التي يسنّها المؤتمر”.
أما في مرحلة الانتداب الفرنسي فنجد أن دستور عام 1930 نصَّ أيضاً على هذا الحق في المادة 25 منه، وقد نصت على ما يلي: “حرية إنشاء الجمعيات وعقد الاجتماعات مكفولة ضمن الشروط المنصوص عليها في القانون”.
أما في دساتير مرحلة الاستقلال وقبيل استيلاء البعث على السلطة فنجد أن أبرز الدساتير في هذه المرحلة، وهو دستور سوريا لعام 1950 قد تضمن كفالة للحق، وذلك في نص المادة رقم 17 التي نصت على ما يلي: “للسوريين حق تأليف الجمعيات والانتساب إليها، على ألا يكون هدفها محرماً في القانون، ينظم القانون طريقة إخبار السلطات الإدارية بتأليف الجمعيات ومراقبة مواردها”.
أما في مرحلة النظام البعثي في سوريا فقد جاء دستور سوريا لعام 1973 خالياً من النص الصريح على كفالة حق المواطنين في تشكيل منظمات غير حكومية بما فيها الجمعيات، وإن تضمن في مواد أخرى ما يرتبط بذلك بناءً على تفسيراته الشمولية واشتراكية الطابع[52].
أما “آخر الدساتير” الذي أصدره نظام الأسد عام 2012 فقد نصَّ على الحق في تشكيل المنظمات في المادة رقم 10، وجاء فيها: “المنظمات الشعبية والنقابات المهنية والجمعيات هيئات تضم المواطنين من أجل تطوير المجتمع وتحقيق مصالح أعضائها، وتضمن الدولة استقلالها وممارسة رقابتها الشعبية ومشاركتها في مختلف القطاعات والمجالس المحددة في القوانين، وذلك في المجالات التي تحقق أهدافها، ووفقاً للشروط والأوضاع التي يبينها القانون”. وكذلك المادة رقم 45 التي نصت على الحق في تشكيل الجمعيات[53].
مما سبق ودون الدخول في مدى كفاية النصوص الدستورية السابقة وفعاليتها، ووجود العبارات التقييدية في متنها؛ فإننا نرى أن القاسم المشترك بينها هو الإحالة إلى القانون كناظم رئيسي لممارسة الحق، وعليه فإن هذه القواعد القانونية الواردة في التشريعات هي الإطار الفعلي لتنظيم المنظمات غير الحكومية في سوريا، بعيداً عن النصوص الدستورية ومدى كفالتها واحترامها لهذا القانون في ظل بقائها في حالة نظرية -إن صح التعبير- نتيجة غياب الآليات الفاعلة لتطبيقها، وعلى رأس تلك الآليات الرقابة القضائية على دستورية القوانين[54].
2-2- نظرة في التشريعات الناظمة للمنظمات غير الحكومية (القانون رقم 93 لعام 1958 وتعديلاته وملحقاته):
مرّ تنظيم المنظمات غير الحكومية في سوريا بمرحلتين، هما:
- قانون الجمعيات رقم 47 في العام 1953: وقد جاء شاملاً بقواعده تنظيم مختلف أشكال تنظيمات المجتمع المدني كالجمعيات بتنوعاتها والأحزاب السياسية وغيرها، وكانت نصوصه متوافقة مع الحالة التي كانت تعيشها سوريا في مرحلة ما بعد الاستقلال من قوة المجتمع المدني؛ بما فيها الأحزاب السياسية، ووجود المشاركة الشعبية الفاعلة في الشأن العام عبر الاحتجاج والتجمع السلمي بأشكاله، وممارسة الصحافة الحرة[55].
لم يتح للقانون رقم 47 أن يُعمر كثيراً؛ فقد شكلت الوحدة مع مصر موعداً لبدء نهج جديد في التعاطي مع المجتمع المدني ككل[56]، وقد عُبر عن هذا النهج بحل الأحزاب السياسية، وبإصدار قانون جديد لينظم حالة الجمعيات في سوريا، وهو القانون رقم 93 عام 1958 الذي يمثل المرحلة الثانية، وسيبقى نافذاً مع تعديلاته إلى يومنا هذا[57].
- صدر القانون رقم 93 لعام 1958 وتعديلاته تحت مسمى “قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة”[58]، وقد تضمن ثلاثة كتب: الأول بعنوان “الجمعيات”، ويتضمن باباً أولاً بمسمى “الجمعيات”. وباباً ثانياً في “الجمعيات ذات النفع العام”، وباباً ثالثاً تحت مسمى “أحكام خاصة ببعض الجمعيات”، وأما الكتاب الثاني فجاء تحت مسمى “المؤسسات الخاصة”، واشتمل الكتاب الثالث على العقوبات.
رسم توضيحي رقم /1/ لمخطط القانون رقم /93/ لعام 1958
بدراسة نصوص هذا القانون وتحليلها فإننا نجد خلوّ القانون بالعموم من أية ضمانة من الضمانات المحددة في القانون الدولي، وعليه سنستعرض بشكل موجز أبرز الانتهاكات القانونية الواردة فيه من خلال تحليلنا للنصوص[59]، التي يمكن حصرها فيما يلي:
- جاءت المادة رقم 21 من أحكام القانون[60]، لتجمع معاً اثنين من أشهر الانتهاكات، وهما: انتهاك مبدأ التشاركية للمنظمات مع الفعاليات الدولية عبر قطع الطريق أمام فرص التواصل الفعال والتشبيك إلا من بوابة السلطة، وذلك تحت طائلة عقوبة استبعاد العضو من الجمعية، كما تحظر المادة حصول المنظمات على أي أموال من أي جهة كانت دون الحصول على موافقة مسبقة مهما كان المبلغ زهيداً، وهو ما يُعد تقييداً غير مبررٍ لحق المنظمات في الحصول على التمويل، عبر ربط أية علاقة تمويل بحصول المنظمة أو الجمعية على إذن السلطات، في حين يُفترض أن يكون الأمر مرتبطاً بمبدأ الشفافية والتصريح، بحيث تُلزم المنظمة بالتصريح بشكل شفاف عن علاقاتها المالية فقط.
- تجسد المادة رقم 23 من أحكام القانون[61] انتهاكاً لخصوصية المنظمات، وذلك عبر فرض الرقابة المسبقة على اجتماعات الهيئة العامة ومن ثم الرقابة اللاحقة على مخرجات الاجتماع، ويشير ذلك إلى تضييق مفهوم خصوصية المنظمات وحريتها، وهو ما سيتضح أكثر في المواد اللاحقة[62].
- تتضمن المادة رقم 26 الفقرتان 2 و3 انتهاكاً آخر[63]، وذلك عبر منح الوزارة سلطة تعيين عضو أو أكثر في مجلس إدارة المنظمة مع تحديد صلاحيته وتعويضاته، كما لها أن تحدد العدد الأقل والأكبر لأعضاء مجالس الإدارة والمدة القصوى للعضوية. تُعد هذه المادة بحد ذاتها من أكثر ما يمكن أن يتصور لسيطرة السلطة على المنظمات عبر تعيين شخص في عضوية مجلس الإدارة الذي يجمع بين مصالح متعارضة ويمثل بآنٍ معاً مصالح الجمعية وتوجيهات السلطة التنفيذية وأهواءها.
- تعطي المادة رقم 36 [64] الوزير سلطة حلّ الجمعية بحالات واسعة وعديدة، ومن أكثرها انتهاكاً لكل المعايير الدولية هي الفقرة رقم 7 منها، والتي ترجع سبب الحل لرؤية الوزارة بعدم لزوم وجود الجمعية في المجتمع، ودون وجود ضمانة قضائية في متن النص بالطعن بالقرار، بما يجعله نهائياً[65] ويسدّ باب السلطة القضائية عن المنظمات التي من المفترض أن تطرقه للدفاع عن حقوق الشرائح التي تمثلها في المجتمع؛ فكيف لها ذلك إن كانت تعجز أصلاً عن الدفاع عن نفسها أو عن وجودها، وذلك من خلال إعطاء الوزير -أي: وزير الشؤون الاجتماعية والعمل- السلطة التقديرية الواسعة لحل هذه الكيانات؟.
- تتمتع الوزارة بسلطة دمج الجمعيات ذات الأهداف المتقاربة مع بعضها البعض، وفق ما ورد في المادة رقم 46 من القانون[66]، كما يمنح القانون للجهة الإدارية سلطة استبعاد مَن تراه مِن أعضاء الهيئة العامة من الترشح، ولها بعد أن يتم الانتخاب أن تستبعد مَن تشاء كما جاء في المادة رقم 47 [67].
- في الكتاب الثالث والأخير من القانون وهو العقوبات نجد أنها تفرض عقوبة جزائية في المادة رقم 71 منها[68] بالحبس لمدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر، وبغرامة لا تزيد عن 2000 ليرة، أو بإحدى هاتين العقوبتين لكل من يقوم بممارسة نشاط مدني قبل إشهار الجمعية، ومعنى ذلك أن ممارسة الحق دون ترخيص من السلطة يُعد جرماً يُعاقب عليه؛ بخلاف الضمانات المنصوص عليها دولياً.
أما اللائحة التنفيذية لقانون الجمعيات رقم 93 الصادرة بالقرار الجمهوري رقم 1330 لعام 1958 فتتألف من 32 مادة، ومن أبرز ما تضيفه هذه اللائحة من انتهاكات للضمانات الدولية هو:
1- إعطاء سلطة واسعة للوزارة في قبول أو رفض منح الترخيص لإنشاء الجمعية؛ إذ يجوز لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل أن ترفض إعطاء الإذن بإنشاء المؤسسة إذا تبين أنها تسعى إلى أغراض لا تدخل في نطاق أوجه النشاط الأكثر حاجة إلى الرعاية بالنسبة إلى منطقة عملها[69]، وإذا ما قبلت الوزارة بسلطتها التقديرية لحاجات الواقع ومتطلباته فلها صلاحيات واسعة في انتهاك خصوصية المنظمات تحت ستار الرقابة في المواد 28 و29، التي تجعل الكثير من أنشطة وشؤون المنظمات حبيسة موافقة الوزارة.
2- تضمنت المادة رقم 14 في التعليمات التنفيذية تاريخ 8-8-1974 الرفض الحكمي لطلبات ترخيص المنظمات غير الحكومية التي لها أهداف مماثلة مع المنظمات الشعبية[70]؛ ولعل ذلك يوضح امتداد “فلسفة الحزب الواحد” التي كرّسها البعث حتى داخل المجتمع المدني في نموذج يجعله متطابقاً مع بنية السلطة.
كل ما سبق ذكره يرتبط بالنصوص الناظمة، وبالانتقال إلى الممارسة الفعلية في سوريا ما قبل الثورة فإننا نجد أن النصوص على ما فيها من خلل بنيوي وحوكمي وحقوقي تمثل الجانب الأقل سوءاً من البيئة العامة للمنظمات غير الحكومية قياساً على الممارسات[71].
فلابد بداية من التذكير أن الحديث عن أي شكل من الحريات العامة في ظل نظام شمولي أمني عديم الجدوى ومنعدم الجدية، كما أن فعالية نصوص القانون مع متلازمة حالة الطوارئ والصلاحيات المطلقة للحاكم العرفي تبدو محسومة الدلالة، لكن إذا أردنا تقديم تلخيص واقع الممارسات فإننا نجد أنها تتمثل برفض طلبات الإشهار وقمع أي نشاط للمناصرة أو صوت لحرية التعبير، وبشنّ حملات الاعتقال التعسفية والاختفاء القسري المتلاحقة[72]، وتسليط سيف المحاكمات للنشطاء المدنيين[73]، وهذا كله انعكس على عدد ونوعية وفعالية وأدوار المنظمات في هذه المرحلة[74]، وقد وجدت مرحلة زمنية قصيرة جداً من الانفتاح النسبي مع بداية توريث الابن في عام 2000 كخطة تكتيكية من النظام[75]، وبقي واقع المجتمع المدني السوري بما فيه المنظمات غير الحكومية على هذا النحو حتى انطلاق الثورة السورية مطلع عام 2011م.
رسم توضيحي رقم /2/ يوضح أنواع الانتهاكات بحق حرية واستقلال المجتمع المدني في سوريا قياساً على أسوأ الممارسات الدولية
3- التنظيم القانوني للمنظمات غير الحكومية بعد انطلاق الثورة السورية: (تقييم النص والممارسة)
بعد أن عاش الشعب السوري لفترة طويلة من الزمن تحت نير نظام حكم استبدادي شمولي انعكس ذلك ضعفاً في الاهتمام بالشأن العام بكل جوانبه، ومنعاً للسوريين من ممارسة الكثير من الحقوق المدنية والسياسية؛ فكانت ممارسة الحق في التعبير والتجمع السلمي والحق في تشكيل الجمعيات وغيرها من الحقوق الأخرى مجرد نصوص نظرية في الإطار الدستوري أو التشريعي.
وقد خرج السوريون في ثورة الحرية والكرامة واضعين في مقدمة المطالب والآمال بناء دولة القانون والحريات؛ حيث شكّلت المطالب الحقوقية مبكراً حيزاً مهماً من المطالب الشعبية[76]، وتأسست على امتداد سنوات من الثورة السورية الكثير من المنظمات غير الحكومية في مختلف المجالات، سواءٌ الطبية أو الإغاثية أو التعليمية أو الحقوقية، والتي أصبحت في ظل غياب مؤسسات الدولة جهات معنية بتقديم الخدمات الأساسية للسكان في المناطق المحررة[77].
لذا فإن من المهم البحث والنظر في التغيرات التي طرأت على التنظيم القانوني للمنظمات غير الحكومية في سوريا، ومدى مطابقة الواقع الجديد في مناطق السيطرة الأربع الكبرى التي تشكلت مع حلول عام 2021[78]، والتطرق لواقع الممارسة إذا غاب النص أو حضر.
3-1- في مناطق سيطرة الجيش الوطني:
أصدرت الحكومة المؤقتة في مراحل سابقة العديد من اللوائح التنفيذية؛ كاللائحة التنفيذية الخاصة بالمجالس المحلية للقانون رقم 107، والنظام المالي الموحد لها[79]، لكنها لم تصدر أية لائحة أو نظام شامل فيما يخصّ المنظمات غير الحكومية، واقتصر دورها في هذا الجانب منذ عام 2017 على تسجيلها، دون أن يسبق ذلك أو يعقبه أي تدخل بعمل المنظمات.
على صعيد السلطة المركزية ومع تشكيل الحكومة المؤقتة الأخيرة -برئاسة عبد الرحمن مصطفى- اختصت مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل التابعة لوزارة الإدارة المحلية والخدمات القيام بهذا الدور، وذلك استناداً إلى نظامها الداخلي وبناءً على تعليمات إدارية صادرة عن وزير الإدارة المحلية بالقرار رقم 10 [80].
فهذا الوثيقة القانونية (الجزئية) بخصوص تسجيل المنظمات يمكن أن نعدَّها متوافقة إلى حدّ بعيد مع الضمانات الدولية؛ فهي لا تتضمن أياً من الانتهاكات المنصوص عليها في القوانين السورية، فعلى سبيل المثال: لا يعطي للجهة الإدارية سلطة ترخيص بمعناه السابق، وإنما يبقي لها دوراً تنظيمياً فقط بمطابقة المتطلبات البسيطة كعدد خمسة للمؤسسين وهو عدد مقبول، وتقديم الأوراق الإدارية كطلب تسجيل أو استمارة إدارية، كما لم يتم تسجيل أي استياء من الفرق التي أقدمت على التعامل مع المديرية؛ رغم وجود الحرية الكافية لإعلان مثل تلك الانتقادات، مما قد يشير إلى توافق بين النص والممارسة[81].
هذا الجانب البسيط هو كل ما يتعلق بالتنظيم القانوني في مناطق سيطرة الجيش الوطني، ويمكن فهم ذلك بسبب الظروف الواقعية لها سابقاً وحالياً، والتي لم تتح لها زيادة مستوى التنظيم، خصوصاً على المستوى المركزي، باعتبار أن إدارة المناطق بشكل عام يتم بصورة لا مركزية، وبمستوى هيكلي بالحد الأدنى إن صح التعبير.
أما بالنسبة للمجالس المحلية في مناطق سيطرة الجيش الوطني فثمّة تضخم في مفهوم الإدارة المحلية[82]؛ حيث مارست -لاسيما في الفترة الأخيرة- الدور الذي من المفترض أن تمارسه السلطة المركزية، وذلك استناداً إلى ممارسات واقعية بدايةً، وهي ممارسة شبيهة بتسجيل المنظمات في فترات سابقة دون أي ممارسات تدخلية أو لوائح ناظمة [83]، ليتطور الأمر مؤخراً إلى وجود نصوص قانونية موحدة ترتكز إليها المجالس المحلية في مناطق سيطرة الجيش الوطني، وهذه النصوص صادرة تحت مسمى “نظام وأسس عمل ووظائف وتأسيس الجمعيات والنوادي الرياضية”[84]، لذلك سنحلل أبرز ما جاء في هذا النظام في منطقة درع الفرات كعينة عن واقع المناطق.
جاء هذا النظام مؤلفاً من سبعة أبواب متضمناً 25 مادة، مكررة بين اللغة العربية والتركية لكل منها، وفيما يلي مخطط لما يتضمنه هذا النظام:
رسم توضيحي رقم /3/ يبين أقسام القرار الصادر عن المجلس المحلي في الباب بخصوص ترخيص المنظمات غير الحكومية
بالنظر في أبرز ما جاء في هذا النظام نجد أنه يغطي من حيث الشمول نوعين من المنظمات التي توجد في الشمال السوري؛ الأولى هي المنظمات محلية الطابع والتأسيس، والثانية هي المنظمات الخارجية، سواءٌ أكانت من المنظمات السورية التي رُخصت في تركيا بسبب الظروف السابقة أو المنظمات الدولية.
وتأتي المادة الثالثة لتقدم تعاريف أساسية، منها تعريف الجمعية بأنها: “منظمة تتبنى المنفعة العامة”، ثم تعريف آخر للمنظمة بأنها: “مجمعات قانونية مشكلة لتحقيق غايات فردية أو مشتركة”.
وجاءت إجراءات الترخيص في المادة رقم 4، وهي إجراءات بسيطة وغير معقدة شبيهة بتلك المطلوبة من قبل الحكومة السورية المؤقتة، وتضع ضمانة مهمة إذا تم تطبيقها، وهي اعتبار المنظمة حاصلة على الصفة الاعتبارية بعد تقديم البيانات المطلوبة.
وتتابع المادة الخامسة في الإجراءات؛ حيث تحدد مدة شهر للمجلس للتدقيق وطلب الاستكمال في حال النقص، وفي حال عدم الاستكمال وكونها حاصلة مسبقاً على الشخصية الاعتبارية يقوم المجلس برفع دعوى أمام المحكمة المحلية لفسخ التسجيل.
أما المادة الثامنة من القرار فقد جاءت لتعطي رئيس المجلس المحلي سلطة تقديرية واسعة، فيما يخص أنشطة أي منظمة غير محلية؛ بالسماح بالعمل، أو توجيهه، أو الإيقاف، أو حتى الطرد من الوحدة الإدارية، بما يشمل بالضرورة (السورية تركية الترخيص، أو الدولية)، ونعتقد أن هذا الجانب شديد الخطورة على فعالية العمل المدني ككل؛ وذلك لأنه من الثابت في السياق السوري مدى الاعتماد الكامل اقتصادياً واجتماعياً وتنموياً على الدعم الدولي المقدم للشعب السوري عبر المنظمات الدولية، وبوجود هذه المادة على إطلاقها توضع كل هذه النشاطات والجهود أمام معيار مفتوح لرئيس المجلس، كما تفتح الباب أمام مخاطر جديدة متعددة[85].
أما ما يخص تمويل المنظمات المحلية فقد جاء النظام ليقيد حرية التمويل، وليضع شرطاً مسبقاً بموافقة رئيس المجلس المحلي بحصول المنظمة على التمويل الخارجي العيني أو النقدي في المواد (10و11) من أحكامه.
ولا شك أن في هذه المادة تضييقاً شديداً على المنظمات المحلية التي تحظى في بداية هذا النظام على ضمانة جيدة بممارسة الحق عبر التسجيل واكتساب الشخصية الاعتبارية حكماً، لكنها تتقيد بإرادة رئيس المجلس المحلي المطلقة في الحصول على التمويل[86]، والذي سيسمح لها بممارسة الدور والفعالية، وبالتالي تمثل هذه المواد ضربة قاسية للمجتمع المدني الناشئ في المناطق المحررة.
رسم توضيحي رقم /4/ يبين الضمانات والانتهاكات والثغرات في تنظيم حق تشكيل المنظمات غير الحكومية في مناطق سيطرة الجيش الوطني.
3-2- في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام “هتش”:
عمدت هيئة تحرير الشام “هتش” إلى تشكيل ذراع مدنية لها تتولى من الناحية النظرية إدارة المناطق التي تسيطر عليها، أطلقت عليها اسم “حكومة الإنقاذ”[87].
مع التشكيلات الحكومية الأولى لهذه الحكومة كانت الوزارة المعنية بالمنظمات غير الحكومية هي وزارة الشؤون الاجتماعية والمهجرين، والتي لم يكن لها في ذاك الوقت القدرة على فرض رؤيتها قانونياً أو عملياً بشكل شامل على واقع عمل المنظمات نتيجة عوامل موضوعية عديدة[88]، لكن تلك المرحلة التي غاب عنها التنظيم القانوني أو الإداري للمنظمات لم تكن تخلو من الممارسات المستمرة التي يشكل الكثير منها انتهاكات غير قانونية (كالابتزاز أو الاستيلاء) على مقدرات منظمات عديدة من قبل “هتش” نفسها[89].
ومع التشكيلة الثانية مع نهاية عام 2018 أصبحت وزارة التنمية والشؤون الإنسانية بديلاً عن الوزارة السابقة، ورغم عدم صدور أي نظام قانوني كامل فيما يخص المنظمات غير الحكومية؛ إلا أن هذه الوزارة وبشكل تدريجي أصبحت -عبر مكتب “إدارة شؤون المنظمات”[90] الذي بات يتبع الوزارة- تتحكم بشكل غير منضبط بنصوص معلنة بأعمال المنظمات غير الحكومية[91].
من ناحية النصوص “القانونية” فإن الحكومة أو الوزارة لا تعمل وفق مرجعية القوانين السورية، ولم تقم بإصدار لائحة أو تعميمات للاستناد إليها فيما يخص التنظيم القانوني للمنظمات غير الحكومية[92]، إلا أن الوزارة أصدرت قراراً يمسّ نواة الحق في تشكيل الجمعيات؛ إذ بات من الممنوع تشكيل فرق أو ممارسة أنشطة من فرق إلا بعد الحصول على ترخيص مسبق من وزارة التنمية، وبناءً عليه صدر قرار يتضمن شروط الترخيص للفرق التطوعية، وتضمن القرار سبعة بنود، هي:
- طلب خطّيّ موقّع.
- محضر اجتماع اللجنة التأسيسية.
- ثلاث نسخ من عقد التأسيس.
- ثلاث نسخ من النظام الداخلي.
- خلاصة سجل عدلي لأعضاء مجلس الإدارة.
- وثائق إثبات شخصية.
- تعهُّد خطّي.
في جانب الممارسة العملية المتجسدة في التطبيق الإداري العملي لهذا القرار يبدو جلياً أن الجانب الأمني في الموافقة أو عدمها موجود؛ فقد أُبلغت بعض الفرق باستبدال أحد أعضاء مجلس الإدارة كونه غير مرغوب به للحصول على الموافقة.
ومع بداية عام 2020 أصبح النشاط المدني من أي فريق محلي صغير أو منظمات سورية مرخصة في تركيا أو منظمات دولية يتطلب موافقة مسبقة للعمل من قبل الوزارة بصفتها صاحبة السلطة الإدارية بالرقابة والمتابعة، والتي تمتد إلى نوعين من الرقابة: الأولى سابقة للأنشطة، والثانية لاحقة.
وفي عام 2021 بدأت عملية واسعة للتدخل في خصوصية المنظمات؛ فعلى سبيل المثال: تم إرسال طلبات تتضمن إبلاغ المنظمات العاملة في المنطقة بوجوب إرسال صورة شخصية لكلّ موظف يتنقّل بين محافظتي إدلب وحلب، إضافة إلى دفتر عائلي صادر عن حكومة الإنقاذ التابعة لها بالنسبة للمتزوجين، وإخراج قيد بالنسبة للعازبين، وصورة مصدّقة عن عقد العمل مع المنظمة[93] .
وبذلك تصاعد بشكل كبير مستوى التدخلات المختلفة في العمل المدني؛ حيث ازدادت تدريجياً عبر ممارسات تم وصفها من العديد من الفرق المدنية المحلية في المنطقة بالتحكمية (المزاجية)، إذ يتطلب أي نشاط سواء في المخيمات أو في المدن أو حتى في مراكز هذه المنظمات التي أسس بعضها قبل تأسيس “هتش” وحكومة الإنقاذ وجود إذن مسبق، مع خشية الفرق من المراقبة وتبعاتها، مع وجود سلطة تقديرية واسعة وتحذيرات مبطنة من مكتب المنظمات لبعض هذه الفرق[94].
3-3- في مناطق سيطرة “قسد”:
فيما يخص التنظيم القانوني في هذه المناطق فإن الأساس العام لهذا التنظيم يُستمد مما يُسمى “ميثاق العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية”[95]، وهو بمثابة دستور معلن بإرادة منفردة من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي في 6 كانون الثاني من عام 2014 [96]، وقد تضمن هذا العقد في المادة (32) منه الحق في تشكيل المنظمات والانضمام إليها، وأحال إلى القانون تنظيم هذا الحق، وبالفعل صدر هذا القانون تحت رقم 3 لعام 2017 تحت مسمى “قانون المنظمات والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني”.
وبالنظر في هذا القانون نجد بشكل عام أنه جاء مخالفاً لما تضمنه العقد الاجتماعي، أي: أنه غير دستوري من حيث الأصل، خصوصاً لجهة مخالفته الشرعة الدولية لحقوق الإنسان التي تُعد جزءاً من صلب هذا العقد (الدستور)، كما في المواد (21 و22)، في حين أن القانون انتهك كلّاً من حرية تأسيس المنظمات والانضمام إليها وحرية اختيار الأنشطة وخصوصية المنظمات[97]، وفي متن النصوص نجد الكثير من الملاحظات والتقيدات غير المبررة والانتهاكات بحق حرية واستقلال المنظمات غير الحكومية، منها[98]:
1- ما جاءت به المادة (3) من القانون؛ فهي تشترط في الفقرة رقم (5) “معايير المنظمة طالبة الترخيص”: أن تكون بعيدة عن إثارة النعرات السياسية والقومية والطائفية والعرقية، وهو نص يبدو منطقياً من حيث المبدأ؛ إلا أنه يخفي في طياته إمكانيات واسعة للتحكم السلطوي ورفض الترخيص للمنظمة بناءً على مبررات من هذا النوع تفتح باب السلطة التقديرية الواسعة للإدارة، مع ملاحظة أن النعرات السياسية هي مفهوم جديد وواسع يمكن أن يشمل أي مناهضة فكرية لأفكار القوة المسيطرة، وتجعل من هذا النص المطاط سيفاً مسلطاً على رقاب المنظمات ليتم سحب الترخيص في أي وقت.
2-وضعت المادة رقم (6) قيداً على ممارسة الحق في التشكيل؛ إذ تفرض ألا يكون أحد أعضاء مجلس الإدارة طالبة الترخيص عضواً في منظمة ذات أهداف شبيهة، وهي أيضاً تقييد غير مبرر للحق في تشكيل المنظمات؛ فمن الطبيعي جداً أن تتشابه مثلاً أهداف المنظمات النسائية في دعم ومناصرة وتمكين النساء والحقوقية في مناصرة حقوق الإنسان…إلخ.
3-يتضمن القانون إجراءات رقابية واسعة على أعمال وأنشطة المنظمات؛ حيث جاءت المادة رقم (11) لتعطي مكتب المنظمات صلاحية متابعة جميع أعمال المنظمات، وهو يفتح الباب على إطلاقه للمكتب بالتدخل في الأنشطة.
4- تأتي المادة (15) لتوضح التوجه التقييدي للأنشطة، وهو نصّ شاذّ وغريب لا يعطي الحق للمنظمة بتملك الأموال المنقولة إلا بعد الحصول على إذن مسبق من مكتب شؤون المنظمات، وكذلك جاءت الفقرة الثانية لتضع شرط موافقة مسبقة من رئاسة المجلس التنفيذ للمقاطعة قبل تملك المنظمة أو تصرفها بأي أموال غير منقولة، وهي ما تشابه رقابة القضاء على أموال القاصر نتيجة عدم اكتمال أهليته وخشية من إساءة الولي أو الوصيّ.
5- أما عن سحب الترخيص وحل المنظمات فقد جاءت سلطات الجهة الإدارية واسعة لتطال أربع حالات، وهي: مخالفة القانون ككل، ومخالفة النظام الداخلي للمنظمة، والإخلال بالأمن العام، والوجود الوهمي للمنظمة، وهي جميعها حالات عامة تنطوي على سلطات واسعة للإدارة[99].
6-وأما الجهة الإدارية المسؤولة فهي مكتب شؤون المنظمات الإنسانية في الإدارة الذاتية مع هيئة الشؤون الاجتماعية، وهي الأجهزة التي لا تسمح لأي منظمة بالعمل دون الحصول على ترخيص مسبق، مما يعني بوضوح عدم السماح للفرق غير ذات الشخصية الاعتبارية بممارسة الحق، وعدم وجود نظام للإخطار للسلطة لاكتساب الشخصية الاعتبارية، ويُضاف لهذه الممارسة الإدارية البيروقراطية بروز الجانب الأمني وإن كان بشكل غير معلن؛ حيث يقوم جهاز الأمن لدى “قسد” بإجراء دراسات أمنية مستفيضة ومعمقة عن طالبي الترخيص، مع التركيز على التوجهات السياسية لهم[100]. مما يجعل البيئة المحيطة بممارسة الحق في التشكيل بيئة أمنية، وهو ما يُعد بحد ذاته وبغضّ النظر عن الممارسات الإدارية المعقدة كافياً لتوضيح مستوى حالة البيئة المضادة للمجتمع المدني.
أما عن الضمانات في متن نصوص القانون فيمكن أن تتجسد بشكل رئيس فيما يلي:
1-نصت المادة رقم (10) من القانون على وجود مرجعية قضائية (محاكم الشعب في المقاطعة)، بحيث يمكن الطعن بالقرار الصادر عن الجهة الإدارية برفض طلب الترخيص خلال مدة خمسة عشر يوماً؛ إلا أن هذه الضمانة القضائية مختلّة أيضاً، لأنها لا تغطي حالة سكوت الإدارة عن الرد على طلب الترخيص (القرار السلبي)، وهو ما يُعد نقصاً تشريعياً أصبح من البدهي في كل القوانين أن يتم تغطيته من خلال إيجاد مدة زمنية كحد أقصى لرد الإدارة على الطلب، ومن ثم يُعد الرفض حكمياً بحال انتهائه[101].
2-نصت المادة رقم (26) من القانون على أن جميع منظمات وجمعيات المجتمع المدني الناشئة قبل إصدار القانون تُعد مرخصة رسمياً، وهذا ما يجنب المنظمات الموجودة فعلياً دوامة الترخيص المرهقة بموجب القانون.
أما على صعيد الممارسة في الواقع فقد حصل الكثير من الانتهاكات عبر ممارسات تعسفية، منها على سبيل المثال: صدر القرار رقم 1 عن هيئة الشؤون الاجتماعية في عفرين لعام 2017 ويتضمن حل ست منظمات غير حكومية، وذلك تحت تعليل القرار بضرورات المصلحة العامة، مع اتهام المنظمات بالتقصير، وكإضافة لذلك تضمن القرار تهديداً لباقي المنظمات بمصير مشابه إذا لم تسر على الطريق القويم[102].
أما عن رحلة ترخيص المنظمة القاسية للترخيص ففي دير الزور على سبيل المثال: يُقدم الطلب إلى مكتب “لجنة المنظمات المحلية” في ريف دير الزور، ثم يُحول إلى الدراسة الأمنية لدى “الأمن الداخلي” الذي يحولها بدوره إلى “الأمن العام”، بعد ذلك يعود الطلب إلى اللجنة المحلية، لترسله الى “لجنة خماسية” تضم مسؤولاً واحداً أو اثنين من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (P.Y.D) إضافة إلى مسؤولين في جهاز المخابرات التابع لـ “الإدارة الذاتية”، وهي رحلة للابتزاز المالي بامتياز[103].
وعن الانتهاكات القانونية الأخرى على صعيد تطبيق القانون[104] برزت في الممارسة العملية مجموعة من الأعمال غير المشروعة والخارجة عن القانون، منها على سبيل المثال: فرض الأتاوات على رواتب الموظفين، وتوجيه السلطة لاختيار الفئات المستهدفة والمستفيدة، والقرار الأمني الموجه للقرار الإداري وتكميم الحريات[105].
يُضاف إلى كل ذلك مجموع الانتهاكات الماسة بالحق بالحياة والحرية والسلامة الجسدية؛ حيث تمارس الأجهزة الأمنية لـ “قسد” عمليات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، فعلى سبيل المثال: في الرقة فقط ومنذ عام 2017 وحتى عام 2020 تم اعتقال أكثر من 15 من نشطاء المجتمع المدني تعسفياً[106]، وقد تصل لحد القتل تحت التعذيب لنشطاء في المجتمع المدني، بل لمجرد ممارسة أحد الأشخاص الحق في حرية التعبير التي تُعد أرضية أساسية لوجود منظمات غير حكومية[107].
رسم توضيحي رقم /5/ يبين الضمانات والانتهاكات والثغرات في تنظيم حق تشكيل المنظمات غير الحكومية في مناطق سيطرة “قسد”
3-4- في مناطق سيطرة نظام الأسد بعد الثورة السورية: القطاع الثالث كوسيلة في حرب النظام وبقائه
قمنا في الفقرة الثانية من هذه الدراسة باستعراض الإطار القانوني والممارسة الإدارية في سوريا قبل انطلاق الثورة السورية، وبما أن الإطار القانوني الدستوري والتشريعي لم يتغير في مناطق سيطرة نظام الأسد[108] فإننا نقتصر في تتبع واقع الممارسة في مناطق النظام حالياً وطبيعة البيئة لعمل المنظمات غير الحكومية وأبرز الانتهاكات التي تتناقض مع المعايير الدولية.
أدى تغير الظروف الموضوعية في سوريا بعد انطلاق الثورة إلى فرض واقع جديد على النظام، من جهة ازدياد عدد المنظمات المحلية وأثرها، ودخول المنظمات الدولية إلى مناطقه استجابة للكارثة الإنسانية، وحاجته للقطاع الثالث في تغطية النقص العام في التمويل، واستغلال الكم الهائل من تدفق المساعدات لتعويض العجز المالي والاقتصادي لديه[109].
ونظراً لحساسية الملف بالنسبة لنظام الأسد وأجهزته الأمنية، وللفرصة الكبرى التي وجدها في تطويع الموارد المقدمة لإغاثة الشعب السوري لمصلحة حربه الشرسة على السوريين دعماً لميليشياته وأسرهم أو كسباً لود الحاضنة الموالية، أو حتى لتجنيد الشبيحة في صفوفه منذ بداية الثورة السورية[110]؛ فقد عمد إلى تنفيذ استراتيجيات جديدة، وترتكز هذه السياسة من وجهة نظرنا على ثلاث قواعد أساسية: الأولى الاستغلال، والثانية التسويق، والثالثة الوقاية؛ وكل هذه القواعد تنطلق من أرضية مشتركة هي السيطرة والتحكم بالملف عبر ابتزاز المنظمات الدولية بأنواعها وفرض رؤيته، وهو ما نجح به غالباً نتيجة تماهي هذه الجهات معه خوفاً من تقييد وصولها أو إغلاقها [111]، ويُضاف إلى ذلك بالطبع سيطرته المسبقة على المنظمات المحلية لأهمية دورها في التنفيذ مع الجهات الدولية.
من أمثلة السياسة الأولى وهي استغلال الملف المدني: استخدام الكثير من الموارد المادية والعينية في دعم حربه على الشعب السوري من خلال توجيهها لقواته وميليشياته وحاضنته الشعبية، وذلك عبر توجيه المشاريع المنفذة لخدمة نظام الأسد بدلاً من الفئات الأكثر حاجة، وهذا ما يعني أن بإمكان نظام الأسد الاستفادة من المساعدات لمعاقبة السكان المدنيين الذين يعتبرهم معارضين، ومكافأة الذين يعتبرهم موالين أو يمكنهم خدمة مصالحه[112].
ومن أبرز التكتيكات لتنفيذ هذه السياسية هو إلزام المنظمات الدولية بما فيها الوكالات الأممية بالشراكة مع منظمات سورية[113] لتنفيذ أنشطتها، وكثير من هذه المنظمات أنشأها أثرياء الحرب المقربين من نظام الأسد[114].
ومن أمثلة التسويق والدعاية لنظام الأسد: بروز دور أسماء الأسد التي استمرت بتسويق نفسها كمؤيدة قوية للمنظمات غير الحكومية[115]، وقامت بإنشاء عدة منظمات كمنظمة فردوس للتنمية الريفية التي تم دمجها في الأمانة السورية للتنمية، والتي تربطها علاقات مشتركة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي[116].
أما السياسة الثالثة المتمثلة بالوقاية من الخطر في نظر نظام الأسد: فهو ما تمثله عمليات النشاط المدني، خاصة تقديم الخدمات الإنسانية والمشاريع الدولية بناءً على قواعد من الشفافية وتقييم الاحتياجات وما إلى ذلك من قواعد مرعية، فيتعامل معها النظام بطريقة الشرّ الذي لابد منه؛ حيث يفرض الحصول على موافقات مسبقة للحركة ويطيل أو يرفض قسماً كبيراً منها[117].
كما يبرز هذا الجانب في تعامل نظام الأسد مع كل الوكالات ذات طابع الحماية لحقوق الإنسان، ومن المؤكد أن نظاماً ارتكب آلاف الانتهاكات لن يسمح على الإطلاق للصليب الأحمر الدولي أو غيره من المنظمات الحقوقية برصد وزيارة السجون أو توثيق الانتهاكات، أو حتى مقابلة المهجرين والعائدين إلى مناطق تم اجتياحها.
استنتاجات وتوصيات:
نعتقد أن هناك الكثير من الأسباب التي تجعلنا – نحن السوريين – أنصاراً باستمرار لضرورة التزام القوانين السورية في المستقبل بالضمانات الدولية التي تكفل حقوق الإنسان؛ لأن وجود مجتمع مدني حرّ ومستقل بكل تنظيماته بما فيها المنظمات غير الحكومية يسهم بدوره في ضمان عدم طغيان السلطة، وفي تعزيز المشاركة الشعبية في كل المستويات، كما أن توفر هذه الضمانات نصاً ومراعاتها تطبيقاً أمر مهم وضروري وحيوي لتوفير بيئة مناسبة لوجود منظمات تجسد حماية تطبيقية عملية للحريات الأساسية للمواطنين، كما يشكل ذلك بلا شك داعماً أساسياً لترسيخ سلطة الشعب كنهج وفكر، وبناء دولة القانون والمؤسسات التي أصبحت المنظمات غير الحكومية سمةً رئيسةً من سماتها، بالإضافة للفوائد الأخرى العديدة كالتنمية الاقتصادية وتعزيز جودة الخدمات المقدمة للجمهور، وتوجيه الطاقات التطوعية في حل مشكلات عامة.
كما يسهم ذلك في تلبية الحاجات والتطلعات المختلفة للأفراد، بما يعزز دورهم ويجعلهم مواطنين فاعلين؛ فالمنظمات غير الحكومية تمثل صمام أمان للطاقات الاجتماعية، ورابطاً بين المواطنين للمساعدة في بناء الهوية الوطنية السورية، بما يجنب البلاد الانزلاق يوماً من الأيام في أتون صراعات مدمرة تهدد وجودها.
ونخلص في هذا البحث إلى نتيجة مفادها: عدم تطابق القوانين السورية قبل الثورة مع المعايير الدولية، وعدم توفر بيئة مواتية (حريات عامة) بطبيعة الحال لا قبل الثورة ولا بعدها لتأخذ المنظمات دورها الحقيقي الذي يتجاوز العمل في الإحسان والخير، بما يعني أنها تحتاج في المستقبل وضمن إطار عمليات الإصلاح القانوني إلى إلغاء هذه المنظومة وإصدار قانون بديل يوسع إلى حد كبير من هذه الضمانات، التي قد تتجاوز المعايير الدولية من جهة مدى الحرية وتخفيف القيود على أعمال هذه المنظمات؛ نظراً لحاجة المجتمع السوري لمثل هذه البيئة القانونية الحرة والخلاقة، لسدّ النقص الحاصل نتيجة غياب مؤسسات الدولة تارة، وضعفها تارة أخرى.
أما في مناطق السيطرة الأربع الكبرى في سوريا (الجيش الوطني، هيئة تحرير الشام “هتش”، “قسد”، نظام الأسد) فقد سمح مناخ الفوضى القانونية في البداية المناطق الثلاث الأولى في عدم وجود نصوص تقييدية، وانحصرت الانتهاكات بالممارسة في مناطق (قسد، إنقاذ)، ومن ثم استمرت مناطق الإنقاذ دون نصوص، في حين وجدت النصوص في مناطق “قسد” واستمرت الممارسة، وفي كليهما انتهاكات كبرى للضمانات الدولية، أما في مناطق سيطرة الجيش الوطني فتشير النصوص الجديدة تحديداً إلى مخاطر حقيقة وإن كانت تنص على ضمانات قانونية، وتبقى الممارسة رهينة الفترة القادمة.
أما مناطق نظام الأسد بعد الثورة السورية فقد استمرت بالنصوص ذاتها التي تنتهك كل الضمانات، وبالممارسات الأمنية ذاتها، مع سيطرة متزايدة لتلميع النظام واستغلال الملف لدعم الحرب على السوريين، ومع تفشي ظاهرة إنشاء منظمات مدنية كواجهة للنظام على غرار الشركات الخاصة للاستثمار المالي لنظام الأسد.
- مجموعة المحددات الواجب مراعاتها لضمان حرية واستقلال المنظمات غير الحكومية:
يشهد الواقع السوري بشكل عام في مختلف المناطق -بما فيها مناطق سيطرة نظام الأسد- حالة ترهُّل وضعف -إن لم نقل غياب- لسلطة الدولة؛ لذا تصبح الحاجة مضاعفة لجهود المجتمع لخدمة نفسه والنهوض بالوظائف الضرورية لاستمراره، مع ما يتطلبه ذلك من إيجاد بيئة قانونية مشجعة وحرة تساعده على إطلاق طاقاته وتنظيمها بالشكل الأمثل، دون أن يتحول الأمر -في الوقت ذاته- إلى فوضى. كذلك مواكبة “ثقافة وممارسات الحرية” التي نشأت في ظل الثورة واستمرت قرابة عقد من الزمن، بما يرشدها تنظيمياً -لمنعها من الفوضى- دون الضغط التسلطي عليها كون العاملين لا يمكن أن يعودوا الى الوراء بثقافتهم وحرياتهم التي تشكلت خلال ممارسات عقد من الزمن.
كل ذلك يجعل من الضروري إعطاء الضمانات والمعايير الدولية الخاصة بتنظيم المنظمات غير الحكومية بُعداً محلياً قد يتطلب توسيعاً يتجاوز المعايير الدولية من جهة ضمان حرية هذه المنظمات؛ وذلك نظراً لحاجة المجتمع السوري الاستثنائية لمثل هذه التنظيمات المجتمعية والمحلية.
بناءً على ذلك يمكن لنا أن نقدم تصوراً أولياً مقترحاً لمجموعة من أهم المحددات التي يجب لأي نظام قانوني أن يراعيها في المناطق المحررة بغية الحفاظ على حرية واستقلال المنظمات، وبالتالي ضمان وجود دور فاعل لها على جميع المستويات، وبما يتناسب مع السياق المذكور أعلاه، وهذه المحددات الرئيسة هي:
- يجوز للسوريين أن يشكلوا الفرق المدنية المختلفة وممارسة النشاط المدني، دون الحاجة إلى التسجيل لاكتساب الشخصية القانونية.
- تُكتسب الشخصية القانونية للفرق من خلال نظام التسجيل عبر مجموعة شروط محددة وميسرة، وعلى الجهة الإدارية أن تصدر قراراها بالتسجيل وإشهار المنظمة خلال مدة زمنية قصيرة، وفي حال انتهاء المهلة دون الرد من قبل الجهة تُعد المنظمة مسجلة بشكل حكمي.
- في الحالات الاستثنائية وضمن ظروف محددة يمكن للجهة الإدارية أن تصدر قراراً معللاً برفض تسجيل المنظمة، مع فتح الباب للجهة طالبة التسجيل بالطعن أمام القضاء بقرار الجهة الإدارية.
- الإجراءات الإدارية للتسجيل هي إجراءات سريعة وغير مكلفة وبأقل حد ممكن من الشكليات، والأصل أن كل مَن يطلب تسجيل منظمة مدنية ويستوفي الشروط المحددة يحصل على الشخصية القانونية، والاستثناء هو العكس وفي حالات محددة، دون سلطة تقديرية واسعة للجهة الإدارية.
- يمكن للمنظمات الطعن بكل القرارات الإدارية ذات الصلة بشؤون المنظمات أمام الجهات القضائية.
- إنشاء جهة إدارية مركزية مسؤولة عن شؤون المنظمات تنسق مع المكاتب في المجالس المحلية؛ على أن يكون من أعضاء هذه الإدارة ممثلون عن المنظمات غير الحكومية بصفهم هذه.
- يمكن للمنظمات غير الحكومية الحصول على التمويل الأجنبي أو المحلي دون موافقة مسبقة، على أن تقدم تقارير مالية مفصلة بشكل دوري للجهة الإدارية، ويمكن للجهات الإدارية تحديد الجهات التي لا يجوز الحصول على تمويل منها على سبيل الحصر.
- لا يجوز التدخل في شؤون المنظمات بوصفها كيانات لها شخصية اعتبارية مستقلة، وعليه فلا يحق للجهة الإدارية التدخل في إدارة شؤون المنظمة الداخلية أو اتخاذ القرارات المتعلقة بنشاطها وأولوياتها أو أساليب عملها، طالما أن هذه الأعمال جميعاً لا تخالف أحكام القانون.
على أنه يحق للجهة الإدارية أن تنسق الأنشطة المختلفة في الوحدات الإدارية بما يغطي حاجات المواطنين في الجوانب الإغاثية والإنسانية[118].
- لا يجوز للجهة الإدارية أن تحدد الأنشطة المسموح بها أو ذات الأولوية في المجتمع، أو أن تطلب حصول المنظمة على الإذن المسبق عن كل نشاط على حدة، وتُعد كل الأنشطة مسموحاً بها من حيث الأصل إلا ما كان مخالفاً للقانون، وفي حال وجود نشاط يُعد من الجهة الإدارية مخالفاً للنظام العام والآداب العامة يمكن للجهة الإدارية طلب توضيحات من المنظمة، ثم طلب إنهاء هذه الأنشطة.
- لا يجوز حل المنظمة إلا بقرار إداري معلل وقابل للطعن، على أن تكون عقوبة الحل عقوبة استثنائية بناءً على مخالفات جسيمة للقانون، ولا توقف أنشطة المنظمة إلا بعد انتهاء مهلة الطعن أو صدور القرار القضائي النهائي، وتؤول كل ممتلكات المنظمة إلى جهة مدنية أخرى ذات أهداف مماثلة.
- يمكن للمنظمات غير الحكومية السورية أن تنخرط بشكل فاعل مع المنظمات المحلية والدولية في شراكات وتحالفات دون الحاجة إلى إذن مسبق من الجهة الإدارية، على أنه يجوز في حالات التواصل مع المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية أن تطلب الجهة الإدارية تفاصيل عن هذه التواصلات والشراكات، وأن تطلب إنهاءها في حالات محددة.
- يتم عقد لقاءات دورية بين الجهات الإدارية والمنظمات غير الحكومية لبحث أطر العلاقة والنقاش حول المواضيع ذات الصلة، ويجب أن توجد قنوات شكاوى رسمية ومفتوحة مع الجهات الإدارية الأعلى حول التعامل مع المنظمات بغية تذليل الصعوبات والعقبات.
- تقوم الجهات الإدارية بإجراءات التدقيق المالي الدورية، وتحصل على تقارير عمل وأنشطة إدارية دورية، ولها أن تتخذ الإجراءات القانونية المتناسبة مع المخالفات ابتداءً من التنبيه إلى الغرامة المالية إلى الحل النهائي.
- في حال وجود فساد مالي أو إداري في المشاريع المنفذة تُجري الجهات الإدارية تحقيقاتها بسرية تامة، مع احترام خصوصية وكرامة أعضاء المنظمة، ثم تُحيل النتائج إلى القضاء للفصل فيها حال وجود جرائم جزائية الطابع.
أما أهم التوصيات التي نجدها مناسبة في الواقع الحالي فإننا نوصي بما يلي:
على صعيد المنظمات غير الحكومية السورية:
- الاهتمام بشكل كبير منذ الآن بالجانب القانوني عبر مختلف أنواع الدراسات القانونية حول المنظمات غير الحكومية، وتتبع أفضل التجارب المقارنة.
- نشر الوعي بالطرق المختلفة حول أهمية وخطورة وحساسية هذه القوانين على القطاع الثالث ودوره.
- تكثيف عمليات رصد وتوثيق الانتهاكات غير القانونية على المنظمات غير الحكومية، وإنشاء تحالف منظمات حول هذه القضية، وعدم الخشية من تضرر الأنشطة على أرض الواقع نتيجة مناصرة هذه القضية الخاصة بها.
على صعيد المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية:
- مساندة المجتمع المدني السوري عبر الضغط على صناع القرار بناءً على القوة الهائلة المتمثلة بالتعاون والأنشطة المشتركة.
- تمويل المنظمات المدنية التي تواجه هذه الضغوط والانتهاكات بدلاً من إيقاف التعامل معها.
- دعم مشروع إصلاح قانوني مبكر.
على صعيد السلطات القائمة في سوريا:
- الابتعاد عن سنّ أي شكل من أشكال القوانين التي تتضمن انتهاكات ومخالفات للقانون الدولي.
- الالتزام بتطبيق القواعد القانونية في الممارسة الفعلية.
- الانفتاح بالعلاقة كشريك مع المجتمع المدني بدلاً اتباع نهج وسلوك النظام.
ملحق: الأشكال القانونية للمنظمات غير الحكومية في القوانين المقارنة[119]
الدولة | الأشكال المصنفة في القانون الناظم | تعريف | الحد الأدنى لعدد المؤسسين |
بلجيكا | الجمعيات غير الربحية | منظمات قائمة على العضوية | 3 |
الجمعيات الدولية غير الربحية | يجب أن يكون لها نطاق متعدد الجنسيات أو دولي | 2 | |
المؤسسات الخاصة | لا تحتوي المؤسسات على أعضاء بل على مجلس إدارة للمؤسسات الحصول على صفة المنفعة العامة إذا كان غرضها الرئيسي خيرياً، أو فلسفياً، أو دينياً، أو علمياً، أو فنياً، أو ثقافياً. ويتم منح وسحب صفة المنفعة العامة بموجب مرسوم ملكي | 1 | |
التشيك | جمعية | شكل تنظيمي مبني على العضوية العامة يؤسسه ثلاثة أشخاص | 3 |
مؤسسة | شكل تنظيمي غير مبني على العضوية العامة تم إنشاؤه لتخصيص الأصول المالية لأغراض المصلحة العامة. | 1 | |
صندوق | شكل تنظيمي أبسط غير مبني على العضوية، ولا يتطلب وجود رأس مال مبدئي محدد، ولكن يتم إنشاؤه ليخدم لفترة مؤقتة وليس للأغراض طويلة الأجل | 1 | |
معهد | هو شكل تنظيمي يجمع بين خصائص العضوية وغير العضوية في منظمات المجتمع المدني، ويستخدم للانخراط في مجال تقديم الخدمات. | 1 | |
استونيا | الجمعية غير الربحية | عبارة عن شكل تنظيمي عام مبني على العضوية، يؤسسها شخصان على الأقل، ولا متطلبات للأهلية يجب أن يتحلى بها المؤسسون | 2 |
المؤسسة | شكل تنظيمي عام غير مبني على العضوية، ولا ينطوي على تأسيسها وجود رأس مال مبدئي، ولكن يمكن حلها إذا كانت أصولها غير كافية ودون احتمالية حصول عملية استحواذ عليها في المستقبل القريب | 1 | |
عقد الشراكة | شكل تنظيمي لا ينطوي عليه شروط للتسجيل ولا يتطلب وجود شخصية اعتبارية، ويحكمها قانون الالتزامات. حيث يتم استخدامه عادة للمجموعات المحلية أو المجموعات المتعلقة بالهوايات فقط، وبالتالي لا يعتبر ضمن الكيانات الرسمية في الدولة. | ||
جورجيا | منظمات غير ربحية | لا يفرق القانون الجورجي بين الأشكال المختلفة لمنظمات المجتمع المدني | 1 |
ألمانيا | الجمعيات المسجلة | هي منظمات ذات عضوية عامة | 7 |
المؤسسات | هي المنظمات غبر المبنية على عضوية عامة ولا تتطلب حداً أدنى للمبلغ المالي | 1 | |
شركات ذات مسؤولية محدودة | تتطلب وجود مساهمات مؤسسية بمبلغ 25000 يورو، ويجب أن يكون لدى الشركة ذات المسؤولية المحدودة هدف غير ربحي لتُعد من ضمن منظمات المجتمع المدني. | 1 | |
إيرلندا | جمعية فردية | هي منظمة قائمة على العضوية يتم إنشاؤها بموجب اتفاق شفوي أو مكتوب من قبل أعضائه. (لا تحصل على شخصية اعتبارية حتى بعد تسجيلها كجمعية خيرية) | 1 |
مؤسسة | هي شكل غير قائم على العضوية حيث يوجد شخص أو أكثر يعمل بموجب (عقد إدارة الأموال) ويمسك أموالاً أو ممتلكات نيابة عن أشخاص آخرين. (لا تحصل على شخصية اعتبارية حتى بعد تسجيلها كجمعية خيرية) | 2 | |
شركة محدودة الضمان | هي نوع بديل من الشركات المستخدمة لأهداف غير ربحية دون رأس مال، حيث يكون الأعضاء ضامنين بدلاً من المساهمين. | 3 | |
لبنان | الجمعية | مجموعة مؤلفة من عدة أشخاص لتوحيد معلوماتهم أو مساعيهم بصورة دائمة ولغرض لا يُقصد به اقتسام. | 2 |
السويد | الجمعية غير الربحية | هي شكل تنظيمي مبني على العضوية العامة، ولا يوجد إلزام بتسجيلها لغرض الحصول على شخصية اعتبارية. | 2 |
المؤسسات | عبارة عن نموذج تنظيمي غير مبني على العضوية العامة، يُنشأ بغية جمع الأصول المالية لأغراض المنفعة العامة أو لأغراض المنفعة المتبادلة. يحتوي قانون المؤسسات على ما يُسمى بالمؤسسات العادية، ومؤسسات جمع الأموال، ومؤسسات الاتفاق الجماعي | 1 | |
تونس | الجمعيات | اتفاقية بين شخصين أو أكثر يعملون بمقتضاها وبصفة دائمة على تحقيق أهداف باستثناء تحقيق أرباح. | 2 |
الجمعيات الأجنبية | فرع لجمعية أنشئت وفقاً لقوانين بلد آخر | – | |
شبكة الجمعيات | يمكن لجمعيتين أو أكثر تأسيس شبكة جمعيات | جمعيتان |
- وجود نص قانوني واضح ودقيق يحدد كيفية تطبيق القيد ومداه، وألا يُترك الأمر لتقدير السلطات التنفيذية.
- أن تكون هذه القيود لفترة مؤقتة، يتم تجديدها وفق الظروف.
- تعزيز رقابة القضاء المستقل على تطبيق هذه النصوص.
- السماح بالشفافية والمراقبة من خلال المنظمات الحقوقية الدولية.
- أن تكون الجهة المسؤولة عن تطبيق النصوص القانونية المتعلقة بالجمعيات والمنظمات غير الحكومية جهة إدارية مدنية، وليست أمنية.
- خروج الجمعية عن أهدافها المبينة في نظامها.
- إذا لم يجتمع مجلس إدارتها خلال ستة أشهر، أو لم تجتمع هيئتها العامة خلال سنتين متتاليتين.
- ممارسة الجمعية نشاطاً طائفياً أو عنصرياً أو سياسياً يمسّ بسلامة الدولة.
- ممارسة الجمعية نشاطاً يمسّ الأخلاق والآداب العامة.
- إذا كررت الجمعية المخالفات رغم إنذارها من الوزارة.
- عجز الجمعية عن تحقيق أغراضها والوفاء بتعهداتها، أو تخصيص أموالها لأغراض غير التي أُنشئت من أجلها.
- إذا رأت الوزارة عدم الحاجة إلى خدمات الجمعية.
- رفض طلب شهر أنظمة الروابط والجمعيات والأندية ذات الأهداف المتماثلة مع أهداف المنظمات الشعبية.
- عدم شهر أي جمعيات نسائية عملاً بالمرسوم التشريعي رقم /121/ لسنة 1970.
- الحد من شهر جمعيات البر (المساعدة) بحيث يجب تمركز هذه الجمعيات على ضوء خطة الوزارة وحاجة المنطقة.
- تشجيع إحداث الجمعيات العلمية والثقافية والريفية”.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة
تعليق واحد